11 الفصل الحادي عشر

منذ وعيت وأنا في هذا المكان أعتقد كنت أبلغ أربع سنوات، الكبيرة شكريه كما كانت تأمرنا أن نناديها أحضرتني هنا، شكريه كانت سيده ممتلئة القوام جدًا لكنها كانت جميلة، ذلك اليوم محفور في ذاكرتي كنت أمسك بيد ناعمة رقيقة إنها أمي الحقيقية بالتأكيد في مكان مزدحم، وفجأة وجدتني في يد الكبيرة
صرخت:- أمي، أمي.
فردت بحنو:- لا تخافي يا صغيره أمك تشتري لك الحلوى اشربي هذا العصير لنذهب لها.
شربت العصير ونمت ولما أفقت وجدتني في الخرابة كانوا يتناقشون فيما بينهم ماذا سيفعلون بي ولأي قسم سيوزعونني، كنت في قمة الخوف وأبكي طلبًا لأمي
نهتني الكبيرة:- اخرسي أيتها المزعجة، لو سمعت صوتك سأكوي لسانكِ بالنار.
وقربت النار مني فصَمَتُ تمامًا، وأنا أرتعد خوفًا، ساعتها احتضتني سناء كانت أكبر مني قليلًا:- اسكتي وإلا كوتكِ.
لتنطق الكبيرة قائلة:- هنا نظام.
قالت موجهة كلامها لي ولأطفال آخرين متفاوتي الأعمار:- من يسمع الكلام سيكون حبيبي وفي عيني، من يعصي أوامري لن يجد إلا النار.
وأحضرت صبيًا، لا أعتقد أن عمره تجاوز العاشرة وكان بجوارها أسياخ حديدية مفلطحة موضوعة على النار حتى توهجت
- هذا الولد لم يسمع الكلام ولم يطعني، يقول لي حرام أن أسرق.
قالت للولد:- آخر مرة يا صلاح، هل ستسمع الكلام وتسرق كما أمرتك؟
أجابها مرتعدًا:- لا، أبي علمني أن السرقة حرام.
ويا ليته ما قالها أمسكت الكبيرة بالسيخ المتقد كالجمر ووضعته على ظهر صلاح فوصل صراخه مداه وأخذنا نحن أيضًا في الصراخ
فصاحت فينا:- اخرسوا وإلا مصيركم مثله.
فصمتنا جميعا ونحن نرتعد وكم منا من تبول على نفسه من شدة خوفه
- هنا لا يوجد أبي ولا أمي هنا أنا الكبيرة وهذا ضرغام يدي اليمنى ومساعدي،
(ضرغام طويل ذو جسد قوي فهو الفتوة، يحمل جسده العديد من العلامات
والندوب لديه علامة بارزه في وجهه من آثار قتال) كلامنا مطاع من يعصينا يعرف الآن مصيره، لا تعتقدوا أننا لن نعلمكم، ستتعلمون القراءة والكتابة، من نجده متفوقا سيتعلم اللغات والأصول كل منكم له عمل على حسب قدراته ومهاراته.
أسمتني الكبيرة وردة لأني أذكرها بابنتها التي توفت في مثل سني وقتها، وكانت تحبني وتميزني عن باقي الأطفال، كنت البريمو كما يقولون، تعلمت القراءة
والكتابة، وكان عملي التسول مع سيدة غريبه الشكل تخفي وجهها اسمها لواحظ، كنت أتسول ورديه الصباح وأتعلم في المساء، تعلمت الإنجليزية أيضًا،
عندما أصبح عمري عشر سنوات علموني أصول السرقة بجانب أصول الحياة و الإتيكيت، لا تندهشوا هنا كل فرد له عمل ويتعلم كل شيء يمكن أن يواجه في عمله،
لم تكن الخرابة للتسول فقط كانت عالم كامل متكامل من الإجرام لدينا متسولين و نشالين وهجامين ونصابين للنصب على كل الطبقات بدءًا من الفقراء حتى علية القوم وصفوة المجتمع، لدينا أيضا بنات الليل والدعارة وديلرات المخدرات، وبيع الأطفال وتجارة الأعضاء، خرابتنا كانت عالمًا متكاملًا تحوي كل شيء، ولها قوانين
وأعراف من يخالفها يجد العقاب الرادع، ففي الخرابة يمنع على أي رجل التعرض لفتاة أو المساس بها عنوة أو حتى برضاها، من يرغب في فتاة مثلًا يجب أن يطلبها من ضرغام، وهو يقرر هل يعطيها له لتكون زوجته وحده لا يشاركه فيها أحد، أم يعطيها له للتمتع بها وتحمل وتنجب فيبيعون الطفل وتصبح هذه مهنتها منجبة أطفال، إما للبيع بغرض التبني أو لتجاره الأعضاء.
الوحيد في الخرابة الذي له الحق بكل البنات هو ضرغام لكن يجب أن يأخذ رأي الكبيرة أولًا، وهي لم تكن لتمنع عنه أية فتاة، إلا أنا كانت الكبيرة تحميني منه وتبعده عني.
تعلمتُ النشل وعندما نضجت عملت بالنصب، أراد ضرغام أن يشغلني بالدعارة
ولكن كان للكبيرة رأي آخر و دار بينهما ذلك الجدال أمامي.
قالت له الكبيرة:
- الفتاه جميلة ولبقة وتتعلم سريعًا، لنشغلها بالنصب مؤقتًا حتى نقع على ثري يفضل العذارى، ساعتها نبيعها له بالملايين، أنت تعلم يا ضرغام أن الثقافة والجمال
والعذرية ثمنها باهض لدى أولئك الأثرياء من رجال الأعمال الذين يبحثون عن مرافقات دائمات لاستكمال مظهرهم.
فأجابها:- أنتِ تحمينها وهذا سيزيد غرورها وستظن نفسها ذات قيمة، دعيني أنال منها و أكسرها حتى تكتمل سيطرتنا عليها.
قالت شكريه لتسكت ضرغام:- نستفيد منها أولًا إن عقلها موزون وأفكارها ذهبية.
ونظر لي متوعدًا، وقال لي بهمس وهو يغادر:- لن تكوني لسواي أبًدًا.
كنت أعلم بنيته نحوي بالطبع، فكنت دائمًا أتميز في مجالي وأعطيهم أفكارًا مبتكرة فما دمت مميزة فلي الخيار في ما أريد ولن أُجبر على شيء، ليس الآن على الأقل، تذكرت سناء صديقتي التي كانت بجواري دائمًا.
سناء صديقتي الوحيدة علموها النشل وعندما نضجت وظهرت أنوثتها قرروا أن تعمل بالدعارة، كانت أول مره لها مع سائح أجنبي تمتع بعذريتها غصبًا وكان ساديًا أذاقها كل أنواع التعذيب، حتى أني ما زلت أذكر شكلها عندما أحضروها بعد انتهائه منها، ظلت في الفراش مريضة لمدة طويلة، فلقد أصيبت بنزيف حاد
واستأصلوا لها الرحم، أخبرتني أنها قاومته مقاومة شرسة حتى أنها ضربته على رأسه بالمزهرية فأصابته، وهربت ؛لكن ضرغام أمسك بها وأعادها إليه وهذه المرة قيدها في السرير قبل أن يتركها فريسة له ليغتصبها ويتلذذ بتعذيبها، لم تكن تهمهم في شيء بالطبع، لقد دفع السائح مبلغًا كبيرًا ليفعل كل ما يريد، بعدها ألقوا بها للكباريه لتعمل راقصة فلقد كانت بارعة في الرقص، ولم يرحموها كانوا يرسلونها للرجال بالطلب في شققهم فكانت تضع لهم المخدر وتوهمهم بأنها قضت معهم ليلة من الأحلام، طبعًا لم يكن يعلم بهذا أي أحد إلا أنا، فلو علم ضرغام بهذا لكان قتلها.
كنا نخطط للهرب ونجمع النقود ليكون معنا ما يعيننا ونتريث في ذلك حتى لا يمسكنا ضرغام، فلو فعل كنا لنصير مثالًا وحكاية مما سيفعله بنا، فنحن لا نريد أن نلقى مصير عزة، تلك الجميلة التي رفضت الانصياع لهم وأعلنت العصيان كانوا قد خطفوها، بعد أن قتلوا خطيبها أمام ناظريها ولم تنفع محاولاتهم معها أبدًا، وعندما حاول ضرغام اغتصابها طعنته بسكين وجدتها في طبق الفاكهة، فأطلق عليها خمسة كلاب مسعورة تنهشها نهشًا أمامنا، انتقامًا منها لما فعلته به.
وهكذا مرت الأيام .......
في يوم ما كانت الكبيرة تحس بوعكة صحية، كانت شديده هذه المرة وكنت أنا بجوارها أعتني بها، فمن ضمن مهاراتي التمريض، وجدتها ليلًا تحتضني وتقول لي" تأكدي أن لا أحد يتنصت علينا"
وعندما اطمأنت قالت لي" يا وردة أنا أحضرتك من سوهاج، استغللت انشغال أمك في السوق و هي تتفحص قطعة قماش وأخذتك منها، كنت ترتدين قلادة ذهبية، افتحي الصندوق الموجود تحت السرير تجدينها، خذيها، إياكِ أن يراها ضرغام أو يأخذها منك سأساعدك على الهرب من هنا قبل أن أموت حتى لا ينالك ضرغام وسأ...."
ولم تكمل كلامها وماتت الكبيرة، ماتت لتتركني أتلظى بنيران حقيقة لم تكتمل،
سيصبح ضرغام الآمر الناهي بلا رادع، كان دائمًا يصرح برغبته في نيلي، فكنت أنا الحب كله ولا يمنعه عني سوى الشديد القوي كما كان يقول وها هي ماتت وتركتني لضرغام، لم يُضع ضرغام وقتا في الإفصاح عن مخططه أبدًا، بعد دفن الكبيرة استدعاني ليبلغني أني سأكون اليوم ملكه ويده اليمني وسآخذ مكان الكبيرة بجواره و سأكون المتوجة بجواره، وسأكون ملكة على عرش من ذهب، شرط أن أكون له بكامل إرادتي، وافقته، لم أكن لأصرح برفضي، لكن طلبت أن يؤجل ذلك تكريمًا للكبيرة "فهل نكون سويًا وكبيرتنا لم تبرد تربتها بعد؟"
رفض وقال" الحي أبقي من الميت يا حلوتي، الليلة إما رضًا فتصيري الملكة أو غصبًا يا وردتي وتبيتي جارية"
سناء فقط كانت تعلم برفضي وأعطتني منومًا لأضعه له وأهرب، انفرد بي، حاولت التحجج بأي حجه لأضع له المنوم في المشروب الذي كان يشربه، لكنه للأسف رآني وصفعني وحاول اغتصابي فضربته بزجاجه المشروب على رأسه فسقط أرضًا ووجدت الدم ينساب من رأسه وهربت سريعًا.
قاطع ذكرياتي هذه عامل القطار يطالب بالاطلاع على التذكرة، أصبحنا على مقربه من سوهاج، ذهبت للحمام وخلعت النقاب أبقيت على العباءة والطرحة، عندما عدت لمقعدي نظرت لي العجوز الجالسة أمامي نظرة مطولة تتفرس في ملامحي، فظننت أنها استهجنت خلعي للنقاب، لكن لم تتدخل، وظلت صامته تنظر لي نظرات متقطعة وكأنها تشبهه عليّ.
عندما وقفنا للنزول ترنحت العجوز، وكانت تبدو مشوشه، سقطت تلك العجوز أرضًا، بحثت في حقيبتها عن عطر لأنعشها به فوجدت قلم السكري الخاص بها و خمنت أنه انخفاض في مستوى السكر، فأعطيت لها حلوى وجدتها بحقيبتها، بعد قليل استعادت تركيزها وأفاقت وشكرتني
قالت:- هل أنت لوحدك يا صغيره؟
- نعم.
تساءلت:- إلى أين أنتِ ذاهبه؟
صَمُتُ فلم أعرف بما أجيب.
قالت بحنو:- هل تتمين جميلك وتوصليني لمنزلي، لا تخافي مني أنا عجوز أعيش وحيدة لا أبناء لي، أقيم في نجع النجار يا بنيتي، وأرى أنك وحدك بالقطار هل هناك من أحد ينتظرك بسوهاج؟
- لا.
- إذن أين ستقيمين؟
- في فندق.
فقالت مستنكره:- فندق وحدك! وأنتِ بهذا الجمال، لا يا بنيه لقد انشرح قلبي لك ،تعالي آنسي وحدتي ولا تخافي مما أنتِ هاربه منه سأجد لك حلًا.
فحاولت الاعتراض وقول أي شيء.
فردت:- أنا عجوز حفرت الأيام في قلبي ووجهي تجاعيدها، ولم يخطئني حدسي أبدًا، وأنا أقسم أنك هاربه من شيء أو تختبئين من أحد لا تكابري وتعالي معي.
فطاوعتها فلقد أحسست بالاطمئنان لها، عرفتني على نفسها
- أنا الحاجه خضرا النجار من أكابر النجع، أرملة وحيده ليس لي أبناء، كنت في القاهرة لزياره الحسين، عندما نصل المنزل سنتحدث عن كل شيء.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي