1

في الجزء الغربي من البقاء، وقعت صحراء ((الكُثْبَةِ)) التي عاشت فيها قبائل كثيرة منها قبيلة ((الأُسْدِ)).
كان الزبير حفيد شيخ الأسد الشيخ ((عامر))، الذي اتصف بأنه طموح وقد امتلك مالا كثيرا جدا، وقد دفعه طموحه لاستغلال أمواله الطائلة لتحقيق مجد كبير؛ فقرر أن يغزو القبائل المجاورة الواحدة تلو الأخرى ليسيطر عليها ويجعلها تحت إمرته. وكان الزبير ابن ((رؤبة))، ابن الشيخ عامر الوحيد من الذكور.
وعندما كان عمر الزبير عشرة أعوام، قرر جده الشيخ عامر أن يغزو قبيلة ((القاسمين)) المجاورة. أعلم الشيخ أفراد قبيلته بنيته للغزو وطلب منهم أن يتجهزوا لذلك.
قاد الشيخ عامر معظم فرسان قبيلته لقتال قبيلة القاسمين، بمن فيهم ابنه رؤبة. ولم يترك في أرض قبيلة الأسد سوى عدد قليل من فرسانها؛ وذلك لأنه احتاج أكبر عدد ممكن من الفرسان ليتمكن من تحقيق النصر المؤزر.
لقد أراد الانتصار بأية طريقة، لا سيما وأن هذه هي المعركة الأولى في سلسلة معاركه لتحقيق خطته بتوحيد قبائل الكثبة تحت رايته.
التقت قبيلة الأسد مع قبيلة القاسمين التي يقودها الشيخ سعد.
وبينما امتطى الشيخ عامر جواده، نظر إلى فرسان الأسد الذين كانوا خلفه، وقال: يا قوم، اليوم تبدأ رحلتنا الطويلة نحو المجد. لا ترحموهم، والتهموهم شر التهام، لتعرف البسيطة كلها، أن الأسد أشرس فرسانها.
لبس فرسان الأسد لباسهم المعروف، الذي تلون باللون الأحمر في معظمه، بينما تخلله اللون الأبيض في أماكن معنية. وقد لبس كل منهم عمامة بيضاء غطت الرأس.
ثم نظر الشيخ نحو فرسان القاسمين، وصرخ: لقد أعطيناكم فرصة لتخضعوا لنا دون أن نسفك دماءكم، لكنكم أصررتم على أن تُسفك.
فصرخ الشيخ سعد بغضب: خسئت، لن يحدث ذلك.
عندها صرخ الشيخ عامر: هجوم.
وانطلق وخلفه ابنه رؤبة وفرسانه باتجاه القاسمين، والتحم الجمعان، وكان فرسان الأسد أقوى بكثير، وقتل كل من الطرفين الفرسان من الطرف الآخر، لكن عدد المقتولين من فرسان القاسمين كان أكبر بكثير.
وكان الشيخ عامر أبرز الفرسان في المعركة من الطرفين، وأقواهم على الإطلاق، وجعل يقتل من جنود القاسمين تباعا. وتميز كذلك ابنه رؤبة الذي أبدع في القتال. وقد تميز أسلوب قتال فرسان الأسد، بأن كل واحد منهم حمل خنجرا إضافة لسيفه، واستخدم السيف والخنجر معا في القتال، وهذا الأسلوب اتبعه مقاتلو كثير من قبائل الكثبة الأخرى.
واستمرت المعركة واستمر تفوق الأسد، واستمر القتل في القاسمين. وهرب عدد لا بأس به من مقاتلي القاسمين.
وعلى الرغم من أن المعركة باتت شبه محسومة، إلا أن الشيخ عامرا أراد أمرا معينا، ولم يكن ليتنازل عنه مهما حدث، ألا وهو قتل شيخ القاسمين سعد.
اتجه الشيخ عامر نحو سعد، وكان سعد مترجلا، فترجل الشيخ عامر ليقاتله.
فصرخ سعد: لقد جنيت على نفسك، الآن سأرسلك إلى الجحيم، وبعدها ستتحول المعركة لصالحنا.
فرد الشيخ عامر: قل ما تشاء، فلم يتبقَ لك في هذه الحياة سوى هنيهات معدودات.
هجم سعد على عامر بكامل قوته، وضرب بسيفه فصد عامر الضربة بسيفه، ثم هاجم سعدا بدوره، وجعل يضرب بسيفه مرات ومرات، وما فعل سعد شيئا سوى صد الضربات والتراجع للخلف. أنهك سعد من شدة ضربات عامر، ولكنه حاول أن يضربه بسيفه، فصد عامر الضربة، ثم ضرب بطن سعد ضربة شقتها وأردته قتيلا.
من قبل أن تبدأ المعركة، خطط عامر وأصر على أنه لا بد وأن يقتل شيخ القاسمين. فقد أراد من خلال قتل الشيخ سعد أن يُرسل رسالة قوية إلى سائر القبائل، أنه عنيف وقوي وقاس ولا يرحم وأن مصيرهم جميعا هو الهلاك إذا ما تحدوه، وهذا ينطبق على شيوخ القبائل قبل غيرهم.
هذه الرسالة من شأنها أن تسهل حملته في إخضاع الكثبة بأكملها لسلطته.
أنشأ الشيخ عامر يصرخ: لقد قتلت شيخهم... لقد قتلت شيخهم...
وقد تعمد ذلك حتى يُشيع في من تبقى من القاسمين مزيدا من الرعب والهلع. وقد نجح ما أراد، إذ هرب جميع من تبقى من مقاتلي القاسمين.
بعد المعركة اتجه الشيخ عامر وجنوده إلى أرض قبيلة القاسمين، ولما بلغوا حدودها، أمر الشيخ أحد جنودها بأن ينادي في الناس بأمر معين.
فجعل المقاتل ينادي بصوت عال في الناس: لقد انتهت المعركة معكم أيها القاسمون، لقد قتلنا الشيخ سعدا، وهزمنا من معه من مقاتلين. الشيخ عامر يريد السلم معكم، ولا يريد مزيدا من سفك الدماء، ولو أنصت شيخكم إليه، وانصاع لطاعته، ما سالت قطرة دم واحدة. من ينصع منكم لنا، يسلم، أما من يحاول أن يقاتلنا فسينتهي كما انتهى من قاتلونا.
وشرع المنادي يكرر هذا الكلام.
كان الشيخ سعد قد أبقى عددا قليلا من المقاتلين في أرض قبيلة القاسمين. فلما سمع هؤلاء المقاتلون، ومن وُجد في القبيلة من نساء وأطفال وشيوخ، كلام المنادي، أيقنوا أن الاستسلام هو الخيار الوحيد.
أمر الشيخ عامر بجمع كل القاسمين في ساحة في أرض القبيلة. فلما اجتمعوا خطب فيهم قائلا: أيها القاسمون، علينا أن ننسى ما سال بيننا من دماء. لقد قتلتم منا كما قتلنا منكم.
لقد عرضت على شيخكم الراحل السلم مقابل أن ينصاع لي لكنه رفض، وما قتالي لكم إلا بسبب رفضه. ما أريده ليس طموحا شخصيا، كل ما أريده هو أن أوحد قبائل الكثبة حتى تصبح يدا واحدة، وحتى تصبح قوة يخشاها الجميع، ولا يجرؤ أحد على التعدي على بعضها كما يحدث الآن وحدث من قبل.
اليوم أمد لكم يد السلام، اعتبروني أخا لكم، لا قائدا عليكم، أنتم من اليوم جزء منا ونحن جزء منكم، من احتاج منكم حاجة قضيتها له، ومن اعْتُدي عليه ثأرت له. أنتم ونحن منذ الآن قوم واحد.
ولأثبت لكم حسن نيتي، فسأصرف لكم من مالي مبلغا معينا يرضيكم ويكفيكم. ومن ينضمّ إلي من مقاتليكم فسيكون له نصيب أكبر من المال. فأرسلوا إلى مقاتليكم الذين تركوا أرض المعركة ضدنا، أنهم في أمان إذا عادوا وأعلنوا لي الولاء، وأنني سأعطيهم ما يرضيهم.
استغرب الجميع من الطرفين ما قاله، وقد سبق استغراب الأسد استغراب القاسمين. فكيف برجل يغزو قبيلة فينتصر عليها، ثم يعطي أهلها المال، بدل أن يستولي على أموالهم؟!
لكن ما لم يعرفه كثيرون منهم، هو أن الشيخ عامرا، رغم أن أسلوبه اعتمد بالأساس على القوة والقسوة، إلا أنه مزج معه قليلا من الحكمة والعقلانية، وقد عرف جيدا، أن الترهيب يجب أن يجتمع معه الترغيب حتى يحقق مبتغاه. هو كان بحاجة لكل مقاتل ممكن لتحقيق طموحه، ومعاداة القبائل التي سينتصر عليها لن تكون إلا عقبة في طريق خطته.
لقد كان عامر خطيبا مفوها، وداهية، واستطاع بمعسول الكلام أن يكسب قلوب قبيلة القاسمين التي انصاعت له في نهاية المطاف. وقد اتسم كذلك بأنه قد يقول عكس ما يُبطن، فقد ذكر أن هدفه الرئيس هو جعل قبائل الكثبة هي الأقوى، ربما هو أراد ذلك، لكن ما أراده بالدرجة الأولى هو تحقيق المجد والطموح.
***
استمر الشيخ عامر بقتال قبائل الكثبة الواحدة تلو الأخرى، وكلما هزم قبيلة تعمد قتل شيخها وإعطاء أهلها المال، وإعطاء من ينضم إلى مقاتليه من فرسانها نصيبا أكبر من المال، وكل هذا ضمن أسلوبه بالجمع بين الترهيب والترغيب.
أما إذا خضعت له قبيلة دون قتال، فإنه يعفو عن شيخها فلا يقتله وعن مقاتليها فلا يقتلهم ولا يأسرهم، وأيضا يصرف لهم المال، ويصبحون أتباعه ويقاتلون معه.
ومر عامان على بدء الشيخ عامر لحملته للسيطرة على الكثبة، وخلال هذه المدة أخضع كثيرا من القبائل لسلطته، وغدا جل أفراد القبائل يحبونه؛ لأنه أنفق عليهم كثيرا من المال ولأنه تكفل بحمايتهم، وبات كثير من فرسانها جنودا له يقاتلون تحت إمرته.
***
وعندما كان عمر الزبيراثني عشر عاما، قُتل والده رؤبة في إحدى المعارك التي خاضتها قبيلة الأسد مع إحدى القبائل المجاورة، الأمر الذي ترك أثرا كبيرا – لاحقا- على الزبير.
وفي بيت العزاء، اجتمع رجال الأسد، ورجال سائر القبائل الخاضعة للشيخ عامر، لأداء واجب العزاء.
ما انفك الزبير يبكي منذ علمه بنبإ مقتل والده رؤبة، غير أنه تعمد أن يتماسك أمام أي أحد آخر، وكبت دموعه في دار العزاء.
وفي المساء، نادى الشيخ عامر حفيده الزبير - الذي أحس الشيخ بحزنه العارم طيلة يوم العزاء - وأخاه دريدا. جلس الشيخ على كرسي مصنوع من الخشب الفاخر، ووُجد في الغرفة كراسي أخرى
وطاولات مصنوعة من الخشب الفاخر كذلك. فرغم أن الأسد أهل صحراء، إلا أن الشيخ عامرا وقبيلته اتسموا بالغنى الشديد، لا سيما مع ما جمعه الشيخ عامر من غنائم من معاركه ضد القبائل، مما
جعلهم يعيشون في رفاه نسبي عن باقي بدو الكثبة.
كان الشيخ في الستين من عمره، قوي البنية مفتول العضلات رغم تقدم سنه، وله شعر أبيض كثيف غطى رأسه، وله شارب كثيف أبيض مهذب وأنيق، ولحية طويلة بيضاء مهذبة وأنيقة.
قال الشيخ: ما بالك، أيها الزبير؟!
فأجهش الطفل بالبكاء.
ودريد رغم حزنه الشديد على أبيه، ورغم أنه بكى سرا، إلا أنه علم أنه إذا بكى أمام جده، أو أظهر أية علامة ضعف، فسينال عقابا وخيما من الجد القاسي.
وعلى عكس المتوقع، وبدل أن يحنو الشيخ على حفيده الطفل، لطمه لطمة مدوية على وجهه، لن ينساها الزبير ما عاش، وقال الشيخ: اخرس، أيها الضعيف... أتبكي كالنساء؟!
عندها توقف الزبير عن البكاء، وتمالك نفسه، وتلك اللطمة شكلت أحد أهم الأحداث في حياة الزبير، والتي بنت شخصيته القاسية القوية العنيفة لاحقا.
ثم أمسك الشيخ الزبير من كتفيه، وقال: أيها الزبير، الحياة ليست مكانا سهلا، ولا بد فيها من التضحيات... وأبوك هو ابني وهو أغلى الناس على قلبي في العالمين، لا سيما وأنه ابني الوحيد من الذكور...
وأنت وأخوك دريد – بعد رحيله – بتما أغلى الناس على قلبي دون منافس... وأعدكما أنني سأحميكما من أي شيء، حتى لو اتحد العالم كله ضدكما، فإني حاميكما... تذكرا هذا جيدا.
وبالفعل أحب الشيخ حفيديه هذين بالتحديد حبا جما؛ فدريد هو أكبر حفدته والذي سيخلفه يوما ما شيخا للأسد وسائر القبائل، ولأنهما حفيداه الذكران الوحيدان من ابنه الذكر الوحيد.
ما لم يعلمه الطفلان، أن وراء القسوة التي ظهرت على جدهما في تلك اللحظات، قبع حزن عارم وقلب مكسور؛ لأن الشيخ فقد أغلى الناس على قلبه، ولأنه لام نفسه بأنه السبب في ذلك؛ فمعاركه التي بدأ بها هي التي أودت بحياة ابنه.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي