3
استمر الشيخ عامر بالسيطرة على قبائل الكثبة الواحدة تلو الأخرى، سواء أكان ذلك طوعا أو كرها. وحافظ على أسلوبه؛ فكلما خضعت قبيلة له أنفق عليها من ماله، لا سيما من ينضم إليه من فرسانها،
وكذلك تعهد بحمايتها من أي اعتداء. وهكذا أصبح أهل هذه القبائل يحبونه ويقاتلون في صفوفه بولاء تام. واستمرت مشاركة الزبير في المعارك، وكما مر الوقت زاد إبداعه في القتال وزاد لمعانه، كما أنه أظهر للناس –إلى جانب شراسته في القتال- حكمة ورأيا سديدا. وبعد مرور الزمن، بات في نظر أهل الكثبة ثاني أهم رجل فيها بعد الشيخ عامر. وبعد سنوات غدا الشيخ عامر شيخا لكل قبائل الكثبة على بكرة أبيها، وأصبح الملك غير المتوج للصحراء التي لطالما كانت متمردة وعصية على أي رجل ابتغى أن يٌخضعها لسلطانه.
لقد تبعت صحراء الكثبة لمملكة البقاء، وكان ملكها في ذلك الزمان الملك هزبرا. ولما سيطر الشيخ عامر على الكثبة برمتها، أعلن ولاءه للملك هزبر. ويعود ذلك لأسباب عدة؛ فقد أحب الشيخ عامر الملك وأكن له كل الاحترام كجل أهل البقاء؛ فقد كان ملكا عادلا، وقد أنفق العطايا بسخاء على شعبه، إذ اتسمت المملكة بالغنى وعاش أهلها برفاهية عظيمة حسدها أهل الممالك الأخرى.
كما أن أهل البقاء لطالما تفاخروا بأسرة الضياغم أسرة الملك هزبر، الذين اتسموا بالقوة والشدة ضد أعدائهم، ولطالما أذاقوهم المر إذا تجرؤوا وهاجموا البقاء.
ولأن الشيخ طموح جدا، فقد لاحت في باله كثيراً من المرات فكرة أن يتمرد على الملك، ويستقل بصحراء الكثبة فتصبح مملكة مستقلة عن البقاء. لطالما لمعت في سماء مخليته نجم فكرة أن يكون ملكا
على رأسه تاج، لكنه دائما ما كان يئد تلك الفكرة في مهدها. فصحراء الكثبة رغم اتساعها كانت صغيرة جدا مقارنة بمملكة البقاء الشاسعة. فقد احتوى جيش الملك هزبر من الجنود والعتاد عشرات أضعاف ما لدى الشيخ عامر.
وفرضا، لو تمكن الشيخ عامر – بطريقة ما – أن يهزم الملك ويعلن الكثبة مملكة مستقلة، فستصبح عندها الكثبة هدفا سهلا لملوك مملكة الهيجاء التي وقعت على الحدود الغربية لصحراء الكثبة. فالأمر
الذي لطالما منع ملوك الهيجاء من مهاجمة الكثبة، هو أنها خاضعة لملوك البقاء الأشداء، الذين خشي بطشَهم ملوك الهيجاء.
وقد علم الشيخ أن إعلانه الولاء للملك سيغدق عليه أموالا لم يرها في حياته، وسيعيش بذلك في رفاه، وستساعده هذه الأموال في بسط مزيد من السيطرة على أهل الكثبة، وسيزيد ولاؤهم له عندما يصرف هذا المال عليهم.
لهذا كله توجه الشيخ عامر إلى عاصمة البقاء المعتزة، وقابل الملك هزبرا وأعلن ولاءه له. وقد رحب الملك بذلك أيما ترحيب، وأغدق الأموال على الشيخ –كما توقع وأمل-، ومع مرور الزمن بات الرجلان صديقين، وزاد حب الشيخ للملك أضعافا.
***
ظلت العلاقة تشتد بين الملك هزبر والشيخ عامر، حتى تحول الأمر إلى صداقة، وبات في قلب الشيخ حب عظيم للملك الكريم عليه الوفي له. ولكن الأمر لم يدم طويلا؛ فقد وقعت الحرب المقيتة، وغدر
الملك خلدون ملك ياقوتة بالملك هزبر، فارتكب مجزرة قتل فيها الملك وجل أهله. وانهارت مملكة بقاء، وهجمت عليها مملكتا ياقوتة والهيجاء بعد اتفاق مسبق مبطن بين ملكيها.
لقد كانت صحراء الكثبة في الجزء الغربي الجنوبي من مملكة البقاء، على حدودها مع مملكة الهيجاء. وفي الحرب المقيتة وبعد مقتل الملك هزبر وجل أهله، قرر الملك هزيم ملك الهيجاء الهجوم
على الأجزاء الغربية من مملكة البقاء، ومنها صحراء الكثبة.
ولما علم الشيخ عامر بمقتل الملك هزبر، وبالطريقة التي اغتيل فيها، في مجزرة بشعة ملؤها الغدر والخبث، حزن حزنا هو الأعظم في حياته كلها.
أرسل ملك الهيجاء فيلقا كبيرا من جيشه لاحتلال الكثبة وإخضاع قبائلها، وعسكر الفيلق بالقرب من الكثبة. وقد ضم ما يقرب الخمسين ألف مقاتل.
فلما علم الشيخ عامر بهذا، أسرع في طلب شيوخ القبائل الموالين له جميعهم، ليحضروا إلى أرض قبيلة الأسد.
أتت الوفود إلى أرض قبيلة الأسد تنفيذا لأمر الشيخ. وقد أولم لهم وأكرم ضيافتهم، فدعاهم إلى اجتماع طارئ لا يمكن تأجيله.
اجتمع الشيوخ ووجهاء قبائلهم، ووجهاء قبيلة الأسد في بيت الشيخ عامر، وحضر الاجتماع الشيخ وحفيداه دريد والزبير.
قال الشيخ عامر: أهلا وسهلا بكم، أيها الكرام.
تنهد بألم وأسى، ثم أضاف: يا قوم، لا بد وأنكم تعلمون أن ملك الهيجاء أرسل لنا فيلقا ضخما ليحتل الكثبة.
وكما تعلمون أنا شيخ يقر بالشورى، ولا يكتفي برأيه دون آراء من حوله. يا قوم، أشيروا علي ماذا نفعل.
جعل الحضور ينظر بعضهم إلى بعض، وبدؤوا يتحادث بعضهم مع بعض، وعلت أصواتهم، حتى قال أحد الشيوخ: يا قوم... ثم قال بصوت عال حتى ينصتوا إليه: يا قوم.
نظروا جميعا إليه.
نظر الشيخ إلى الشيخ عامر، وقال: أيها الشيخ عامر، نحن أمام خيارين، إما أن نقاتل وإما أن نهاجر شرقا وننجو بأرواحنا. وفي هذه المواقف علينا الاستماع لصوت الحكمة. أيها الشيخ، علينا أن
ننجو بأنفسنا وأن نغادر هذه الأرض.
فأجاب الشيخ عامر فورا: لكننا لسنا جبناء. نحن الجبابرة الذين أخضعوا أقسى صحراء في العالم لقوتنا، أفتريدنا أن نهرب كالنساء؟!
فقال شيخ آخر: أيها الشيخ عامر، نحن هنا لا نتحدث عن أرواحنا نحن الرجال فحسب. نحن نتحدث عن أرواح نسائنا وأطفالنا وشيوخنا. إذا هزمنا في الحرب، وإذا قتل معظمنا، فلن يتبقى أحد
لحماية النساء والأطفال والشيوخ، فهم عندئذ إما قتلى أو عبيد. كيف نرضى أن تنتهك أعراضنا؟! علينا أن ننجو بضعفائنا وبأعراضنا وأن نحقن دماءنا.
علت الأصوات من جديد في القاعة، وجعل الناس يحادث بعضهم بعضا. وقد استاء الشيخ عامر مما قاله الشيخان؛ لأن الكرامة والعزة أمران لا غنى عنهما بالنسبة له. لكن في النهاية هو من طلب
مشورة أتباعه، وعليه أن يتقبلها حتى لو كانت ضد رغبته.
وفجأة قال الزبير: يا قوم، اهدؤوا ودعوني أتحدث.
هدأ الجميع، ونظروا إلى الزبير، وبينهم جده الذي ارتاح كثيرا؛ لأن رأي الزبير يهمه.
ثم قال الزبير: يا قوم، لو فر كل قوم يريد قوم آخر مقاتلتهم، لفسدت الأرض ولاستشرى الظلم وعم الفساد.
نعم، هم أكثر منا. نعم، هم يملكون سلاحا أكثر مما نملك. لكن هذا لا يعني الاستسلام. لو خططنا تخطيطا محكما ذكيا لقتالهم، فسوف ننتصر عليهم. نحن أهل صحراء، وأي صحراء!
والواحد منا عن عشرة منهم.
فرح الشيخ عامر بكلام حفيده، وعلت الأصوت من جديد حتى قال شيخ آخر: أيها الزبير، أرى فيك حماسة الشباب. لكن لو خيرتُ بين الاستماع لصوت الحكمة أو صوت الحماسة،
فالأسلم هو الإنصات للحكمة.
مملكتنا ضاعت وانهارت، والملك هزبر الذي كان سدا يحمينا من أي اعتداء محتمل قد قتل. ولا يوجد لنا الآن من يحمينا.
لو أننا سنقاتل قبيلة أخرى أو حتى مجموعة أخرى من القبائل أكثر عددا منا، فسوف أشير بالقتال؛ لأننا أنداد لهم. أما أن نقاتل ونحن قبائل، مملكةً كاملة وحدنا، فهذا هو الموت عينه.
سادت الجلبة من جديد، حتى قال الشيخ عامر: يا قوم.
فأنصت الجميع، ثم أضاف: من يؤيد عدم القتال فليرفع يده.
فرفعت الغالبية العظمى أياديها، ومنهم حفيده دريد.
فاستاء الشيخ، ثم قال: من يؤيد القتال فليرفع يده.
فرفعت قلة قليلة أياديها، ومنهم حفيده الزبير.
ثم قال الشيخ: لقد شاورتكم، فأمهلوني أفكر حتى يوم غد ثم أعلمكم ماذا قررت.
منذ انتهاء الاجتماع، طفق الشيخ عامر يتفكر في المسألة، ودرس الخيارين المطروحين أمامه بعناية، وظل يقلبهما في عقله حتى اجتمع من جديد بالأناس نفسهم في اليوم التالي.
قال الشيخ عامر: أهلا بكم، يا قوم.
ثم أضاف: لقد تفكرت جيدا بالأمر... لقد قررت أن نقاتل ملك الهيجاء.
ظهرت علامات الامتعاض وعدم الرضا على وجوه الأغلبية التي لا تريد القتال، وعلى النقيض ظهرت علامات الرضا والإعجاب على وجوه من يريدون الحرب.
لقد توقع الشيخ مسبقا أن لا يرضي كلامه الأغلبية، فقال: يا قوم، إياكم أن تظنوا أنني تجاهلت مشورتكم، بل إنني تفكرت عميقا بها، وهذا لعمري أصعب تفكير خضته في حياتي،
وإني أخال أنني من أكثر الناس الذي احتاروا يوما ما في تقرير أمر ما. لكن كما تعلمون فإن القائد يختار القرار الصحيح حتى وإن خالفته الأغلبية.
ثم بدأ يشرح دوافعه: نحن شجعان كرماء نأبى الهزيمة والذل، ولا يمكن لنا أن نرضى أن نعيش والناس تصمنا بعار الفرار من القتال. الموت أرحم علينا. ونحن- أهلَ صحراء
هي الأقسى بين الصحارى – أكثر قوة وخبرة وحنكة من جنود الهيجاء الضعفاء المدللين الذين اعتادوا حياة المدن والقرى.
والواحد منا عن عشرة منهم.
العبارة الأخيرة هي عبارة الزبير التي قالها قبل يوم، وقد أسعده تكرار جده لها أمام أهم أهل الكثبة جميعا.
في الواقع، هنالك سبب آخر لم يذكر الشيخ عامر لاختياره للحرب، وهو أنه أراد أن ينتقم لصديقه الملك هزبر الذي أحبه بجنون، وأن يحافظ على عزة وطنه مملكة البقاء التي كان متيما بعشقها.
لم تقتنع الأغلبية التي تؤيد عدم القتال بما قاله الشيخ، لكن في النهاية هو شيخ كل الكثبة وعليهم اتباعه مهما قال؛ فهو زعيمهم وهو الذي لطالما حماهم وأنفق عليهم.
بعد انتهاء الاجتماع نادى الشيخ حفيده الزبير، وأمسك به من كتفيه وقال: لقد جعلتني فخورا من جديد، كما فعلت دائما. لقد أعجبتني مشورتك، وأعجبني إقدامك وجرأتك على الحديث
رغم صغر سنك مقارنة بكثير ممن حضروا. أيها الزبير، أنت أكثر إنسان يهمني رأيه في العالم كله. وما أصررت على القتال إلا وأنا أعلم أنك تشير به.
فرح الزبير كثيرا بثقة أعظم رجل في حياته به، وحُفِرَتِ الجملةُ الأخيرةُ عميقةً في ذاكرته.
***
سار فرسان الكثبة بقيادة الشيخ عامر إلى منطقة قريبة من الحدود بين مملكتي البقاء والهيجاء، لقتال فيلق مملكة الهيجاء.
وحان موعد المعركة.
بلغ عدد جنود الكثبة ما يقرب عشرة آلاف مقاتل، في حين وصل عدد جنود الهيجاء إلى خمسين ألفاً.
وعلى الرغم من شجاعة فرسان الكثبة، فقد هالهم الفرق الهائل في العدد والعدة بينهم وبين عدوهم، وتوقعوا أن النهاية لن تكون سعيدة لهم.
لبس فرسان الكثبة زيهم المعروف الأبيض في معظمه، ويتخلله اللون الأحمر.
لبس فرسان الهيجاء زيهم المعروف الذي كان من اللون الأسود في معظمه وتخلله اللون الذهبي. وحملوا التُرُس السوداء، التي ميزت مقاتلي الهيجاء واعتمدوا كثيرا عليها في القتال.
وضم جيشهم الملك هزيما وابنه وولي عهده الأمير ميمونا. وكان للملك فرقة حراسة خاصة اسمها الفرقة الذهبية، أتت أيضا إلى المعركة. وقد لبس الملك وابنه وأعضاء الفرقة الذهبية
لباسا ذهبيا في معظمه وتخلله اللون الأسود، وحملوا الترس المصنوعة من الذهب الخالص، أما أغماد سيوفهم ومقابضها فصنعت كذلك من الذهب الخالص. أما علم الهيجاء فقد احتوى
مثلثا أسودَ رُسم فيه ترس ذهبي وأحاط بالمثلث اللون الذهبي.
ضم صف الكثبة، الزبير ودريدا وشيوخ قبائل الكثبة جميعهم.
انطلق الجمعان أحدهما باتجاه الآخر، والتحما. وبدأ الطرفان يقتل بعضهم بعضاً. وقد أبلى الشيخ عامر بلاء حسناً، حيث جعل يقتل من جنود مملكة الهيجاء. وكذلك تألق الزبير،
وإن لم يكن بمثل تألق جده؛ فهو يفتقد إلى خبرته. واستخدم الزبير أسلوب القتال المعتمد على المزج بين السيف والخنجر، كجل مقاتلي الكثبة، وهو الأسلوب الذي ظل يتبعه الزبير إلى آخر عمره.
لو قارنت أي فارس من فرسان الكثبة بجندي من جنود الهيجاء، فعلى الأغلب ستجد أن فارس الكثبة أقوى بكثير، فهو عاش طيلة عمره في صحراء قاسية، ولطالما خاض الحروب والمعارك القاسية.
لكنّ الكثرة تغلب الشجاعة، وقد فاق عدد جنود الهيجاء عدد فرسان الكثبة بأضعاف. ولذلك وعلى الرغم من بسالة الشيخ والزبير وجل مقاتلي الكثبة، فقد التهم الفيلق مقاتلي الكثبة شر التهام.
وكلما مر الوقت زاد القتل في فرسان الكثبة، وزادت هزيمتهم.
وبعد مرور الزمن، طفق كثير من فرسان الكثبة يفرون من أرض المعركة؛ فالهزيمة كانت محتومة ولا أمل بالنصر على الإطلاق.
بيد أن الشيخ عامرا، وحفيديه الزبير ودريدا ظلوا ثابتين في أرض المعركة.
ومر الزمن، ولم يبق من فرسان الكثبة سوى المئات، في حين لم يخسر فيلق الهيجاء سوى المئات من جنوده.
في تلك اللحظات أدرك الشيخ عامر أنها النهاية، جيش الكثبة العظيم هذا الذي بناه على مدى السنوات الطويلة الشاقة، انهار في معركة واحدة.
لقد خسر كل شيء، لم يعد للحياة قيمة، لكن هنالك شيء وحيد ظل لم يخسره بعد ألا وهو كرامته، وإذا فر من أرض المعركة فسيخسره وستتحول حياته إلى شقاء، لذا قرر أن يقاتل حتى يُقْتَلَ.
اقتحم الشيخ صفوف فيلق الهيجاء، وتوغل باتجاههم، كمن يمشي نحو الموت بقدميه.
لاحظ الزبير هذا، وأيقن في تلك اللحظة مدى عظمة جده، وأنه أشجع منه بمئات المرات.
لما رأى الزبير جده يتوغل باتجاه صفوف مقاتلي الهيجاء، صرخ: جدي، عد، أرجوك، عد. لا أمل في الانتصار عليهم. عد يا جدي.
سمع الشيخ صراخ حفيده، وقد عرف الزبير ذلك، لكن الشيخ تجاهله، وظل يتوغل باتجاه أعدائه. وقد كان الشيخ في تلك الأثناء يقتل خصومه وهو على جواده.
صرخ الزبير: جدي، أرجوك، نحن نحتاجك... أنا أحتاجك.
لكن الشيخ تجاهل صوت ابنه، وظل يتوغل، وبينما هو يفعل ذلك، تجمع حوله خمسة مقاتلين، فقتل الشيخ واحدا منهم، غير أن واحدا آخر طعنه في ظهره.
وهكذا كانت تلك اللحظات الأخيرة في حياة القائد المقدام.
شاهد الزبير كل هذا، وكانت هذه اللحظات هي الأقسى والأكثر إيلاما مما مر من حياته ومما سيمر. سالت دموعه وأحس أن ألم الكون كله يتجمع في جسده.
جده هو قدوته التي لطالما أراد أن يصير مثلها بل أن يتفوق عليها في يوم من الأيام، لكنه أدرك حينها أنه من المستحيل أن يصل - حتى لو عاش ألف ألف عام - لشجاعة جده البطل.
انهار الزبير، وفجأة اقترب منه أخوه دريد، وأمسك به من ذراعه، وصرخ: هيا، أيها الزبير، علينا أن نرحل وننجو بحياتنا قبل أن نقتل.
"الرحيل" هي الكلمة التي اختارها دريد، لكنها كانت تعني الفرار والجبن لدى الزبير.
الزبير كان مذهولا مصعوقا في تلك اللحظات بعد مقتل جده، ووجد نفسه يركض مع أخيه دريد هاربا من أرض المعركة.
***
"لماذا لم أقاتل حتى النهاية، حتى الموت كما فعل جدي؟!" جعل الزبير يتفكر منذ اللحظة التي وافق فيها على اقتراح أخيه بالفرار من أرض المعركة.
"كيف تركتُ قتلة جدي أحياء وفررت منهم؟!" فكرة أخرى طفقت تدور في باله، إذ شعر بالعار؛ لأنه هرب من قتلة جده ولم يقتص منهم،
ولأنه لم يذهب إلى جده ويدافع عنه في اللحظات الأخيرة من حياته.
منذ اللحظة التي قتل فيها الشيخ عامر، ندم الزبير لأنه أشار عليه بقتال فيلق مملكة الهيجاء، ولام نفسه على مقتل جده، ومنذ اللحظة نفسها، قرر الزبير أنه لا بد وأن يثأر لجده من قتلته، ولو بعد ألف عام.
دريد والزبير كلاهما فر من أرض المعركة على جواده مسرعا، ولما ابتعدا، ظل دريد مسرعا، في حين تباطأ الزبير، وقاد حصانه بذل وهو مطأطئ الرأس.
فلما لاحظ دريد ذلك، عاد إلى أخيه، وبينما هما على جواديهما، أمسك دريد كتفي الزبير، وصرخ: لا وقت الآن للحزن والندم.
ثم أضاف صارخا: علينا أن نرحل قبل أن يلحقوا بنا، علينا أن نصل إلى نسائنا وأطفالنا وشيوخنا وننجو بهم، لا مجال الآن للضعف.
كان الزبير كالغاطّ في النوم، وكلمات أخيه أيقظته، فانطلق الاثنان مسرعين نحو أرض الأسد.
ولما وصلا هناك، خرج إليهما القلة القليلة من الفرسان التي أبقاها الشيخ عامر في أرض القبيلة لحماية نسائها وأطفالها في حال حدوث أية هجمة غادرة.
قبل وصول دريد والزبير، وصل عدد من فرسان الأسد الفارين من المعركة؛ لذا كان الفرسان الذين خرجوا للقاء دريد والزبير على علم بما حدث في المعركة.
قال أحدهم: يا دريد، نحن نعلم ما حدث، وظلننا ننتظرك أنت والزبير، حتى نتلقى أمركما بخصوص ماذا سنفعل.
الزبير كان ما زال غارقا في بحر الصدمة؛ لذا التزم الصمت.
أما دريد، فبرباطة جأش قال: اجمع لي كل الفرسان الموجودين في أرض القبيلة، في دار جدي. سأنتظرهم أنا والزبير هناك.
ثم أضاف: بسرعة، أريد أن أجدهم جميعا هناك بسرعة فائقة.
انطلق دريد والزبير إلى دار جدهما، وبعد زمن قصير تجمع كل فرسان الأسد هناك.
فلما اجتمعوا، قال دريد: يا قوم، لا مجال الآن للكلام الكثير، لقد خسرنا الحرب، وقُتِلَ جدي الشيخ عامر. وجيش الهيجاء لن يصبر علينا،
وسيهاجمنا في أية لحظة. نحن الآن مهزومون وغير منظمين، وعلينا أن ننجو بأرواحنا قبل أن يجهزوا علينا، على الأقل علينا أن نؤمن حياة نسائنا وأطفالنا قبل أن يستعبدهم ملك الهيجاء.
سنتجه شرقا، ونتوغل في صحراء الكثبة أكثر وأكثر، حتى نصعب المهمة على جيش الهيجاء.
ثم نظر إليهم وقال: فليذهب خمسون منكم، إلى شيوخ قبائل الكثبة في أراضيهم، وليخبروهم أننا سنجتمع بهم جميعا في أرض قبيلة المعصومين، وهناك سنناقش ماذا سنفعل فيما بعد.
كانت أرض قبيلة المعصومين أبعد القبائل عن مملكة الهيجاء، إذ وقعت شرقيّ صحراء الكثبة، ولم يقع إلى الشرق منها أية قبيلة أخرى، لذا اختارها
دريد نقطة للتجمع لأنها آمن مكان بعيدا عن براثن ملك الهيجاء.
وأكمل دريد: أما بقية الفرسان، فلتذهبوا إلى النساء والأطفال والشيوخ، ولتجمعوا أهم المتاع وما يكفي من الغذاء، ولنتجه فورا نحو أرض المعصومين.
ظل الزبير ملتزما الصمت، بينما بدأ فرسان الأسد ينفذون أوامر دريد.
انطلق خمسون فارسا لإيصال رسالة دريد إلى شيوخ الكثبة، بينما قاد قبيلته كلها ولم يذر امرأ واحدا في أرض الأسد، واتجهوا جميعا نحو أرض المعصومين،
بعد أن أخذوا كل ثمين من حلي وذهب ومال.
اتسمت رحلتهم بالقساوة والصعوبة؛ فقد أحسوا جميعا بالذل وهم يتركون أرضهم صاغرين أذلاء فرارا من ملك الهيجاء. القبيلة التي لطالما
عاشت عزيزة مفتخرة بأنها تقود الكثبة كلها، ها هي تفر من قتلة شيخها وأبنائها بدل أن تبقى لمواجهتهم والثأر منهم.
الأصدقاء العاديون، معرفتنا بهم لا يميزها ذلك الشيء الفريد، ويمكن أن ننساهم في أية لحظة. لكن الأصدقاء الحقيقيون هم أولئك الذين لهم
مكانة مميزة في القلب، لا يمكن أن تختفي أبدا؛ وذلك بسبب مواقف عظيمة أدوها، أو كانوا – على الأقل – جزءا بارزا فيها.
هذا ما ميز العلاقة بين الزبير، وقيس أعز أصدقائه على الإطلاق.
الجميع خشوا الزبير، حتى الذين كبروه بأعوام بلغت أحيانا أربعين عاما! فكيف بمن هم في عمره أو قريبون من عمره؟!
لذلك قلل أقران الزبير من الحديث مع
ه.
وهذا كله انطبق على قيس كذلك. لكن هذا الشاب أحب الزبير حبا جما ربما اقترب من حب والدي الزبير له. لذلك قرر قيس أن يضغط على نفسه،
وأن يقاوم الخوف والرهبة اللذين بداخله تجاه الزبير، وأن يحادثه بخصوص مقتل جده.
وبينما قبيلة الأسد توقفت قليلا عن المسير في رحلتها، وبينما الزبير وحده، اقترب منه قيس الذي تحين مثل هذه الفرصة.
لم يشعر الزبير باقتراب قيس، فباله شُغل بما حدث لجده، ولم يستوعب أي شيء يدور حوله.
"مرحبا... أيها الزبير" قال قيس برهبة.
لم يرد الزبير الذي كان شارد الذهن.
"أيها الزبير، كيف حالك؟" قال قيس بصوت عال.
انتبه الزبير حينها وقال بحزن عارم: أنا بخير.
"أيها الزبير" قال قيس وأكمل: ما حدث سيئ جدا، وهو غالبا أسوأ ما ستواجهه في حياتك كلها.
تنهد ثم أضاف: سأكذب إن قلت هو سهل... إنه صعب للغاية. وليس لأحد لم يواجهه أن ينظّر عليك... لكن أيها الزبير، مهما فعلت لن يعود جدك... لقد انتهى ذلك...
أنت أعظم رجل في الكثبة... وكل أهلها يعتمدون عليك... بقاؤهم رهن بك... لذا استجمع قواك وقدنا نحو الانتصار.
كاد قيس يبكي في لحظات الألم والذل والهزيمة تلك، غير أنه منع نفسه من ذلك؛ لأنه لم يرد أن يزيد ببكائه من آلام الزبير، ثم قال بصوت مرتجف: أرجوك... أيها الزبير... لا تستسلم...
ثم أضاف بعد حين: أرجوك...
نظر الزبير مكسور الجناح بعينين حادتين إلى قيس، ثم عاود النظر إلى الأرض كما فعل طيلة المحادثة.
تنهد قيس من جديد ورحل من المكان، دون أن يعلم أن كلماته هذه نجحت كثيرا في شحن الزبير وتحميسه للخروج مما هو فيه.
فالزبير منذ الذي حدث لم يواسه أحد غير أهله، ولم يتوقع الزبير مثل ذلك؛ بسبب الحاجز بينه وبين سائر أهل القبيلة. ولذلك ترك ما فعله قيس بصمته في قلب الزبير، وزادت محبة الأخير الكبيرة له.
***
مضت أيام، ثم وصل دريد ومن معه إلى أرض قبيلة المعصومين.
خرج إليهم شيخ المعصومين، ورحب بهم: أهلا بدريد والزبير، يا قوم قد حللتم أهلا ووطئتم سهلا.
ثم أضاف: تفضل، يا دريد وأيها الزبير، إلى داري.
ثم أمر أفراد قبيلته: يا قوم، أحسنوا استقبال من أتى من إخواننا الأسد. أكرموهم وأطعموهم وأسكنوهم دياركم.
دخل دريد والزبير دار الشيخ، بينما توزع أفراد الأسد على دور أهل قبيلة المعصومين الذين أكرموهم ونفذوا سائر أوامر شيخهم.
بعدما دخل دريد والزبير دار الشيخ، نادى الشيخ عبيده، ثم أمرهم: أحضروا الطعام والشراب للشيوخ.
فقال دريد: أيها الشيخ، لا وقت الآن لمثل هذا، علينا أن نخطط لما سنفعله، لقد أرسلت إلى سائر شيوخ الكثبة وأخبرتهم أن يجتمعوا هنا في أرضك، حتى نقرر معا ما الخطوة القادمة.
فرد الشيخ: نعم، أعلم هذا، فقد أتت بعض القبائل إلينا قبل وصولكم، وأنا في انتظار البقية.
ظلت القبائل تتوافد على أرض المعصومين حتى تجمعوا كلهم فيها، وحالما تأكد دريد من قدوم كل الشيوخ أو من ينوب عنهم، طلب من شيخ المعصومين أن يدعوهم إلى داره ليجتمع بهم.
بعض شيوخ الكثبة قتلوا في المعركة؛ لذا أتى ابن كل منهم أو أخوه أو من اختاره قومه نائبا عنه.
اجتمع دريد والزبير وشيوخ الكثبة أو من ينوب عنهم في دار شيخ المعصومين.
وهناك ضيفهم شيخ المعصومين ورحب بهم.
وبعد حين قال دريد: يا قوم، لقد أرسلت في طلبكم، وطلبت اجتماعكم هنا، حتى نقرر ماذا سنفعل، ولكي نتحرك كجسد واحد لا كقبائلَ متفرقة ضعيفة.
فقال أحد الشيوخ الحاضرين: ولكن...
شعر بالرهبة مما سيقوله، لكن استجمع قواه، ثم أكمل: علينا أن نختار شيخا من شيوخ القبائل ليكون شيخا على الكثبة بأكملها بعد مقتل الشيخ عامر.
وخرجت أصوات من حاضرين آخرين تثني على كلامه.
شعر دريد بحرج عظيم، فقد تصرف على أنه هو شيخ الكثبة الجديد منذ لحظة مقتل جده؛ لأنه حفيده الأكبر والذي سيخلفه.
الزبير غرق في بحر الصدمة في اللحظة التي قتل فيها جده، وقد وصل عمقا سحيقا فيها، ولكن بسبب قوته ظل يسبح للأعلى في هذه البحيرة حتى ينجو منها. لقد ظل يستعيد
وعيه وقوته تدريجيا، وكان ما قاله هذا الشيخ وإثناء آخرين عليه، اللحظة التي استفاق فيها.
صرخ الزبير بالقسوة التي عرفت عنه، وقد احمرت عيناه: ما هذا الذي تهرف به؟! وأنتم يا من أيدتم كلامه هل نسيتم أنفسكم؟!
ثم أكمل بالطريقة نفسها: هل نسيتم أنفسكم؟! أنتم لم تختاروا جدي شيخا عليكم بمحض إرادتكم، بعضكم لم يخضع له إلا بالسيف، وبعضكم رضي به سلما؛ لأنه علم أنه ليس ندا له.
والأمر ليس لكم الآن لتقرروا من سيخلفه. شيوخ الأسد هم شيوخ الكثبة بأكملها، شاء من شاء وأبى من أبى. ومن سيخلف جدي، أمر داخل قبيلة الأسد يقررونه بمفردهم.
وقد اخترنا نحن الأسد أخي دريدا شيخا علينا؛ فالعادات تنص على أن أكبر أبناء الشيخ أو حفدته هو من يخلفه. وبالتالي أخي دريد هو شيخكم وشيخ الكثبة بأكملها.
ساد صمت مخيف في الدار، وتفاجأ الجميع مما قاله الزبير والأسلوب القاسي العنيف الذي قاله به.
دريد، صحيح أنه استاء مما قالوه، لكنه أبدا لم يكن ليتصرف مثلما فعل الزبير.
الزبير تصرف بهذه الطريقة؛ لأنه فهم عقلية أهل الصحراء والبادية؛ ففي قلب كل منهم ممن عانى قسوة الصحراء طمع عظيم وشوق كبير لمباهج الحياة،
لذا من المتوقع أن يطمع كل منهم بأن يكون شيخ الكثبة كلها. لهذا كله قرر في تلك اللحظة أن يكشر عن أنيابه ويمنع أية فتنة.
وفجأة وسط هذا الصمت المطبق، حدث ما لم يكن بالحسبان.
قام الزبير، وأخرج سيفه من غمده، وصرخ وقد جحظت عيناه واحمرتا غضبا: من لا يعجبه كلامي، فليقل الآن حتى أقطع رأسه.
أي شيء كان من الممكن أن يحدث في تلك اللحظة، فالحاضرون ساءتهم قسوة الزبير، فكيف به وهو يهددهم هكذا؟!
ساد صمت في الدار، وسكت الجميع، وقرروا الخضوع للزبير.
بعد زمن، قال أحد الشيوخ: أيها الزبير، لا داعي للغضب، أنتم شيوخ الكثبة وأنتم أسيادها وستظل قيادتها فيكم. لقد زل لسان من اقترح اختيار
شيخ جديد وأخطأ من أيده، فلتسامحهم بطيب خلقك الذي عهدناه عنك.
هدأ الزبير مع انصياع الجميع، وكلام الشيخ، وجعل ينظر يمينا وشمالا في الحاضرين، وبعد زمن أرجع سيفه إلى غمده وجلس.
وبهذا بات دريد الشيخ الجديد للكثبة بأكملها، وإن كان ذلك بصمت الحاضرين وإذعانهم.
فقال دريد: يا قوم، قد قررت أن نسير باتجاه الشرق، لننجو من هذا الملك الحاقد. فهل لدى أحدكم أي رأي آخر يشير به علي.
ساد صمت في الدار، فقد علموا جميعا أن هذا هو الاقتراح الأفضل.
وقال شيخ: هو ذا، أيها الشيخ.
وجعلت الأصوات تؤيد الفكرة تباعا.
مقاتلو الكثبة، قتل ما يقرب نصفهم في المعركة، وهرب النصف الآخر منها. كانت ضربة قوية ولم يستطيعوا أن يقاتلوا ملك الهيجاء من جديد.
وهكذا اتجهوا شرقا، وتركوا بيوتهم، وآخذوا النساء والأطفال والشيوخ، وباتوا يعيشون في الخيم. في حين ظل فيلق الهيجاء يلاحقهم، لكن ببطء
لأنه عدد جنوده أكبر بكثير من عدد النازحين من أهل الكثبة.
***
وكذلك تعهد بحمايتها من أي اعتداء. وهكذا أصبح أهل هذه القبائل يحبونه ويقاتلون في صفوفه بولاء تام. واستمرت مشاركة الزبير في المعارك، وكما مر الوقت زاد إبداعه في القتال وزاد لمعانه، كما أنه أظهر للناس –إلى جانب شراسته في القتال- حكمة ورأيا سديدا. وبعد مرور الزمن، بات في نظر أهل الكثبة ثاني أهم رجل فيها بعد الشيخ عامر. وبعد سنوات غدا الشيخ عامر شيخا لكل قبائل الكثبة على بكرة أبيها، وأصبح الملك غير المتوج للصحراء التي لطالما كانت متمردة وعصية على أي رجل ابتغى أن يٌخضعها لسلطانه.
لقد تبعت صحراء الكثبة لمملكة البقاء، وكان ملكها في ذلك الزمان الملك هزبرا. ولما سيطر الشيخ عامر على الكثبة برمتها، أعلن ولاءه للملك هزبر. ويعود ذلك لأسباب عدة؛ فقد أحب الشيخ عامر الملك وأكن له كل الاحترام كجل أهل البقاء؛ فقد كان ملكا عادلا، وقد أنفق العطايا بسخاء على شعبه، إذ اتسمت المملكة بالغنى وعاش أهلها برفاهية عظيمة حسدها أهل الممالك الأخرى.
كما أن أهل البقاء لطالما تفاخروا بأسرة الضياغم أسرة الملك هزبر، الذين اتسموا بالقوة والشدة ضد أعدائهم، ولطالما أذاقوهم المر إذا تجرؤوا وهاجموا البقاء.
ولأن الشيخ طموح جدا، فقد لاحت في باله كثيراً من المرات فكرة أن يتمرد على الملك، ويستقل بصحراء الكثبة فتصبح مملكة مستقلة عن البقاء. لطالما لمعت في سماء مخليته نجم فكرة أن يكون ملكا
على رأسه تاج، لكنه دائما ما كان يئد تلك الفكرة في مهدها. فصحراء الكثبة رغم اتساعها كانت صغيرة جدا مقارنة بمملكة البقاء الشاسعة. فقد احتوى جيش الملك هزبر من الجنود والعتاد عشرات أضعاف ما لدى الشيخ عامر.
وفرضا، لو تمكن الشيخ عامر – بطريقة ما – أن يهزم الملك ويعلن الكثبة مملكة مستقلة، فستصبح عندها الكثبة هدفا سهلا لملوك مملكة الهيجاء التي وقعت على الحدود الغربية لصحراء الكثبة. فالأمر
الذي لطالما منع ملوك الهيجاء من مهاجمة الكثبة، هو أنها خاضعة لملوك البقاء الأشداء، الذين خشي بطشَهم ملوك الهيجاء.
وقد علم الشيخ أن إعلانه الولاء للملك سيغدق عليه أموالا لم يرها في حياته، وسيعيش بذلك في رفاه، وستساعده هذه الأموال في بسط مزيد من السيطرة على أهل الكثبة، وسيزيد ولاؤهم له عندما يصرف هذا المال عليهم.
لهذا كله توجه الشيخ عامر إلى عاصمة البقاء المعتزة، وقابل الملك هزبرا وأعلن ولاءه له. وقد رحب الملك بذلك أيما ترحيب، وأغدق الأموال على الشيخ –كما توقع وأمل-، ومع مرور الزمن بات الرجلان صديقين، وزاد حب الشيخ للملك أضعافا.
***
ظلت العلاقة تشتد بين الملك هزبر والشيخ عامر، حتى تحول الأمر إلى صداقة، وبات في قلب الشيخ حب عظيم للملك الكريم عليه الوفي له. ولكن الأمر لم يدم طويلا؛ فقد وقعت الحرب المقيتة، وغدر
الملك خلدون ملك ياقوتة بالملك هزبر، فارتكب مجزرة قتل فيها الملك وجل أهله. وانهارت مملكة بقاء، وهجمت عليها مملكتا ياقوتة والهيجاء بعد اتفاق مسبق مبطن بين ملكيها.
لقد كانت صحراء الكثبة في الجزء الغربي الجنوبي من مملكة البقاء، على حدودها مع مملكة الهيجاء. وفي الحرب المقيتة وبعد مقتل الملك هزبر وجل أهله، قرر الملك هزيم ملك الهيجاء الهجوم
على الأجزاء الغربية من مملكة البقاء، ومنها صحراء الكثبة.
ولما علم الشيخ عامر بمقتل الملك هزبر، وبالطريقة التي اغتيل فيها، في مجزرة بشعة ملؤها الغدر والخبث، حزن حزنا هو الأعظم في حياته كلها.
أرسل ملك الهيجاء فيلقا كبيرا من جيشه لاحتلال الكثبة وإخضاع قبائلها، وعسكر الفيلق بالقرب من الكثبة. وقد ضم ما يقرب الخمسين ألف مقاتل.
فلما علم الشيخ عامر بهذا، أسرع في طلب شيوخ القبائل الموالين له جميعهم، ليحضروا إلى أرض قبيلة الأسد.
أتت الوفود إلى أرض قبيلة الأسد تنفيذا لأمر الشيخ. وقد أولم لهم وأكرم ضيافتهم، فدعاهم إلى اجتماع طارئ لا يمكن تأجيله.
اجتمع الشيوخ ووجهاء قبائلهم، ووجهاء قبيلة الأسد في بيت الشيخ عامر، وحضر الاجتماع الشيخ وحفيداه دريد والزبير.
قال الشيخ عامر: أهلا وسهلا بكم، أيها الكرام.
تنهد بألم وأسى، ثم أضاف: يا قوم، لا بد وأنكم تعلمون أن ملك الهيجاء أرسل لنا فيلقا ضخما ليحتل الكثبة.
وكما تعلمون أنا شيخ يقر بالشورى، ولا يكتفي برأيه دون آراء من حوله. يا قوم، أشيروا علي ماذا نفعل.
جعل الحضور ينظر بعضهم إلى بعض، وبدؤوا يتحادث بعضهم مع بعض، وعلت أصواتهم، حتى قال أحد الشيوخ: يا قوم... ثم قال بصوت عال حتى ينصتوا إليه: يا قوم.
نظروا جميعا إليه.
نظر الشيخ إلى الشيخ عامر، وقال: أيها الشيخ عامر، نحن أمام خيارين، إما أن نقاتل وإما أن نهاجر شرقا وننجو بأرواحنا. وفي هذه المواقف علينا الاستماع لصوت الحكمة. أيها الشيخ، علينا أن
ننجو بأنفسنا وأن نغادر هذه الأرض.
فأجاب الشيخ عامر فورا: لكننا لسنا جبناء. نحن الجبابرة الذين أخضعوا أقسى صحراء في العالم لقوتنا، أفتريدنا أن نهرب كالنساء؟!
فقال شيخ آخر: أيها الشيخ عامر، نحن هنا لا نتحدث عن أرواحنا نحن الرجال فحسب. نحن نتحدث عن أرواح نسائنا وأطفالنا وشيوخنا. إذا هزمنا في الحرب، وإذا قتل معظمنا، فلن يتبقى أحد
لحماية النساء والأطفال والشيوخ، فهم عندئذ إما قتلى أو عبيد. كيف نرضى أن تنتهك أعراضنا؟! علينا أن ننجو بضعفائنا وبأعراضنا وأن نحقن دماءنا.
علت الأصوات من جديد في القاعة، وجعل الناس يحادث بعضهم بعضا. وقد استاء الشيخ عامر مما قاله الشيخان؛ لأن الكرامة والعزة أمران لا غنى عنهما بالنسبة له. لكن في النهاية هو من طلب
مشورة أتباعه، وعليه أن يتقبلها حتى لو كانت ضد رغبته.
وفجأة قال الزبير: يا قوم، اهدؤوا ودعوني أتحدث.
هدأ الجميع، ونظروا إلى الزبير، وبينهم جده الذي ارتاح كثيرا؛ لأن رأي الزبير يهمه.
ثم قال الزبير: يا قوم، لو فر كل قوم يريد قوم آخر مقاتلتهم، لفسدت الأرض ولاستشرى الظلم وعم الفساد.
نعم، هم أكثر منا. نعم، هم يملكون سلاحا أكثر مما نملك. لكن هذا لا يعني الاستسلام. لو خططنا تخطيطا محكما ذكيا لقتالهم، فسوف ننتصر عليهم. نحن أهل صحراء، وأي صحراء!
والواحد منا عن عشرة منهم.
فرح الشيخ عامر بكلام حفيده، وعلت الأصوت من جديد حتى قال شيخ آخر: أيها الزبير، أرى فيك حماسة الشباب. لكن لو خيرتُ بين الاستماع لصوت الحكمة أو صوت الحماسة،
فالأسلم هو الإنصات للحكمة.
مملكتنا ضاعت وانهارت، والملك هزبر الذي كان سدا يحمينا من أي اعتداء محتمل قد قتل. ولا يوجد لنا الآن من يحمينا.
لو أننا سنقاتل قبيلة أخرى أو حتى مجموعة أخرى من القبائل أكثر عددا منا، فسوف أشير بالقتال؛ لأننا أنداد لهم. أما أن نقاتل ونحن قبائل، مملكةً كاملة وحدنا، فهذا هو الموت عينه.
سادت الجلبة من جديد، حتى قال الشيخ عامر: يا قوم.
فأنصت الجميع، ثم أضاف: من يؤيد عدم القتال فليرفع يده.
فرفعت الغالبية العظمى أياديها، ومنهم حفيده دريد.
فاستاء الشيخ، ثم قال: من يؤيد القتال فليرفع يده.
فرفعت قلة قليلة أياديها، ومنهم حفيده الزبير.
ثم قال الشيخ: لقد شاورتكم، فأمهلوني أفكر حتى يوم غد ثم أعلمكم ماذا قررت.
منذ انتهاء الاجتماع، طفق الشيخ عامر يتفكر في المسألة، ودرس الخيارين المطروحين أمامه بعناية، وظل يقلبهما في عقله حتى اجتمع من جديد بالأناس نفسهم في اليوم التالي.
قال الشيخ عامر: أهلا بكم، يا قوم.
ثم أضاف: لقد تفكرت جيدا بالأمر... لقد قررت أن نقاتل ملك الهيجاء.
ظهرت علامات الامتعاض وعدم الرضا على وجوه الأغلبية التي لا تريد القتال، وعلى النقيض ظهرت علامات الرضا والإعجاب على وجوه من يريدون الحرب.
لقد توقع الشيخ مسبقا أن لا يرضي كلامه الأغلبية، فقال: يا قوم، إياكم أن تظنوا أنني تجاهلت مشورتكم، بل إنني تفكرت عميقا بها، وهذا لعمري أصعب تفكير خضته في حياتي،
وإني أخال أنني من أكثر الناس الذي احتاروا يوما ما في تقرير أمر ما. لكن كما تعلمون فإن القائد يختار القرار الصحيح حتى وإن خالفته الأغلبية.
ثم بدأ يشرح دوافعه: نحن شجعان كرماء نأبى الهزيمة والذل، ولا يمكن لنا أن نرضى أن نعيش والناس تصمنا بعار الفرار من القتال. الموت أرحم علينا. ونحن- أهلَ صحراء
هي الأقسى بين الصحارى – أكثر قوة وخبرة وحنكة من جنود الهيجاء الضعفاء المدللين الذين اعتادوا حياة المدن والقرى.
والواحد منا عن عشرة منهم.
العبارة الأخيرة هي عبارة الزبير التي قالها قبل يوم، وقد أسعده تكرار جده لها أمام أهم أهل الكثبة جميعا.
في الواقع، هنالك سبب آخر لم يذكر الشيخ عامر لاختياره للحرب، وهو أنه أراد أن ينتقم لصديقه الملك هزبر الذي أحبه بجنون، وأن يحافظ على عزة وطنه مملكة البقاء التي كان متيما بعشقها.
لم تقتنع الأغلبية التي تؤيد عدم القتال بما قاله الشيخ، لكن في النهاية هو شيخ كل الكثبة وعليهم اتباعه مهما قال؛ فهو زعيمهم وهو الذي لطالما حماهم وأنفق عليهم.
بعد انتهاء الاجتماع نادى الشيخ حفيده الزبير، وأمسك به من كتفيه وقال: لقد جعلتني فخورا من جديد، كما فعلت دائما. لقد أعجبتني مشورتك، وأعجبني إقدامك وجرأتك على الحديث
رغم صغر سنك مقارنة بكثير ممن حضروا. أيها الزبير، أنت أكثر إنسان يهمني رأيه في العالم كله. وما أصررت على القتال إلا وأنا أعلم أنك تشير به.
فرح الزبير كثيرا بثقة أعظم رجل في حياته به، وحُفِرَتِ الجملةُ الأخيرةُ عميقةً في ذاكرته.
***
سار فرسان الكثبة بقيادة الشيخ عامر إلى منطقة قريبة من الحدود بين مملكتي البقاء والهيجاء، لقتال فيلق مملكة الهيجاء.
وحان موعد المعركة.
بلغ عدد جنود الكثبة ما يقرب عشرة آلاف مقاتل، في حين وصل عدد جنود الهيجاء إلى خمسين ألفاً.
وعلى الرغم من شجاعة فرسان الكثبة، فقد هالهم الفرق الهائل في العدد والعدة بينهم وبين عدوهم، وتوقعوا أن النهاية لن تكون سعيدة لهم.
لبس فرسان الكثبة زيهم المعروف الأبيض في معظمه، ويتخلله اللون الأحمر.
لبس فرسان الهيجاء زيهم المعروف الذي كان من اللون الأسود في معظمه وتخلله اللون الذهبي. وحملوا التُرُس السوداء، التي ميزت مقاتلي الهيجاء واعتمدوا كثيرا عليها في القتال.
وضم جيشهم الملك هزيما وابنه وولي عهده الأمير ميمونا. وكان للملك فرقة حراسة خاصة اسمها الفرقة الذهبية، أتت أيضا إلى المعركة. وقد لبس الملك وابنه وأعضاء الفرقة الذهبية
لباسا ذهبيا في معظمه وتخلله اللون الأسود، وحملوا الترس المصنوعة من الذهب الخالص، أما أغماد سيوفهم ومقابضها فصنعت كذلك من الذهب الخالص. أما علم الهيجاء فقد احتوى
مثلثا أسودَ رُسم فيه ترس ذهبي وأحاط بالمثلث اللون الذهبي.
ضم صف الكثبة، الزبير ودريدا وشيوخ قبائل الكثبة جميعهم.
انطلق الجمعان أحدهما باتجاه الآخر، والتحما. وبدأ الطرفان يقتل بعضهم بعضاً. وقد أبلى الشيخ عامر بلاء حسناً، حيث جعل يقتل من جنود مملكة الهيجاء. وكذلك تألق الزبير،
وإن لم يكن بمثل تألق جده؛ فهو يفتقد إلى خبرته. واستخدم الزبير أسلوب القتال المعتمد على المزج بين السيف والخنجر، كجل مقاتلي الكثبة، وهو الأسلوب الذي ظل يتبعه الزبير إلى آخر عمره.
لو قارنت أي فارس من فرسان الكثبة بجندي من جنود الهيجاء، فعلى الأغلب ستجد أن فارس الكثبة أقوى بكثير، فهو عاش طيلة عمره في صحراء قاسية، ولطالما خاض الحروب والمعارك القاسية.
لكنّ الكثرة تغلب الشجاعة، وقد فاق عدد جنود الهيجاء عدد فرسان الكثبة بأضعاف. ولذلك وعلى الرغم من بسالة الشيخ والزبير وجل مقاتلي الكثبة، فقد التهم الفيلق مقاتلي الكثبة شر التهام.
وكلما مر الوقت زاد القتل في فرسان الكثبة، وزادت هزيمتهم.
وبعد مرور الزمن، طفق كثير من فرسان الكثبة يفرون من أرض المعركة؛ فالهزيمة كانت محتومة ولا أمل بالنصر على الإطلاق.
بيد أن الشيخ عامرا، وحفيديه الزبير ودريدا ظلوا ثابتين في أرض المعركة.
ومر الزمن، ولم يبق من فرسان الكثبة سوى المئات، في حين لم يخسر فيلق الهيجاء سوى المئات من جنوده.
في تلك اللحظات أدرك الشيخ عامر أنها النهاية، جيش الكثبة العظيم هذا الذي بناه على مدى السنوات الطويلة الشاقة، انهار في معركة واحدة.
لقد خسر كل شيء، لم يعد للحياة قيمة، لكن هنالك شيء وحيد ظل لم يخسره بعد ألا وهو كرامته، وإذا فر من أرض المعركة فسيخسره وستتحول حياته إلى شقاء، لذا قرر أن يقاتل حتى يُقْتَلَ.
اقتحم الشيخ صفوف فيلق الهيجاء، وتوغل باتجاههم، كمن يمشي نحو الموت بقدميه.
لاحظ الزبير هذا، وأيقن في تلك اللحظة مدى عظمة جده، وأنه أشجع منه بمئات المرات.
لما رأى الزبير جده يتوغل باتجاه صفوف مقاتلي الهيجاء، صرخ: جدي، عد، أرجوك، عد. لا أمل في الانتصار عليهم. عد يا جدي.
سمع الشيخ صراخ حفيده، وقد عرف الزبير ذلك، لكن الشيخ تجاهله، وظل يتوغل باتجاه أعدائه. وقد كان الشيخ في تلك الأثناء يقتل خصومه وهو على جواده.
صرخ الزبير: جدي، أرجوك، نحن نحتاجك... أنا أحتاجك.
لكن الشيخ تجاهل صوت ابنه، وظل يتوغل، وبينما هو يفعل ذلك، تجمع حوله خمسة مقاتلين، فقتل الشيخ واحدا منهم، غير أن واحدا آخر طعنه في ظهره.
وهكذا كانت تلك اللحظات الأخيرة في حياة القائد المقدام.
شاهد الزبير كل هذا، وكانت هذه اللحظات هي الأقسى والأكثر إيلاما مما مر من حياته ومما سيمر. سالت دموعه وأحس أن ألم الكون كله يتجمع في جسده.
جده هو قدوته التي لطالما أراد أن يصير مثلها بل أن يتفوق عليها في يوم من الأيام، لكنه أدرك حينها أنه من المستحيل أن يصل - حتى لو عاش ألف ألف عام - لشجاعة جده البطل.
انهار الزبير، وفجأة اقترب منه أخوه دريد، وأمسك به من ذراعه، وصرخ: هيا، أيها الزبير، علينا أن نرحل وننجو بحياتنا قبل أن نقتل.
"الرحيل" هي الكلمة التي اختارها دريد، لكنها كانت تعني الفرار والجبن لدى الزبير.
الزبير كان مذهولا مصعوقا في تلك اللحظات بعد مقتل جده، ووجد نفسه يركض مع أخيه دريد هاربا من أرض المعركة.
***
"لماذا لم أقاتل حتى النهاية، حتى الموت كما فعل جدي؟!" جعل الزبير يتفكر منذ اللحظة التي وافق فيها على اقتراح أخيه بالفرار من أرض المعركة.
"كيف تركتُ قتلة جدي أحياء وفررت منهم؟!" فكرة أخرى طفقت تدور في باله، إذ شعر بالعار؛ لأنه هرب من قتلة جده ولم يقتص منهم،
ولأنه لم يذهب إلى جده ويدافع عنه في اللحظات الأخيرة من حياته.
منذ اللحظة التي قتل فيها الشيخ عامر، ندم الزبير لأنه أشار عليه بقتال فيلق مملكة الهيجاء، ولام نفسه على مقتل جده، ومنذ اللحظة نفسها، قرر الزبير أنه لا بد وأن يثأر لجده من قتلته، ولو بعد ألف عام.
دريد والزبير كلاهما فر من أرض المعركة على جواده مسرعا، ولما ابتعدا، ظل دريد مسرعا، في حين تباطأ الزبير، وقاد حصانه بذل وهو مطأطئ الرأس.
فلما لاحظ دريد ذلك، عاد إلى أخيه، وبينما هما على جواديهما، أمسك دريد كتفي الزبير، وصرخ: لا وقت الآن للحزن والندم.
ثم أضاف صارخا: علينا أن نرحل قبل أن يلحقوا بنا، علينا أن نصل إلى نسائنا وأطفالنا وشيوخنا وننجو بهم، لا مجال الآن للضعف.
كان الزبير كالغاطّ في النوم، وكلمات أخيه أيقظته، فانطلق الاثنان مسرعين نحو أرض الأسد.
ولما وصلا هناك، خرج إليهما القلة القليلة من الفرسان التي أبقاها الشيخ عامر في أرض القبيلة لحماية نسائها وأطفالها في حال حدوث أية هجمة غادرة.
قبل وصول دريد والزبير، وصل عدد من فرسان الأسد الفارين من المعركة؛ لذا كان الفرسان الذين خرجوا للقاء دريد والزبير على علم بما حدث في المعركة.
قال أحدهم: يا دريد، نحن نعلم ما حدث، وظلننا ننتظرك أنت والزبير، حتى نتلقى أمركما بخصوص ماذا سنفعل.
الزبير كان ما زال غارقا في بحر الصدمة؛ لذا التزم الصمت.
أما دريد، فبرباطة جأش قال: اجمع لي كل الفرسان الموجودين في أرض القبيلة، في دار جدي. سأنتظرهم أنا والزبير هناك.
ثم أضاف: بسرعة، أريد أن أجدهم جميعا هناك بسرعة فائقة.
انطلق دريد والزبير إلى دار جدهما، وبعد زمن قصير تجمع كل فرسان الأسد هناك.
فلما اجتمعوا، قال دريد: يا قوم، لا مجال الآن للكلام الكثير، لقد خسرنا الحرب، وقُتِلَ جدي الشيخ عامر. وجيش الهيجاء لن يصبر علينا،
وسيهاجمنا في أية لحظة. نحن الآن مهزومون وغير منظمين، وعلينا أن ننجو بأرواحنا قبل أن يجهزوا علينا، على الأقل علينا أن نؤمن حياة نسائنا وأطفالنا قبل أن يستعبدهم ملك الهيجاء.
سنتجه شرقا، ونتوغل في صحراء الكثبة أكثر وأكثر، حتى نصعب المهمة على جيش الهيجاء.
ثم نظر إليهم وقال: فليذهب خمسون منكم، إلى شيوخ قبائل الكثبة في أراضيهم، وليخبروهم أننا سنجتمع بهم جميعا في أرض قبيلة المعصومين، وهناك سنناقش ماذا سنفعل فيما بعد.
كانت أرض قبيلة المعصومين أبعد القبائل عن مملكة الهيجاء، إذ وقعت شرقيّ صحراء الكثبة، ولم يقع إلى الشرق منها أية قبيلة أخرى، لذا اختارها
دريد نقطة للتجمع لأنها آمن مكان بعيدا عن براثن ملك الهيجاء.
وأكمل دريد: أما بقية الفرسان، فلتذهبوا إلى النساء والأطفال والشيوخ، ولتجمعوا أهم المتاع وما يكفي من الغذاء، ولنتجه فورا نحو أرض المعصومين.
ظل الزبير ملتزما الصمت، بينما بدأ فرسان الأسد ينفذون أوامر دريد.
انطلق خمسون فارسا لإيصال رسالة دريد إلى شيوخ الكثبة، بينما قاد قبيلته كلها ولم يذر امرأ واحدا في أرض الأسد، واتجهوا جميعا نحو أرض المعصومين،
بعد أن أخذوا كل ثمين من حلي وذهب ومال.
اتسمت رحلتهم بالقساوة والصعوبة؛ فقد أحسوا جميعا بالذل وهم يتركون أرضهم صاغرين أذلاء فرارا من ملك الهيجاء. القبيلة التي لطالما
عاشت عزيزة مفتخرة بأنها تقود الكثبة كلها، ها هي تفر من قتلة شيخها وأبنائها بدل أن تبقى لمواجهتهم والثأر منهم.
الأصدقاء العاديون، معرفتنا بهم لا يميزها ذلك الشيء الفريد، ويمكن أن ننساهم في أية لحظة. لكن الأصدقاء الحقيقيون هم أولئك الذين لهم
مكانة مميزة في القلب، لا يمكن أن تختفي أبدا؛ وذلك بسبب مواقف عظيمة أدوها، أو كانوا – على الأقل – جزءا بارزا فيها.
هذا ما ميز العلاقة بين الزبير، وقيس أعز أصدقائه على الإطلاق.
الجميع خشوا الزبير، حتى الذين كبروه بأعوام بلغت أحيانا أربعين عاما! فكيف بمن هم في عمره أو قريبون من عمره؟!
لذلك قلل أقران الزبير من الحديث مع
ه.
وهذا كله انطبق على قيس كذلك. لكن هذا الشاب أحب الزبير حبا جما ربما اقترب من حب والدي الزبير له. لذلك قرر قيس أن يضغط على نفسه،
وأن يقاوم الخوف والرهبة اللذين بداخله تجاه الزبير، وأن يحادثه بخصوص مقتل جده.
وبينما قبيلة الأسد توقفت قليلا عن المسير في رحلتها، وبينما الزبير وحده، اقترب منه قيس الذي تحين مثل هذه الفرصة.
لم يشعر الزبير باقتراب قيس، فباله شُغل بما حدث لجده، ولم يستوعب أي شيء يدور حوله.
"مرحبا... أيها الزبير" قال قيس برهبة.
لم يرد الزبير الذي كان شارد الذهن.
"أيها الزبير، كيف حالك؟" قال قيس بصوت عال.
انتبه الزبير حينها وقال بحزن عارم: أنا بخير.
"أيها الزبير" قال قيس وأكمل: ما حدث سيئ جدا، وهو غالبا أسوأ ما ستواجهه في حياتك كلها.
تنهد ثم أضاف: سأكذب إن قلت هو سهل... إنه صعب للغاية. وليس لأحد لم يواجهه أن ينظّر عليك... لكن أيها الزبير، مهما فعلت لن يعود جدك... لقد انتهى ذلك...
أنت أعظم رجل في الكثبة... وكل أهلها يعتمدون عليك... بقاؤهم رهن بك... لذا استجمع قواك وقدنا نحو الانتصار.
كاد قيس يبكي في لحظات الألم والذل والهزيمة تلك، غير أنه منع نفسه من ذلك؛ لأنه لم يرد أن يزيد ببكائه من آلام الزبير، ثم قال بصوت مرتجف: أرجوك... أيها الزبير... لا تستسلم...
ثم أضاف بعد حين: أرجوك...
نظر الزبير مكسور الجناح بعينين حادتين إلى قيس، ثم عاود النظر إلى الأرض كما فعل طيلة المحادثة.
تنهد قيس من جديد ورحل من المكان، دون أن يعلم أن كلماته هذه نجحت كثيرا في شحن الزبير وتحميسه للخروج مما هو فيه.
فالزبير منذ الذي حدث لم يواسه أحد غير أهله، ولم يتوقع الزبير مثل ذلك؛ بسبب الحاجز بينه وبين سائر أهل القبيلة. ولذلك ترك ما فعله قيس بصمته في قلب الزبير، وزادت محبة الأخير الكبيرة له.
***
مضت أيام، ثم وصل دريد ومن معه إلى أرض قبيلة المعصومين.
خرج إليهم شيخ المعصومين، ورحب بهم: أهلا بدريد والزبير، يا قوم قد حللتم أهلا ووطئتم سهلا.
ثم أضاف: تفضل، يا دريد وأيها الزبير، إلى داري.
ثم أمر أفراد قبيلته: يا قوم، أحسنوا استقبال من أتى من إخواننا الأسد. أكرموهم وأطعموهم وأسكنوهم دياركم.
دخل دريد والزبير دار الشيخ، بينما توزع أفراد الأسد على دور أهل قبيلة المعصومين الذين أكرموهم ونفذوا سائر أوامر شيخهم.
بعدما دخل دريد والزبير دار الشيخ، نادى الشيخ عبيده، ثم أمرهم: أحضروا الطعام والشراب للشيوخ.
فقال دريد: أيها الشيخ، لا وقت الآن لمثل هذا، علينا أن نخطط لما سنفعله، لقد أرسلت إلى سائر شيوخ الكثبة وأخبرتهم أن يجتمعوا هنا في أرضك، حتى نقرر معا ما الخطوة القادمة.
فرد الشيخ: نعم، أعلم هذا، فقد أتت بعض القبائل إلينا قبل وصولكم، وأنا في انتظار البقية.
ظلت القبائل تتوافد على أرض المعصومين حتى تجمعوا كلهم فيها، وحالما تأكد دريد من قدوم كل الشيوخ أو من ينوب عنهم، طلب من شيخ المعصومين أن يدعوهم إلى داره ليجتمع بهم.
بعض شيوخ الكثبة قتلوا في المعركة؛ لذا أتى ابن كل منهم أو أخوه أو من اختاره قومه نائبا عنه.
اجتمع دريد والزبير وشيوخ الكثبة أو من ينوب عنهم في دار شيخ المعصومين.
وهناك ضيفهم شيخ المعصومين ورحب بهم.
وبعد حين قال دريد: يا قوم، لقد أرسلت في طلبكم، وطلبت اجتماعكم هنا، حتى نقرر ماذا سنفعل، ولكي نتحرك كجسد واحد لا كقبائلَ متفرقة ضعيفة.
فقال أحد الشيوخ الحاضرين: ولكن...
شعر بالرهبة مما سيقوله، لكن استجمع قواه، ثم أكمل: علينا أن نختار شيخا من شيوخ القبائل ليكون شيخا على الكثبة بأكملها بعد مقتل الشيخ عامر.
وخرجت أصوات من حاضرين آخرين تثني على كلامه.
شعر دريد بحرج عظيم، فقد تصرف على أنه هو شيخ الكثبة الجديد منذ لحظة مقتل جده؛ لأنه حفيده الأكبر والذي سيخلفه.
الزبير غرق في بحر الصدمة في اللحظة التي قتل فيها جده، وقد وصل عمقا سحيقا فيها، ولكن بسبب قوته ظل يسبح للأعلى في هذه البحيرة حتى ينجو منها. لقد ظل يستعيد
وعيه وقوته تدريجيا، وكان ما قاله هذا الشيخ وإثناء آخرين عليه، اللحظة التي استفاق فيها.
صرخ الزبير بالقسوة التي عرفت عنه، وقد احمرت عيناه: ما هذا الذي تهرف به؟! وأنتم يا من أيدتم كلامه هل نسيتم أنفسكم؟!
ثم أكمل بالطريقة نفسها: هل نسيتم أنفسكم؟! أنتم لم تختاروا جدي شيخا عليكم بمحض إرادتكم، بعضكم لم يخضع له إلا بالسيف، وبعضكم رضي به سلما؛ لأنه علم أنه ليس ندا له.
والأمر ليس لكم الآن لتقرروا من سيخلفه. شيوخ الأسد هم شيوخ الكثبة بأكملها، شاء من شاء وأبى من أبى. ومن سيخلف جدي، أمر داخل قبيلة الأسد يقررونه بمفردهم.
وقد اخترنا نحن الأسد أخي دريدا شيخا علينا؛ فالعادات تنص على أن أكبر أبناء الشيخ أو حفدته هو من يخلفه. وبالتالي أخي دريد هو شيخكم وشيخ الكثبة بأكملها.
ساد صمت مخيف في الدار، وتفاجأ الجميع مما قاله الزبير والأسلوب القاسي العنيف الذي قاله به.
دريد، صحيح أنه استاء مما قالوه، لكنه أبدا لم يكن ليتصرف مثلما فعل الزبير.
الزبير تصرف بهذه الطريقة؛ لأنه فهم عقلية أهل الصحراء والبادية؛ ففي قلب كل منهم ممن عانى قسوة الصحراء طمع عظيم وشوق كبير لمباهج الحياة،
لذا من المتوقع أن يطمع كل منهم بأن يكون شيخ الكثبة كلها. لهذا كله قرر في تلك اللحظة أن يكشر عن أنيابه ويمنع أية فتنة.
وفجأة وسط هذا الصمت المطبق، حدث ما لم يكن بالحسبان.
قام الزبير، وأخرج سيفه من غمده، وصرخ وقد جحظت عيناه واحمرتا غضبا: من لا يعجبه كلامي، فليقل الآن حتى أقطع رأسه.
أي شيء كان من الممكن أن يحدث في تلك اللحظة، فالحاضرون ساءتهم قسوة الزبير، فكيف به وهو يهددهم هكذا؟!
ساد صمت في الدار، وسكت الجميع، وقرروا الخضوع للزبير.
بعد زمن، قال أحد الشيوخ: أيها الزبير، لا داعي للغضب، أنتم شيوخ الكثبة وأنتم أسيادها وستظل قيادتها فيكم. لقد زل لسان من اقترح اختيار
شيخ جديد وأخطأ من أيده، فلتسامحهم بطيب خلقك الذي عهدناه عنك.
هدأ الزبير مع انصياع الجميع، وكلام الشيخ، وجعل ينظر يمينا وشمالا في الحاضرين، وبعد زمن أرجع سيفه إلى غمده وجلس.
وبهذا بات دريد الشيخ الجديد للكثبة بأكملها، وإن كان ذلك بصمت الحاضرين وإذعانهم.
فقال دريد: يا قوم، قد قررت أن نسير باتجاه الشرق، لننجو من هذا الملك الحاقد. فهل لدى أحدكم أي رأي آخر يشير به علي.
ساد صمت في الدار، فقد علموا جميعا أن هذا هو الاقتراح الأفضل.
وقال شيخ: هو ذا، أيها الشيخ.
وجعلت الأصوات تؤيد الفكرة تباعا.
مقاتلو الكثبة، قتل ما يقرب نصفهم في المعركة، وهرب النصف الآخر منها. كانت ضربة قوية ولم يستطيعوا أن يقاتلوا ملك الهيجاء من جديد.
وهكذا اتجهوا شرقا، وتركوا بيوتهم، وآخذوا النساء والأطفال والشيوخ، وباتوا يعيشون في الخيم. في حين ظل فيلق الهيجاء يلاحقهم، لكن ببطء
لأنه عدد جنوده أكبر بكثير من عدد النازحين من أهل الكثبة.
***