4
ظل الزبير يقترح على أخيه الشيخ دريد أن تستمر هجرة أهل الكثبة في الجزء الشرقي منها. فعلى العكس من الجزء الغربي المبسوط السهل، امتلأ الجزء الشرقي بالوديان السحيقة والجبال الشاهقة
والأراضي الوعرة. وقد اقترح الزبير ذلك؛ لأن أهل الكثبة اعتادوا مثل تلك المناطق، في حين أن فيلق الهيجاء سيعاني إذا توغل فيها؛ لأن لا خبرة له فيها.
وقد استجاب الشيخ لمشورة أخيه، وهذه باتت عادته أن يستجيب لأي شيء يشير به الزبير، الذي كان هو القائد الحقيقي، فلطالما كان أهم رجل في الكثبة بعد جده.
وعلى الرغم من كل هذه التدابير التي اتخذها أهل الكثبة للفرار والنجاة بأرواحهم، فإن الحقد والطمع أعمى ملك الهيجاء، وظل مصرا على احتلال الكثبة كلها وحتى ما بعدها من مناطق. وظل فيلق
الهيجاء يتوغل بإصرار شرقا في الكثبة.
وبسبب هذا، أدرك الزبير أنه لا بد لأهل الكثبة أن يوجهوا ضربة قاسمة لفيلق الهيجاء ليردعوهم، وأدرك أنه لا بد وأن يتحول أهل الكثبة من مدافعين إلى مهاجمين. ولكن بالطبع امتاز الزبير بالواقعية؛
وقد علم أن أية مواجهة مباشرة بين مقاتلي الكثبة وفيلق الهيجاء ستنتهي بالفشل، وستتكرر مآساة الحرب التي قتل فيها جده. ولذا فكر وفكر حتى وصل لفكرة عبقرية تعتمد على الخدعة والمكر والدهاء.
خطط الزبيرللخطة جيدا، ودرس كل تفاصيلها، ثم أشار على أخيه الشيخ بها وأطلعه على التفاصيل من أصغرها إلى أكبرها. وكالعادة أنصت الشيخ لمشورة أخيه.
عندما تتجه شرقا في صحراء الكثبة، لا بد أن تمر بواد اسمه وادي "الطويل". وقد سماه أهل الكثبة بذلك لأنه طويل جدا. وقد امتاز إلى جانب ذلك بأنه سحيق وضيق جدا بحيث لا يستطيع
أن يتجاور بداخله أكثر من امرئين وهما يركبان دوابهما، ويحده من الجانبين هضبتان شاسعتا الارتفاع. وقد مر به أهل الكثبة أثناء هجرتهم، وكان لا بد على فيلق الهيجاء أن يمر
به ليستمر في حملته شرقا. ونظرا للعدد الهائل من جنود الهيجاء، كان من الصعب جدا عليهم أن يصعدوا الهضبتين المجاورتين للوادي الطويل، فذلك سيستغرق أضعاف الوقت
بعشرات المرات مقارنة بمرورهم بالوادي، حتى إنه قد يحتاج شهورا، لا سيما مع الأسلحة والمؤن التي نقلها الفيلق معه حيثما ارتحل.
قبل تنفيذ الخطة، توجهت نساء قبائل الكثبة وجمعن ما استطعن من حشائش الصحراء، وعدن بها إلى خيامهن، وقد جمعن كميات كبيرة جدا منها. كما أنهن ملأن عددا كبير من القدور بالزيت.
اتجه عدد كبير من مقاتلي الكثبة بقيادة الشيخ دريد، ومعهم الزبير، وصعدوا الهضبتين المحيطتين بالوادي الطويل، وقد اصطحبوا معهم كل الحشائش والقدور المملوءة بالزيت. بالطبع
امتاز الأمر بالصعوبة نظرا لعلو الهضبتين، لكن عدد مقاتلي الكثبة الذين توجهوا هناك كان ضئيلا جدا ويكاد لا يرى مقارنة بعدد جنود الهيجاء، مما جعل مهمتهم أكثر سهولة،
كما أنهم توجهوا هناك قبل أيام كثيرة من قدوم فيلق الهيجاء.
انتظر مقاتلو الكثبة هناك، والنار تشتعل بداخلهم، لا سيما الزبير، الذي أراد أن يوجه أية ضربة مهما كان حجمها لقتلة جده.
وبعد أيام، أتى فيلق الهيجاء العرمرم، وبدأ بالمرور بالوادي الطويل. بالطبع لم ير أحد من جنود الهيجاء أيا من مقاتلي الكثبة، فالهضبتان كانتا شاهقتا الارتفاع يصعب رؤية ما فوقهما،
كما أن مقاتلي الكثبة أجادوا الاستتار لما علموا بمقدم جنود الهيجاء.
وأخذ جنود الهيجاء يمرون بالوادي، وشكلوا صفا طويلا، وتتابعوا بحيث يمرون واحدا واحدا أو اثنين اثنين؛ إذ لا يمكن أن يتجاور أكثر من اثنين داخل الوادي.
وعلى الرغم من النار المشتعلة داخل أفئدة مقاتلي الكثبة، فإنهم تمالكوا أنفسهم ولم يبدؤوا بتنفيذ الخطة، إلا في الوقت المناسب.
انتظر مقاتلو الكثبة، حتى خرج جزء لا بأس به من فيلق الهيجاء من الوادي الطويل، في حين كان جزء لا بأس به ما زال ينتظر في مؤخرة الفيلق لدخول الوادي، وانحشر جزء كبير داخل الوادي.
عندها بدأ مقاتلو الكثبة بتنفيذ خطتهم. سار جنود الهيجاء داخل الوادي مطمئني القلوب، مرتاحي النفوس، متفاخرين بانتصاراتهم الهائلة على أهل البقاء حيث أذلوهم وأذاقوهم المر.
وقد علموا أن مهمتهم سهلة بملاحقة هؤلاء البدو الهمج قليلي العدد بالاتجاه شرقا في الكثبة. لكن ما لم يعلموه أن البدو من أذكى الأنام وأدهاهم وأن مكرهم لا يؤمن مهما حدث،
وأنه يجب على المرء ألا يستخف بهم إذا نظر إلى مظهرهم البسيط، فخلافا له حفرت الصحراء القاسية في قلوبهم وأفئدتهم القوة والشجاعة. وفجأة ووسط سهو جنود الهيجاء،
أحرق فرسان الكثبة الحشائش التي معهم وجعلوا يرمونها من الهضبتين شاهقتي الارتفاع على الوادي، وجعل يرمون القدور الممتلئة بالزيت أيضا، فباتت تتكسر وينتثر الزيت الذي بداخلها هنا وهناك. تفاجأ جنود الهيجاء بالمطر الذي ينزل عليهم من الأعلى لكن المطر لم يكن من الماء وإنما من نقيضه النار، وساد الخوف فيهم واضطربوا وجزعوا وظنوا أن هذا عقاب إلهي، فمن من الممكن أن يُسقط عليهم كل هذا من البشر؟! وبدأت النيران تشتعل فيهم، وبدأ الحريق يهاجمهم، وما زاد الطين بلة، أن مقاتلي الكثبة أطلقوا عشرات السهام المشتعلة بالنار، على الوادي، فاشتعل الزيت المتناثر في كل مكان، وزاد اشتعال الحشائش، وهبت الحريق في جنود الهيجاء، واضطربوا وجعلوا يسرعون بالمسير أو بقيادة الخيول التي يركبونها. وبعد مدة نظر الزبير وباقي مقاتلي الكثبة إلى الوادي، الذي بدا من الارتفاع
الشاهق الذي كانوا عليه حزاما أحمر من النار. لقد تحول الوادي من الوادي الطويل إلى الجحيم. احترق جنود الهيجاء وهم أحياء، وتجمع الدخان في الوادي الذي كان كالمكان المغلق بسبب عمقه السحيق وضيقه الشديد، وبات من لا يموت حرقا يموت اختناقا. وظل مقاتلو الكثبة يطلقون السهام المشتعلة بالنيران ليزيدوا حرارة السعير على خصومهم. ولما تدافع جنود الهيجاء، سقط كثير منهم على الأرض
وبات بعضهم يدوس الساقطين بأقدامهم أو بحوافر الخيول التي يركبونها، حتى قتل عدد كبير من التدافع. وهكذا سلبت أرواح مقاتلي الهيجاء بين الحرق والاختناق والدهس. وبدأ جنود الهيجاء المحشورون في الوادي يحاولون مغادرته إما بالتقدم إلى الأمام أو بالعودة إلى الخلف. وتفاجأ جنود الفيلق في مقدمته ومؤخرته والذين كانوا خارج الوادي بما يحدث وباندفاع زملائهم من الوادي وكثير منهم يحترقون، كأنهم حمم تغادر بركان، أو شياطين تحاول الفرار من جهنم. وبينما ظل مقاتلو الكثبة يطلقون مزيدا من الأسهم المشتعلة ويزيدون الأمر بلاء، عم الارتباك والاضطراب وانتقل من الفارين من الوادي إلى الذين بخارجه. وبات الفيلق هائجا متفرقا يهرب منه الجميع في كل اتجاه وهم لا يدركون ما الذي يحدث. بالتأكيد الزبير بعبقريته وحنكته، أدرك أن هذا أمر حتمي وسيحصل لا محالة، لذا خطط لأن يكون هناك عدد من مقاتلي الكثبة الذين ينتظرون ارتباك فيلق الهيجاء. ولما شاهد هؤلاء المقاتلون ارتباك الفيلق، عدوا على خيولهم مسرعين، وجعلوا يطلقون الأسهم ويصطادون بها أرواح مقاتلي الفيلق، وجعلوا يلاحقون الجنود الفارين ويقتلونهم بسيوفهم. وظل مقاتلو الكثبة المباغتين، يفرون ويكرون ويقتلون من أعدائهم ما استطاعوا. كان جنود الهيجاء خائفين مرتعبين، لذلك كان أمر قتلهم سهلا للغاية من قبل مقاتلي الكثبة، لا سيما مع تصاعد الغبار من رمال الصحراء الذهبية بسبب حركة الجنود الهائجين، مما سهل مهمة مقاتلي الكثبة. وهكذا ظل مقاتلو الكثبة في أعلى الهضبتين يطلقون الأسهم المشتعلة، وظل زملاؤهم الذين على الخيول يصطادون جنود الهيجاء الواحد تلو الآخر، واستمر الأمر على هذا حتى فر كل الذين كانوا أحياء من داخل الوادي، وبدأ الفيلق يستوعب ما حدث ويتنظم، عندها غادر مقاتلو
الكثبة الذين كانوا أعلى الهضبتين، وزملاؤهم الذين على الخيول المكان، بهدوء وبسرعة كأنهم ملك الموت يخطف الأرواح في ثوان معدودات بهدوء وأناقة وخفة، والأهم بمفاجأة.
وطيلة كل هذا جعل الزبير ينظر إلى منظر المحترقين في الوادي وبقية رفاقهم وهم يتقتلون، وأحس بشفاء لصدره، والنار التي أحرقت أعداءه، أطفأت ولو جزءا صغيرا من النار المشتعلة بداخله والتي لن تنطفئ كلها إلا بالانتقام الكامل من ملك الهيجاء.
***
غدا ما حدث يُعرف بمجزرة الطويل، وانتشى بها أهل البقاء بأكملها وبردت – ولو قليلا – صدورهم، في حين انخزى بها أهل الهيجاء.
لقد مثلت ضربة قوية للهيجاء ولفيلقها المتوغل في الكثبة؛ إذ خسر ذلك العدد المهول من الجنود والذين زاد عددهم عن ما يقرب الثلاثة آلاف مقاتل مقابل عشرات من مقاتلي الكثبة. ناهيك عن
الإصابات التي اجتاحت الفيلق؛ حيث فاق عدد المصابين خمسة آلاف مقاتل. أصيب كثير من المقاتلين بعاهات دائمة، وتنوعت الإصابات بين الحروق، وفقدان البصر نتيجة الحروق، والكسور
في العظام نتيجة تدافع الجنود ودوس بعضهم على بعض، حتى إن بعضهم أصيب بالشلل نتيجة ضربات على الرأس والظهر، وكذلك اجتاحت الأمراض رئات كثير من المقاتلين نتيجة الاختناقات
من الدخان الذي تراكم في وادي الطويل إبان مجزرة الطويل.
لطالما نظر ملك الهيجاء الملك هزيم إلى أهل الكثبة على أنهم همج ضعفاء، ولكنهم علموه درسا لن ينساه ما عاش، وأدبوه وروضوه.
وبسبب هذه الضربة المدوية، ولأن أغلب الأجزاء الشرقية من صحراء الكثبة مقفرة لا خير فيها، قرر الملك هزيم أن يوقف فيلقه عن الزحف شرقا في الكثبة، لكن أمره أن يظل في الموقع المتقدم
الذي بلغه وأصر على بقائه فيه.
وهذا جعل أهل الكثبة يشعرون بالاختناق؛ فقد أرادوا تراجع الفيلق ولو قليلا. وذلك لأنهم أرادوا أن يعودوا غربا نحو الأراضي المليئة بالعشب والتي يتساقط فيها المطر، بدلا من المناطق الشرقية
القفراء القاحلة.
ظل أهل الكثبة، شيوخا وأفرادا، يشكون ضيق الحال والاختناق الذي يحسون به للشيخ دريد.
وكالعادة، بحث الزبير عن حل حتى وجد بدهائه حلا للمعضلة. اقترح على أخيه، الالتفاف على فيلق الهيجاء، ومهاجمة قوافل أهل الهيجاء، وإبادتها وسرقتها على بكرة أبيها، وكل ذلك لوضع
مزيد من الضغط على الملك هزيم وإجباره على التراجع. شرح الزبير الخطة لأخيه؛ فقد كان عدد مقاتلي الكثبة أقل بكثير من جنود فيلق الهيجاء، وحركتهم أسرع، ويستطيعون التحرك
بأي وقت حتى في الليل والفجر، وهم أخبر بشعاب الكثبة وأراضيها من فيلق الهيجاء.
اقترح الزبير على أخيه، أن يبدؤوا حرب عصابات ضد فيلق الهيجاء؛ لأن الجيوش الضخمة دائما ما تتنغص بحروب العصابات. ورغم أن أهل الكثبة كانوا أهل مروءة وأخلاق،
وأن ليس من عادتهم الإغارة على غير المقاتلين ممن كانوا في قوافل أهل الهيجاء، إلا أن أهل الهيجاء بدخولهم الكثبة، باتوا أعداء لقبائلها، إذ يعتبر ذلك إقرارا منهم بالظلم الذي ارتكبه الملك هزيم ضدهم. كما أن أهل الكثبة كانوا في وضع مزر على شفا الحد بين الحياة والموت، ووجب عليهم أن يفعلوا أي شيء مهما بلغت قذارته للنجاة بأنفسهم.
وكعادته وافق الشيخ دريد على اقتراح أخيه. وبدأت غارات جنود الكثبة على قوافل أهل الهيجاء؛ إذ قتل مقاتلو الكثبة من يحاول القتال من أفراد القافلة وأسروا الآخرين من رجالها وسبوا النساء والأطفال، وغنموا كل ما في القافلة من حلي ومؤن وخيول وسائر ما فيها. وظلوا يفعلون ذلك؛ لأن الزبير أراد إرسال رسالة للملك هزيم أنه لا أمن لأهل الهيجاء ما دام مصرا على ظلم أهل الكثبة. ومع ازدياد
عدد قتلى القوافل، وضياع ما فيها من كل ثمين، وتراكم الأسرى والسبايا عند أهل الكثبة، بدأ وجهاء الهيجاء وكذلك أكبر تجارها بالتشكي للملك هزيم ومحاولة الضغط عليه لحل المعضلة.
وقد اكترث الملك هزيم لآرائهم، بسبب ما امتلكوه من أموال طائلة.
وظلت الغارات تتكرر على القوافل. ولما سمع الزبير بالضغوط التي تعرض لها الملك لحل المعضلة، قرر إرسال رسول لمفاوضة الملك. فاقترح الأمر على الشيخ دريد فوافق، وأشار عليه باختيار رجل
معين رسولا، فوافق كذلك.
لقد أدرك الزبير أن أهل الكثبة بمفردهم غير قادرين على هزيمة الوحش الضخم المتمثل بمملكة الهيجاء. لذا أيقن أن أفضل ما يمكن فعله هو مفاوضة الملك هزيم والحصول على أكبر المكتسبات منه.
ورغم العداوة المقيتة بين أهل الكثبة وبين الملك هزيم، فإن الزبير تيقن بأن الملك لن يقتل رسوله. كان من المعروف عند أهل البقاء ومملكتي الهيجاء وياقوتة اللتين جاورتاها أن من يقتل الرسل
يوصم بالعار مدى عمره، ويحتقره الجميع حتى أقرب المقربين إليه. ويعود ذلك إلى ما حدث لآخر من فعل ذلك في هذه الممالك جميعها وهو أسود الوجه الحنشي. لقد عاش أسود الوجه في الفترة التي
سبقت فترة الزبير بما يقرب الألف عام. وقد كان ملكا لمملكة مركزها منطقة الحنش الواقعة شرقي مملكة البقاء. وبالطبع لم يكن أسود الوجه جسديا، بل معنويا. وقد لقب بذلك؛ لأنه قتل رسولا أرسله له
ملك عدو له كان يحاربه، ثم قطع أطرافه ورماه في وسط الحنش. وقد اعتبر ذلك خرقا للعادات والتقاليد ونقضا للمروءة والأخلاق، واستقواء على الضعيف الذي أتى مسالما لأسود الوجه. وبات الجميع
يلقبونه بهذا اللقب دلالة على أن وجهه أسود بعد الفعل القبيح الذي فعله. وقد احتقره الجميع، وأولهم أهل مملكته، وحتى أقرب المقربين إليه بمن فيهم أصدقاؤه وعائلته واعتبروه أسوأ ممن يبيع نفسه
للشيطان. وظل أهل مملكته يصمونه بالعار هو وأهله، ولم يستطع أهله أن يظلوا وسط هذا العار، وانتهى الأمر بأن قتل أسود الوجه من قبل أخيه ليغسل العار الذي وصمهم به. ورغم أن كثيرا
من الناس آمنوا بأن هذه مجرد أسطورة، إلا أنه منذ ذلك اليوم قبل ألف عام لم يجرؤ أي من أهل الممالك الثلاث على قتل أي رسول. لهذا كله اطمئن الزبير أن الملك هزيم لن يقتل رسول الكثبة.
الرجل الذي اختاره الزبير كان شيخ إحدى قبائل الكثبة، وأمهر أهل الكثبة في التفاوض والمراوغة على الإطلاق. واسمه هو ضرار. جل البدو من أهل الكثبة، تميزوا بالذكاء، وفيهم مكر، ولطالما
لجؤوا للخدع؛ لأن جلهم فقير قليل الحيلة، والظروف الصعبة، من قسوة صحرائها ونار شمسها وقلة مطرها، أجبرتهم على تطوير نفسهم من النواحي المذكورة. ورغم كل ذلك، تميز ضرار بأنه أدهاهم
في المفاوضات، وأكثرهم مهارة فيها.
دعاه الزبير إلى أرض قبيلة الأسد، فلبى الدعوة.
واجتمع به الزبير في داره.
كان رجلا نحيلا، طويلا قليلا، ذي عضلات بارزة، أنيقا في لباسه والعطر الذي يضعه، له شعر أسود على ذقنه، في حين يخلو باقي أنحاء وجهه من الشعر. وله شعر رأس أسود كثيف يمشطه
تمشيطا جميلا أنيقا. وأكثر ما تميز به، هي ابتسامته الصفراء التي تحمل في طياتها كثيرا من الخداع والمكر والدهاء.
تحادث الرجلان في الدار، وأخبره الزبير بأنه يريد إرساله إلى ملك الهيجاء ليفاوضه.
"أريدك أن تنجز الأمر بأية طريقة ممكنة" أخبره الزبير.
فابتسم ضرار ابتسامته الصفراء التي تسلب اهتمام كل من يراها، وقال: اعتبر الأمر منتهيا.
فقال الزبير: لك جائزة كبيرة إذا نجحت.
فرد ضرار بذكاء: جائزتي محبتك ورضاك.
توجه ضرار على رأس وفد من فرسان الكثبة إلى القاسمة عاصمة الهيجاء، ووصل قصر الملك هزيم، والتقى به، وعرفه بنفسه وبمن معه وأنه أتى بغية عقد هدنة طويلة معه. لم يجد الملك بدا
من الترحيب بهم واستقبلهم ضيوفا في قصره.
وقبل الملك ببدء التفاوض مع رسول الكثبة ومن معه، وأنشؤوا يتفاوضون ويطلب كل طرف من الطرف الآخر أمورا يريدها. تشبث كلا الطرفين بمطالبه، وأبدى كلاهما عنادا صلبا على موقفه.
لكن ضرارا كان أصلب وأقوى؛ فقد تذكر كلام الزبير بأن الملك سيقبل عاجلا أم آجلا بشروطهم.
وبعد أسابيع من المفاوضات رضخ الملك لشروط أهل الكثبة؛ وذلك لأن ضرارا امتاز بأنه مفاوض مراوغ لا مثيل لدهائه في المفاوضات، ولأن الملك كان يتعرض لضغوط هائلة بسبب
ما يحدث لقوافل مملكته، كما أنه علم أن الطموح وحده ما قاده لاجتياح صحراء الكثبة التي لا خيرَ كثيراً فيها لا سيما في جزئها الشرقي.
وقد قدم ضرار تنازلات منطقية وواقعية لصالح الملك؛ فقد علم الزبير أنه مهما وقف في موقف القوة، فإن أي مفاوض لا بد وأن يقدم تنازلات ليحصل على ما يريد.
وفي النهاية أقر الطرفان معاهدة هدنة مدتها مدى الحياة، تضمنت توقف قبائل الكثبة عن مهاجمة قوافل الهيجاء وتعهدهم بأن لا يحاولوا الهجوم على فيلق الهيجاء، مقابل انسحاب فيلق الهيجاء مسافة بعيدة باتجاه الغرب بحيث يستطيع أن يستوطن أهل الكثبة في غربها على أن تظل بعض الأجزاء الغربية من الكثبة تحت حكم ملك الهيجاء. كما تضمنت ألا يتدخل ملك الهيجاء بالكثبة على الإطلاق
وأن يتعهد بألا يحاول مجددا أن يتوغل شرقا في الكثبة وألا يهاجم أيا من أهلها. وتضمنت أن يسلم الشيخ دريد كل من أسرهم من قوافل الهيجاء إلى الملك مقابل أن يسلم الملك هزيم كل من
أسرهم من أهل الكثبة إلى الشيخ.
سُر الزبير كثيرا بنجاح ضرار، وقال: ما أذكاك! وما أدهاك! أنت "داهية الكثبة".
وبات هذا لقبه لدى الجميع منذ ذلك اليوم، حتى كاد ينسى أن اسمه ضرار!
***
والأراضي الوعرة. وقد اقترح الزبير ذلك؛ لأن أهل الكثبة اعتادوا مثل تلك المناطق، في حين أن فيلق الهيجاء سيعاني إذا توغل فيها؛ لأن لا خبرة له فيها.
وقد استجاب الشيخ لمشورة أخيه، وهذه باتت عادته أن يستجيب لأي شيء يشير به الزبير، الذي كان هو القائد الحقيقي، فلطالما كان أهم رجل في الكثبة بعد جده.
وعلى الرغم من كل هذه التدابير التي اتخذها أهل الكثبة للفرار والنجاة بأرواحهم، فإن الحقد والطمع أعمى ملك الهيجاء، وظل مصرا على احتلال الكثبة كلها وحتى ما بعدها من مناطق. وظل فيلق
الهيجاء يتوغل بإصرار شرقا في الكثبة.
وبسبب هذا، أدرك الزبير أنه لا بد لأهل الكثبة أن يوجهوا ضربة قاسمة لفيلق الهيجاء ليردعوهم، وأدرك أنه لا بد وأن يتحول أهل الكثبة من مدافعين إلى مهاجمين. ولكن بالطبع امتاز الزبير بالواقعية؛
وقد علم أن أية مواجهة مباشرة بين مقاتلي الكثبة وفيلق الهيجاء ستنتهي بالفشل، وستتكرر مآساة الحرب التي قتل فيها جده. ولذا فكر وفكر حتى وصل لفكرة عبقرية تعتمد على الخدعة والمكر والدهاء.
خطط الزبيرللخطة جيدا، ودرس كل تفاصيلها، ثم أشار على أخيه الشيخ بها وأطلعه على التفاصيل من أصغرها إلى أكبرها. وكالعادة أنصت الشيخ لمشورة أخيه.
عندما تتجه شرقا في صحراء الكثبة، لا بد أن تمر بواد اسمه وادي "الطويل". وقد سماه أهل الكثبة بذلك لأنه طويل جدا. وقد امتاز إلى جانب ذلك بأنه سحيق وضيق جدا بحيث لا يستطيع
أن يتجاور بداخله أكثر من امرئين وهما يركبان دوابهما، ويحده من الجانبين هضبتان شاسعتا الارتفاع. وقد مر به أهل الكثبة أثناء هجرتهم، وكان لا بد على فيلق الهيجاء أن يمر
به ليستمر في حملته شرقا. ونظرا للعدد الهائل من جنود الهيجاء، كان من الصعب جدا عليهم أن يصعدوا الهضبتين المجاورتين للوادي الطويل، فذلك سيستغرق أضعاف الوقت
بعشرات المرات مقارنة بمرورهم بالوادي، حتى إنه قد يحتاج شهورا، لا سيما مع الأسلحة والمؤن التي نقلها الفيلق معه حيثما ارتحل.
قبل تنفيذ الخطة، توجهت نساء قبائل الكثبة وجمعن ما استطعن من حشائش الصحراء، وعدن بها إلى خيامهن، وقد جمعن كميات كبيرة جدا منها. كما أنهن ملأن عددا كبير من القدور بالزيت.
اتجه عدد كبير من مقاتلي الكثبة بقيادة الشيخ دريد، ومعهم الزبير، وصعدوا الهضبتين المحيطتين بالوادي الطويل، وقد اصطحبوا معهم كل الحشائش والقدور المملوءة بالزيت. بالطبع
امتاز الأمر بالصعوبة نظرا لعلو الهضبتين، لكن عدد مقاتلي الكثبة الذين توجهوا هناك كان ضئيلا جدا ويكاد لا يرى مقارنة بعدد جنود الهيجاء، مما جعل مهمتهم أكثر سهولة،
كما أنهم توجهوا هناك قبل أيام كثيرة من قدوم فيلق الهيجاء.
انتظر مقاتلو الكثبة هناك، والنار تشتعل بداخلهم، لا سيما الزبير، الذي أراد أن يوجه أية ضربة مهما كان حجمها لقتلة جده.
وبعد أيام، أتى فيلق الهيجاء العرمرم، وبدأ بالمرور بالوادي الطويل. بالطبع لم ير أحد من جنود الهيجاء أيا من مقاتلي الكثبة، فالهضبتان كانتا شاهقتا الارتفاع يصعب رؤية ما فوقهما،
كما أن مقاتلي الكثبة أجادوا الاستتار لما علموا بمقدم جنود الهيجاء.
وأخذ جنود الهيجاء يمرون بالوادي، وشكلوا صفا طويلا، وتتابعوا بحيث يمرون واحدا واحدا أو اثنين اثنين؛ إذ لا يمكن أن يتجاور أكثر من اثنين داخل الوادي.
وعلى الرغم من النار المشتعلة داخل أفئدة مقاتلي الكثبة، فإنهم تمالكوا أنفسهم ولم يبدؤوا بتنفيذ الخطة، إلا في الوقت المناسب.
انتظر مقاتلو الكثبة، حتى خرج جزء لا بأس به من فيلق الهيجاء من الوادي الطويل، في حين كان جزء لا بأس به ما زال ينتظر في مؤخرة الفيلق لدخول الوادي، وانحشر جزء كبير داخل الوادي.
عندها بدأ مقاتلو الكثبة بتنفيذ خطتهم. سار جنود الهيجاء داخل الوادي مطمئني القلوب، مرتاحي النفوس، متفاخرين بانتصاراتهم الهائلة على أهل البقاء حيث أذلوهم وأذاقوهم المر.
وقد علموا أن مهمتهم سهلة بملاحقة هؤلاء البدو الهمج قليلي العدد بالاتجاه شرقا في الكثبة. لكن ما لم يعلموه أن البدو من أذكى الأنام وأدهاهم وأن مكرهم لا يؤمن مهما حدث،
وأنه يجب على المرء ألا يستخف بهم إذا نظر إلى مظهرهم البسيط، فخلافا له حفرت الصحراء القاسية في قلوبهم وأفئدتهم القوة والشجاعة. وفجأة ووسط سهو جنود الهيجاء،
أحرق فرسان الكثبة الحشائش التي معهم وجعلوا يرمونها من الهضبتين شاهقتي الارتفاع على الوادي، وجعل يرمون القدور الممتلئة بالزيت أيضا، فباتت تتكسر وينتثر الزيت الذي بداخلها هنا وهناك. تفاجأ جنود الهيجاء بالمطر الذي ينزل عليهم من الأعلى لكن المطر لم يكن من الماء وإنما من نقيضه النار، وساد الخوف فيهم واضطربوا وجزعوا وظنوا أن هذا عقاب إلهي، فمن من الممكن أن يُسقط عليهم كل هذا من البشر؟! وبدأت النيران تشتعل فيهم، وبدأ الحريق يهاجمهم، وما زاد الطين بلة، أن مقاتلي الكثبة أطلقوا عشرات السهام المشتعلة بالنار، على الوادي، فاشتعل الزيت المتناثر في كل مكان، وزاد اشتعال الحشائش، وهبت الحريق في جنود الهيجاء، واضطربوا وجعلوا يسرعون بالمسير أو بقيادة الخيول التي يركبونها. وبعد مدة نظر الزبير وباقي مقاتلي الكثبة إلى الوادي، الذي بدا من الارتفاع
الشاهق الذي كانوا عليه حزاما أحمر من النار. لقد تحول الوادي من الوادي الطويل إلى الجحيم. احترق جنود الهيجاء وهم أحياء، وتجمع الدخان في الوادي الذي كان كالمكان المغلق بسبب عمقه السحيق وضيقه الشديد، وبات من لا يموت حرقا يموت اختناقا. وظل مقاتلو الكثبة يطلقون السهام المشتعلة بالنيران ليزيدوا حرارة السعير على خصومهم. ولما تدافع جنود الهيجاء، سقط كثير منهم على الأرض
وبات بعضهم يدوس الساقطين بأقدامهم أو بحوافر الخيول التي يركبونها، حتى قتل عدد كبير من التدافع. وهكذا سلبت أرواح مقاتلي الهيجاء بين الحرق والاختناق والدهس. وبدأ جنود الهيجاء المحشورون في الوادي يحاولون مغادرته إما بالتقدم إلى الأمام أو بالعودة إلى الخلف. وتفاجأ جنود الفيلق في مقدمته ومؤخرته والذين كانوا خارج الوادي بما يحدث وباندفاع زملائهم من الوادي وكثير منهم يحترقون، كأنهم حمم تغادر بركان، أو شياطين تحاول الفرار من جهنم. وبينما ظل مقاتلو الكثبة يطلقون مزيدا من الأسهم المشتعلة ويزيدون الأمر بلاء، عم الارتباك والاضطراب وانتقل من الفارين من الوادي إلى الذين بخارجه. وبات الفيلق هائجا متفرقا يهرب منه الجميع في كل اتجاه وهم لا يدركون ما الذي يحدث. بالتأكيد الزبير بعبقريته وحنكته، أدرك أن هذا أمر حتمي وسيحصل لا محالة، لذا خطط لأن يكون هناك عدد من مقاتلي الكثبة الذين ينتظرون ارتباك فيلق الهيجاء. ولما شاهد هؤلاء المقاتلون ارتباك الفيلق، عدوا على خيولهم مسرعين، وجعلوا يطلقون الأسهم ويصطادون بها أرواح مقاتلي الفيلق، وجعلوا يلاحقون الجنود الفارين ويقتلونهم بسيوفهم. وظل مقاتلو الكثبة المباغتين، يفرون ويكرون ويقتلون من أعدائهم ما استطاعوا. كان جنود الهيجاء خائفين مرتعبين، لذلك كان أمر قتلهم سهلا للغاية من قبل مقاتلي الكثبة، لا سيما مع تصاعد الغبار من رمال الصحراء الذهبية بسبب حركة الجنود الهائجين، مما سهل مهمة مقاتلي الكثبة. وهكذا ظل مقاتلو الكثبة في أعلى الهضبتين يطلقون الأسهم المشتعلة، وظل زملاؤهم الذين على الخيول يصطادون جنود الهيجاء الواحد تلو الآخر، واستمر الأمر على هذا حتى فر كل الذين كانوا أحياء من داخل الوادي، وبدأ الفيلق يستوعب ما حدث ويتنظم، عندها غادر مقاتلو
الكثبة الذين كانوا أعلى الهضبتين، وزملاؤهم الذين على الخيول المكان، بهدوء وبسرعة كأنهم ملك الموت يخطف الأرواح في ثوان معدودات بهدوء وأناقة وخفة، والأهم بمفاجأة.
وطيلة كل هذا جعل الزبير ينظر إلى منظر المحترقين في الوادي وبقية رفاقهم وهم يتقتلون، وأحس بشفاء لصدره، والنار التي أحرقت أعداءه، أطفأت ولو جزءا صغيرا من النار المشتعلة بداخله والتي لن تنطفئ كلها إلا بالانتقام الكامل من ملك الهيجاء.
***
غدا ما حدث يُعرف بمجزرة الطويل، وانتشى بها أهل البقاء بأكملها وبردت – ولو قليلا – صدورهم، في حين انخزى بها أهل الهيجاء.
لقد مثلت ضربة قوية للهيجاء ولفيلقها المتوغل في الكثبة؛ إذ خسر ذلك العدد المهول من الجنود والذين زاد عددهم عن ما يقرب الثلاثة آلاف مقاتل مقابل عشرات من مقاتلي الكثبة. ناهيك عن
الإصابات التي اجتاحت الفيلق؛ حيث فاق عدد المصابين خمسة آلاف مقاتل. أصيب كثير من المقاتلين بعاهات دائمة، وتنوعت الإصابات بين الحروق، وفقدان البصر نتيجة الحروق، والكسور
في العظام نتيجة تدافع الجنود ودوس بعضهم على بعض، حتى إن بعضهم أصيب بالشلل نتيجة ضربات على الرأس والظهر، وكذلك اجتاحت الأمراض رئات كثير من المقاتلين نتيجة الاختناقات
من الدخان الذي تراكم في وادي الطويل إبان مجزرة الطويل.
لطالما نظر ملك الهيجاء الملك هزيم إلى أهل الكثبة على أنهم همج ضعفاء، ولكنهم علموه درسا لن ينساه ما عاش، وأدبوه وروضوه.
وبسبب هذه الضربة المدوية، ولأن أغلب الأجزاء الشرقية من صحراء الكثبة مقفرة لا خير فيها، قرر الملك هزيم أن يوقف فيلقه عن الزحف شرقا في الكثبة، لكن أمره أن يظل في الموقع المتقدم
الذي بلغه وأصر على بقائه فيه.
وهذا جعل أهل الكثبة يشعرون بالاختناق؛ فقد أرادوا تراجع الفيلق ولو قليلا. وذلك لأنهم أرادوا أن يعودوا غربا نحو الأراضي المليئة بالعشب والتي يتساقط فيها المطر، بدلا من المناطق الشرقية
القفراء القاحلة.
ظل أهل الكثبة، شيوخا وأفرادا، يشكون ضيق الحال والاختناق الذي يحسون به للشيخ دريد.
وكالعادة، بحث الزبير عن حل حتى وجد بدهائه حلا للمعضلة. اقترح على أخيه، الالتفاف على فيلق الهيجاء، ومهاجمة قوافل أهل الهيجاء، وإبادتها وسرقتها على بكرة أبيها، وكل ذلك لوضع
مزيد من الضغط على الملك هزيم وإجباره على التراجع. شرح الزبير الخطة لأخيه؛ فقد كان عدد مقاتلي الكثبة أقل بكثير من جنود فيلق الهيجاء، وحركتهم أسرع، ويستطيعون التحرك
بأي وقت حتى في الليل والفجر، وهم أخبر بشعاب الكثبة وأراضيها من فيلق الهيجاء.
اقترح الزبير على أخيه، أن يبدؤوا حرب عصابات ضد فيلق الهيجاء؛ لأن الجيوش الضخمة دائما ما تتنغص بحروب العصابات. ورغم أن أهل الكثبة كانوا أهل مروءة وأخلاق،
وأن ليس من عادتهم الإغارة على غير المقاتلين ممن كانوا في قوافل أهل الهيجاء، إلا أن أهل الهيجاء بدخولهم الكثبة، باتوا أعداء لقبائلها، إذ يعتبر ذلك إقرارا منهم بالظلم الذي ارتكبه الملك هزيم ضدهم. كما أن أهل الكثبة كانوا في وضع مزر على شفا الحد بين الحياة والموت، ووجب عليهم أن يفعلوا أي شيء مهما بلغت قذارته للنجاة بأنفسهم.
وكعادته وافق الشيخ دريد على اقتراح أخيه. وبدأت غارات جنود الكثبة على قوافل أهل الهيجاء؛ إذ قتل مقاتلو الكثبة من يحاول القتال من أفراد القافلة وأسروا الآخرين من رجالها وسبوا النساء والأطفال، وغنموا كل ما في القافلة من حلي ومؤن وخيول وسائر ما فيها. وظلوا يفعلون ذلك؛ لأن الزبير أراد إرسال رسالة للملك هزيم أنه لا أمن لأهل الهيجاء ما دام مصرا على ظلم أهل الكثبة. ومع ازدياد
عدد قتلى القوافل، وضياع ما فيها من كل ثمين، وتراكم الأسرى والسبايا عند أهل الكثبة، بدأ وجهاء الهيجاء وكذلك أكبر تجارها بالتشكي للملك هزيم ومحاولة الضغط عليه لحل المعضلة.
وقد اكترث الملك هزيم لآرائهم، بسبب ما امتلكوه من أموال طائلة.
وظلت الغارات تتكرر على القوافل. ولما سمع الزبير بالضغوط التي تعرض لها الملك لحل المعضلة، قرر إرسال رسول لمفاوضة الملك. فاقترح الأمر على الشيخ دريد فوافق، وأشار عليه باختيار رجل
معين رسولا، فوافق كذلك.
لقد أدرك الزبير أن أهل الكثبة بمفردهم غير قادرين على هزيمة الوحش الضخم المتمثل بمملكة الهيجاء. لذا أيقن أن أفضل ما يمكن فعله هو مفاوضة الملك هزيم والحصول على أكبر المكتسبات منه.
ورغم العداوة المقيتة بين أهل الكثبة وبين الملك هزيم، فإن الزبير تيقن بأن الملك لن يقتل رسوله. كان من المعروف عند أهل البقاء ومملكتي الهيجاء وياقوتة اللتين جاورتاها أن من يقتل الرسل
يوصم بالعار مدى عمره، ويحتقره الجميع حتى أقرب المقربين إليه. ويعود ذلك إلى ما حدث لآخر من فعل ذلك في هذه الممالك جميعها وهو أسود الوجه الحنشي. لقد عاش أسود الوجه في الفترة التي
سبقت فترة الزبير بما يقرب الألف عام. وقد كان ملكا لمملكة مركزها منطقة الحنش الواقعة شرقي مملكة البقاء. وبالطبع لم يكن أسود الوجه جسديا، بل معنويا. وقد لقب بذلك؛ لأنه قتل رسولا أرسله له
ملك عدو له كان يحاربه، ثم قطع أطرافه ورماه في وسط الحنش. وقد اعتبر ذلك خرقا للعادات والتقاليد ونقضا للمروءة والأخلاق، واستقواء على الضعيف الذي أتى مسالما لأسود الوجه. وبات الجميع
يلقبونه بهذا اللقب دلالة على أن وجهه أسود بعد الفعل القبيح الذي فعله. وقد احتقره الجميع، وأولهم أهل مملكته، وحتى أقرب المقربين إليه بمن فيهم أصدقاؤه وعائلته واعتبروه أسوأ ممن يبيع نفسه
للشيطان. وظل أهل مملكته يصمونه بالعار هو وأهله، ولم يستطع أهله أن يظلوا وسط هذا العار، وانتهى الأمر بأن قتل أسود الوجه من قبل أخيه ليغسل العار الذي وصمهم به. ورغم أن كثيرا
من الناس آمنوا بأن هذه مجرد أسطورة، إلا أنه منذ ذلك اليوم قبل ألف عام لم يجرؤ أي من أهل الممالك الثلاث على قتل أي رسول. لهذا كله اطمئن الزبير أن الملك هزيم لن يقتل رسول الكثبة.
الرجل الذي اختاره الزبير كان شيخ إحدى قبائل الكثبة، وأمهر أهل الكثبة في التفاوض والمراوغة على الإطلاق. واسمه هو ضرار. جل البدو من أهل الكثبة، تميزوا بالذكاء، وفيهم مكر، ولطالما
لجؤوا للخدع؛ لأن جلهم فقير قليل الحيلة، والظروف الصعبة، من قسوة صحرائها ونار شمسها وقلة مطرها، أجبرتهم على تطوير نفسهم من النواحي المذكورة. ورغم كل ذلك، تميز ضرار بأنه أدهاهم
في المفاوضات، وأكثرهم مهارة فيها.
دعاه الزبير إلى أرض قبيلة الأسد، فلبى الدعوة.
واجتمع به الزبير في داره.
كان رجلا نحيلا، طويلا قليلا، ذي عضلات بارزة، أنيقا في لباسه والعطر الذي يضعه، له شعر أسود على ذقنه، في حين يخلو باقي أنحاء وجهه من الشعر. وله شعر رأس أسود كثيف يمشطه
تمشيطا جميلا أنيقا. وأكثر ما تميز به، هي ابتسامته الصفراء التي تحمل في طياتها كثيرا من الخداع والمكر والدهاء.
تحادث الرجلان في الدار، وأخبره الزبير بأنه يريد إرساله إلى ملك الهيجاء ليفاوضه.
"أريدك أن تنجز الأمر بأية طريقة ممكنة" أخبره الزبير.
فابتسم ضرار ابتسامته الصفراء التي تسلب اهتمام كل من يراها، وقال: اعتبر الأمر منتهيا.
فقال الزبير: لك جائزة كبيرة إذا نجحت.
فرد ضرار بذكاء: جائزتي محبتك ورضاك.
توجه ضرار على رأس وفد من فرسان الكثبة إلى القاسمة عاصمة الهيجاء، ووصل قصر الملك هزيم، والتقى به، وعرفه بنفسه وبمن معه وأنه أتى بغية عقد هدنة طويلة معه. لم يجد الملك بدا
من الترحيب بهم واستقبلهم ضيوفا في قصره.
وقبل الملك ببدء التفاوض مع رسول الكثبة ومن معه، وأنشؤوا يتفاوضون ويطلب كل طرف من الطرف الآخر أمورا يريدها. تشبث كلا الطرفين بمطالبه، وأبدى كلاهما عنادا صلبا على موقفه.
لكن ضرارا كان أصلب وأقوى؛ فقد تذكر كلام الزبير بأن الملك سيقبل عاجلا أم آجلا بشروطهم.
وبعد أسابيع من المفاوضات رضخ الملك لشروط أهل الكثبة؛ وذلك لأن ضرارا امتاز بأنه مفاوض مراوغ لا مثيل لدهائه في المفاوضات، ولأن الملك كان يتعرض لضغوط هائلة بسبب
ما يحدث لقوافل مملكته، كما أنه علم أن الطموح وحده ما قاده لاجتياح صحراء الكثبة التي لا خيرَ كثيراً فيها لا سيما في جزئها الشرقي.
وقد قدم ضرار تنازلات منطقية وواقعية لصالح الملك؛ فقد علم الزبير أنه مهما وقف في موقف القوة، فإن أي مفاوض لا بد وأن يقدم تنازلات ليحصل على ما يريد.
وفي النهاية أقر الطرفان معاهدة هدنة مدتها مدى الحياة، تضمنت توقف قبائل الكثبة عن مهاجمة قوافل الهيجاء وتعهدهم بأن لا يحاولوا الهجوم على فيلق الهيجاء، مقابل انسحاب فيلق الهيجاء مسافة بعيدة باتجاه الغرب بحيث يستطيع أن يستوطن أهل الكثبة في غربها على أن تظل بعض الأجزاء الغربية من الكثبة تحت حكم ملك الهيجاء. كما تضمنت ألا يتدخل ملك الهيجاء بالكثبة على الإطلاق
وأن يتعهد بألا يحاول مجددا أن يتوغل شرقا في الكثبة وألا يهاجم أيا من أهلها. وتضمنت أن يسلم الشيخ دريد كل من أسرهم من قوافل الهيجاء إلى الملك مقابل أن يسلم الملك هزيم كل من
أسرهم من أهل الكثبة إلى الشيخ.
سُر الزبير كثيرا بنجاح ضرار، وقال: ما أذكاك! وما أدهاك! أنت "داهية الكثبة".
وبات هذا لقبه لدى الجميع منذ ذلك اليوم، حتى كاد ينسى أن اسمه ضرار!
***