6

* العام 476.
ومرت السنوات وظل الزبير يحاول إقناع أخيه بالخطة، وما انفك الأخير يرفضها بحسم وعناد.
استيقظ قيس منذ الصباح الباكر، لبس ثوبه الملون باللونين الأحمر والأبيض في معظمه. وضع من الطِيب على عنقه ووجهه وكتفيه وأعلى صدره. ثم وضع عمامته البيضاء على رأسه.
في اليوم السابق طلب من زوجه أن تغسل لباسه جيدا وأن تحضره لليوم التالي.
لقد حرص أشد حرص على أن يكون بأفضل مظهر وهندام ورائحة؛ فهو سيقابل أعظم رجل عرفه في حياته، الرجل الأعظم في نظر أغلب أهل الكثبة كذلك.
اتجه نحو دار صديقه وسرعان ما وصل، فداراهما كانتا قريبتان إحداها من الأخرى.
كان قيس متوسط الطول مكتنز الجسد ويمكن وصفه بالسمين سمنة بسيطة، لم يمتلك شاربا في حين غطى وجهه لحية سوداء كثيفة غزيرة وطويلة امتدت إلى صدره. لم تنبع لحيته من تدين أو تصوف، بل عكست الوقار والحكمة اللذين سكنا بداخله، أو اللذين – على الأقل – ظن أنه يمتلكهما.
لقد امتلك حضورا وشخصية مميزتين، لفتا انتباه كل من شاهده وتعامل معه، وكذلك لفت انتباه كل أولئك هدوؤه، وطريقته المميزة في الحديث، وفي إلقاء الخطب الفصيحة الرنانة.
طرق قيس الباب، ففتحه له رجل قاسيةٌ ملامحُ وجهِهِ، له شعر أسود خفيف على أعلى رأسه، أما على جانبي رأسه وعلى مؤخرة رأسه فلم توجد شعرة واحدة، وبدت فروة رأسه البيضاء واضحة. كان لديه شعر كثيف غزير أسود اللون على ذقنه، ولم يكن لديه لحية ولا شارب. كان الرجل طويل القامة عريض المنكبين، في الحقيقة كان ضخما، وبدت ذراعاه وصدره منتفخين من كبر عضلاتهم وضخامتها.
منظره بث الهيبة والوقار وأحيانا الرعب في كل من رآه.
"مرحبا، أيها الزبير" قال قيس.
"أهلا، يا قيس" قال الزبير.
ثم أضاف: تفضل بالدخول.
دخل قيس الدار التي كانت مبينة من الطين وبسيطة حالها حال سائر دور قبيلة الأسد بعد الحرب المقيتة. ثم تبعه الزبير، حتى وصلا مجلس الضيوف.
ظل قيس واقفا إجلالا للزبير، حتى أذن له الأخير: تفضل بالجلوس.
كانت أرضية الغرفة من الحجر القاسي. ووجد على محيطها أبسطة عادية، وضعت عليها وسائد استندت إلى الحيطان ليسند الموجودون ظهورهم عليها، بينما استلقت عليها هنا وهناك وسائد أخرى ليتكئ عليها الموجودون. وهذا حال كل دور القبيلة في ذلك الزمان. غرفة وأبسطة ووسائد ناقضت قمة التناقض ما اعتاد عليه أهل الكثبة لا سيما أفراد قبيلة الأسد قبل الحرب المقيتة، حين عرفوا الرخاء والغنى والرفاه.
جلس قيس على البساط وأسند ظهره إلى الوسادة على الحائط.
"كيف حالك، يا صديقي؟" قال قيس.
فرد الزبير بعد مدة وقد بدا أن الهم والحزن يشغلانه: بخير.
صب القهوة في فنجان ثم ضيفها لقيس. ثم صب القهوة في فنجان آخر وجلس، ثم قال: وأنت، كيف أمورك وأمور أهلك؟
فأجاب قيس: بخير والحمد لله.
تحادث الاثنان ثم دخل الزبير وجلب طعاما ووضعه أمام قيس، وقال: تفضل، يا صديقي.
وطفق قيس ثم الزبير بتناول الطعام، وتبادلا الحديث.
وبعد مدة قرر قيس الحديث من جديد في المسألة - التي علم أنها هي التي تزرع الهم والحزن في قلب صديقه - فقال: أيها الزبير، أتأذن لي أن أحادثك في أمر معين؟
رغم أن قيسا كان أعز أصدقاء الزبير على الإطلاق، ورغم أنه علم بمدى لين الزبير مع من يحبهم، إلا أنه تعمد الحديث بطريقة مهذبة معه وتعمد الاستئذان، لأنه علم أن بداخل الزبير مزيجا فريدا وغريبا من اللين والقسوة، لين مع من يحبهم، ولكن قسوة مع من يسيئون بحقه، وما يفصل بينهما سوى شعرة رفيعة.
علم الزبير ما هو ذلك الأمر الذي يريد أن يحادثه فيه صديقه، وقال: تفضل.
فقال قيس: أيها الزبير، يجب أن نبدأ بتنفيذ خطتك في أقرب فرصة بل فورا، لقد صبرنا سنوات طويلة، ولم يعد هنالك متسع لمزيد من الصبر.
تنهد الزبير، وبعد مدة قال: لا أعرف ما الحل!... لقد حادثت أخي بخطتي منذ سنوات، وفي المدة الأخيرة أكثرت من ذلك، بل وبالغت فيه، لكنه ما يزال مصرا على الرفض. هو الأمر الوحيد الذي
رفضه لي منذ استلامه قيادة القبيلة، لكنه الأمر الأهم في حياتي حاليا.
اتسم الزبير بثقة بالغة في نفسه، لم يشهد أغلب من عرفه مثيلا لها، ورغم ذلك قال لأعز أصدقائه: أحيانا أشعر أن خطتي خيالية، أحيانا أشعر أن أخي على صواب وأنني على خطأ... لا أعرف...
أحيانا أشعر أنني يجب أن أتوقف...
فقال قيس فورا: إياك، أيها الزبير، أن تتراجع ولو لحظة. نحن كلنا نثق بك، نحن كلنا نعتمد عليك. ليس أنا وأهلك وأهل الكثبة فقط. كل أهل البقاء ينتظرونك، حتى الذين لم يعلموا يوما بوجودك
ولا بخطتك ينتظرونك منذ زمن بعيد. أنت الأمل، أنت الغيث الذي سينقذهم من البؤس والشقاء الذين هم جميعا فيهما. عليك أن تنفذ خطتك مهما كلف الأمر، مهما علا الثمن، مهما بلغت التضحيات.
إما خطتك وإما سيظل هذا الجحيم الذي أهل البقاء فيه إلى الأبد.
نظر برزانة إلى الزبير، ثم قال: افعل أي شيء لإقناع أخيك... أي شيء.
أنصت الزبير جيدا إلى كلامه، واجتاحته المشاعر الفياضة، واستمر يفكر بعمق فيما يجب أن يفعله.
***
جلس الشيخ دريد في داره، التي كانت مبينة من الطين وبسيطة حالها حال سائر دور قبيلة الأسد.
وبينما هو كذلك طرق الباب.
قام الشيخ وفتح الباب، فوجد الزبير.
قال الشيخ: أهلا بالزبير، تفضل بالدخول.
فرد الزبير على أخيه الشيخ: مرحبا، يا دريد.
كان الشيخ متوسط الطول، وله شعر رأس كثيف أسود، وشارب أسود كثيف، بينما غطى الشعر الأسود الكثيف ذقنه ولم يكن له لحية.
دخل الرجلان وجلس الزبير، بينما ظل الشيخ واقفا وصب القهوة للزبير، الذي أخذ الفنجان من يد أخيه وجعل يشرب.
نعم، ليس من الطبيعي أن يضيف شيخ قبيلة في أي مكان من الكون ضيوفه بنفسه، لكن الزبير كان رجلا يأتي مرة كل ألف عام.
ارتشف الزبير من القهوة، ثم قال: كيف حالك، يا أخي؟
فرد دريد: بخير.
فقال الزبير: وكيف حال أهلك؟
فرد الشيخ: بأفضل حال.
ثم سأل الشيخ: وأنت كيف حالك؟
تنهد الزبير بعمق، ثم شرب ما تبقى في الفنجان من القهوة، ثم قال: أنت تعرف حالي جيدا، يا دريد، وتعرف أن ما بها هو بسببك.
عبس الشيخ وقال: ألا تمل من الحديث في الأمر نفسه مرارا وتكرارا؟! لقد تناقشنا كثيرا في المسألة وأخبرتك برأيي النهائي فيها.
عبس الزبير بدوره واحمر وجهه، وقال: يا دريد، يجب أن نثأر لجدي، لا يمكننا أن نعيش بدون ثأر، يجب أن ننتقم من ملوك الهيجاء ونمرغ أنوفهم بالتراب.
رد الشيخ دريد: هذا لن يحدث، أيها الزبير. كم مرة أخبرتك بهذا؟! أنا غير موافق على هذا الأمر، وحتى لو وافقت، فلن نستطيع هزيمة ملوك الهيجاء الذين يملكون جيوشا جرارة. نحن نكاد
لا نستطيع الحفاظ على ما تبقى من أراضي الكثبة من مخالب الملك ((ميمون))، فكيف بنا نهاجمه ونثأر منه؟!
والملك ميمون كان ملك الهيجاء في اللحظات التي تحادث فيها الأخوان، وهو ابن الملك الراحل هزيم.
رد الزبير بثقة: لقد أخبرتك مرارا بخطتي التي لا يمكن أن تفشل.
فقال الشيخ باستغراب: خطتك؟!... أن نوحد ما تبقى من أراضي البقاء وأن نعيد ملوك الضياغم ملوكا على البقاء، ثم نحرر الأراضي التي احتلها ملوك الممالك المجاورة... بالله عليك، أيها الزبير،
أهذا كلام يقبله عاقل؟!
فرد الزبير بحزم: نعم، خطتي تلك. لقد فكرت بها لسنوات، وحبكت أدق تفاصيلها. صدقني هي خطة كاملة، ولا يمكن أن تفشل مهما حدث.
رد الشيخ بجدية: أيها الزبير، لقد انتهى كل شيء، مملكة البقاء لن تعود مهما حدث، لقد باتت سرابا في التاريخ كالأسربة التي نراها في صحرائنا. إن علمتني الحياة شيئا، فهو أن تَقَبُّلَ الهزيمة
والرضا بها من شيم الرجال الأشداء، وإن لم يفعلوا ذلك فسيظلون يتجرعون هزيمة تلو أخرى حتى يقضى عليهم.
لقد خذل مملكة البقاء من خذلها، وتهاون عن الدفاع عنها من تهاون، وحكمها مغفلون لم يشتموا رائحة الغدر والمكيدة، فاختفت هذه المملكة، ولا أريد للقبائل التي أحكمها أن تختفي مثلها.
ثم قال بصوت هادئ: حالنا الآن هو أفضل حال يمكننا العيش فيه.
استفز كلام الشيخ الزبيرَ استفزازا عظيما.
ازداد عبوس الزبير، وقال: لقد مللت من تكرار هذه المسألة معك، أهذا آخر كلامك، يا دريد؟
"نعم" رد الشيخ.
فقام الزبير، وقال: أنا سأذهب، إلى اللقاء.
فقال أخوه: إلى اللقاء.
وغادر الزبير دار أخيه.
***
ومرت الأيام، وبينما الزبير جالس بداره صباحا، طُرق الباب، قام الزبير وفتحه، فإذا به يجد طفلا في الثانية عشرة من عمره، وهذا هو سهيل ابن أخيه دريد.
تنفس سهيل بسرعة كبيرة، وبدا عليه التعب، الذي نتج عن الركض السريع، وبدا عليه كذا علامات الخوف والفزع.
قال سهيل وصوته يتقطع من تنفسه السريع: عمي الزبير، أرجوك تعال فورا إلى دارنا.
في الظروف الطبيعية لم يكن سهيل ليستعجل عمه لفعل أمر ما، فهو يكن له احتراما عظيما، بل ويشعر بخوف ورهبة كبيرين تجاهه.
عبس الزبير؛ إذ علم أن هنالك أمراً جللا قد حدث.
ثم قال: ما بك؟ ما الذي حدث؟
فرد سهيل: منذ استيقظت أمي، وجدت أبي لا يتحرك ولا يتكلم. لا ندري ما به. أمي أرسلتني إليك لكي تأتي وتراه.
بسرعة خرج الزبير، دون أن يغير ثيابه من ثياب النوم إلى ثياب أنيقة مناسبة للخروج من المنزل.
ركض بسرعة حتى دخل دار أخيه المجاروة لداره.
وجد زوجة أخيه رند تبكي بكاء شديدا، وقد احمر وجهها وسالت الدموع غزيرة على وجنيتها.
"بسرعة، أيها الزبير، بسرعة" قالت.
لم يتوقف الزبير، وظل متجها بسرعة حتى دخل غرفة أخيه، فوجد أخاه نائما على سريره دون حراك، وعيناه مفتوحتان وتنظران للأعلى دون أن ترمشا.
حالما دخل الغرفة، صرخ الزبير: دريد، ما بك؟! أجبني، يا دريد.
رند وسهيل دخلا الغرفة مع الزبير، ووقفا ينظران إليه وهو يحادث أخاه.
لم يجب دريد. اقترب الزبير من أخيه وجعل يحرك فيه، وهو يصرخ بشكل جنوني: دريد، أجبني، أرجوك، أجبني.
لكنه لم يجب.
اجتاح الخوف والفزع الزبير وهو ينظر إلى أخيه.
وبسرعة وضع أذنه على صدر أخيه، يريد أن يسمع هل يدق قلبه أم لا، لكنه لم يسمع شيئا.
مما يميز الزبير أنه يسيطر على نفسه حتى في أصعب الظروف، وعلى الرغم من فزعه وخوفه، إلا أنه سيطر على نفسه، وخرج بسرعة من الدار وسط دهشة رند وسهيل.
جعل الزبير يركض بسرعة هائلة، وتفاجأ من رآه من أهل القبيلة بسرعته وبثياب النوم التي لبسها؛ إذ اعتادوا أن يروه بأجمل حلة وأبهى لباس.
ظل الزبير يركض حتى وصل إلى دار طبيب القبيلة.
طرق الباب، ففتح الطبيب الباب، ولما رأى الزبير اجتاحته الرهبة؛ فكل أهل القرية خشوا الزبير وحسبوا له ألف حساب.
صمت الرجل وهو يرى الزبير بثياب النوم وهو يتنفس بسرعة، وقال الزبير: بسرعة تعال معي، أخي يعاني من مشكلة ما.
الطبيب كان كذلك يلبس ثياب النوم، لكنه لم يكن ليدخل ويبدلها؛ فأوامر الزبير يجب أن تنفذ في لحظة صدورها.
خرج الزبير والطبيب وهما يركضان باتجاه دار دريد، ركض الزبير أسرع بكثير من الطبيب، وكلما تأخر الطبيب في الركض، عاد الزبير إليه وأمسكه من يده وسحبه بقوة ليركض أسرع.
وظلا على هذه الحال حتى وصلا دار دريد، فدخلا غرفة نومه.
عندما رأى الطبيب دريدا، أدرك من خبرته أنه ميت، لكنه احتفظ بهذه الحقيقة لنفسه؛ لأنه خشي من غضب الزبير إذا أخبره بهذا الأمر فورا.
جعل الطبيب يحرك جسد دريد، ويفحصه، ومضى وقت، وبات من المحتم عليه أن يخبر الزبير بالحقيقة.
وقف الزبير ورند وسهيل وهم ينظرون إلى الطبيب، وقد بدت عليهم علامات الفزع.
وقف الطبيب مقابل الزبير، وقال وهو ينظر إلى أرضية الغرفة: للأسف...
صمت ثم استجمع قواه، وقال: للأسف، الشيخ قد توفي.
صرخت رند، وجعلت تبكي. أما الزبير، فقد اتجه إلى جثمان أخيه، وركع على ركبتيه، وأمسك بيده، واحمر وجهه وجعل يبكي البكاء المر، ونزلت دموعه غزيرة، وجعل يقول
وصوته يتهدج: لا ترحل... يا أخي... لا ترحل... يا دريد...
لم يسبق لأحد أن رأى الزبير بهذه الحالة التي هالت رند وسهيلا والطبيب.
مشاعر الزبير اتسمت بالقوة، سواء في حزنه أو فرحه، إذا كره أحدا كرهه بجنون، وإذا أحب أحدا أحبه بجنون.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي