7

بعد وفاة الشيخ دريد، تجمع الناس لأداء واجب العزاء في داره. أتى من كل قبيلة تدين بالولاء للشيخ وفد يضم شيخ القبيلة وكبارها ووجهاءَها. لقد كان الشيخ بمثابة ملك غير متوج لصحراء الكثبة،
وقد حسب كل من سكنها أو مر بها ألف حساب له.
قبل العزاء وقبل أن يعلم أهل الشيخ الآخرين بوفاته، وبينما نظر الزبير إلى جثمان أخيه، والدموع تتساقط غزيرة من عينيه، رأى ابن أخيه سهيلاً يبكي البكاء المر وقد احمرت وجنتاه. تمالك الزبير نفسه، وكبح دموعه، فقد علم أنه يشكل مثالا لسهيل يقتدي به، ويجب عليه أن يكون قويا وأن يتماسك، حتى يكون سهيل قويا ويتماسك بدوره.
اتجه الزبير إلى سهيل الباكي، وجلس القرفصاء، ووضعه يديه على كتفي سهيل، وقال له: سهيل، لا تبكِ. أنت رجل. أنت فارس. والرجال والفرسان يسيطرون على أنفسهم. يجب أن تكون قويا،
وأن تتحكم بمشاعرك.
ثم شد بقوة على كتفيه، وأضاف: لا تخش شيئا، ولا تخف، إذا رحل أبوك، فأنا هنا موجود من أجلك وسأظل موجودا من أجلك، أحميك وأحرسك من أي ضرر.
وذلك اليوم، دُفن دريد ثم بحضور الزبير والمعزين، ثم توجهوا جميعا إلى دار دريد لتأدية واجب العزاء. وطيلة هذه الأحداث حرص الزبير على أن يظل سهيل بجواره أينما ذهب.
وكلما سنحت الفرصة له، وضع يده على رأسه أو على كتفه أو ظهره، حانيا عليه.
جعل المعزون يقدمون واجب العزاء للزبير وسهيل وسائر أفراد قبيلة الأُسْد. لقد شعر الزبير بحزن بالغ ينفجر بداخله، لكنه أخفاه ببراعة.
وفي اليوم الأول، قدم قيس العزاء للزبير مع سائر الحاضرين، لكن منذ وصولهم دار دريد، تحين قيس الفرصة للاختلاء بالزبير والحديث معه. وبعد مرور وقت قصير حدث ذلك،
إذ خرج الزبير ومعه سهيل خارج الدار؛ حيث أراد الزبير الذي ضاق صدره أن يستنشق بعض الهواء الطلق في فناء دار دريد.
لحقه قيس، فوجد الزبير واقفا يحدق في الأفق دون حراك وهو يمسك بيد سهيل الذي وقف قريبا منه وطأطأ رأسه ونظر في الأرض. لكأن الحزن تجسد في جسدي هذين المرئين.
كانت لحظات صعبة على قيس، الذي شعر بثقل الموقف، لكنه استجمع قواه، وتنهد، ثم قال: أيها الزبير...
لم ينظر إليه الزبير، فأكمل قيس الذي زاد ارتباكه: لا أعرف ما الذي حدث! لا يمكن لأي شيء أن يفسره! ما الطريقة التي تمكن من خلالها الموت من خطف روح الغالي دريد في هذا العمر،
وبهذا الأسلوب المفاجئ؟!!!
لا شيء يمكن لأي امرئ أن يقوله، من شأنه أن يخفف ألمك... الموت أمر قاسٍ جدا، خصوصا إذا عانيت منه أكثر من مرة... وإذا أتى فجأة كما حدث مع الغالي دريد، وبالأخص
عندما تفقد أغلى ثلاثة على قلبك في هذا العالم...
وقد قصد ب "الثلاثة" جد الزبير وأبيه وأخيه.
لم يطرأ أي تغير على ملامح الزبير، الذي أيقن قيس أنه يتألم أشد ألم من الداخل.
ثم أكمل قيس: لكن أيها الزبير، الحياة يجب أن تستمر، وأنت أقوى رجل في هذا العالم بأكمله، إذا استسلمت أنت للموت، ماذا تركت للبقية الذين هم جميعا أقل قوة منك؟!
عليك أن تستجمع قواك، وأن تقودنا جميعا نحو الانتقام ونحو النصر والعزة، وأن تعلي رايتنا في الكون كله.
افعل ذلك من أجل جدك ومن أجل دريد ومن أجل سهيل، من أجلي وكل أهل الكثبة وكل أهل البقاء.
اقترب قيس من الزبير الذي ظل جامدا كالتمثال، ووضع يده على كتفه، ثم أكمل: أعلم أن البعيدين عن أي أزمة ليسوا كالواقعين فيها، لكنني واثق أنك ستتجاوزها قريبا.
ثم أزال يده عن كتف الزبير، ونظر إليه نظرة أخيرة آلمت قلبه، قبل أن ينسحب ويعود إلى داخل الدار.
تلك اللحظة واحدة من ثلاث لحظات فقط، شاهد فيها قيس الزبير في أسوأ حالة ممكنة له. الأولى لحظة مقتل جده، وهذه هي الثانية، أما الثالثة فستأتي بعد سنوات كثيرة جدا.
وفي اليوم الثالث من العزاء، في ركن من دار الشيخ الراحل، حيث كانت الغالبية العظمى من الجالسين من قبيلة الأسد، وقف واحد منهم وهو رجل مسن، اسمه يامن، وقال: يا قوم، أيها الأسد،
بحلول الليلة سينتهي العزاء، وأنا أدعوكم لوليمة في داري غدا، فعلينا أن نناقش أمورا هامة تخص قبيلتنا. يجب عليكم جميعا أن تأتوا.
ثم نظر إلى الزبير – الذي جلس سهيل بجانبه – وقال: وأنت أيها الزبير، وابن أخيك، أهم من يجب أن يحضر.
في تلك اللحظة أومأ الزبير برأسه موافقا، فقد فهم فورا لماذا دعاهم يامن إلى الوليمة، على العكس من سهيل الذي نظر إلى الأرض بالخجل الذي كان عليه منذ بداية العزاء، وظن أن الأمر مجرد وليمة
عادية.
وكذلك عرف قيس وداهية الكثبة - اللذان حضرا العزاء - ما الأمر الذي أراد يامن الحديث فيه. وهذان الاثنان، منذ الهدنة التي أبرمها الشيخ دريد مع ملك الهيجاء، لم يغيبا عن اجتماع حضره الزبير؛
فهما أعز أصدقائه وأتباعه، وشكل قيس يده اليمنى، في حين شكل الداهية يده اليسرى.
في ظهيرة اليوم التالي، لبس الزبير لباسا أنيقا، وذهب إلى دار أخيه، وطلب من أرملته أن تعد ابنها سهيلا لكي يأتي معه إلى الوليمة، ففعلت.
اتجه الزبير وسهيل إلى دار يامن. ومع مرور الوقت، اجتمع هناك أغلب وجهاء القبيلة إضافة إلى عدد كبير من رجالها.
وضع أولاد يامن الطعام والشراب للضيوف الذين أكلوا وشربوا.
ولما فرغوا من غسيل أيديهم وأفواههم، عادوا جميعا للجلوس وأنصتوا؛ فقد علموا أن يامنا يريد الحديث في أمر هام.
قال يامن: يا قوم، لقد جمعتكم اليوم لنتحدث بشأن هام لنا جميعا...
جعل يقلب أنظاره بين ضيوفه، ثم أضاف: لقد توفي شيخنا، وعلينا أن نبايع شيخا جديدا...
لم يتفاجأ الزبير؛ فقد علم مسبقا بأن هذا هو الأمر الذي دعاهم يامن للحديث عنه.
أكمل يامن: تنص عاداتنا على أن يخلف الشيخ أكبر أبنائه. ونحن لسنا قوما يغيرون عاداتهم مع كل ظرف... لكن شيخنا الراحل توفي شابا، وابنه الأكبر صغير في السن...
نظر الجميع إلى سهيل، بينما أكمل يامن: لذا أرى أن الحكمة في أن يخلف الشيخ رجل آخر من القبيلة...
أنصت الجميع في هذه اللحظات بإمعان؛ لأنهم علموا أن يامنا على وشك اقتراح اسم الشيخ الجديد.
أكمل يامن: ولم أجد بيننا، رجلأ يجمع بين القوة والخير، وبين الصلابة والحكمة، سوى... الزبير.
نظر الجميع إلى الزبير، ثم أكمل العجوز: وهو يمتاز بميزة أخرى، وهو أنه ثاني أقرب رجل إلى شيخنا الراحل دريد بعد ابنه الصغير، وبالتالي ستظل قيادة القبيلة محصورة في عائلة شيخنا الراحل،
ولن نغبنهم حقهم.
ساد صمت في الدار، حتى قال العجوز: إن وُجِدَ لدى أحدكم اعتراض، فليخبرنا به وليرشح لنا اسما آخرَ. فهل بينكم معترض.
صمت الجميع، فكل واحد منهم عرف أن الزبير أفضل رجال القبيلة وأقواها، بل أفضل رجال الكثبة كلها وأقواهم. لم يمتلك أحدهم الجرأة على الاعتراض.
وفجأة تكلم أحدهم معترضا، ولم يتوقع أحد أن يكون هو بالذات المعترض.
"أنا أعترض..." قال الزبير بصوت حازم قوي، فاندهش كل الحاضرين.
ثم أكمل: لا يمكن لنا أن نغير عاداتنا، ابن الشيخ هو الذي يخلفه، وابن أخي سهيل أحق مني بالخلافة. وهو مثل ابني ولا يمكن لي أن أسلبه حقه.
شعر سهيل بسعادة بالغة؛ ليس لأنه يريد أن يصير شيخا للقبيلة، ولكن لأن أعظم رجل قابله في حياته يدافع عنه، بل يؤثره على نفسه.
فقال يامن: أيها الزبير، أنا لم أرشحك تحيزا لك... ولا تجنيا على ابن أخيك. ولكن مصلحة القوم، ومصلحة كل أهل الصحراء الذين يدينون لنا بالولاء، أهم من مصلحة فرد واحد.
صمت العجوز ثم أكمل: هي أهم من مصلحتي ومصلحتك ومصحلة ابن أخيك... أنا رشحتك لأن في ذلك الأفضل للقوم... ابن أخيك صغير ويحتاج عشر سنوات حتى يصير قادرا على قيادتنا...
ونحن في صحراء قاسية، ويتربص بنا الأعداء من كل حدب وصوب، ويجب أن يقودنا رجل قوي.
"لكن أنا لا أقبل ترشيحك" قال الزبير فورا.
ساد هرج في الدار، وجعل الجميع يتحادثون مدهوشين، حتى قال رجل مسن بينهم بصوت عالٍ: يا قوم... يا قوم... أنصتوا إلي.
فأنصت الجميع إليه، فأضاف: أنا أقترح حلا، فلنستشر صاحب الشأن.
ثم نظر إلى سهيل وقال: يا سهيل، هل لك أن تخبرنا إن كنت تعترض على اختيار عمك الزبير بدلا منك قائدا للقبيلة.
نظر الجميع إلى الطفل، الذي أصبح على شفا الموت من الخجل، وبسبب ذلك ظل ينظر في الأرض دون أية حركة أو كلمة، حتى خالوه صنما.
وفجأة قال الزبير: يا قوم، سهيل رجل وهو قوي، لكنه خجول.
ثم أضاف: أنا مستاء مما يحدث، لكن أرى أن أغلبكم يريدني قائدا للقبيلة... وحتى نحل الموضوع، سأطلب من ابن أخي أن يبدي رأيه.
ثم نظر إلى سهيل وقال: يا سهيل، إن كنت ترفض أن أنوب عنك فأومئ برأسك رافضا، وإن كنت توافق على ذلك فأومئ برأسك موافقا.
صحيح أنه أحس بخجل في تلك اللحظات هو الأعظم في حياته، ولكنه قرر أن ينفذ أمر عمه الذي لا يعصي له أمرا.
أومأ سهيل برأسه موافقا على أن يغدو عمه القائد.
ابتسم قيس فرحا بذلك؛ لأن الأسطورة – بنظره – الزبير سيغدو أخيرا الآمر الناهي لقبائل الكثبة. وكذلك فرح الداهية.
عندها قال أحدهم: لنبايع الزبير.
فوقف أغلب القوم يريدون مبايعته.
لكن الزبير وقف وقال بصوت عال: يا قوم، قبل أن تبايعوني، أُشهد الله وأشهدكم أنني لا أزيح ابن أخي عن منصب هو الأحق به، وأشهد الله وأشهدكم أنني سأرجع له قيادة القبيلة ذات يوم عندما يكبر
وعندما يكون الوقت مناسبا.
ثم نظر إلى سهيل وقال: يا سهيل، يا ابن أخي، أنت أعز الناس على قلبي بعد وفاة أخي، وأنت ابني، ولأنني ليس لي أولاد، فستكون كنيتي منذ اليوم "أبا سهيل"، وأريد من القوم جميعا أن ينادوني بها.
كن يا سهيل على ثقة أنني أحبك حبا جما ولم أخدعك ولم أسلب منك شيئا... إنما استجبت للقوم لأنهم أصروا.
فرح سهيل بكلام عمه الحاني، وشعر بثقة بالغة.
بينما طفق أهل القبيلة يبايعون أبا سهيل شيخا جديدا لهم، وقائدا لصحراء الكثبة بأكملها.
***
هل احتاجت النار المضرمة بصدر الزبير - رغبةً في تنفيذ خطته والثأر من قتلة جده - مزيدا من الحرارة لتشتعل أكثر وأكثر؟!
هذا تماما ما حدث عندما زاره قيس.
فبعد مرور ثلاثة أيام – فقط - من تنصيبه شيخا على قبائل الكثبة كلها، وبينما هو في داره، أتاه صديقه.
تبادل الاثنان التحية، وجلسا سوية في غرفة الجلوس، وضيف الزبير قيسا.
تبادلا حديثا عاديا حتى قال قيس: أيها الزبير، متى سنشرع بتنفيذ خطتك وبالانتقام؟
ثم أضاف وهو ينظر إلى الزبير نظرات ملؤها الجدية والتصميم: يجب أن نفعل ذلك فورا.
فقال الزبير والنيران تخرج من عينيه: وهل تظن أنه قد مرت علي لحظة منذ مبايعتي شيخا لم أفكر بها في الخطة وفي الانتقام؟! هل تظن أنه مرت علي لحظة منذ ذلك الحين،
لم أر فيها طيف جدي وهو يخاطبني متسائلا متى سأثأر له؟!
فقال قيس الذي لم تخف النار التي في صدره حماوة عن تلك التي بصدر صديقه: لا مجال – أيها الزبير – للانتظار، لم يعد هنالك وقت!
فرد الزبير: لك ذلك، يا قيس. سأبدأ بتنفيذ الخطة بوقت أقرب مما قد تتخيل. سأنتقم لجدي وللكثبة وسأمرغ وجوه أعدائنا بالطين. لا تخف، يا قيس.
ثم قال بنبرة قاسية قوية: ليس الزبير بالذي يسكت على الثأر وعلى الضيم. والله لتأتي أيام كثيرة تسر قلبك وتفرح فؤادك.
ابتسم قيس ابتسامة عريضة؛ فهو يعرف جيدا أن صديقه إذا وعد وعدا أوفى به...
***
بعد مدة قصيرة من مبايعة الناس للزبير قائدا لقبيلة الأُسد وقبائل الكثبة، أرسل الزبير يدعو شيوخ القبائل التابعة له لزيارة أرض قبيلة الأسد لأنه يريد إعلامهم بأمر معين.
توافدت وفود القبائل على أرض قبيلة الأسد، حيث ضم كل وفد شيخ القبيلة ووجهاءَها.
وكلما وصل وفد دخلوا دار الزبير، وأعلنوا الولاء له وأهدوه هدايا أحضروها معهم.
أكرم الزبير وفادة الوفود، وضيفهم ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وحرص على أن يستضيفهم في خيار ديار القبيلة.
وبعد أيام ولما اجتمعت كل الوفود في أرض الأسد، أعلمهم الزبير أنه يريد أن يخطب بهم في ظهيرة اليوم التالي.
تجمع أعضاء الوفود وكذلك أعضاء قبيلة الأسد في ذلك اليوم في ساحة كبيرة، خصصت لإلقاء الخطابات.
انتظر الجمع الغفير هناك، ولما اجتمعوا أتى الزبير، ووقف على قطعة خشبية كبيرة، مرتفعة عن سطح الأرض، وقد وضعت هناك حتى يقف عليها، فيراه كل المجتمعين وهو يلقي خطبته.
"السلام عليكم، يا قوم" قال الزبير. ثم أكمل: لقد حللتم أهلا ووطئتم سهلا، إذ أتيتم إلى أرضنا، أرض الأسد. وهي أرضكم؛ فنحن – وإن كثرت قبائلنا – قبيلة واحدة وعائلة واحدة، ولا فرق بين أحد منا.
أنتم إخوتي وأبنائي وأعمامي وأخوالي.
اتسم منظره وهو يخطب فيهم بالهيبة والوقار، وبث في صدورهم مزيجا من توقيره والخشية منه، إضافة إلى الشعور بالطمأنينة بأنه شيخ شيوخ قبائلهم، وهو يمتاز بما يمتاز به من الدهاء والقوة والفراسة والشجاعة.
وأكمل: لقد وافت أخي الشيخ دريداً المنيةُ، وبايعني قومي شيخا عليهم وبت شيخا على كل قبائل الكثبة.
وسأكمل مسيرة أبي وأخي من بعده في قيادتكم، وفي خدمتكم والحرص على مصالحكم وحمايتكم.
على الرغم من قوته، لم يتصف الزبير بالغرور والتكبر، وقد تعمد في خطابه أن يقول إنه يخدمهم، لأنه أراد أن يطيعوه عن طيب خاطر.
وأكمل: يا قوم، إني جمعتكم اليوم، لأطلعكم على أمر جلل قررت تنفيذه.
زاد تركيز القوم، وتشوقوا لمعرفة الأمر.
فأكمل: لقد غدر بنا ملوك الهيجاء، وتجرؤوا علينا، وقتلوا جدي شيخنا، وقتلوا منا من قتلوا وأسروا من أسروا، وطردونا من ديارنا ولاحقونا فيما تبقى من صحرائنا.
ثم صرخ بصوت عال ملؤه الحزم والشدة: وها أنا أقسم أمامكم، أنه لن يهدأ لي جفن حتى أنتقم من ملك الهيجاء ومناصريه.
ثم ارتفع صوته أكثر وأكثر وهو يقول: نحن قوم أعزاء، لا نرضى بالذل والهوان. الموت علينا أرحم من الخضوع.
خسئ ملك الهيجاء، وخسئ من سبقه، وخسئ من أيده.
وأكمل صارخا: استعدوا يا قوم، للانتقام، حتى يعلم أهل البسيطة جميعا من هم قبائل الكثبة.
دبت الحماسة في قلوب الحضور جميعا، وجعلوا يصرخون معا على قلب رجل واحد، وأفئدتهم تلتهب توقا للانتقام: يحيا الزبير... يحيا الزبير... يحيا الزبير...
اجتاحت الفرحة قلبه، واطمأن إلى وقوفهم بجانبه في قادم الأيام في تنفيذ خطته.
***
أول قرار حقيقي اتخذه الزبير بعد تسلمه قيادة الكثبة هو إعلام أهلها بخطته للانتقام؛ لأنه أراد أن يكسب أكبر وقت ممكن قبل الشروع في تنفيذ هذه الخطة الصعبة.
لقد امتاز الزبير بقوة الملاحظة ودقتها، ولقد اقتنع أن العظماء يخلقون الفرص من العدم، فكيف بهم إذا وجدت فرص سانحة أمام أعينهم؟!
هذا كله فسر ثاني أهم قرار اتخذه بعد مبايعته شيخا.
في ذلك الزمان والمكان، انتشرت العبودية، وفي مملكة البقاء وما حولها كان معظم العبيد من ذوي البشرة السوداء. وهذا انطبق على قبائل الكثبة ومنهم الأسد،
ففي الفترة التي ساد فيها الأسد وامتلكوا فيها كثيرا من المال، امتلكوا عددا كبيرا من العبيد والإماء. حتى إن أقل الأسد ثراء امتلك الواحد منهم عبدا واحدا أو أمة واحدة على الأقل.
ومرت الأيام، وهزم ملوك الهيجاء قبائل الكثبة، فهاجرت القبائل شرقا، وضاعت معظم أموالها وأملاكها. ورغم ذلك ظل العبيد والإماء ملكا لأفراد القبائل.
منذ صغره، لاحظ الزبير أن العبيد ذوي البشرة السوداء، مختلفون جسديا، عن أفراد الكثبة وسائر البقاء؛ فمعظم أطول قامة وأقوى جسديا وبكثير، ومعظم أجسادهم تملؤها العضلات المفتولة! وفي المعارك، عندما يطلب السادة من عبيدهم القتال إلى جانبهم، اتضحت جليا قوتهم في القتال. وكذلك لاحظ الزبير – قوي الملاحظة – أنهم لا يشتاقون لشيء في الحياة شوقهم للحرية، وأنهم مستعدون لفعل أي شيء لنيلها. لذا قرر أن يستغل هذا كله لصالحه، فقد علم جيدا أنه إذا منحهم حريتهم فسيمنحونه ولاءهم، وسيوفون له حتى أكثر من أفراد عائلته.
أمر الزبير بجمع كل العبيد القاطنين في أرض قبيلة الأسد ليحادثهم، ومنع أي أحد من الأحرار من حضور هذا الاجتماع حتى أقرب المقربين منه بمن فيهم سهيل وقيس والداهية. وشدد على أن يحضر الاجتماع عبد أسود اسمه بيدق.
أتى عبيد الأسد جميعهم إلى الاجتماع، ومعظمهم من ذوي البشرة السوداء، وحضر بيدق. كان بيدق مملوكا لواحد من أثرى رجال الأسد بل البقاء كلها في الفترة التي سبقت الحرب المقيتة، لكنه
فقد جل أمواله وما ملك إبان الحرب. ومنذ صغر الزبير، لاحظ أن بيدق رجل قوي جدا، وليس المقصود هنا قوة الجسد، رغم أنه تميز بذلك، ولكن المقصود هنا قوة الشخصية. رغم أن بيدق عبد
وأنه كسائر العبيد أطاع مالكه طاعة عمياء، لكن نفسه كانت عزيزة كأنها نفس رجل حر. لطالما بدا عليه أنه غير سعيد بحقيقة أنه عبد، وإذا طلب منه أحد من الأحرار شيئا كان ينفذه لكن يبدو
على وجهه عدم الرضا والامتعاض. لم يذكر أحد طيلة السنوات الكثيرة، أنه رآه وهو يضحك بل حتى يبتسم. بيدق أتى أكثر من مرة إلى دار الشيخ الراحل عامر- جد الزبير – وعرض عليه أن
يصير خادمه الوفي وحارسه الأكثر ولاء، إذا أعتقه من العبودية. وقد علم الزبير بهذه الزيارات وما فيها. لكن الشيخ عامرا ظل يرفض هذا الطلب؛ لأنه أراد أن يحافظ على علاقته الطيبة بالرجل
الثري جدا الذي امتلك بيدقا وكان يرفض نهائيا فكرة بيعه لأحد. وفي كل مرة، وبخ الشيخ عامر بيدقا وطالبه بعدم العودة إلى أحد في هذا الموضوع، لكن الشيخ – ولحسن أخلاقه – لم يعلم مالك
بيدق بكل هذا.
وقف العبيد الكثيرون في حضرة الزبير ومنهم بيدق. كان رجلا أسود متوسط الطول، ممتلئا قليلا، وقد انتشرت العضلات المفتولة من أعلى جسده إلى أسفله. امتلك لحية وشاربا أسودين كثيفين
لكن مهذبين بطريقة توحي أنه حر لا عبد، وتخلل شعر رأسه ووجهه شعر أبيض هنا وهناك أضفى على هيئته مزيدا من الوقار. نظر إليه الزبير، ورأى فيه الفخامة والوقار، نظر إلى عينيه
الشرستين إذ مال لون بياضهما للصفار، بينما كانت أسنانه ناصعة البياض كأنه بياض حسام، وناقضت تماما لون بشرته السوداء.
كان الاجتماع خارج أرض الأسد في منطقة قريبة منها؛ لأن الزبير لم يرد لأحد من أفراد قبيلته أن يعلم بما سيدور في اجتماعه مع العبيد.
وقف الزبير مقابل العدد الغفير من العبيد، ثم قال: أهلا بكم، يا قوم.
استغربوا جميعا من مخاطبته لهم بالقوم؛ ففي ذلك الزمان والمكان، تعامل الأحرار باستعلاء وطبقية مفرطينِ مع العبيد. ولم يرد أحد التحية على الزبير؛ فأنى لعبد مستضعف
أن يرد على أعظم رجال الكثبة كلهم؟!
فقال الزبير بصوت عال: ألا يرد أحدكم التحية؟!
كانوا جميعا ينظرون إلى الأرض بخضوع وذل، ولم يرد منهم أحد.
"يا قوم، ردوا التحية" قال الزبير بصوت عال استمر طيلة الاجتماع.
لما قال ذلك، عدوه أمرا، فقال بيدق: أهلا بمولانا وسيدنا.
فتبعته الأصوات ترد التحية على الزبير.
فرح الزبير، ثم قال: ما شعوركم تجاه رجل لو حرركم وجعلكم أحرارا، بل من أكرم الأحرار في البسيطة كلها إلى أبد الأبدين؟!
تفاجؤوا جميعا، حتى بيدق الذي لطالما ظهرت عليه علامات الرصانة، علا التعجب محياه.
فقال الزبير: أتبادلونه الوفاء والمحبة؟! أتكونون له السد الحامي والحصن المنيع؟! أتعتبرونه الأخ والصديق؟!
لم يجرؤ أحدهم على الرد.
فنظر الزبير إلى بيدق، وقال: أجبني، يا بيدق.
ظل بيدق ينظر في الأرض وقال: يا مولاي، نحن نحبك وأوفياء لك ولجدك وأخيك الراحلين منذ القدم. وإذا حررتنا فستمتلك قلوبنا وأفئدتنا إلى الأبد، سنحبك أكثر من آبائنا وأبنائنا...
هذا الكلام ليس نفاقا، وأنت تعلم أني لم أنافق - حتى سيدي - طيلة عمري، هذا كلام ينبع من قلب صادق.
ابتسم الزبير وقال: لك ذلك، يا أخي بيدق. ولكم ذلك، يا قومي الأعزاء. من اليوم إلى أبد الآبدين أنتم عتقاء، وأنتم أحرار، مثل أحدكم كمثل أي رجل من الأسد، بل مثل أحدكم مني كمثل ابن
أخي سهيل مني. من يقطع يد أحدكم، قطعت يده، ومن قتل واحدكم، فلن أهدأ حتى أقتله، ومن شتم أحدكم أو أهانه فكأنه شتمني أو أهانني.
في هذه الأثناء علت علامات السرور والفرحة وجوه الحاضرين ونظروا جميعا بإجلال إلى الزبير، مما ملأ قلبه بالسرور، وأكمل: أنتم أحرار دون أي مقابل، بإمكان واحدكم أن يغادر الآن،
ولن أسأل أين ذهب وماذا فعل.
لكن لي طلب، من أخ لكم، سأؤسس فرقة لن ينضم إليهم إلا أفراد منكم. هذه الفرقة ستكون مهمتها حمايتي وحراستي، إضافة لمهام خاصة وصعبة لا يمكن أن ينجزها إلا عظماء أمثالكم.
فمن انضم إليها، قربته إلي ومنحته المال مقابل مهامه.
أطلب منكم – إخوتي – أن تنضموا إليها، ولكم الحق أن ترفضوا أو توافقوا.
ومن اليوم كلكم أحرار، ولستم وحدكم في ذلك، كل العبيد في قبائل الكثبة – بمن في ذلك النساء والأطفال والمسنون – أحرار إلى يوم القيامة. وفرقتي هذه سأسمح للعبيد من سائر
قبائل الكثبة أن ينضموا إليها إذا وافقوا على ذلك.
رفع بيدق يده، وحركها وهو يهتف صارخا: يحيا الزبير... يحيا الزبير... يحيا الزبير...
وشرع كل العبيد يهتفون ويصرخون بالعبارة ذاتها وبعبارات أخرى مشابهة تبجل أعظم رجال الكثبة.
ابتسم الزبير ابتسامة واسعة، واتجه إلى بيدق واحتضنه، وفي هذه الأثناء تجمع العبيد حوله وعلى مقربة منه، ثم أخذ يحتضن بقية العبيد، وتحول المشهد من اجتماع بين سيد وعبيد، إلى عرس بين أهل!
لاحقا أسس الزبير الفرقة، وعين بيدقا قائدا لها، وانضم لها كل عبيد الأسد من الرجال بلا استثناء، وانضم إليها الغالبية العظمى من عبيد الكثبة الرجال، في حين اختارت قلة قليلة لا تذكر خيار
عدم الانضمام، ولم يحاسبهم الزبير تنفيذا لوعده. وجعلهم الزبير يلبسون لباسا تكون في معظمه من اللون الأسود بما في ذلك العمائم السوداء، والأحذية الجلدية طويلة العنق السوداء،
وتخلل لباسهم الموحد اللون الأبيض. وللمفاجأة في كل قتال لاحق، لبس الزبير لباسا مختلفا لكنه يشابه لباسهم في أنه في معظمه باللون الأسود ويتخلله اللون الأبيض. وأينما ذهب،
وطيلة الوقت لحقه حراس منهم لحمايته. ومنذ يوم تأسيسها، أمر الزبير بأن يتدرب أفرادها أقسى تدريب وأشد تدريب على القتال، وأمر بتعويد أفرادها على النظام وتنفيذ الأوامر
بطاعة والأهم بدقة متناهية، ولم يمر يوم على أفرادها دون تدريب مجهد مضنك، لكن ذلك – على عكس ما قد يتوقعه البعض- أفرح قلوبهم؛ لأنه أمر حبيبهم وأخيهم الزبير!
بالتأكيد أن ذلك لم يعجب كثيرين من الأسياد الذين امتلكوا العبيد قبل تحريرهم، وهذا صحيح. لكن الزبير عندما يأمر أحدا من أهل الكثبة بشيء فأمره ينفذ فورا ودون نقاش،
وإلا فإن سيفه – الذي لا يصد – سيكون الرد.
لاحقا باتت تعرف هذه الفرقة بفرقة "الزنوج"، ومع مرور الأيام والسنين اقتنع جل الناس أنها تضم أقوى مقاتلي البقاء وما حولها على الإطلاق.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي