8

في المعتزة عاصمة مملكة البقاء، في قصر الضيغم، حيث أقام آل الضياغم حكام المملكة، أرسل الملك هزبر في طلب ابن أخيه الأمير قصي.
لبى الأمير طلب عمه الملك، وحضر إلى حيث دعاه، وهي غرفة جلوس مليئة بالآرائك المصنوعة من الخشب الثمين المزخرف ببراعة، وفي الأسفل سجاد هو الأثمن في كل البلاد، وكانت الغرفة مليئة
بالأعمدة البنفسجية المزخرفة بحرفية وفن جميل، ومفتوحة على الخارج إذ أطلت على باحة القصر. وقد بنيت أرضية القصر وجدرانه وحيطانه من الرخام البنفسجي الفاخر المزخرف. وانتشرت في الغرفة وسائر القصر جرار فخارية كبيرة طويلة، يزينها الذهب والفضة والألماس. وانتشرت في الغرفة وسائر غرف القصر الأثاث والتحف الثمينون، وعلقت على الحائط السيوف ذات المقابض والأغماد الذهبية والفضية. كما استشرت في القصر برك الماء الصافي، وامتازت بالتصميم الجميل الذي يسر الألباب، واعتنى بملئها بالماء وبتنظيفها خدم القصر أيما اعتناء.
لما رأى الحارسان على باب الغرفة، الأمير، أفسحا له المجال، فدخل على الملك، وقال: مرحبا بجلالة الملك.
الأمير قصي كان ذا أربعين عاما، وامتلك جسدا قويا ذا عضلات مفتولة، وكان متوسط الطول، ذا شعر أسود كثيف ولحية وشارب أسودين.
وقد لبس الحارسان زي مقاتلي جنود البقاء، المتكون في معظمه من اللون البنفسجي ويتخلله اللون الأسود. أما علم البقاء، فقد تألف من رأس أسد أسود يزأر وينظر إلى اليمين، والأسد يرمز لآل الضياغم، وأحاط بالرأس الأسود اللون البنفسجي.
اعتدل الملك من اتكائته على الأريكة حالما رأى الأمير، وقال: أهلا، بابن أخي. كم مرة أخبرتك أن تناديني عمي عندما نكون وحدنا؟ "جلالة الملك" هذه أمام الآخرين لا سيما الغرباء، أما نحن فعائلة
واحدة.
"اعذرني، يا مولاي" رد الأمير، وأضاف: ولكنني لا أستطيع أن أخاطبك بلفظ لا يليق بك.
ضحك هزبر، وبينما الملك يمسك رأس الضيغم، طلب من ابن أخيه الجلوس، فجلس على أريكة أخرى.
ورأس الضيغم هذا هو عصا، طرفها العلوي على شكل رأس أسد مصنوع من الذهب الخالص، ويتصل به من الأسفل عمود أسود اللون. وهذه العصا كانت دوما مع ملك البقاء، وترمز لملوك الضياغم،
وعندما يموت ملك يستلمها الملك الجديد.
جعل الملك يشرب من كأس فضية أخذها من الطاولة التي أمامه، بينما أسرع أحد الخدم الثلاثة الواقفين لصب العصير في كأس فضية أخرى فضيفها للأمير.
جعل الأمير يشرب، بينما سأله الملك عن زوجته وأولاده، فرد الأمير بأنهم بخير.
بعدها قال الملك: كما تعلم، لقد حل الربيع، وكعادتنا في كل ربيع نتجه والعائلة لنخيم في غابات الراشد، ونستمتع بخضرة الربيع، وبالصيد والشواء والهواء العليل. سنخيم عدة أسابيع هناك، وسأصحب
زوجتي وأولادي، وأخي عماراً وعائلته، وإخوتك وعائلاتهم. وسأتركك هنا في المعتزة لتحكم البلاد وتديرها.
غابات الراشد هذه وقعت في أقصى شرق مملكة البقاء على مسافة ليست بعيدة من حدودها مع مملكة ياقوتة.
قبل استلام الملك هزبر الحكم، كان أبو الأمير قصي الملك المثنى هو ملك البقاء. وقد قاد الملك المثنى بنفسه حربا ضروسا ضد مجموعة من القبائل تسمى البُرَّد، سكنت في الشمال الشرقي من البقاء،
وأرادت الانفصال عن البقاء. وقد دُعِمَت بفائض من المال والعتاد وحتى بعدد لا بأس به من الجنود من حكام مملكة ياقوتة الذين أنكروا بالطبع كل هذا الدعم، لكن الجميع علم بوجوده، وقد حثهم ملك
ياقوتة على الانفصال. ومع هذا الدعم امتاز البرد بقوة لا بأس بها. وقد قُتل الملك المثنى خلال حربه معهم. ولأن قوانين مملكة البقاء تنص على أنه عند موت الملك يخلفه أكبر إخوته لا أكبر أبنائه،
أصبح الملك هزبر الملك الجديد للمملكة، وثأرا لمقتل أخيه سخر كل قوته لمحاربة البرد حتى هزمهم وأذلهم وأجبرهم على البقاء خاضعين لحكمه.
قرر الملك هزبر، بعد مقتل أخيه الملك المثنى، أن يعين ابن المثنى قصيا الوزير الأول في المملكة؛ وذلك تكريما له ومواساةً بسبب حزنه الشديد على مقتل أبيه.
وقد تعمد هزبر منذ استلامه الملك، أنه إذا غادر المعتزة لأي سبب، أن يوكل قصيا مهمة إدارة المملكة كلها؛ وذلك لإكسابه الثقة بالنفس والخبرة.
فرح الأمير قصي بقرار عمه، وقال مبتسما: شكرا، يا مولاي، على ثقتك بي.
قال الملك: هذه المرة أريد أن أصحب زوجتك وأبناءك معنا، فما قولك؟
فأجاب الأمير: أرجوك، يا مولاي، دعهم يبقون معي، فأنا لا أطيق فراقهم.
وقد كان أحب أولاد قصي عليه هو الأمير ريان الذي بلغ من العمر – آنذاك- ثلاثة عشر عاما.
فرد الملك: يا قصي، لماذا تخاف عليهم كل هذا الخوف؟! دعهم يأتوا معنا ويستمتعوا بالرحلة.
قال قصي: يا مولاي، هم أعزاء على قلبي، ومع رحيلكم جميعا، لن يبقى أحد يواسيني سواهم، فأرجو أن توافق على بقائهم.
رد الملك: كما تشاء... كما تشاء.
***
اتجه الملك هزبر إلى غابات الراشد مصطحبا معه زوجته وأولاده وولي عهده وأخيه الأمير عمارا وعائلته وإخوة قصي وعائلاتهم. وقد صحبه كذلك عدد كبير من الحرس وعدد من خادمات
العائلة الملكية.

وقد خطط الملك لأن يبقى هو ومن معه هنالك لأسابيع كما اعتادوا أن يفعلوا كل ربيع.
أقام الملك ومن معه هناك في الغابات شديدة الخضرة الدهماء حيث أحاطت بهم الأشجار الباسقة شديدة الخضرة كثيرة الأوراق، وأحاط بهم العشب شديد الخضرة من كل اتجاه. وقد وُجد في
الغابات عدد من البرك المليئة بالمياه، وعج المكان بالحيوانات صغيرها وكبيرها وبالطيور التي استمتع الملك ومن معه بألحان زقزقتها البديعة. اتسم المكان بالروعة البديعة التي سرت قلوبهم جميعا.
ومنذ اليوم الأول اتجه الملك وكبار السن من رجال عائلته للصيد، بينما ظلت النساء والأطفال والخادمات في مكان معين يتحادثون. وقد انقسم الحرس قسمين قسما صحب الملك والرجال
وقسما ظل مع النسوة والأطفال والخادمات. ولما حل المساء عاد الملك والرجال ومعهم الكثير من الحيوانات والطيور التي اصطادوها، ثم شووا ما اصطادوه وتناول الجميع رجالا ونساء
وأطفالا وحتى الحرس من الطعام المشوي إضافة إلى ما أعدته نساء العائلة والخادمات من طعام مما جلبوه معهم من المعتزة.
وهكذا تكررت الأمور نفسها كل يوم، حيث شعر الجميع بسعادة بالغة وسط هذه الجنة الخلابة، ومع هذا الصيد المشوي اللذيذ وبوجود أفراد العائلة من أصغرهم إلى أكبرهم.
مرت تسعة أيام على قدوم الملك ومن معه إلى الغابات، وفي الفجر كان الملك وأفراد عائلته جميعهم والخدم نائمين، بينما استيقظ عدد كبير من الحرس وتكفلوا بحراسة الملك وعائلته.
كان الحرس قد غرسوا عددا من الأعمدة الحديدية السوداء في الأرض، حيث حمل كل عمود منها في أعلاه قنديلا أضاءه الحرس لكي يتمكن الجميع من رؤية بعضهم ليلا.
ورغم ذلك كان الضوء المنبعث منها ضعيفا لا ينغص على الملك وعائلته نومهم.
بدأ بعض الحرس المستيقظين يسمعون أصوات خيول تصهل وتسير بسرعة عالية، وحسبوا أنه ربما قد أتى أناس من الشعب للتخييم في الغابة. وفجأة زاد صوت الخيول ارتفاعا،
حتى رأى الحرس عددا من الفرسان يتجهون نحو مكان تخييم الملك ومن معه. اتجه أحدهم بسرعة وأيقظ الحرس النائمين وأيقظ الملك وظل خمسة حرس حول الملك وحده،
واستل الجميع سيوفهم حتى الملك.
"ماذا هنالك؟!" صرخ الملك.
فأجاب قائد الحرس الذي قرر البقاء بجوار ملكه: يبدو أننا نتعرض لهجوم يا مولاي.
في هذه الأثناء هاجم الفرسان الحرس، وكان عددهم يقرب الأربعمائة مقاتل بينما عدد حراس الملك لا يتجاوز الخمسين.
جعل المهاجمون والحرس يتقاتلون، وقتل المهاجمون الحرس واحدا واحدا ولم يخسروا أي مقاتل بسبب الفرق الهائل في العدد بين الطرفين.
مع مرور الوقت، كان كل من مع الملك قد استيقظ، وقد استل الملك وكبار السن من الرجال سيوفهم في حين تجمعت النسوة والأطفال والخدم معا وأحاط بهم الحرس من كل اتجاه.
اقترب المهاجمون من حيث الملك ومن معه كثيرا.
صرخ الملك: علينا أن نقاتلهم، لن نظل واقفين.
فاندفع ليقاتل المهاجمين واندفع معه أخوه والكبار من أبنائهما وسائر عائلته وكبار الحرس الذين دب الارتباك فيهم.
جعل الملك الذي اتسم بقوة شديدة يقاتل المهاجمين، وقتل ثلاثة منهم، وجعل أخوه وأبناؤهما يقاتلون كذلك. وفجأة شق أحد المهاجمين صدر أخيه ولي العهد، ثم قتل المهاجمون
في لمح البصر جميع أولاد الملك. نظر الملك بحسرة وألم مهول، فصرخ بأعلى صوته: لاااااااااا.
كانت تلك أسوأ لحظات حياته، وشعر أن المُلْكَ جلب عليه لعنة أبدية.
وبينما هو في حاله هذا، مر أحد المهاجمين خلفه وهو على فرسه، فضرب ظهر الملك بسيفه، فسقط قتيلا وهو مصدوم.
بعدها قتل المهاجمون كل من تبقى من رجال عائلة الملك ومن الحرس الذين معه وأهله.
حاول الحرس المحيطون بالنسوة والأطفال والخدم أن يهربوا بهم بعيدا، بينما قاتل الملك ورجاله المهاجمين، لكن العدد الهائل من المهاجمين لحق بهم، وقتل جميع النسوة
والأطفال دون رحمة ولا رأفة. وقتلوا كذلك جميع الحرس الذين معهم.
المفاجأة هي أن هؤلاء المهاجمين لم يكونوا لصوصا أو قطاع طرق أو أناسا لهم ثأر مع الملك أو أحد أفراد عائلته، بل هم جنود مملكة ياقوتة.
لقد كان الوقت ليلا، ولم يستطع الملك هزبر وجنوده تمييز لباس من يهاجمونهم. وقد لبس مقاتلو ياقوتة زيهم المعروف عنهم الأبيض في معظمه، وتخلله زخرفات باللون البرتقالي المائل إلى الأحمر.
وعلم مملكة ياقوتة، يتألف من ياقوتة حمراءَ يحيط بها اللون الأبيض. وأما قصر الملك خلدون ملك ياقوتة، فبني من حجارة برتقالية جميلة المنظر تميل إلى الحمرة.
والملك خلدون هذا خطط للإجهاز على مملكة البقاء واحتلالها، وأول خطوة في مخططه هي اغتيال الملك هزبر وكل عائلته. انتظر خلدون سنوات لتنفيذ هذه الخطة بصبر عظيم
. وقد بث العيون في جميع أنحاء مملكة البقاء والمعتزة حتى بات له عيون في قصر الملك هزبر نفسه.
ومن خلال عيونه علم أن الملك هزبرا وكل عائلته يتجهون كل ربيع إلى غابات الراشد ويخيمون هنالك أسابيع بغية الصيد والاستمتاع. ويا لها من فرصة ذهبية للتخلص من ملك البقاء وكل آل الضياغم حتى لا يخلف أحد منهم هزبرا في الحكم، لا سيما أن غابات الراشد قريبة جدا من حدود البقاء مع ياقوتة! أمر الملك خلدون يتجهيز قوة ضخمة من أربعمئة مقاتل، ثم وضع لهم خطة بأن يغيروا فجأة على العدد البسيط من جنود مملكة البقاء على نقطة حدودية غير مهمة بين المملكتين، ثم أن يتوجهوا إلى غابات الراشد التي بعدت أقل من مسير يوم واحد عن الحدود وأن يقتلوا الملك وكل من معه. وقد طلب منهم أن يغيروا فجرا على الملك وآله؛ لأن ذلك أفضل وقت لمباغتة أي امرئ.
بعد ارتكاب جنود ياقوتة المجزرة بالملك هزبر ومن معه، مثلوا في جميع القتلى، حتى النساء والأطفال، بلا أي رحمة أو هوادة. فقد أراد الملك خلدون من التمثيل بث الرعب فيمن تبقى من آل الضياغم
وفي أهل البقاء أجمعين.
***
الملك خلدون أرسل ثلث جيشه إلى غرب مملكته قرب منطقة معينة من البقاء، إذ حشر الملك كل جنوده على امتداد الحدود بالقرب منها. وجمعه كل هذا العدد المهول من جيشه لم يشكل مخاطرة؛
فحدود مملكته الآخرى كانت كلها مؤمنة لتحالفه مع ملوك الممالك الأخرى التي تحده.
وقد عسكر سدس جيش البقاء في تلك المنطقة على الحدود مع ياقوتة.
وفي الوقت نفسه للمجزرة ضد ملك البقاء، جعلت مجانيق كثيرة حشدها الملك خلدون تطلق الحجارة الضخمة على معسكر جيش البقاء، كما جعل رماة جيش ياقوتة يطلقون السهام المشتعلة بالنار عليهم.
كل هذا حدث بغتة وغدرا، وبينما كان معظم جنود البقاء يغطون بنوم عميق.
سقطت الحجارة الضخمة عليهم فقتلت من قتلت وجرحت من جرحت وهشمت الرؤوس وأجزاء الجسد المختلفة، ودبت النار التي صاحبت السهام التي أطلقها جنود ياقوتة في معسكر البقاء وأخذت
تحرق الخيام، وأحرقت عددا من الجنود الذين لم يتنبهوا لما يحدث.
دب الرعب والخوف في جنود البقاء، وأنشؤوا يفرون في كل مكان، واتجه بعضهم باتجاه الحدود مع مملكة ياقوتة، فوجودوا جنودها المتأهبين الذين شربت سيوفهم وسهامهم من دمائهم.
استمرت حصد أرواح جنود البقاء، وبعد مدة، بعد أن انتشر الدمار والنيران في معسكر البقاء، أغار ثلث جيش ياقوتة على المعسكر، ووسط الخيام التي اشتعلت بالنيران، وجدوا جنود البقاء
هائجين مرتبكين يتجهون في كل حدب وصوب. ولأن جنود ياقوتة أكثر عددا ومستعدون للمعركة على العكس من جنود البقاء، تمكنوا من قتل كل من يرونه منهم، حتى إنهم قتلوا الجرحى وجعلوا سنابك خيولهم تدوس رؤوس الجرحى الملقين على الأرض وتسحقها وتفجرها دون رحمة. هذا تضمنته خطة الملك خلدون الذي شدد على قائد جيشه ضرورة قتل كل جريح؛ لأنه أراد أن يتناقل أهل البقاء
فيما بعد وحشية جيش ياقوتة فيدب فيهم الرعب والخوف.
انقسم جيش ياقوتة إلى قسمين، قسم بقى في معسكر جيش البقاء يقتّل من تبقى من جنوده، وقسم آخر أكبر انقسم إلى عدة أجزاء ذهبت في اتجاهات مختلفة بحثا عن الهاربين من جنود البقاء.
وظلوا يلاحقونهم طيلة يومين، ويقتّلون بهم، حتى لم يتبق من جنود البقاء سواء في معسكرهم أو من الهاربين سوى قلة قليلة تكاد لا تذكر.
تعمد الملك خلدون إعلان نبأ اغتياله للملك هزبر وآله في مجزرة شنيعة وما تبعها من تمثيل في جثثهم، لبث الرعب في قلوب من ظل من آل الضياغم وكذلك في أهل البقاء.
تناقل أهل ياقوتة الخبر كأنه يطير مع الريح السريعة، حتى وصل إلى الأمير قصي.
إذ كان يجلس في إحدى قاعات القصر في المعتزة، حيث وقف على بابها حارسان، وانتشر فيها الحرس.
دخل حاجب القصر على الأمير وحياه فرد عليه التحية.
ثم قال الحاجب مرتجفا بصوت متقطع: مولاي... لدي... نبأ... سيئ للغاية.
"ما هو؟" قال الأمير بتركيز.
فرد الحاجب: إنه أمر جلل، يا مولاي... وأرجو أن تتهيأ له... فهو ليس بالهين.
"قل، يا رجل" قال الأمير الذي بدأ يرتبك.
فقال الحاجب: مولاي، الملك خلدون الغادر... اغ... اغتال الملك... هزبر.
فزع الأمير وتسارعت دقات قلبه، وسأل على فوره: وماذا حدث لبقية العائلة؟
فرد الحاجب: اغ... اغتالهم جميعا وتعمد التثميل في جثثهم.
قالها بسرعة ليتخلص من الحمل الثقيل الذي على صدره.
حالما سمع الأمير ما سمعه، اجتاحه الحزن والفزع بسرعة كالبرق، فانهار وغدا في وضع مزر للغاية. أغمض عينيه ووضع كفيه على وجهه وأنزل رأسه باتجاه الأرض.
بعدها جعل يبكي البكاء المر الشديد، حتى إنه منظره أثار شفقة الحاجب وجميع الحرس في القاعة وطفقت الدموع تنزل من عيونهم.
استمر الأمير بالبكاء المر؛ فهذا أصعب ما حدث بحياته. تمنى في تلك اللحظة الموت، فالحياة بعد ما حدث أثقل من الجبال الشاهقة.
ظل يبكي كطفل صغير، يتمنى فراق الحياة ليرتاح، لأيام كثيرة. لكنه في النهاية قرر أن يتماسك؛ صونا لمصلحة البقاء ولمصلحة زوجته وأبنائه.
بعدها أتى قائد جيش البقاء ((الهيثم)) إلى الأمير قصي. فحالما علم الهيثم بنبإ مجزرة العائلة المالكة وفناء سدس الجيش، توجه فورا باتجاه المعتزة على رأس عدد قليل من الجنود؛ ليتمكن بسرعة
من الوصول إلى الأمير قصي.
فلما وصل دخل على الأمير الموجوع، وسلم عليه فرد الأمير السلام.
كان الهيثم ذا بنية قوية جدا عريض المنكبين مفتول العضلات، ذا قسمات وجه حادة، وذا شعر أسود كثيف غطى رأسه ووجهه. وكان كأنه شمس تنبعث منها أشعة الثقة والطمأنينة لمن يحبهم
ويحرص عليهم.
قال الهيثم: مولاي، أنت وحدك من تبقى حيا من حفدة جدك الملك رائف وأبنائه، ويجب أن نبايعك فورا ملكا على البلاد.
تنهد الملك المتوجع وجعل ينظر بحزن إلى الأرض، وهو جالس على الكرسي الكبير آخر القاعة.
اقترب الهيثم بسرعة من قصي، ووضع يديه على كتفي الأمير، وقال: مولاي، ما حدث صعب... عظيم... لا يصدق... ولا يحتمل... منذ علمت بما حدث وأنا أبكي خفية عن الجنود... لكن علينا أن نتماسك وأنت عليك أن تتماسك... حتى تنقذ البقاء... وتنتقم لملكها وآله.
أومأ الأمير الحزين موافقا برأسه.
فقال الهيثم: بعد مبايعتك ملكا، عليك أن ترحل على الفور من المعتزة.
نظر الأمير مستغربا إلى الهيثم وكأنه يسأله بنظراته، "لماذا؟!"
فقال الهيثم: جيش ياقوتة يزحف من الشرق، وجيش الهيجاء يزحف من الغرب، ويجب أن تذهب إلى مكان في المنتصف تماما بين المملكتين الغادرتين؛ فذلك هو آمن مكان. ومدينة
الفريدة هي آمن مكان لك. عليك أن تظل هناك إلى...
تنهد ثم أكمل: إلى أن تستقر الأمور.
قال الجملة الأخيرة بمرارة؛ لأنه علم أن هنالك احتمالا كبيرا ألا تستقر أبدا.
ثم أضاف الهيثم: حياتك أهم شيء الآن، إذا حدث لك شيء فسينتهي كل شيء، ستضيع البقاء إلى الأبد. أنت البقاء... عليك أن تفهم هذا جيدا... أنت البقاء.
نظر الأمير بإمعان إلى القائد الذي أكمل: مولاي، أهم شيء أن تظل محاطا بحرسك... وألا تثق بأي كان، حتى أقرب المقربين إليك، لا تثق إلا بنفسك. وتذكر أن ملوك ياقوتة وملوك
الهيجاء ذئاب... وإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب.
أومأ الأمير برأسه موافقا على كل كلمات القائد الخبير القوي، الذي وثق الجميع بقوته وحنكته ومنهم الأمير قصي.
بايع كبار المعتزة والقائد الهيثم الأمير قصيا ملكا لمملكة البقاء، وبعدها بدأ بتنفيذ تعليمات القائد، فرحل مع زوجه وأولاده غربا إلى الفريدة.
***
في الوقت نفسه انقض جيش ياقوتة من الشرق وجيش الهيجاء من الغرب على أراضي مملكة البقاء، وجعلوا يحتلونها شبرا تلو شبر، ويقتلون كل من يواجهونه من جنود ومقاتلين
. فقد اتفق الملك خلدون ملك ياقوتة مع ملك الهيجاء على كل هذا منذ سنوات بعيدة، وحين حانت اللحظة المناسبة انقضا على عدوهما.
واستمر جيشا المملكتين بالزحف من الشرق ومن الغرب، حتى خسر جيش البقاء ما يقرب نصفه في المعارك.
أحس قائد الجيش الهيثم أنه بدأ يفقد كل شيء، وأن الأمور باتت تزداد صعوبة كلما مر الوقت، لذا قرر أمرا هاما وهو أن يسحب كل جنود البقاء من الجزء الغربي منها، وأن يضمهم للجزء الرئيس
من الجيش وأن يسخرهم جميعا لقتال ياقوتة دون قتال الهيجاء. لقد أدرك أنه لا يستطيع مقاومة هذين الطرفين في الآن ذاته، وإذا ظل يقاتل على الجبهتين فسيخسر بسهولة. كما أنه أيقن
أن أهل الغرب سيوقفون زحف جيش الهيجاء، وأنه سيواجه صعوبة بالغة، لا سيما من قبل بدو الكثبة الذين سكنوا صحراء يستحيل حتى على الجن أن يحتلوها.
منذ اغتيال الملك هزبر، والغارة على معسكر البقاء في الشرق، لم يبق سوى نصف جيش البقاء. لذا حشد القائد الهيثم هذا النصف الذي لم يعد يملك غيره شرق العاصمة المعتزة في انتظار جيش ياقوتة.
القائد الهيثم – رغم قوته الهائلة وشدة بأسه – اتسم بالواقعية. لقد أحس أنه جيشه سينهزم في المعركة القادمة، وأدرك في قرارة نفسه أن كل شيء انتهى. لذا قرر أن يطلب من الملك قصي الرحيل
من مدينة الفريدة إلى مكان آمن. فكتب له رسالة وقلبه يعتصر من الألم، كتبها بمداد الحزن والأسى، وأرسلها مع رسول إلى الملك.
استقبل الملك قصي الرسول في أكبر قاعات قصره في مدينة الفريدة، إذ كان يجلس على كرسي جليل في آخر القاعة.
حيا الرسول الملك، فرد عليه التحية، ثم أخبره أنه يحمل رسالة من القائد الهيثم.
فك الملك الرسالة، وجعل يقرؤها:
" مولاي الملك قصي، حفظك الله،
السلام عليك وعلى أهلك جميعا.
أرجو أن تكون قد تجاوزت ما حدث لأهلك الراحلين – رحمهم الله -. أعلم أن تجاوز هذا صعب للغاية، وقد يحتاج لسنوات طويلة، وربما لا يحدث أبدا؛ فأنا – نفسي – لم أستطع أن أتجاوز الألم.
لكن – يا مولاي – الحياة علمتني أن علينا أن نستمر، أن تنتفس ونمشي ونأكل ونحارب ونحمي أحباءنا وأنفسنا رغم ما يحتل قلبنا من ألم عظيم، لذا – يا مولاي – أرجو أن تتماسك؛ لأننا – أهلَ البقاء – بحاجة إليك، بحاجة أن تظل، فأنت الآن تمثل البقاء.
مولاي، أرسل إليك هذه الرسالة، لأعلمك أن وضعنا صعب للغاية، فمع انقضاض الغدارَينِ علينا من الجهتين، باتت المسألة معقدة للغاية. لا يوجد إنسان في العالم يستطيع الجزم بما سيحدث في المستقبل، لكن بإمكان المرء أن يتوقع ما قد يحدث. من خلال خبرتي طيلة هذه السنوات جنديا في الجيش ثم قائدا له، أرى أن فرصنا في المعركة القادمة ضئيلة جدا. لكنني مصر على القتال حتى أوقع أكبر
خسارة بجيش ياقوتة، ثم لتكمل أنت المسيرة يوما ما، إذا تمكنت من ذلك، وقلبي يخبرني أنك ستتمكن من ذلك.
ولكي تكمل المسيرة عليك أن تظل بآمان، عليك أن تعيش. مكانك الحالي خَطِرٌ جدا عليك وعلى حياتك، فإذا هزمنا في المعركة القادمة، فلن يتوانى جيشا عدوينا في الزحف إلى الفريدة، ومحاولة قتلك،
وبالتالي قتل من تبقى من آل الضياغم، وقتل البقاء. لذا – يا مولاي – أنصحك بكل ذرة من ذرات قلبي، أن تهاجر غربا إلى جبال اليُبْسِ، فهي منطقة وعرة جدا لا يعرفها إلا أهل البقاء،
وهي آمن مكان لك، وحتى لو عرف عدوانا أنك هناك، فلن يسهل عليهما إيجادك واغتيالك.
أتمنى – يا مولاي – أن تطبق النصيحة التي غالبا هي الأخيرة لي.

خادمك المطيع،
الهيثم."

تنهد الملك بعمق، وزادت أوجاعه، لليأس والحزن اللذينِ رآهما ينبعثان من رسالة القائد.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي