11

من بين كل أهل البقاء، لم يكن الملك الهارب الأكثر حقدا على ملكي ياقوتة والهيجاء، على الرغم من أن ما حمله تجاههما كان أوسع من البحار، وأكثر امتدادا من السماء. أكثر أهل البقاء حقدا على الملكين الغادرين كان ابنه الأمير رياناً. تخيل أن تعيش في أقصى درجات الرغد والرفاه، وأن تكون في ثلاث ممالك شاسعة تتمتع برغد ورفاه ليس لأحد من أهل تلك الممالك ربعه حتى، وبعضهم لو وصفت
له هذا الرغد لما استطاع استيعابه. ثم فجأة وبين ليلة وضحاها، تخيل أن تنتقل لتعيش حياة قاطع طريق بين الجبال والوديان مع الذئاب والكلاب الضالة تتساءل كل لحظة: هل سيخطف أعدائى حياتي
عما قريب؟!
والمرء إذا ولد فقيرا يعاني ضنك الحياة وظل كذلك طيلة حياته، فذلك أهون من أن يولد غنيا في فيه ملعقة من ذهب، ثم يتحول بين ليلة وضحاها إلى فقير معدم.
كل هذا صدم الأمير ريانا صدمة كسرته من الداخل، وأثرت على شخصيته، فجعلته حقودا جدا متعطشا بشدة للانتقام، وقويا جدا، وكل هذا تضاعف مع تربية أبيه القاسية المهينة له.
ظل الأمير يقترح على أبيه الملك أن ينتقموا من أعدائهم وأن يحرروا البقاء من براثنهم، واقترح عليه عدة خطط، وألح على والده كثيرا بغية تنفيذها، لكنه لم يلق منه إلا أقسى توبيخ وأعند رفض.
أكثر مرة بلغ فيها النقاش حدته كانت ذات ظهيرة عندما دخل الأمير ذو السبعة عشر عاما على مجلس أبيه في الحجرة، إذ وجد فيها الملك والقائد جاسما وعددا كبيرا من حراس أبيه.
"السلام عليكم" قال الأمير الحاقد بعينيه الغاضبتين.
"وعليك السلام" رد الأب ثم تبعه القائد جاسم.
جلس الأمير وهو يتنفس بسرعة، وظل ملتزما الصمت، بينما اتضح لجميع من في الحجرة الغضب العارم الذي اجتاحه.
جعل يحدق في أبيه بحدة وبعينين ملؤهما الغضب.
تحادث الملك والقائد جاسم.
وبعد مدة، نظر الملك إلى ابنه، وقال: ما بالك؟! ولم التزمت الصمت مذ جلوسك؟! وما كل هذا الغضب الذي يعتريك؟!
وفي مفاجأة للجميع صرخ الأمير بأعلى صوته: ما بالي؟! أعداؤنا يقتلون عائلتنا ويحتلون أراضينا ويستبيحون شعبنا ونساءنا، ونحن هنا كالنساء نختبئ في الجبال!
عندها اتسعت عينا الملك واحمرتا غضبا ووقف من جلسته على عرشه، وجعل يلوح بيده للأمير ويقول: اخرس، أيها الولد الحقير... كيف تجرؤ أن تحادثني هكذا؟!... أنت مجرد صعلوك، فكيف
تحادث ملك البلاد كلها هكذا؟!
لطالما تعمد الملك القسوة على ابنه وتلك اللحظة لم تكن استثناء، كما أنه لم يكن ليقبل بأن تهز صورته على أنه الملك العظيم أمام أي أحد.
أصاب الجزع كل من في الحجرة حتى القائد جاسما، ولم يصدقوا جميعا ما حدث، فلما يمر عليهم من قبل مثل هذا الخلاف بين الملك وابنه.
نظر الأمير إلى الأرض وطأطأ رأسه وتعاظمت نيران غضبه وتسارعت أنفاسه أكثر وأكثر.
عندها قال الملك وهو واقف: غادروا جميعا الحجرة، واتركوني مع ريان وحدنا.
عندها نفذ جاسم وكل من في الحجرة أمر الملك.
وبعد أن غادروا، قال الملك بصوت منخفض لكنْ غاضب: إياك أن تحادثني بهذه النبرة مجددا... لا سيما إن كان معنا أحد.
لم يرد الأمير، بينما ظل الملك يرمقه بنظرات الغضب وبعد مدة جلس على عرشه.
انتظر مدة ليست بهينة، ثم قال بصوت هادئ: اهدأ قليلا... وأخبرني – وبهدوء – ما يسافر من أفكار في رأسك.
ظل الابن ينظر بغضب في الأرض وقال بهدوء وصوت منخفض: أبي، يجب أن نفعل شيئا... يجب أن ننتقم... يجب أن نحرر أرضنا... يجب أن نرجع ملوكا...
فقال الملك بهدوء: ولكننا لسنا مستعدين بعد، وليست لدينا خطة محكمة ننتصر من خلالها.
نظر الأمير إلى أبيه ورد فورا: ولكنني أخبرتك بكثير من الخطط وقد رفضتها كلها.
"لأنها كلها سيئة وغير منظمة" قال الملك.
فرد الأمير: خطتي الأخيرة محكمة جدا، وعلى الرغم من ذلك فقد رفضتها أيضا.
فقال الملك: أية خطة، يا ريان؟! أن نتجمع سرا مع عدد قليل من المقاتلين على حدود ياقوتة، وبعدها – بطريقة ما – سيعلم الناس بذلك ويلتحقون بنا لنقاتل جميعا ملك ياقوتة ونهزمه!
هذه – لعمري – أبأس خطة سمعت بها في حياتي كلها.
استاء الأمير كثيرا من كلمات والده، وكانت تلك ضربة جديدة من الضربات التي وجهها له والده وجرح بها كرامته.
"أنصت إلي جيدا، يا ريان" قال الأب ثم أكمل: أنا أدرك كم الغضب الذي تشعر به، فما مررتَ به ليس هينا... وربما لم يمر بمثله أحد من البشر سواك.
شعر الأمير بشجن عظيم، وهو يستمع إلى تلك الكلمات.
ثم أضاف الملك: لكنك شاب، ويحتلك طيش الشباب وغضبهم. أنا أكثر منك حكمة وخبرة وبفارق كبير، بسبب السنوات الكثيرة التي تفصل بيننا، وبسبب اختلاطي بالملوك والساسة أيام
إقامتنا في القصور... صدقني، أنا أعلم أكثر منك... نحن حاليا غير متهيئين لقتال أعدائنا.
تنهد ثم أضاف: ورغما عن هذا، فليرتح فؤادك، فأنا متيقن أنه ذات يوم سننتصر وسنحقق كل ما تصبو إليه... ربما يكون ذلك اليوم بعيدا، لا أعرف... ولا أعرف كيف سنحقق كل هذا، لكنني متأكد
أننا سنحققه.
لم يقتنع الأمير بكل هذا، وتعاظم الغضب أضعافا في صدره.
وظل الأمير في المستقبل يعرض الأمر على أبيه، وظل الأخير يرفض.
***
في اليوم التالي، دخلت الملكة رقية حجرة ابنها الأمير ريان، فوجدته جالسا على الكرسي فيها وهو في قمة الغضب.
"كيف حالك، يا بني؟" سألت الملكة وهي واقفة.
فأجاب ابنها بحدة وجفاف: بخير... كيف سأكون إذاً؟!
فقالت: لقد سمعت بما دار بينك وبين أبيك... هل أنت غاضب لهذا السبب؟
فوقف ريان غاضبا، وصرخ: نعم، غاضب لألف سبب، وهذا على رأسها... أبي لا يترك فرصة إلا ويهينني فيها... يعاملني كما لو أنني ابن خادم، لا على أنني أمير وولي عهد، وابن ملك... والذي يقهرني هو أنه يفعل كل هذا أمام الآخرين. أنا أكره طريقة تعامله معي منذ صغري.
فردت الأم: ريان، أنصت إلي جيدا... إن طريقة والدك قد تكون خاطئة، وقد حادثته بخصوصها مرارا وتكرارا... لكن لكل شيء مساوئ ومحاسن، ورغم مساوئ هذه الطريقة، فإن لها محاسن جمة... انظر إليك كيف أنت رجل قوي شجاع... لو دللك أبوك بعد كل المآسي التي حدثت لنا، لنتج لنا أمير ضعيف مكسور مدلل، لا يستطيع مواجهة الصعاب... الآن أنت بت رجلا كبيرا، وتعي كل هذا.
هدأ الأمير قليلا، ثم جلس على السرير، فجلست بجواره، ثم قال وهم يحكم قبضتي كفيه: أنا متعب، يا أمي... أتدرين ما معنى أن تولدي أميرة في قصر، ثم ينتهي بك الأمر شاردة في جبال
لا تسكنها إلا الضباع والكلاب... الموت أرحم... الموت أرحم بألف مرة... كل يوم... كل لحظة... أغمض عيني وأتخيل كيف كانت لتكون حياتي، لو لم تحدث الحرب المقيتة... أتخيل القصور والطعام والخدم والنساء وطاعة الناس وتملقهم... بدلا من هذا القرف الذي نعيش به... تبا لحظي... تبا له.
فوضعت الأم يدها على ظهر ابنها، ثم قالت بهدوء: نعم، أعرف معنى ذلك... وأكثر منك... فلقد وعيت كل ذلك الثراء والجاه، ثم حدث لي ما حدث... أما أنت فقد كنت صغيرا – آنئذ- ولم تعِ المرحلة جيدا.
تنهدت بحرقة، ثم أكملت: من الأشياء التي علمتني إياها الحياة، هي أن الله إذا ابتلى امرأ وهو صغير، فغالبا سيتيح له فرصة التعويض عندما يكبر... البقاء يستحيل أن تظل محتلة... وسيأتي يوم – لا محالة – ستتحرر فيه... وأنا أراك منذ الآن ملكا للبقاء ذات يوم... فهدئ من روعك.
أنصت الأمير لهذه الكلمات جيدا، وهو يحاول أن يقنع نفسه بها، رغم أنه أيقن مدى صعوبة أن يتحقق أي مما قالته أمه.
***
كان للأمير ريان، صديق غال على قلبه اسمه الأمير عماد، وهو ابن خالة ريان، ومن أفراد العائلة المالكة الذين لجؤوا إلى جبال اليبس، بعد الحرب المقيتة. وقد اعتاد عماد وريان على اللقاء دوما.
فأتى عماد لزيارة ريان، في الحجرة المخصصة للأخير في الجبال.
طرق عماد الباب.
فقال ريان بصوت غاضب: من هنالك؟
"أنا عماد" قال صديقه.
فقال الأمير بنبرة ملؤها التأمر – رغم أن عمادا صديقه وأمير-: تعال.
لقد تميز الأمير بثقة كبيرة في نفسه، ونظر إلى نفسه على أنه رجل عظيم جدا، لا سيما أنه في تلك اللحظات كان ولي عهد الملك الهارب، مما أثر على علاقته بالجميع، بمن في ذلك الأمراء، ما دعا الكثيرين لوصفه بالغرور.
دخل عماد الغرفة، فوجد ريانا يشتعل غضبا، وهو جالس على سريره، ويسند كوعه الأيمن إلى ركبته اليمنى، ويسند رأسه إلى كفه اليمنى.
جلس عماد على كرسي في الحجرة، وسأل: ما بالك غاضبا؟!
فانفجر ريان بغضب وعجرفة – غير مراع صداقته لعماد-: ما بالي؟! لقد سئمت من أبي... سئمت من كل هذا... يجب أن ننفذ خطة نحرر بها البقاء... سئمت من هذا الضعف وهذا الجبن، كأننا نساء
لا رجال.
فقال عماد: اهدأ، يا ريان... الوقت ليس مناسبا... وسيأتي يوم يحدث فيه كل ما تريده.
فرد ريان غاضبا: ومتى سيأتي هذا اليوم؟! بعد مئة عام عندما نكون عظاما رميمة في التراب! كم سنة صبرنا! وكم ذلا تحملنا!
"اهدأ، يا صديقي" قال عماد، وأضاف: عليك أن تصبر حتى تحين اللحظة المناسبة، فمن شرب البحر، بإمكانه شرب البحيرة... لا أعرف إن كانت البقاء ستتحرر يوما ما أم لا... سواء أحدث
ذلك أم لم يحدث، لا تحرق زهرة شبابك وأنت تنتظر أمرا هو من الغيب.
صمت ريان، والغضب يشع منه.
وبعد مدة قال بنبرة هادئة ملؤها الغضب والاشمئزاز: أبي سيصيبني بالجنون... يتعامل معي باحتقار، كأنني عبد حقير عنده، لا أمير وولي عهد... لقد سئمت منه، ومن توبيخه لي أمام الناس دوما.
فرد عماد: اهدأ، يا ريان. لا تجعل غضبك يوثر على عقلانيتك، وطريقة نظرك إلى الأمور. لا تنس أن هذا الذي تتحدث عنه هو ملك البقاء، وأعظم رجل فيها... وحتى لو لم يكن كذلك، لا تنس أنه أبوك، وعليك طاعته مهما حدث.
ظل الاثنان يتحادثان بينما حاول عماد تهدئة صديقه. في حين تساءل ريان، هل سيأتي اليوم الذي تتحرر فيه البقاء؟!
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي