12
*العام 476.
بعد استلام الزبير قيادة كل قبائل الكثبة، لم ينتظر كثيرا ليبدأ في تنفيذ خطته بتحرير البقاء وإعادتها مملكة مستقلة قوية. وتوجه إلى جبال اليبس، لتنفيذ أول خطوة في خطته
والتي كانت أصعب خطوة، وهي إيجاد الملك الهارب، ثم شرح الخطة له، والحصول على موافقته عليها. لقد عنى هذا الأمر مخاطرة كبيرة قد تهلكه، لكنه استعد لدفع حياته ثمنا لنجاح خطته.
حالما وصل الزبير المناطق المحيطة بجبال اليبس، نزل في نُزل هناك. وضع أغراضه في غرفته، وتناول قليلا من الطعام والشراب الذي أعده العاملون في النزل، ثم استراح قليلا.
بعدها توجه إلى صاحب النزل وسأله عن أشهر المطاعم والمقاهي وأكبرها في المناطق المحيطة بجبال اليبس، فأخبره صاحب النزل عن سبعة منها.
على الفور توجه الزبير إلى أحد المطاعم ثم دخلها. وُجِدَ هنالك مربعات كثيرة منتشرة في المكان، ومفصولة عن بعضها من خلال فواصل ضئيلة الارتفاع مبنية من الطوب، وفي كل مربع وُجِدَت أفرشة على الأرض، جلس عليها بعض الناس واتكأ عليها بعضهم الآخر، كما وجدت أفرشة تستند إلى الحيطان وإلى الفواصل بين المربعات، وقد أسند بعض الموجودين ظهورهم إليها. وفي نهاية المطعم
وجدت منصة جلس خلفها صاحب المطعم لاستقبال طلبات الحاضرين. هذا كان النمط الذي بنيت عليه معظم المطاعم والمقاهي في البقاء.
كان صوت الناس في المطعم وهم يتحادثون ويتضاحكون عاليا.
حالما دخل الزبير، جعل عدد من الرجال ينظرون إليه باحترام شديد، نتيجة للهيبة التي انبعثت من مظهره ونظراته.
توجه الزبير إلى المنصة حيث صاحب المطعم، وقال: مرحبا.
فرد صاحب المطعم: أهلا بك، سيدي.
ثم أضاف: ماذا تحب أن تتناول من الطعام والشراب؟
فرد الزبير: شكرا لك، أنا لم آتِ لذلك.
فسأل صاحب المطعم: فكيف لي أن أساعدك؟
وفجأة قال الزبير بصوت عال: أنا شيخ الكثبة بأكملها.
فأنصت الحاضرون جميعا بإمعان.
ثم أضاف: أنا أبحث عن الملك الهارب، فأين يمكن أن أجده؟
نظر الجميع بذهول وتعجب إليه، وتوتر المكان برمته.
"كيف يمكن لأحدهم أن يسأل مثل هذا السؤال، وأمام الجميع؟! ألا يعلم أن كل من أتى بحثا عن الملك الهارب لقي حتفه؟!" دارت هذه الأفكار في رؤوسهم.
لما رأى الزبير استغرابهم وأحس بالتوتر، أضاف بصوت عالٍ: أنا من محبيه، وأريد أن أساعده.
ازداد تعجب الحاضرين ودهشتهم، وازداد التوتر في المكان.
عندها صرخ صاحب المطعم بتشنج وبنبرة تهديد: اذهب من هنا قبل أن يؤذيك أحدهم.
على الرغم من أنه وجه إهانة للزبير، إلا أنه لم يرد عليه، لأنه أتى إلى جبال اليبس لمهمة محددة ليس من ضمنها الاقتتال مع أصحاب مطاعم.
التف الزبير وغادر المكان بينما رمقته عيون جميع الموجودين بمزيج من الدهشة والشعور بالهيبة تجاهه.
توجه بعدها مباشرة إلى مقهى آخر ودخله حتى وصل المنصة التي وقف خلفها صاحب المقهى، وقال بصوت عال كلاما مشابها لما قاله في المطعم السابق، وتكرر كل ما حدث من انتشار للدهشة والتوتر في المكان.
فكان رد صاحب المقهى بأن صرخ قائلا: لا أعرف أين تجده، وإياك أن تكرر هذا الحديث في أي من المناطق المحيطة بجبال اليبس.
من جديد لم يرد الزبير على صاحب المقهى ورحل عنه.
بعدها ظل يتوجه إلى سائر المطاعم والمقاهي التي أخبره عنها صاحب النزل الذي نزل فيه، وما انفك يكرر ما فعله في أول مطعم، بالسؤال بصوت عال عن الملك الهارب، والقول إنه يريد مساعدته،
وظل يتلقى ردودا مشابهة من أصحاب المقاهي والمطاعم.
لقد تعمد أن يسأل بصوت عال أمام الجميع عن الملك الهارب وأن يخبرهم بأنه يريد مساعدته، وذلك حتى ينتشر هذا بسرعة في المناطق المحيطة بجبال اليبس ثم في الجبال نفسها، فيسمع به الملك ويرسل من يحضره إليه. وقد توقع أن ينجح في خطته.
عاد الزبير إلى غرفته في النزل، وظل ينتظر أياما بفارغ الصبر، لعل الملك يكون قد سمع به وبما قاله ويرسل إليه أحدا من طرفه. لكن ذلك لم يحدث. عندها قرر الزبير أن يتخذ خطوة للأمام كان قد فكر بها مسبقا وهو في أرض قبيلته.
ترك سيفه وخنجره في غرفة النزل، وأخذ معها راية بيضاء، أحضرها معه من الكثبة.
ركب حصانه ومعه الراية البيضاء، واتجه إلى جبال اليبس. ثم بدأ صعود الجبال وهو يحمل الراية البيضاء، وهو لا يحمل أي سلاح.
الراية البيضاء في البقاء رمزت للاستسلام، أو أن من يرفعها لا يريد القتال أو المشاكل، وهذا ما أراد الزبير توجيهه لمن قد يراه من أفراد قوة حماية الملك الهارب الذين استوطنوا الجبال.
ظل يتوغل ثلاثة أيام صاعدا جبال اليبس، أمضاها بين النوم والصعود، وفي ظهيرة اليوم الرابع، وبينما هو يصعد أحد الجبال، أحاط به مقاتلون مسلحون من كل مكان، وجميعم وضعوا اللثام على
وجوههم.
بالطبع الزبير كان يرفع الراية البيضاء، وهذا ما جعل المقاتلين لا يهاجمونه مثلما يهاجمون أي غريب مقتحم للجبال.
وقد أدرك الزبير بذكائه أن هؤلاء أفراد من قوة حماية الملك الهارب، لما رأى كثرة الأسلحة التي يحملونها وأنهم يلبسون ملابسَ متشابهة، بيضاء في جلها، ولبسوا جميعا عمائم سوداء، وكانت
لُثُمهم جميعا سوداء.
حالما رآهم، رفع يديه إلى الأعلى بينما يحمل الراية البيضاء بإحديهما، ثم قال: أيها الفرسان، أنا أتيت هنا مسالما، ولا أحمل أي سلاح... أريد فقط أن أحادثكم.
عندها قال أحدهم وهو قائدهم: ألا تعرف أين أنت؟! هذه الجبال لا يدخلها إلا أهلها وأنت لست منهم.
ثم أضاف بنبرة قاسية ملؤها التهديد: ارحل من هنا ولا تعد أبدا وإلا ستفقد حياتك.
توقع القائد أن الكلام سيخيف الزبير، لكن المفاجأة احتلت صدر القائد وجنوده، عندما ابتسم الزبير ابتسامة ملؤها القوة والثقة بالنفس.
التف الجنود وعزموا على المغادرة، عندها قال الزبير: حسنٌ، سأرحل... لكن... أيها الفرسان، إن كنتم تعرفون الملك قصيا فأخبروه أن شيخ قبائل الكثبة يبحث عنه.
تفاجأ المقاتلون عندما سمعوا ذلك وجعلوا ينظر بعضهم إلى بعض.
ثم أضاف الزبير: أنا شيخ قبائل الكثبة التي لطالما والت الملوك الضياغم.... أنا صديق... ولست عدوا.
أنصت المقاتلون جيدا لهذه الكلمات، ثم بدؤوا بالرحيل، في حين اتجه الزبير بالاتجاه المعاكس عائدا إلى النزل وهو فرح مبتسم؛ لأنه شَعَرَ - بما يقارب اليقين - أن خطته بإيجاد الملك ستنجح
وأن الملك سيرسل أحدا من طرفه إلى الزبير.
***
بعد عدة أيام، وبينما الزبير جالس في غرفته في النزل، طرق الباب بقوة عدة مرات.
قام الزبير وفتحه، فوجد تسعة فرسان يتقدمهم فارس يتضح أنه قائدهم، وقد لبسوا ملابس تشبه ملابس المقاتلين الذين اعترضوا الزبير حينما صعد جبال اليبس، وقد كانوا جميعا ملثمين كذلك.
لكن أهم ما في الأمر أنهم جميعا كانوا يحملون سيوفهم بأيديهم، وقد تعمدوا ذلك، لإخافة الزبير وثنيه عن أية محاولة لقتالهم، لكنهم لم يعرفوا أن مثل هذه الأمور لا تؤثر به.
"انظر من النافذة" قال قائدهم للزبير بنبرة جادة قاسية.
اتجه الزبير إلى نافذة الغرفة التي أطلت على الشارع أسفل النزل، ونظر منها فوجد ستة فرسان آخرين ملثمين، يلبسون اللباس نفسه للمقاتلين الواقفين على باب غرفته.
ثم قال القائد الواقف بباب الزبير: لا تحاول القتال؛ فذلك ليس من صالحك.
نظر الزبير إليه بهدوء وقال بهدوء مماثل: حسنٌ، أنا أصلا لم آتِ من الكثبة إلى هنا للقتال.
ثم قال بلطف للقائد: تفضل، ويفضل أن تعيدوا سيوفكم إلى أغمادها، فلا داعي لها.
أومأ القائد للمقاتلين فأعادوا السيوف إلى أغمادها، ثم فعل هو الأمر نفسه. بعدها دخل وجلس على كرسي في الغرفة، ثم جلس الزبير على السرير.
"ماذا تريد من الملك قصي؟" قال القائد، ثم أضاف: ولم تبحث عنه؟
رد الزبير ببساطة واختصار وبرسالة واضحة: أنا شيخ قبائل الكثبة، وقد وضعت خطة لإعادة تحرير البقاء، وإعادة بناء المملكة وتنصيب الملك قصي ملكا عليها.
نظر القائد إلى مقاتليه باستغراب مما سمعه، ثم أعاد نظره إلى الزبير، في حين ظل المقاتلون يتبادلون نظرات التعجب فيما بينهم؛ فما قاله الزبير أمر عظيم شديد الصعوبة إلى الدرجة التي
قد يبدو فيها خياليا بل حتى من باب المزاح.
قال القائد: حسن، سنأتيك بعد أيام هنا برد الملك قصي.
فرح الزبير كثيرا؛ فالآن تأكد بأن الملك الهارب حقيقي وليس مجرد أسطورة كما أشاع البعض، ولأنه أخيرا سينجح في تنفيذ خطته التي أحكم تنظيم خطواتها منذ سنوات بعيدة.
قام القائد وخرج وأغلق باب الغرفة ورحل مع مقاتليه؛ بينما شرع الزبير ينتظر بفارغ الصبر رد الملك.
***
مرت ستة أيام، قبل عودة الفرسان الملثمين، إلى النزل. أمضى الزبير هذه المدة كأنه يقف على الجمر وهو ينتظر رد الملك، ورغم أنه كان متفائلا بموافقة الملك، إلا أنه امتلأ توقا ليسمع نبأ
الموافقة من مقاتلي قوة الحماية.
هذه المرة أتى القائد نفسه، ولكن معه ثلاثة مقاتلين آخرين فقط، فهو لم يعد يخشى أية حركة غادرة من الزبير.
طرق القائد الباب، فقام الزبير وفتحه بسرعة، ووجد الرجال الملثمين الأربعة، وتمكن من معرفة أن قائدهم هو نفسه الذي أتى المرة السابقة.
"أهلا وسهلا" قال الزبير.
ثم أضاف وهو يشير بيده إلى الداخل: تفضل.
فدخل القائد الملثم وجلس على الكرسي بينما جلس الزبير على السرير.
نظر القائد بعينيه الحادتين إلى الزبير لمدة ثم قال: لقد وافق الملك على مقابلتك.
ابتهج الزبير أشد ابتهاج وارتاح أخيرا؛ فأصعب خطوة في خطته الشائكة قد نجحت.
لم يمهل القائد الزبير كثيرا، فأضاف: لكن لدينا شرط.
الزبير استعد لتنفيذ أي أمر يطلبه الملك في سبيل لقائه؛ لذا رد بثقة: سأنفذه أيا كان.
فقال القائد: عليك أن تأتينا بأحد أقرب أقاربك، حيث سنحتجزه في مكان ما. إذا حدث شيء للملك بسببك، فسنقتل قريبك الذي نحتجزه دون رحمة، أما إذا غادرت جبال اليبس دون أن يحدث
أدنى مكروه للملك، فسيعود إليك قريبك سالما معافى بعد أن نكرم ضيافته لدينا.
حياة الملك الهارب أهم شأن في البقاء بل في الممالك الثلاث المتجاورة، وقد استغرق الحفاظ عليها سنين كثيرة؛ لذا اشترط أتباع الملك على الزبير هذا الأمر.
حالما سمع الزبير كلام القائد، لاح في مخيلته صورة أعز الناس على قلبه، ابن أخيه سهيل.
فكر الزبير لثوان معدودات، ثم رد بثقة تامة: حسن، لك ما تريد.
وقف القائد وقال للزبير: عندما تعود ومعك قريبك، لا تبحث عنا، فقط ظلا في هذا النزل، ونحن سنعلم بذلك وسنأتيكما.
ثم غادر القائد ومن معه.
***
بعد استلام الزبير قيادة كل قبائل الكثبة، لم ينتظر كثيرا ليبدأ في تنفيذ خطته بتحرير البقاء وإعادتها مملكة مستقلة قوية. وتوجه إلى جبال اليبس، لتنفيذ أول خطوة في خطته
والتي كانت أصعب خطوة، وهي إيجاد الملك الهارب، ثم شرح الخطة له، والحصول على موافقته عليها. لقد عنى هذا الأمر مخاطرة كبيرة قد تهلكه، لكنه استعد لدفع حياته ثمنا لنجاح خطته.
حالما وصل الزبير المناطق المحيطة بجبال اليبس، نزل في نُزل هناك. وضع أغراضه في غرفته، وتناول قليلا من الطعام والشراب الذي أعده العاملون في النزل، ثم استراح قليلا.
بعدها توجه إلى صاحب النزل وسأله عن أشهر المطاعم والمقاهي وأكبرها في المناطق المحيطة بجبال اليبس، فأخبره صاحب النزل عن سبعة منها.
على الفور توجه الزبير إلى أحد المطاعم ثم دخلها. وُجِدَ هنالك مربعات كثيرة منتشرة في المكان، ومفصولة عن بعضها من خلال فواصل ضئيلة الارتفاع مبنية من الطوب، وفي كل مربع وُجِدَت أفرشة على الأرض، جلس عليها بعض الناس واتكأ عليها بعضهم الآخر، كما وجدت أفرشة تستند إلى الحيطان وإلى الفواصل بين المربعات، وقد أسند بعض الموجودين ظهورهم إليها. وفي نهاية المطعم
وجدت منصة جلس خلفها صاحب المطعم لاستقبال طلبات الحاضرين. هذا كان النمط الذي بنيت عليه معظم المطاعم والمقاهي في البقاء.
كان صوت الناس في المطعم وهم يتحادثون ويتضاحكون عاليا.
حالما دخل الزبير، جعل عدد من الرجال ينظرون إليه باحترام شديد، نتيجة للهيبة التي انبعثت من مظهره ونظراته.
توجه الزبير إلى المنصة حيث صاحب المطعم، وقال: مرحبا.
فرد صاحب المطعم: أهلا بك، سيدي.
ثم أضاف: ماذا تحب أن تتناول من الطعام والشراب؟
فرد الزبير: شكرا لك، أنا لم آتِ لذلك.
فسأل صاحب المطعم: فكيف لي أن أساعدك؟
وفجأة قال الزبير بصوت عال: أنا شيخ الكثبة بأكملها.
فأنصت الحاضرون جميعا بإمعان.
ثم أضاف: أنا أبحث عن الملك الهارب، فأين يمكن أن أجده؟
نظر الجميع بذهول وتعجب إليه، وتوتر المكان برمته.
"كيف يمكن لأحدهم أن يسأل مثل هذا السؤال، وأمام الجميع؟! ألا يعلم أن كل من أتى بحثا عن الملك الهارب لقي حتفه؟!" دارت هذه الأفكار في رؤوسهم.
لما رأى الزبير استغرابهم وأحس بالتوتر، أضاف بصوت عالٍ: أنا من محبيه، وأريد أن أساعده.
ازداد تعجب الحاضرين ودهشتهم، وازداد التوتر في المكان.
عندها صرخ صاحب المطعم بتشنج وبنبرة تهديد: اذهب من هنا قبل أن يؤذيك أحدهم.
على الرغم من أنه وجه إهانة للزبير، إلا أنه لم يرد عليه، لأنه أتى إلى جبال اليبس لمهمة محددة ليس من ضمنها الاقتتال مع أصحاب مطاعم.
التف الزبير وغادر المكان بينما رمقته عيون جميع الموجودين بمزيج من الدهشة والشعور بالهيبة تجاهه.
توجه بعدها مباشرة إلى مقهى آخر ودخله حتى وصل المنصة التي وقف خلفها صاحب المقهى، وقال بصوت عال كلاما مشابها لما قاله في المطعم السابق، وتكرر كل ما حدث من انتشار للدهشة والتوتر في المكان.
فكان رد صاحب المقهى بأن صرخ قائلا: لا أعرف أين تجده، وإياك أن تكرر هذا الحديث في أي من المناطق المحيطة بجبال اليبس.
من جديد لم يرد الزبير على صاحب المقهى ورحل عنه.
بعدها ظل يتوجه إلى سائر المطاعم والمقاهي التي أخبره عنها صاحب النزل الذي نزل فيه، وما انفك يكرر ما فعله في أول مطعم، بالسؤال بصوت عال عن الملك الهارب، والقول إنه يريد مساعدته،
وظل يتلقى ردودا مشابهة من أصحاب المقاهي والمطاعم.
لقد تعمد أن يسأل بصوت عال أمام الجميع عن الملك الهارب وأن يخبرهم بأنه يريد مساعدته، وذلك حتى ينتشر هذا بسرعة في المناطق المحيطة بجبال اليبس ثم في الجبال نفسها، فيسمع به الملك ويرسل من يحضره إليه. وقد توقع أن ينجح في خطته.
عاد الزبير إلى غرفته في النزل، وظل ينتظر أياما بفارغ الصبر، لعل الملك يكون قد سمع به وبما قاله ويرسل إليه أحدا من طرفه. لكن ذلك لم يحدث. عندها قرر الزبير أن يتخذ خطوة للأمام كان قد فكر بها مسبقا وهو في أرض قبيلته.
ترك سيفه وخنجره في غرفة النزل، وأخذ معها راية بيضاء، أحضرها معه من الكثبة.
ركب حصانه ومعه الراية البيضاء، واتجه إلى جبال اليبس. ثم بدأ صعود الجبال وهو يحمل الراية البيضاء، وهو لا يحمل أي سلاح.
الراية البيضاء في البقاء رمزت للاستسلام، أو أن من يرفعها لا يريد القتال أو المشاكل، وهذا ما أراد الزبير توجيهه لمن قد يراه من أفراد قوة حماية الملك الهارب الذين استوطنوا الجبال.
ظل يتوغل ثلاثة أيام صاعدا جبال اليبس، أمضاها بين النوم والصعود، وفي ظهيرة اليوم الرابع، وبينما هو يصعد أحد الجبال، أحاط به مقاتلون مسلحون من كل مكان، وجميعم وضعوا اللثام على
وجوههم.
بالطبع الزبير كان يرفع الراية البيضاء، وهذا ما جعل المقاتلين لا يهاجمونه مثلما يهاجمون أي غريب مقتحم للجبال.
وقد أدرك الزبير بذكائه أن هؤلاء أفراد من قوة حماية الملك الهارب، لما رأى كثرة الأسلحة التي يحملونها وأنهم يلبسون ملابسَ متشابهة، بيضاء في جلها، ولبسوا جميعا عمائم سوداء، وكانت
لُثُمهم جميعا سوداء.
حالما رآهم، رفع يديه إلى الأعلى بينما يحمل الراية البيضاء بإحديهما، ثم قال: أيها الفرسان، أنا أتيت هنا مسالما، ولا أحمل أي سلاح... أريد فقط أن أحادثكم.
عندها قال أحدهم وهو قائدهم: ألا تعرف أين أنت؟! هذه الجبال لا يدخلها إلا أهلها وأنت لست منهم.
ثم أضاف بنبرة قاسية ملؤها التهديد: ارحل من هنا ولا تعد أبدا وإلا ستفقد حياتك.
توقع القائد أن الكلام سيخيف الزبير، لكن المفاجأة احتلت صدر القائد وجنوده، عندما ابتسم الزبير ابتسامة ملؤها القوة والثقة بالنفس.
التف الجنود وعزموا على المغادرة، عندها قال الزبير: حسنٌ، سأرحل... لكن... أيها الفرسان، إن كنتم تعرفون الملك قصيا فأخبروه أن شيخ قبائل الكثبة يبحث عنه.
تفاجأ المقاتلون عندما سمعوا ذلك وجعلوا ينظر بعضهم إلى بعض.
ثم أضاف الزبير: أنا شيخ قبائل الكثبة التي لطالما والت الملوك الضياغم.... أنا صديق... ولست عدوا.
أنصت المقاتلون جيدا لهذه الكلمات، ثم بدؤوا بالرحيل، في حين اتجه الزبير بالاتجاه المعاكس عائدا إلى النزل وهو فرح مبتسم؛ لأنه شَعَرَ - بما يقارب اليقين - أن خطته بإيجاد الملك ستنجح
وأن الملك سيرسل أحدا من طرفه إلى الزبير.
***
بعد عدة أيام، وبينما الزبير جالس في غرفته في النزل، طرق الباب بقوة عدة مرات.
قام الزبير وفتحه، فوجد تسعة فرسان يتقدمهم فارس يتضح أنه قائدهم، وقد لبسوا ملابس تشبه ملابس المقاتلين الذين اعترضوا الزبير حينما صعد جبال اليبس، وقد كانوا جميعا ملثمين كذلك.
لكن أهم ما في الأمر أنهم جميعا كانوا يحملون سيوفهم بأيديهم، وقد تعمدوا ذلك، لإخافة الزبير وثنيه عن أية محاولة لقتالهم، لكنهم لم يعرفوا أن مثل هذه الأمور لا تؤثر به.
"انظر من النافذة" قال قائدهم للزبير بنبرة جادة قاسية.
اتجه الزبير إلى نافذة الغرفة التي أطلت على الشارع أسفل النزل، ونظر منها فوجد ستة فرسان آخرين ملثمين، يلبسون اللباس نفسه للمقاتلين الواقفين على باب غرفته.
ثم قال القائد الواقف بباب الزبير: لا تحاول القتال؛ فذلك ليس من صالحك.
نظر الزبير إليه بهدوء وقال بهدوء مماثل: حسنٌ، أنا أصلا لم آتِ من الكثبة إلى هنا للقتال.
ثم قال بلطف للقائد: تفضل، ويفضل أن تعيدوا سيوفكم إلى أغمادها، فلا داعي لها.
أومأ القائد للمقاتلين فأعادوا السيوف إلى أغمادها، ثم فعل هو الأمر نفسه. بعدها دخل وجلس على كرسي في الغرفة، ثم جلس الزبير على السرير.
"ماذا تريد من الملك قصي؟" قال القائد، ثم أضاف: ولم تبحث عنه؟
رد الزبير ببساطة واختصار وبرسالة واضحة: أنا شيخ قبائل الكثبة، وقد وضعت خطة لإعادة تحرير البقاء، وإعادة بناء المملكة وتنصيب الملك قصي ملكا عليها.
نظر القائد إلى مقاتليه باستغراب مما سمعه، ثم أعاد نظره إلى الزبير، في حين ظل المقاتلون يتبادلون نظرات التعجب فيما بينهم؛ فما قاله الزبير أمر عظيم شديد الصعوبة إلى الدرجة التي
قد يبدو فيها خياليا بل حتى من باب المزاح.
قال القائد: حسن، سنأتيك بعد أيام هنا برد الملك قصي.
فرح الزبير كثيرا؛ فالآن تأكد بأن الملك الهارب حقيقي وليس مجرد أسطورة كما أشاع البعض، ولأنه أخيرا سينجح في تنفيذ خطته التي أحكم تنظيم خطواتها منذ سنوات بعيدة.
قام القائد وخرج وأغلق باب الغرفة ورحل مع مقاتليه؛ بينما شرع الزبير ينتظر بفارغ الصبر رد الملك.
***
مرت ستة أيام، قبل عودة الفرسان الملثمين، إلى النزل. أمضى الزبير هذه المدة كأنه يقف على الجمر وهو ينتظر رد الملك، ورغم أنه كان متفائلا بموافقة الملك، إلا أنه امتلأ توقا ليسمع نبأ
الموافقة من مقاتلي قوة الحماية.
هذه المرة أتى القائد نفسه، ولكن معه ثلاثة مقاتلين آخرين فقط، فهو لم يعد يخشى أية حركة غادرة من الزبير.
طرق القائد الباب، فقام الزبير وفتحه بسرعة، ووجد الرجال الملثمين الأربعة، وتمكن من معرفة أن قائدهم هو نفسه الذي أتى المرة السابقة.
"أهلا وسهلا" قال الزبير.
ثم أضاف وهو يشير بيده إلى الداخل: تفضل.
فدخل القائد الملثم وجلس على الكرسي بينما جلس الزبير على السرير.
نظر القائد بعينيه الحادتين إلى الزبير لمدة ثم قال: لقد وافق الملك على مقابلتك.
ابتهج الزبير أشد ابتهاج وارتاح أخيرا؛ فأصعب خطوة في خطته الشائكة قد نجحت.
لم يمهل القائد الزبير كثيرا، فأضاف: لكن لدينا شرط.
الزبير استعد لتنفيذ أي أمر يطلبه الملك في سبيل لقائه؛ لذا رد بثقة: سأنفذه أيا كان.
فقال القائد: عليك أن تأتينا بأحد أقرب أقاربك، حيث سنحتجزه في مكان ما. إذا حدث شيء للملك بسببك، فسنقتل قريبك الذي نحتجزه دون رحمة، أما إذا غادرت جبال اليبس دون أن يحدث
أدنى مكروه للملك، فسيعود إليك قريبك سالما معافى بعد أن نكرم ضيافته لدينا.
حياة الملك الهارب أهم شأن في البقاء بل في الممالك الثلاث المتجاورة، وقد استغرق الحفاظ عليها سنين كثيرة؛ لذا اشترط أتباع الملك على الزبير هذا الأمر.
حالما سمع الزبير كلام القائد، لاح في مخيلته صورة أعز الناس على قلبه، ابن أخيه سهيل.
فكر الزبير لثوان معدودات، ثم رد بثقة تامة: حسن، لك ما تريد.
وقف القائد وقال للزبير: عندما تعود ومعك قريبك، لا تبحث عنا، فقط ظلا في هذا النزل، ونحن سنعلم بذلك وسنأتيكما.
ثم غادر القائد ومن معه.
***