13

اتجه الزبير فورا إلى الكثبة تحديدا إلى أرض قبيلة الأسد. ولما وصل هناك دخل داره وارتاح فيها ونام قليلا.
وبعدما استيقظ أرسل خادمه فورا في طلب سهيل؛ إذ كان الزبير متحمسا للغاية ولم يكن ليضيع أي وقت.
جاء سهيل إلى دار عمه، وحالما رآه عمه ركع على ركبيته واحتضن ابن أخيه ذي الاثني عشر عاما بقوة كبيرة، وقد بادل سهيل عمه الاحتضان بأقصى قوته.
لقد وُجِدَتْ بينهما محبة عظيمة جدا.
"كيف حالك، يا سهيل؟" قال الزبير.
فرد سهيل: بخير، الحمد لله على سلامتك.
ابتسم الزبير، ثم دخلا إلى غرفة جلوس الدار وجلسا هناك، وجعلا يتحادثان.
بعد مدة قال الزبير لسهيل: أريد منك معروفا، يا سهيل. وأتمنى أن توافق عليه.
فرد سهيل: حسن، يا عمي، أنا مستعد لتنفيذ أي أمر تأمر به.
فرد الزبير: هو طلب وليس أمرا.
ثم أضاف: أريد أن أصحبك معي إلى جبال اليبس، وأن أتركك عدة أيام في ضيافة قوم هناك. فهل أنت موافق؟
نظر سهيل إلى عمه باحترام، وقال: بالطبع أوافق.
لقد اعتاد سهيل على طاعة عمه طاعة عمياء، ووثق به ثقة عمياء كذلك.
ابتسم الزبير فرحا، وفي اليوم التالي اتجه إلى دار أخيه الراحل دريد، وطرق الباب، فلقيته أرملة أخيه رند، وحيته وحياها وأدخلته إلى غرفة جلوس الدار،
وجلسا هناك، ثم أتى سهيل وجلس معهما.
تحادثا لمدة ثم قال: أريد أن أطلب منك أمرا. أريد أن أصحب سهيلا معي عدة أيام ثم سأعيده إليك بأفضل حال.
ارتبكت الأم خوفا على ابنها وقالت فورا: لا، أرجوك. ابني صغير للغاية وأخاف عليه ولا أطيق فراقه.
فرد الزبير: لا تخافي، أنا عمه وبمثابة والده، وقد أعلمته بذلك وقد وافق. لا تخافي عليه.
فقالت: أرجوك لا، أنا أخاف عليه. أرجوك أيها الشيخ.
فرد: لو كان لي ابن، لكان سهيل أغلى على قلبي منه.
فرح سهيل بكلمات عمه.
اطمأنت الأم مع كلمات الزبير، ثم قالت: حسن، أيها الشيخ. كما تشاء.
بعد ذلك اتجه الزبير فورا إلى دار صديقه قيس.
حالما رآه قيس احتضنه لرجوعه من السفر وتبادلا التحايا، ودعا قيس صديقه إلى داره، فدخلا غرفة جلوس الدار.
ضيف قيس صديقه ثم طفقا يتحادثان.
"لن تصدق ما حدث" قال الزبير.
تحمس قيس أشد حماسة وقال: أرجوك، أخبرني... هل من أنباء جديدة؟... أخبرني أنه حدث شيء بخصوص خطتك...
ابتسم الزبير؛ لأنه أيقن بالفرحة العارمة التي ستجتاح قيسا بعد أن يخبره بما حدث.
ثم قال: سألتقي بالملك الهارب.
فتح قيس فاه غير مصدق ما سمع؛ فهذه أكبر مفاجأة مرت عليه في حياته حتى تلك اللحظة!
ثم قال: أنت لست من النوع الذي يمزح، أيها الزبير. وهذه المرة ليست استثناء. أليس كذلك؟!
فقال الزبير بملامح جدية: نعم، ليست كذلك. سألتقي بالملك الهارب، يا قيس.
ضحك قيس وقام من جلسته وقبض كفيه فرحا بما سمع، وجعل يصرخ: الحمد لله، الحمد لله. ثم انكب على الزبير واحتضنه وقال: أخيرا، سيتحقق حلم السنين. أخيرا.
ابتسم الزبير ابتسامة ضئيلة تكاد تكون غير موجودة، حفاظا على رزانته المعهودة، وهو يشاهد الفرحة الجنونية لصديقه.
انتظر الزبير حتى هدوء قيس، ثم قص عليه كل ما حدث.
ثم قال قيس: أنا أثق بك، أيها الزبير، في كل خطوة، وفي كل شيء تفعله... لكن – أرجوك – لا تجازف بابن أخيك؛ لأنك ستقطع جزءا من قلبك بيدك إذا حدث له شيء،
لا سيما إن كان هذا الشيء بسببك أنت.
قال الزبير بثقة وهدوء: لا تخف، يا قيس. كل شيء عندي محسوب بحساب دقيق. احتمال أن يحدث مكروه لسهيل معدوم... ثق بي جيدا، ولا عليك.
في اليوم التالي، سافر الزبير ومعه سهيل باتجاه جبال اليبس، وبعد أيام من السفر المتواصل وصلا هناك، فنزلا في النزل نفسه الذي نزل فيه الزبير المرة الماضية.
وبعد أيام أتى القائد نفسه الذي أتى إلى الزبير المرة السابقة، ومعه هذه المرة تسعة مقاتلين، وقد كانوا جميعا وقائدهم ملثمين كالعادة.
سأل القائد الزبير وهو يشير إلى سهيل: ما صلة هذا بك؟
فأجاب الزبير: هذا ابن أخي، سهيل. وهو أقرب الناس إلى قلبي.
ثم انحنى الزبير للأسفل، ووضع يديه على كتفي سهيل وقال له: اذهب معهم، يا سهيل. ولا تخف ولو للحظة واحدة؛ فأنا أفديك بروحي.
ثم أخرج صرة مليئة بالنقود وأعطاها سهيلا، وهو يقول: هذه لك، لتشتري ما تحتاجه.
ثم أضاف: سأعود لك بعد بضعة أيام، فلا تخف.
أومأ سهيل برأسه موافقا، ورغم صغر سنه وغرابة ما يحدث، إلا أنه لم يشعر بالخوف على الإطلاق؛ فقد وثق بعمه أتم ثقة.
اقترب ثلاثة من المقاتلين وأخذوا سهيلا بهدوء ورحلوا بينما نظر الزبير إلى حبيبه. لم يقلق الزبير عليه؛ لأنه وثق بأنهم لن يؤذوه فالزبير لم يضمر أية خطة لإيذاء الملك الهارب.
بعدما رحل سهيل والمقاتلون الثلاثة، قال القائد: تذكر جيدا ماذا سيحدث لأقرب الناس إلى قلبك، لو آذيت الملك بأية طريقة.
أومأ الزبير برأسه مظهرا تفهمه الكامل.
بعدها قال القائد: هيا، سنبدأ رحلتنا إلى الملك قصي.
"هل تحمل أي سلاح؟" سأل قائد المقاتلين الزبير.
أجاب الأخير: نعم، أحمل سيفي إضافة إلى خنجر.
"اتركهما هنا في غرفتك، فلن تصبحهما معك." قال القائد بنبرة جادة.
فك الزبير السيف المربوط على حزامه، ثم فك الخنجر المربوط على حزامه من الخلف، ثم وضعهما على طاولة بالغرفة.
"اقترب مني." قال القائد.
فاقترب منه الزبير.
ثم أمر القائد: مد ذراعيك جانبا.
ففعل الزبير ذلك.
أومأ القائد برأسه لأحد مقاتليه، فاقترب من الزبير ووضع يديه أسفل ذراعي الزبير، وجعل يفتشه بحثا عن أي سلاح قد يحمله، ثم نزل بيديه وفتش خصره، ومد يديه خلف ظهره
وفتش هنالك، ثم فتش رجليه وصولا إلى قدميه.
نظر المقاتل إلى قائده وقال: لا يحمل أي سلاح.
أومأ القائد برأسه مظهرا تفهمه، ثم قال للزبير: هيا، لنبدأ الرحلة.
مشى الزبير خارجا من الغرفة ثم من النزل، بينما يتبعه القائد ومقاتلوه.
فلما خرجوا وجدوا ثمانية خيول.
أشار القائد إلى أحدها وقال للزبير: امتطِ هذا الحصان.
ففعل الزبير، ثم امتطى القائد حصانا وكذا فعل سائر مقاتليه.
انطلق القائد وتبعه مقاتلوه حيث توسطهم الزبير إذ تقدمه ثلاثة وظل خلفه ثلاثة. وقادوا خيولهم حتى وصلوا جبال اليبس.
عندها توقف القائد ثم توقف البقية.
ترجل القائد عن جواده، وأخرج عصبة سوداء من القماش من صرة موضوعة على جواده، ثم أومأ برأسه لأحد المقاتلين وهو يمسك بالعصبة. فترجل ذلك المقاتل، وأخذ العصبة من القائد.
"ترجل عن جوادك" قال القائد للزبير ففعل ذلك.
فقال القائد: سوف نربط هذه العصبة حول رأسك، ونضعها على عينيك.
سكت القائد ثم أضاف بجدية وحزم: إذا أزحت هذه العصبة، فستقتل فورا. لا تستهن بهذا الأمر. ليس هنالك أدنى تهاون في هذه المسألة.
أومأ الزبير برأسه مظهرا تفهمه، بينما وقف المقاتل خلفه، وربط العصبة على رأسه بحيث غطت عينيه ثم ساعد الزبير ليمتطي جواده من جديد.
بعدها انطلق الجميع في رحلتهم، بينما أمسك أحدهم بحبل طويل ربط حول لجام الجواد الذي يمتطيه الزبير، وشرع يقوده بالاتجاه الذي يريده.
أحس الزبير بأنه يصعد مرتفعات في أكثر الأحيان، وبنزول في أحيان قليلة. وهكذا استمر المشوار الذي كان أغلبه صعودا.
ولم يتوقف الجمع سوى كل ليلة للنوم – الذي لم يستغرق وقتا طويلا - وظهر كل يوم لتناول الطعام والشراب الذي يحملونه، حيث كانت هذه الأوقات هي الأوقات الوحيدة التي يزيلون
فيها العصبة عن رأس الزبير ليتمكن من الشرب وتناول طعامه، وحالما يتنهي من ذلك، يربط أحدهم العصبة من جديد حول رأسه.
لم تكن رحلة ممتعة للزبير، وهو يتحرك كل هذه المسافات الطويلة، ويمضى كل هذه الأيام والليالي لا يرى شيئا كأنه أعمى. لكنه استعد لفعل المستحيل ليرى الملك وينفذ خطته.
ومرت الأيام على هذا الحال من السفر الشاق، وفي ليلة اليوم الخامس من السفر وصل المسافرون إلى مكان معين، وهناك سمع الزبير قائد المقاتلين المسافرين معه يقول: مرحبا.
فرد عليه أناس: أهلا بكم.
وجعل المصاحبون للزبير والأناس الآخرون يتبادلون التحايا.
بعدها سمع الزبير صوت ترجل المقاتلين الذين معه وقائدهم عن خيولهم. بعدها اقترب أحدهم من الزبير وساعده في الترجل عن جواده. بعدها انطلق الجمع يقودهم قائدهم بينما رجع الفارس - الذي
ساعد الزبير على الترجل – خلف الزبير وجعل يوجهه باتجاه المكان الذي يقصدونه. وبعد مسير ليس بطويل دخلوا مكانا معينا.
عندها سمع الزبير قائد المقاتلين يقول: مولاي الملك، لقد أحضرناه إليك.
بعدها مباشرة فك الفارس - الذي صاحب الزبير - العصبة من على عيني الأخير.
شرع الزبير فورا ينظر في أرجاء المكان. كان بداخل غرفة ما. أول ما رآه هو رجل كبير بالعمر قوي البنية متوسط الطول، بشرته سمراء قليلا، وشعر رأسه خفيف أبيض في معظمه وله لحية
وشارب خفيفان جدا، لونهما أبيض يتخلله سواد قليل. وكان يجلس على عرش في آخر الغرفة. وعلى مسافة قريبة منه على يمينه جلس شاب حاد النظرات، قوي البنية مفتول العضلات، طويل القامة، لديه شعر رأس أسود غزير، ولديه شارب أسود كثيف وشعر كثيف أسود على ذقنه. قلّب الزبير نظره هنا وهناك فرأى قائد المقاتلين الذين اصطحبوه إضافة إلى عدد منهم. أيضا رأى رجلا مهيبا يقف في
الغرفة تظهر عليه علامات الجلال، ورأى أيضا عددا من الحراس ينتشرون في القاعة. كانت الغرفة محفورة في إحدى المغارات، وقد أطلت إلى الخارج على الهواء الطلق، حيث حُفر في الصخر
عدة نوافذ امتدت طوليا مسافة طويلة من الأعلى إلى الأسفل. ووجدت في القاعة عدة أعمدة حديدية سوداء حملت في أعلاها قناديل مضاءة أنارت عتمة ذلك الليل الحالك.
بعدها أعاد الزبير نظره على الرجل الذي يجلس على العرش في آخر القاعة، وقد أدرك أنه الملك الهارب لا محالة.
شعر الزبير بسعادة غامرة وحماسة لا حصر لها لرؤية الملك؛ فقد أحبه كثيرا، وأحد أكبر أحلام حياته تحقق برؤية الملك الأسطورة. وسبب آخر لفرحته، هو أنه أيقن بعينيه أن الملك الهارب حقيقة
وليس كذبة أو فرية كما زعم كثير من الناس.
عندها انحنى الزبير ثم استوى من انحناءته، وخاطب الملك: مولاي الملك قصي، أنا خادمك المطيع الزبير.
فرد الملك، وهو يمسك بكفه رأس الضيغم إذ يسنده إلى الأرض: أهلا وسهلا بك.
فقال الزبير: هذا أعظم شرف في حياتي يا مولاي، أن أراك.
بعدها مباشرة اقترب الرجل المهيب الجليل من الزبير، وقال: ها أنت في حضرة الملك، فماذا تريد منه؟
بدا على الرجل أنه امرؤ شديد خطير وأنه ليس سهلا، وهذا كان أمرا يتضح لأي امرئ يراه، والزبير لم يكن استثناء.
فورا قال الملك: اجلبوا كرسيا لضيفنا.
عندها تحرك حارسان، جلب أحدهما كرسيا جلس عليه الزبير بينما صب الآخر قهوة ضيفها له.
شرب الزبير من القهوة، ثم قال: مولاي، أنا الزبير، شيخ قبائل الكثبة كلها، وحفيد شيخها السابق الشيخ عامر.
تنهد الملك ثم قال: هذا عظيم. جدك الشيخ عامر كان صديقي العزيز، ومن أعظم الأوفياء لآل الضياغم، وقد مات ميتة عظيمة، ميتة أبطال يتمناها أي رجل حقيقي.
فرح الزبير بكلام الملك، لكن شاب فرحته الحزن؛ إذ تذكر رحيل جده وماذا حدث له.
بعدها أكمل الملك: أما أنت - أيها الشيخ – فقد أفرحتني كثيرا وبرّدت قلبي بعد ما فعلته بملك الهيجاء وجنوده، لا سيما في مجزرة الطويل.
تعاظمت فرحة الزبير أضعافا، فأعظم رجل في العالم بالنسبة له، يمدحه ويثني عليه وأمام الجميع.
لكن الزبير كان حاسما فقال فورا: مولاي، أريد أن أحادثك كثيرا، ومحادثتك أمر لا يمل منه على الإطلاق. لكن أعلم أنك تأخذ أقصى احتياطاتك، وليس أمامي وقت كثير لأخبرك بما في جعبتي.
"حسن" قال الملك. وأضاف: أخبرني ما تريد.
عندها أخبر الزبير الملك بأن لديه خطة لتحرير البقاء ودحر أعدائها، ثم طفق يشرح له خطوات الخطة بذكر أدق تفصيل.
وبينما هو يفعل ذلك نظر جميع الحاضرين بذهول إلى الزبير، فخطته اتسمت بالصعوبة، بل إنها ربما وصلت حد الجنون والتهور.
لكن واحدا فقط لم يشعر بالذهول مما سمعه، وهو – للعجب – الملك.
بعد مدة ليست بقصيرة انتهى الزبير من ذكر خطوات خطته. عندها نظر الجميع إلى الملك وهم بالطبع موقنون بأنه سيرفض الخطة غير المنطقية.
أطرق الملك قليلا، ثم قال: أنا موافق على خطتك.
اندهش الجميع ولم يصدقوا أنفسهم، لا سيما الرجل الذي يجلس قريبا من الملك، إذ فتح عينيه على أقصى اتساعهما.
ثم قال الملك: أحضر الأشخاص الذين أخبرتني عنهم وعد إلينا.
والزبير قد ذكر في خطته عدة أشخاص بنى خطته على إيجادهم وجلبهم للملك للحصول على مساعدتهم.
انتشرت الفرحة كالفيضان العارم في الزبير، وابتسم ثم قال: أفديك بروحي، يا مولاي.
ثم أضاف مبتسما: نحن كلنا فداك، وفدى البقاء.
ثم انحنى للملك، ثم استوى من انحناءته، وقال: ائذن لي يا مولاي، بالرحيل للبدء بتنفيذ الخطة.
فقال الملك: آذن لك.
نظر الزبير إلى الرجل الذي جلس بالقرب من الملك، والذي منذ قدوم الزبير لم يتوقف عن إرسال نظرات حادة إليه، سافر معها قليل من الغضب وكثير من عدم الرضا وعدم الإعجاب بالزبير وبخطته.
بذكائه، خمن الزبير أن هذا الرجل بجلوسه على تلك المسافة المقربة من الملك لا بد وأنه رجل غال عليه، وعلى الأرجح هو ابنه.
قال الزبير: هل لي أن أسأل السيد الذي يجلس قريبا منك عن هويته؟
زادت نظرات الرجل حدة وشراسة، ونظر إليه الجميع ومنهم الملك ينتظرون منه أن يعرف عن نفسه، إلا أنه امتنع عن ذلك والتزم الصمت والتحديق بالزبير، ولما طال الوقت وهو على هذا الحال،
قال الملك: هذا ابني الأمير ريان.
صدق تخمين الزبير، الذي سرعان ما انحنى ثم استوى، وقال: تشرفت بلقاء مولاي الأمير.
ونظر هو والآخرون إلى الأمير ينتظرون ردا منه، ولو مجاملة مصطنعة للضيف، لكنه ظل على حاله وامتنع عن الرد على الرجل الذي لم يطقه منذ النظرة الأولى.
ابتسم الزبير بثقة ولم يكترث كثيرا بما حدث، فهو ليس بتلك الهشاشة، ثم عزم على الرحيل، ولكن ألقى نظرة على الرجل الخطير الذي كان واقفا طيلة الوقت، وقد كان قوي البنية متوسط الطول
ذا لحية بيضاء خفيفة وشارب أبيض خفيف وشعر أبيض خفيف على جانبي رأسه، بينما التهم الصَّلَعُ أعلى رأسه.
فقال الزبير – والفضول يستفزه -: بعد إذن مولاي، هلا تعرفني بنفسك، سيدي؟
نظر الرجل الخطير إلى الملك ثم إلى الزبير، ثم قال بنبرة حازمة: أنا القائد جاسم، قائد قوة حماية الملك.
فقال الزبير: سررت بلقائك، لطالما سمعت عنك وعما فعلته بكلاب مملكتي الهيجاء وياقوتة الذين حاولوا اقتحام جبال اليبس.
بعدها نظر الزبير إلى الملك وقال: سأعود – يا مولاي – في أقرب فرصة. دم بخير.
انحنى ثم استوى من انحناءته وغادر.
بعد أن غادر نظر الأمير الغاضب إلى أبيه، وقال: لا أرتاح لهذا الرجل، يبدو عليه الغرور والثقة الزائدة بالنفس.
تنهد بمرارة، ثم أضاف: يحادثك وكأنه يرى الملوك كل يوم، وهو لم ير في حياته سوى النوق والماشية.
أحس الملك بعاطفة سلبية قوية من ابنه تجاه الزبير؛ لذا قرر أن يتجنب الرد القاسي على ابنه حتى لا تزيد كراهيته للرجل، فقال بهدوء: ريان، من الآن وحتى آخر يوم في عمرك، لا تحكم على الرجال من مناظرهم أو أموالهم أو أصولهم، احكم عليهم من خلال أفعالهم. ما تراه غرورا وزهوا بالنفس ما هو إلا جرأة وسجية وشجاعة. هذا الرجل بعدد قليل من الرجال ودون أموال أذل أحد الملكين اللذين
هزمانا أمر ذل. كونك أميرا وابن ملوك لا يعطيك الحق في أن تحتقر أي رجل في العالم. بالنهاية هذا الرجل هو أحد أفراد رعيتك ورعية أبيك. أنت لست أميرا فقط على الأغنياء والأثرياء وسكان
القصور، أنت أمير للجائع والعاري والفقير والبدوي والقروي كذلك.
ازداد غضب الأمير من كلام أبيه؛ لأنه دافع عن الرجل الغريب الذي كرهه من اللحظة الأولى، ثم قال: ترفض خططي ومبادراتي طيلة تلك السنين الكثيرة، والآن تعتمد على رجل همجي من وسط الصحراء لا تعرف عنه شيئا!
استمر الملك يحادث ابنه بالمنطق، فقال: لم أسمع بخطة محكمة مثل خطته من قبل، حتى أنا لما حاولت التخطيط لتحرير أرضنا لم أصل لمثل ما وصل إليه! ما فعله الزبير منذ مقتل جده وللآن،
وهزيمته للأعداء، ليس أمرا هينا ولا يفعله إلا رجل يأتي مرة واحدة في العمر!
قرر الأمير التزام الصمت بينما ما انفكت النار تشتعل في جوفه.
***
خرج الزبير من مقر الملك الهارب، ومعه المقاتلون أنفسهم الذين جلبوه إلى المقر وبالتأكيد معهم قائدهم.
قال القائد: سننام هنا اليوم، وسنبدأ رحلة العودة صباحا.
ثم قال أحد المقاتلين للزبير: اتبعني.
وبدأ بالمسير بينما تبعه الزبير، حتى وصلا حجرة محفورة بالصخر ودخلوها.
"ستنام هنا" قال المقاتل.
ثم أضاف: سأرسل لك خادما يلبي طلباتك منذ الآن وحتى الصباح.
أومأ الزبير مبديا تفهمه، بينما خرج المقاتل واستدعى ثلاثة مقاتلين وأخبرهم بأن يمضوا الليل يراقبون الزبير؛ خشية أية حركة غادرة منه.
جلس الزبير على السرير في الغرفة، ونظر في أرجائها. رغم أنها محفورة بالصخر، فقد اتسمت بالجمال والأناقة، كانت مفروشة بسجاد جميل، أما السرير فكان فخما، وكذا وجدت طاولة
فخمة علتها قناديل ذهبية أضاءت الغرفة. وأطلت الغرفة إلى الخارج من خلال نافذة محفورة في الصخر.
لما رأى الزبير كل هذا أدرك أن الملك وضعه في غرفة مخصصة لكبار الزوار. وأيقن أمرا آخر كذلك وهو أن الملك كان غنيا رغم كل ما حدث له، ولا بد أنه صحب معه المال والذهب
قبل هربه من قصوره ومجيئه إلى جبال اليبس.
استمتع الزبير بالجو الجبلي اللطيف، حيث نسمات الهواء العليلة تهب من النافذة.
وفجأة طرق الباب، وقال أحدهم: أتأذن لي بالدخول؟
"نعم" قال الزبير.
فدخل رجل شاب يلبس ملابس أنيقةً، ثم قال: سيدي، أنا سأخدمك الليلة. لا تتردد في أن تطلب مني ما تشاء مهما تأخر الوقت.
وقد حمل الخادم، إناءً مزخرفا بالذهب، وعليها طعام لذيذ وعصير لذيذ كذلك. وضع الخادم الإناء على الطاولة.
بعدها خرج الخادم وعاد بعد مدة قليلة وهو يحمل ثوبا أنيقا، وقال: هذا الثوب لتنام به، يا سيدي.
ثم قال: ائذن لي، يا سيدي. سأظل واقفا على باب الغرفة طيلة الليل. بإمكانك أن تناديني متى شئت. اسمي علاء.
ابتسم الزبير، وقال: حسن، يا علاء.
خرج علاء، فخلع الزبير ثوبه ولبس الثوب الذي أحضره الخادم، ثم بدأ يتناول الطعام، ولما انتهى استلقى على السرير، وهو يفكر بعمق، ويشعر بفرح عظيم بنجاح أهم خطوة في خطته،
حتى أخذه النوم.
صباحا، طرق الباب، فاستيقظ الزبير وفتحه فوجد المقاتل الذي يصحبه دائما.
قال المقاتل: هيا، أيها الزبير، سنبدأ رحلة العودة.
غسل الزبير وجهه ويديه بماء من إناء في الغرفة، ثم نشف باستخدام منشفة فيها، ولبس ثوبه، وخرج، فوجد المقاتلين أنفسهم الذين جلبوه إلى الملك ومعهم قائدهم، وجميعهم يركبون خيولهم،
ومعهم الجواد الذي ركبه الزبير في رحلة القدوم.
هم الزبير بركوب جواده، عندها أمسكه المقاتل - الذي يصحبه دوما - بحزم من يده، ورفع بيده الأخرى العصبة، وقال: هذه أولا.
لم يعارض الزبير، في حين ربط المقاتل العصبة حول رأسه على عينيه حتى لا يرى شيئا؛ فحديث الزبير مع الملك لا يعني أنهم باتوا يثقون به، وعليهم أخذ كل الاحتياطات اللازمة للحفاظ
على حياة الملك، التي هي أهم شيء في البقاء كلها.
بعدما وضع المقاتل العصبة على عيني الزبير، ساعده على ركوب جواده، ثم ركب المقاتل جواده، وشرع الجميع يسيرون في رحلة العودة.
شابهت رحلة العودة رحلة القدوم كثيرا، إلا أنها امتازت بكثرة النزلات الحادة فيها، وبعدد قليل من الصعود. وكرحلة القدوم، لم يتوقفوا إلا لتناول الطعام أو النوم، وفي كل مرة أزاحوا عن الزبير العصبة.
ولما وصلوا أخفض نقطة في جبال اليبس، أزالوا العصبة عن عيني الزبير، ثم أكملوا الرحلة حتى وصلوا النزل الذي أقام فيه الزبير، وذلك في ليلة اليوم الخامس من بداية رحلة العودة.
وهناك خارج النزل، وجد الزبير ابن أخيه سهيلا، ومعه عدد من المقاتلين. اجتاحت الفرحة كلاً من الزبير وسهيل. ترجل الزبير، وركض أحدهما باتجاه الآخر، وركع الزبير على ركبتيه،
واحتضن أحدهما الآخر. وضع الزبير يده على رأس سهيل، وقبله، ثم قال: حبيبي سهيل، كيف عاملوك؟
ابتسم سهيل ابتسامة بريئة وقال: بأحسن ما يمكن... طعامهم شهي جدا.
قال قائد المقاتلين: ستجد سلاحيك بغرفتك في النزل.
وقف الزبير، وقال: الملك يريد رؤيتي عندما أعود.
فرد القائد: نعم، لقد أخبرنا بذلك.
"كيف ألقاه؟" سأل الزبير.
فأجاب القائد: عد إلى هذا النزل، ونحن سنأتي إليك.
ثم رحل القائد ومقاتلوه واتجه الزبير وسهيل إلى غرفتهما في النزل.
***
وفي مساء اليوم نفسه، أتى الأمير عماد، إلى حجرة صديقه الأمير ريان.
دخل عليه وتبادل الاثنان التحايا.
جلس عماد على السرير، بينما جلس ريان على الكرسي في الحجرة.
"من هذا الرجل الذي أتى اليوم للقاء جلالة الملك؟" سأل عماد بفضول.
فأجاب ريان بصوت هادئ ملؤه الغضب والجفاف: وهل تعتقد أنني أعرفه؟ وهل يعرفه أحد أصلا؟ ربما هو الوحيد الذي سمع بنفسه...
قلل ريان كثيرا من قيمة الزبير، واستخف به، وأتبع: يقول إنه شيخ قبائل الكثبة.
"وماذا يريد؟!" سأل عماد فورا.
فأجاب ريان: عرض خطة على أبي لتحرير البقاء.
"وبم رد جلالة الملك؟" سأل عماد بترقب.
فابتسم ريان ابتسامة استهزاء، وأجاب: لقد وافق... هل تصدق هذ؟!
ثم ضرب ريان بكفيه على فخذيه بغضب، وصرخ: بدوي همجي متخلف، يأتي من عمق الصحراء، بخطة فاشلة لم أر أفشل منها... فيوافق أبي فورا. أما أنا فأمضيت كل هذه السنين أحبك الخطط،
فلم أجد من أبي إلا الرفض، وأنا الأمير ابن الملوك!
أحس عماد بشيء في قلب ريان تجاه الزبير، وأحس بمبالغة كبيرة في كلامه.
ثم قال عماد: ريان، هل تهمك الغاية أم الوسيلة؟ سواء أكان الرجل بدويا أم من عقر المدن... المهم أن جلالة الملك سيتحرك أخيرا... ولعل خطة هذا الرجل تنجح، وعندها ستصبح ولي العهد...
والملك يوما ما!
أطرق ريان مفكرا في كلام صديقه، ووجد فيه الكثير من المنطق.
وبعد مدة، قال ريان: ربما كلامك صحيح... أدعو الله أن تنجح هذه الخطة... وإلا فإنني سأجعل هذا المدعو الزبير يندم على اليوم الذي وُلد فيه.
***
قامت خطة الزبير – بعد تجميع الأشخاص المهمين لتنفيذها – على تجميع جيش كبير من المقاتلين الموالين للملك الهارب. ولما علم الملك بذلك، أيقن أنه لا بد وأن يستعد منذ الآن لتعيين
قائد لكل هؤلاء المقاتلين. ولم يحتر كثيرا في اختيار القائد فوقع اختياره فورا على القائد جاسم.
ومن خلال خبرته الكبيرة ونظرته الثاقبة، علم الملك جيدا أن إناطة وظائف كثيرة بالمرء تشتت تركيز المرء وتضعف أداءه، وأن تقسيم الوظائف يفعل العكس تماما. لهذا قرر الملك أنه
سيجعل القائد جاسما قائدا للجيش فقط، وسيعفيه من قيادة حراسه.
اجتمع الملك الهارب بالقائد جاسم وأخبره بقراره الجديد، ففرح القائد بهذا التشريف العظيم وبثقة الملك الكبيرة به. ثم أخبره الملك بأن يختار رجلا كفئا يثق به يكون قائدا جديدا لحرسه.
تفكر القائد جاسم جيدا، فقيادة حرس الملك مهمة صعبة للغاية وتتطلب رجلا يتسم بالقوة العظيمة والذكاء والخبرة. كما أنها تتطلب رجلا يستطيع التنبؤ بالمستقبل، ويشم رائحة أية مؤامرة
للهجوم على الملك أو اغتياله. وأهم صفة تتطلبها هي الوفاء الأعمى والمطلق للملك.
تفكر القائد جاسم، ووقع اختياره في النهاية على ابنه عاصم الذي كان أحد حراس الملك الهارب. عاصم كان شابا إبان ذلك الزمان، وربما افتقد لكثير مما بحث عنه القائد جاسم بالأخص للخبرة،
إلا أنه اتسم بأهم صفة للوظيفة الجديدة، وهي وفاؤه الأعمى للملك، لذا اختاره القائد جاسم.
توجه القائد جاسم إلى حيث يقيم ابنه عاصم، إلى حجرة محفورة بالصخر ولكن مفروشة بأثاث حديث وأنيق جلبه القائد لابنه من المنطقة المحيطة بجبال اليبس.
طرق القائد جاسم الباب، وحالما علم عاصم أنه أبوه أسرع لفتح الباب، وتبادل الاثنان التحايا، ثم قال عاصم: تفضل، يا سيدي.
فدخل أبوه، فقال عاصم: تفضل، سيدي، بالجلوس.
جلس القائد، وما لبث عاصم حتى أحضر دلة من القهوة صب منها في فنجان ثم ضيفه لجاسم، وهو يقول: تفضل، يا سيدي.
لقد احترم عاصم أباه كثيرا؛ والسبب الأهم لذلك هو أن أباه رباه تربية شديدة قاسية منذ صغره، لأنه أدرك أن مثل هذه الظروف القاسية لا مجال فيها للدلال والتهاون.
كل هذا جعل شخصية عاصم قوية جدا، بل إن كل من يعرفه قال إنه يشبه في قوته وقسوته وانضباطه أباه تماما، لكأنهما الرجل ذاته!
تحادث الاثنان حديثا عاديا لمدة قصيرة، ثم نظر الأب إلى ابنه الذي كان في الثلاثينيات من عمره، وكان طويل القامة قوي البنية مفتول العضلات، وكان له لحية وشارب أسودا اللون مهذبان،
وشعر رأس أسود كثيف.
وقال الأب: لدي نبأ لك، يا عاصم.
ركز الابن جيدا، حتى قال الأب: لقد غدوتُ قائدا للمقاتلين الذين يخطط الزبير لجمعهم. وقد طلب مني الملك أن أختار رجلا كفئا أثق به يخلفني في قيادة الحرس الخاص به.
سكت القائد قليلا ثم أضاف: لقد تفكرت جيدا... ولم أجد خيرا منك لهذه المهمة.
ابتسم عاصم فورا من الفرحة، إلا أنه وأد ابتسامته في لحظة ولادتها، لأنه طيلة حياته اعتاد التصرف بطريقة رسمية مع القائد جاسم رغم أنه والده.
ثم رد عاصم: شكرا لك، يا سيدي. هذا فضل عظيم منك ومن مولاي الملك.
تنهد القائد جاسم ثم قال: هذه مهمة صعبة للغاية، وعليك أن تبذل قصارى جهدك، وألا تتهاون أبدا، فلا مجال للخطإ.
ثم أضاف: أتعرف ماذا تعني حراسة الملوك؟!
التزم عاصم الصمت، وهو يحدق بإمعان في والده.
ثم أكمل جاسم: إنها تعني ألا تثق بأحد أبدا... ولا حتى بأقرب المقربين من الملك حتى ابنه، لا تثق حتى بي أنا والدك!
"دائما – وفي كل لحظة – تذكر هذا جيدا" قال القائد وهو يضغط بكفه بقوة كبيرة على فخذ ابنه.
ثم أكملا الحديث في تفاصيل حراسة الملك...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي