14
في مدينة الروضة شمالي البقاء، عاش ولد اسمه أمين وفتاة اسمها سمية، وقد عاشا في الحي نفسه. اعتاد أمين النزول إلى الحي واللعب مع أطفاله، ولما كان عمره ستة أعوام، بدأت سمية ذات الأعوام
الأربعة تنزل إلى الحي للعب كذلك. تكونت الصداقة بين الأطفال جميعا، وبين أمين وسمية بالذات، وتعلق أحدهما بالآخر. ومضت الأيام وكبر الفتيان، حتى بلغا، وبات كلاهما يميز ما معنى الحب.
ولما كبرت سمية أمرها أبوها بألا تعود للنزول إلى الحي، لأن سنها لا يسمح لها بالاختلاط بالذكور الذين بعمرها أو أكبر منها. ورغم ذلك، ظل أمين وسمية يرى أحدهما الآخر بين الفينة والآخر
كلما مر أحدهما ببيت الآخر، أو مر أحدهما بالآخر وهما يسيران بالحي. ومع تتابع النظرات وتواليها، تحول تعلق الطفلين أحدهما بالآخر إلى حب جامح لا يستطيع الكون بأكمله ترويضه.
وفي النهاية قرر أمين أنه لا بد وأن يحادث سمية.
توجه أمين ذو الثمانية عشر عاما ذات صباح إلى موضع قريب من بيت سمية، وجعل يراقبه. وفي الظهيرة خرجت سمية من البيت صحبة أختها. تبعهما أمين حتى باتتا بعيدتين عن دارهما.
وهناك نادى أمين: سمية.
التفت سمية وأختها ورأتا أمينا. اجتاحهما الخوف والارتباك، وصاحبه فرحة مناقضة شعرت بها سمية.
فردت سمية بخجل وهي تنظر أرضا: أهلا، أمين.
فقال: أهلا بك.
ازدرد ريقه، ثم أضاف مرتبكا: هل لي أن أحادثك قليلا؟
نظر إلى أختها ثم أكمل: على انفراد.
نظرت سمية إلى أختها، وكأنها تطلب منها أن تتركهما وحدهما.
فقالت أختها: سيقتلنا أبي لو علم بذلك.
فردت سمية: لا تخافي، لن يستغرق الأمر وقتا طويلا.
ابتعدت أخت سمية عنها وعن أمين، ثم قال أمين: سمية، أريد أن أحادثك بأمر معين.
"تفضل" قالت سمية، وأكملت: لكن بسرعة أرجوك.
فقال أمين، وهو في قمة الارتباك: سمية، أنا... أنا... أنا أحبك.
احمرت وجنتاها، وتزاحم الارتباك والفرح بداخلها.
ثم أضاف أمين الذي بدأ يخفت ارتباكه: أنا متعلق بك منذ الصغر، ولما كبرنا تحول التعلق إلى حب. أنا رجل حقيقي ولا أريد التلاعب بك... أنا أريد أن أكمل حياتي معك.
ازداد احمرار وجنتيها، ونظرت في الأرض خجلا.
تسارعت دقات قلب أمين، ثم قال: ما رأيك؟
أرادت سمية أن ترد: "وأنا كذلك أعشقك، ومنذ زمن طويل"، لكن الخجل العظيم الذي غرقت فيه منعها.
أدرك أمين أنها لن ترد، فقرر أن يقول شيئا ليحرك ركود الموقف بينهما، فسأل: هل لي أن آراك غدا بالقرب من بيت العدناني؟!
والعدناني كان أحد أهل الحي الذي يسكنونه، وبيته كان بعيدا عن بيت سمية؛ ولذا اقترحه أمين، حتى لا يرى أبو سمية إياها وهي مع أمين هناك.
ظلت سمية تحدق في الأرض خجلا، ولكنها بعد حين استجمعت قوتها وقالت: حسن.
ثم مضت باتجاه أختها ورحلتا، بينما أمين ينظر إليهما، وهو فرح بموافقتها، مما عنى أنها تبادله المشاعر.
جعل الاثنان يلتقيان، وصرح أحدهما للآخر بالحب عديد المرات.
ولما بلغت سمية من العمر عشرين عاما، تقدم رجل لخطبتها فرفضه أبوها زياد. ولما علم أمين بتقدم رجل لخطبتها، قرر أن يخطبها خشية أن يأتي رجل آخر، فيخطفها من بين يديه. وفي إحدى لقاءاته بها أخبرها بأن يريد أن يطلبها للزواج.
شعرت سمية بالسعادة؛ لأن أمينا صارحها بأنه يريد التقدم لها، ولكنها في الوقت نفسه شعرت بالإحباط؛ لأنه كان فقيرا جدا، ومن المستحيل أن يوافق أبوها على تزويجها إياه.
لقد كان زياد ذا مال كثير، بل كان أغنى رجل في الحي كله. وقد رفض تزويج أي من بناته للفقراء، ولكن في الوقت نفسه حتى لو تقدم رجل غني لخطبة إحدى بناته، ما كان يجبرها على الزواج منه،
بل اشترط موافقتها على ذلك، وذلك احتراما لتقاليد عشيرته الكبيرة، التي عابت أن يفرض الرجل على ابنته الزواج من رجل ما عنوة. وقد كان زياد رجلا تقليديا تهمه سمعته ولم يكن ليخالف تقاليد
عائلته. وقد تقدم لخطبة أخت سمية الكبيرة ستة رجال، رفضهم زياد جميعا لأنهم فقراء، حتى أتى رجل سابع غني وافقت عليه أخت سمية، فوافق زياد على زواجهما.
أخبرت سمية أمينا بكل هذا، وأنه من المستحيل أن يوافق عليه أبوها.
وهكذا انتقل الإحباط الذي بداخلها كأنه عدوى إلى أمين، وبات كلاهما يئن ويعاني منه.
تفكر أمين في كل هذا الكلام جيدا، وبتمعن. وبعد تفكر عميق، توصل إلى الحل، وهو أن يصير غنيا، وقد آمن بذكائه وبقدرته على ذلك، وأيقن أن الحظ لا بد أن يرضخ له؛ لأن الحب بينه وبين
سمية أقوى من أي شيء في الكون.
وبعد أيام، التقى سمية من جديد.
قال أمين: سمية، لقد وجدت حلا لمعضلتنا.
فردت بلهفة: وما هي؟ أرجوك أخبرني، وأرحني.
فأجاب: سمية، أعدك بأن أصير غنيا، وأن أعود لخطبتك بعد ذلك، وبالتأكيد سيوافق أبوك حينئذ.
لم تصدق سمية ما يقول، وأحست أنه شيء مستحيل؛ فهو فقير جدا، وأبوها غني جدا، ومن المستحيل أن يصل أمين لمقدار غنى والدها، وحتى لو افتُرضَ ذلك جدلا، فذلك يحتاج سنوات طويلة
وربما عمرا بأكمله.
شعرت سمية بالإحباط، ونظرت بيأس إلى الأرض.
فقال أمين: أرجوك، لا تستسلمي. أعدك بأنني سأنجح.
ثم أضاف: سمية، لا تقبلي الزواج من أي رجل يتقدم لك. أنت أخبرتني أن أباك لا يمكن وأن يجبرك على الزواج. أريدك أن تظلي ترفضي كل من يتقدم إليك حتى أرجع لك. وأعدك بأنني سأعود
وبأنني لن أتأخر كثيرا... أرجوك، اصبري... من أجلي... ومن أجلنا.
شعرت سمية بارتياح نوعا ما من كلامه، ثم قالت: حسنٌ، أعدك أنني سأصبر، حتى لو انتظرت مدى العمر من أجلك، حتى لو باغتتني المنية وأنا لما أتزوج بعد.
***
استمر أمين بالتفكير بعمق وروية وتركيز فيما سيفعله، ليتمكن من إقناع زياد بأن يقبل تزويجه من سمية.
وبعد كل هذا التفكير، توصل إلى أنه يجب أن يبدأ رحلة البحث عن الثراء. وثق أنه سينجح؛ فمنذ صغره امتاز بالذكاء والفطنة، وهو أمر علمه جيدا كما علمه كل من حوله. وقد امتاز بالتفاؤل،
وآمن دوما أن الحظ يبتسم للعظماء الذين يبذلون جهودا كبيرة لتحقيق أحلامهم.
بدأ بتنفيذ خطته، وأولى خطواته كانت الاستعانة بأخيه الصغير وابن عمه؛ لأنهم سيقبلون العمل معه بأقل مردود ممكن، بل حتى لو لم يعد عليهم الأمر بأي مردود.
خطته استندت إلى أن يجوب شتى أنحاء مملكة البقاء وكذلك مملكتي ياقوتة والهيجاء، رغم المساحة الشاسعة لهذه المناطق. وقد تقاسم هو وأخوه وابن عمه هذه المناطق، بحيث يذهب كل منهم إلى
عدد معين منها. وعندما يصل كل واحد منهم منطقة ما، فإنه يسأل أهلها ماذا تملك وماذا تحتاج من البضائع، ثم يسجل كل هذا.
وبعد مرور أربع سنوات كاملة على هذا الحال، بات لدى أمين سجل كامل يحتوي ما تملكه كل مدينة - بل كل قرية حتى – من البضائع وما تحتاجه، من أقصى شرق الممالك الثلاث إلى أقصى
غربها ومن أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها.
ولقد قرر أمين مسبقا أن يمضي كل هذه الأعوام في تسجيل ما تحتاجه وما تمتلكه القرى والمدن. فرغم أنها مدة طويلة، ويستصعب أي تاجر أن يسخرها فقط للبحث عن حاجات القرى وما تملكه،
وأن يجازف بهذه المدة من حياته في شيء غير مضمون ودون مردود، إلا أن أمينا أيقن جيدا أن الصبر زاد العظماء، وأنه من الأمور الضرورية لصناعة الأساطير من البشر.
لم يكن أمين فقيرا معدما، بل امتلك رأسَ مالٍ صغيراً. وفي البداية استخدمه لشراء البضائع وإرسالها إلى المناطق التي تحتاجها وفق السجل الذي معه. ومع مرور الوقت ومع الصبر العظيم، طفق
رأس ماله يزيد شيئا فشيئا. وكلما زاد ماله وظف عاملا جديدا إضافة إلى أخيه وابن عمه. وظل رأس المال يكبر ويكبر، من خلال ذكاء أمين. ومع مرور الوقت، جعل أمين يصير مشهورا شيئا فشيئا.
وبعد مرور تسع سنوات منذ قراره بالبحث عن الثراء وبدئه في تنفيذ خطته، غدا أشهر تاجر وأغنى تاجر في البقاء كلها، بل في البقاء والهيجاء وياقوتة معا.
لقد حقق معجزة خيالية تاريخية في فترة قياسية. ما فعله كان أسطوريا بل شيئا من الخيال، وأثار إعجاب ودهشة أهل الممالك الثلاث جميعا.
***
اشترى أمين أكبر قصر في مدينة الروضة. وقد تكون من غرف كثيرة، وساحات كثيرة واسعة أطلت على الهواء الطلق. وقد كان مبنيا من الحجارة البيضاء الثمينة، وامتلأ بالأعمدة. وقد لُبست
الجدران والأرضية والأسقفة برخام جميل مزين بأحلى الألوان. وامتلأ بالأبنية إسطوانية الشكل التي انتهت بالأعلى بالقباب التي تسحر الألباب.
لقد أراد أمين هذا القصر لمناسبة معينة، إذ حان الوقت لإيفائه بوعده لسمية. توجه أمين إلى دار سمية والتقى والدها، حيث حضر كثير من أقربائها. وحمل أمين معه كثيرا من الصناديق التي امتلأت بالذهب والحلي واللباس.
كان أبو سمية على علم مسبق بنية أمين التقدم لطلب يد سمية، وهو عرف أمينا جيدا؛ فمن لا يعرف أغنى رجل في الممالك الثلاث؟! الرجل الذي كان قبل سنوات نكرة بالنسبة لأبي سمية،
رغم أنهما عاشا في الحي نفسه!
لم يستطع أبو سمية أن يقاوم كل هذا، فقد ارتجف قلبه بقوة وهو يرى منظر لمعان الذهب، أجمل منظر بالنسبة له. وبسرعة وفرحة استشار ابنته سمية بخصوص قبولها بالزواج من أمين،
وهو يرجو أن توافق ليفوز بالذهب، وقد وافقت فورا ودون تردد، مما زاد فرحة الأب الذي لم يعلم بالحب الدفين الذي عمره سنوات كثيرة بين أمين وابنته.
وبعد أيام، أقيم حفل الزفاف الذي لم يشهد له أحد في البقاء كلها مثيلا. أتى أمين - وهو يلبس ثوبا جميلا فريدا - على رأس موكب يتكون من العشرات إلى دار سمية، التي لبست فستانا لم ير مثله أحد قط من أهل البقاء، وتزينت بعقد وحلقين من الماس، وأحاطت الأساور الذهبية المرصعة بالماس يديها. واصطحبها من هناك باتجاه قصره الجديد الفريد. وأثناء سير الموكب، جعل بعض خدم
أمين يرمون الزهور بشتى ألوانها على الناس الذين شاهدوا الموكب مذهولين. بينما وجد في الموكب عدد من الطبالين الذين جعلوا يدقون بأنغام فريدة على دفوفهم.
وصل العريسان إلى قصرهما، وأقيمت هنالك الولائم التي أكل منها معظم أهل الروضة. واستمر ذلك ما يقرب الأسبوعين، حيث أتى الناس باستمرار لتناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب
والحلويات، والاستماع للأصوات العذبة للمغنين والمغنيات والطبالين والعازفين الذين ملؤوا القصر. فرح الجميع، حتى قيل: إن رجلا واحدا أطعم كل أهل الروضة!
وأكبر الفرحين – بالطبع – كان أمينا وزوجه سمية، إذ قال لها بابتسامة عريضة: لقد أوفيت بوعدي لك، وعدت بكل هذا المال فقط من أجلك.
وردت هي بابتسامة أعرض: وأنا أوفيت بوعدي لك، وانتظرتك كل تلك السنين ولم أوافق على أحد غيرك، يا أغلى شيء على قلبي.
***
عاش أمين مع سمية حياة أسطورية فردية؛ لأنها امتلأت سعادة ندر أن يتمتع بمثلها أغلب الناس. وكانت سمية تعتني بأي شيء يخص أمينا، مهما صغر، اعتنت بأدق التفاصيل وأصغرها.
منذ اليوم الأول لزواجهما اعتادت أن تستيقظ قبل الفجر، وأن تنظف غرفتهما –بنفسها- ولكن بهدوء تام حتى لا يستيقظ زوجها، واعتادت أن تجهز له كل يوم ثيابا وحذائين لم يستخدمهما في اليوم السابق، حتى يجدهما فورا حال استيقاظه، كما اعتادت أن تعد له كل يوم صباحا طبقا جديدا من الفطور، إضافة لطبق من الفاكهة التي تنوعت مع كل يوم، وطبقا من الحلوى الجديدة. لقد استطاعت
أن تجعل أي خادمة من خادماتها – وما أكثرهن!- تفعل ذلك، غير أنها أرادت أن يتم ذلك بأفضل وجه، وأن تشعر زوجها أن الاهتمام يأتي منها هي لا غيرهاز اعتادت بعد ذلك الجلوس
على كرسي في الغرفة تنظر إلى زوجها، وتتأمل فيه إلى حين استيقاظه. وفور استيقاظه يجدها في أجمل هيئة وأحلى لباس، وهي تبتسم له وتقول: صباح الخير. فيمتلئ قلبه سرورا برؤية
أكثر من يحب في العالم. ثم تقوم وتقبله وتحضنه، وبعدها يقوم هو ليغسل وجهه، ويعود ليجلس، فيجد ألذ الطعام الذي تشاركه فيه زوجته، وقد اعتادت أن تدلّله فتطعمه بيديها بين الحين
والآخر، وهذا أمر أسعده كثيرا. وبعد وقت عندما يعتزم الخروج يجد لباسه وحذاءه بانتظاره، فيحمد الله على الزوجة التي لا مثيل لها، وقبل أن يغادر تسأله ماذا يحب أن يتغدى اليوم
وأي حلوى يحب أن يتذوق، وأي عصير يحب أن يشرب! فيبتسم ويجيبها عن كل هذا، وهو يحمد الله على هذه الهدية العظيمة. وفي الليل يتكرر الأمر مع العشاء، وما لذ وطاب من
الحلوى والفاكهة والشراب الذي يتنوع مع كل يوم ولا يتكرر إلا بعد مرور أيام كثيرة. ولقد حرصت سمية على ألا تغضب زوجها على الإطلاق، وحتى مع أتفه خطإ، اعتادت أن
تعتذر له أشد اعتذار فورا وتحرص على أنه تقبله. ولم يطلب قط منها طلبا إلا ونفذته. ووسط هذه العناية الجنونية منها به، ظن أمين في كثير من الأحيان أن لديها وسواسا براحته
وسعادته، وكثيرا جدا ما طلب منها ألا تقسو على نفسها من أجله، ودوما ما جاوبته بابتسامتها الرقيقة البريئة، وبأن قسوتها على نفسها من أجله يملأ قلبها بالفرح والسرور.
ذات يوم نظر الزوج السعيد إلى وجه زوجته الجميل، وقال وهو يبتسم: أنا أسعد رجل في العالم، لا تتصورين مدى سعادتي بكِ!
ثم أمسك بيدها الناعمة، وأضاف: لا يهمني أي شيء في هذا العالم سواكِ. لقد رزقني الله كما هائلا من المال، لا أظن أحدا في هذه البلاد يمتلك مثله، كل من أقابلهم وأعرفهم يتمنون
عُشر هذا المال، ويظنون أن من يمتلكه أسعد الأنام. لكن كل هذا المال الجم لا يعني شيئا بجانبك. أنا أكثر الناس حظا في هذا العالم، لأنك لي، ولأنني لكِ.
ملأ السرور قلب سمية، التي ابتسمت ابتسامة بريئة ساحرة، وردت: لو عشت معك – يا حبيبي – في كوخ كل حياتي، لكنت أسعد البشر. أنت حياتي كلها.
زادت ابتسامتها اتساعا وبانت غمازاتها الساحرة وهي تقول: أحبك حبا جنونيا لم يحبه أحد لأحد آخر في التاريخ كله. حتى في أكثر القصص والأشعار مبالغة، لا يوجد حب يضاهي
حبي لك.
ربما يبدو هذا الكلام مبالغة من كليهما، ولا يصدق! وربما يبدو كلامهما عن عدم اهتمامهما بالمال نفاقا وكذبا! لكن كلاهما عنى جيدا الكلام الذي قاله، واستعد للتضحية بكل شيء
مهما عظم من أجل الآخر.
***
تعرف أمين وسمية، على رجل ثري من رجال الروضة اسمه عابد، وبات صديقهما.
وذات يوم أتى لزيارتهما، في قصر أمين.
تبادل الثلاثة التحايا، وجالس عابد الزوجين.
وطفقوا يتحدثون، ثم أحضر الخدم الفاكهة والعصير، ليشرب منها ويأكل الثلاثة.
وطفقت سمية كعادتها، تعتني بزوجها فتقشر له الفاكهة وتقدمها له؛ ما أثار دهشة عابد الذي لم ير زوجين يعشق أحدهما الآخر، كسمية وأمين.
وقال عابد: أنا مستغرب من أمر معين، يا أمين.
فرد أمين بأدبه وهدوئه وصوته المنخفض: وما هو؟
فأجاب عابد: أنا مستغرب من أدبك وهدوئك، وانخفاض صوتك عند الحديث... والأغرب أن سمية تشاركك الأمور ذاتها... برأيي أناس باتوا أغنياء جدا مثلكما، يجب أن يكونوا
حيويين متحمسين... وربما حتى مغرورين... أنا مستغرب للغاية من تواضعكما.
ابتسم أمين، وأجاب بأدبه: هل تحسب أن الغنى سيغيرني؟! أنا وسمية كنا هكذا قبل أن نغدو غنيين، وسنظل هكذا إلى الأبد، ولن يغيرنا شيء تافه كلون الذهب.
نظر أمين إلى زوجه وهو يبتسم، فبادلته الابتسام، وأومأت برأسها مؤكدة اتفاقها معه.
تعجب عابد، كيف أن رجلا بمثل هذا الثراء يحتقر المال؛ فهو لا يدري أن المال – بالنسبة لأمين- شكل مجرد وسيلة لا غاية، فقد أراده كي يتمكن من الزواج بسمية.
ثم قال عابد: وأستغرب من قلة إنفاقكما لما لديكما من مال.
فقال أمين بهدوئه: الحياة علمتني أن المال نعمة من الله، إن لم نشكره عليها، وإن تكبرنا عليها، أو بذرنا، فسيضيع كل ما أملك.
ومن جديد تعجب عابد من الكلام، وأخذ يفكر بأنه لوامتلك مالا مثل أمين، لبذر واشترى كل ما يجول في باله. صحيح أنه ثري جدا، بيد أن أمينا كان غنيا لدرجة كبيرة تجعل
مال عابد الجم مجرد قروش حقيرة بالنسبة لثروته.
***
عاش أمين وسمية حياة سعيدة، حتى إنه شاع في البقاء أنهم أسعد زوجين فيها، وترسخت هذه القناعة لدى كثيرين من أهل المملكة.
ولم ينغص عليهما حياتهما - لا سيما أمين - إلا ما حدث لاحقا، حين احتلت البقاء.
فلما انقض الضبعان ملكا ياقوتة والهيجاء على البقاء وتقاسماها، حزن أمين حزنا عظيما، وحزن على ما حدث لملكها وآله، من قتل وتمثيل ومطاردة من تبقى حيا منهم في كل البسيطة.
لقد أحب أمين البقاء حبا جما، وحقد على المملكتين العدوتين؛ وقرر أن يتوقف عن التجارة فيهما، واكتفى بالتجارة فيما تبقى من أراضي البقاء، وسحب كل أمواله من ياقوتة والهيجاء.
وانتشر عنه في كل البقاء حبه الشديد لها، وأنه فعل كل هذا فقط لأنه رجل وطني أحب بلده بجنون.
وكذلك سمية تألمت كثيرا مما حدث للبقاء، أقدس شيء على قلبها، وتمنت لو تتحرر البقاء يوما، وينتقم أهلها من أعدائها.
***
الأربعة تنزل إلى الحي للعب كذلك. تكونت الصداقة بين الأطفال جميعا، وبين أمين وسمية بالذات، وتعلق أحدهما بالآخر. ومضت الأيام وكبر الفتيان، حتى بلغا، وبات كلاهما يميز ما معنى الحب.
ولما كبرت سمية أمرها أبوها بألا تعود للنزول إلى الحي، لأن سنها لا يسمح لها بالاختلاط بالذكور الذين بعمرها أو أكبر منها. ورغم ذلك، ظل أمين وسمية يرى أحدهما الآخر بين الفينة والآخر
كلما مر أحدهما ببيت الآخر، أو مر أحدهما بالآخر وهما يسيران بالحي. ومع تتابع النظرات وتواليها، تحول تعلق الطفلين أحدهما بالآخر إلى حب جامح لا يستطيع الكون بأكمله ترويضه.
وفي النهاية قرر أمين أنه لا بد وأن يحادث سمية.
توجه أمين ذو الثمانية عشر عاما ذات صباح إلى موضع قريب من بيت سمية، وجعل يراقبه. وفي الظهيرة خرجت سمية من البيت صحبة أختها. تبعهما أمين حتى باتتا بعيدتين عن دارهما.
وهناك نادى أمين: سمية.
التفت سمية وأختها ورأتا أمينا. اجتاحهما الخوف والارتباك، وصاحبه فرحة مناقضة شعرت بها سمية.
فردت سمية بخجل وهي تنظر أرضا: أهلا، أمين.
فقال: أهلا بك.
ازدرد ريقه، ثم أضاف مرتبكا: هل لي أن أحادثك قليلا؟
نظر إلى أختها ثم أكمل: على انفراد.
نظرت سمية إلى أختها، وكأنها تطلب منها أن تتركهما وحدهما.
فقالت أختها: سيقتلنا أبي لو علم بذلك.
فردت سمية: لا تخافي، لن يستغرق الأمر وقتا طويلا.
ابتعدت أخت سمية عنها وعن أمين، ثم قال أمين: سمية، أريد أن أحادثك بأمر معين.
"تفضل" قالت سمية، وأكملت: لكن بسرعة أرجوك.
فقال أمين، وهو في قمة الارتباك: سمية، أنا... أنا... أنا أحبك.
احمرت وجنتاها، وتزاحم الارتباك والفرح بداخلها.
ثم أضاف أمين الذي بدأ يخفت ارتباكه: أنا متعلق بك منذ الصغر، ولما كبرنا تحول التعلق إلى حب. أنا رجل حقيقي ولا أريد التلاعب بك... أنا أريد أن أكمل حياتي معك.
ازداد احمرار وجنتيها، ونظرت في الأرض خجلا.
تسارعت دقات قلب أمين، ثم قال: ما رأيك؟
أرادت سمية أن ترد: "وأنا كذلك أعشقك، ومنذ زمن طويل"، لكن الخجل العظيم الذي غرقت فيه منعها.
أدرك أمين أنها لن ترد، فقرر أن يقول شيئا ليحرك ركود الموقف بينهما، فسأل: هل لي أن آراك غدا بالقرب من بيت العدناني؟!
والعدناني كان أحد أهل الحي الذي يسكنونه، وبيته كان بعيدا عن بيت سمية؛ ولذا اقترحه أمين، حتى لا يرى أبو سمية إياها وهي مع أمين هناك.
ظلت سمية تحدق في الأرض خجلا، ولكنها بعد حين استجمعت قوتها وقالت: حسن.
ثم مضت باتجاه أختها ورحلتا، بينما أمين ينظر إليهما، وهو فرح بموافقتها، مما عنى أنها تبادله المشاعر.
جعل الاثنان يلتقيان، وصرح أحدهما للآخر بالحب عديد المرات.
ولما بلغت سمية من العمر عشرين عاما، تقدم رجل لخطبتها فرفضه أبوها زياد. ولما علم أمين بتقدم رجل لخطبتها، قرر أن يخطبها خشية أن يأتي رجل آخر، فيخطفها من بين يديه. وفي إحدى لقاءاته بها أخبرها بأن يريد أن يطلبها للزواج.
شعرت سمية بالسعادة؛ لأن أمينا صارحها بأنه يريد التقدم لها، ولكنها في الوقت نفسه شعرت بالإحباط؛ لأنه كان فقيرا جدا، ومن المستحيل أن يوافق أبوها على تزويجها إياه.
لقد كان زياد ذا مال كثير، بل كان أغنى رجل في الحي كله. وقد رفض تزويج أي من بناته للفقراء، ولكن في الوقت نفسه حتى لو تقدم رجل غني لخطبة إحدى بناته، ما كان يجبرها على الزواج منه،
بل اشترط موافقتها على ذلك، وذلك احتراما لتقاليد عشيرته الكبيرة، التي عابت أن يفرض الرجل على ابنته الزواج من رجل ما عنوة. وقد كان زياد رجلا تقليديا تهمه سمعته ولم يكن ليخالف تقاليد
عائلته. وقد تقدم لخطبة أخت سمية الكبيرة ستة رجال، رفضهم زياد جميعا لأنهم فقراء، حتى أتى رجل سابع غني وافقت عليه أخت سمية، فوافق زياد على زواجهما.
أخبرت سمية أمينا بكل هذا، وأنه من المستحيل أن يوافق عليه أبوها.
وهكذا انتقل الإحباط الذي بداخلها كأنه عدوى إلى أمين، وبات كلاهما يئن ويعاني منه.
تفكر أمين في كل هذا الكلام جيدا، وبتمعن. وبعد تفكر عميق، توصل إلى الحل، وهو أن يصير غنيا، وقد آمن بذكائه وبقدرته على ذلك، وأيقن أن الحظ لا بد أن يرضخ له؛ لأن الحب بينه وبين
سمية أقوى من أي شيء في الكون.
وبعد أيام، التقى سمية من جديد.
قال أمين: سمية، لقد وجدت حلا لمعضلتنا.
فردت بلهفة: وما هي؟ أرجوك أخبرني، وأرحني.
فأجاب: سمية، أعدك بأن أصير غنيا، وأن أعود لخطبتك بعد ذلك، وبالتأكيد سيوافق أبوك حينئذ.
لم تصدق سمية ما يقول، وأحست أنه شيء مستحيل؛ فهو فقير جدا، وأبوها غني جدا، ومن المستحيل أن يصل أمين لمقدار غنى والدها، وحتى لو افتُرضَ ذلك جدلا، فذلك يحتاج سنوات طويلة
وربما عمرا بأكمله.
شعرت سمية بالإحباط، ونظرت بيأس إلى الأرض.
فقال أمين: أرجوك، لا تستسلمي. أعدك بأنني سأنجح.
ثم أضاف: سمية، لا تقبلي الزواج من أي رجل يتقدم لك. أنت أخبرتني أن أباك لا يمكن وأن يجبرك على الزواج. أريدك أن تظلي ترفضي كل من يتقدم إليك حتى أرجع لك. وأعدك بأنني سأعود
وبأنني لن أتأخر كثيرا... أرجوك، اصبري... من أجلي... ومن أجلنا.
شعرت سمية بارتياح نوعا ما من كلامه، ثم قالت: حسنٌ، أعدك أنني سأصبر، حتى لو انتظرت مدى العمر من أجلك، حتى لو باغتتني المنية وأنا لما أتزوج بعد.
***
استمر أمين بالتفكير بعمق وروية وتركيز فيما سيفعله، ليتمكن من إقناع زياد بأن يقبل تزويجه من سمية.
وبعد كل هذا التفكير، توصل إلى أنه يجب أن يبدأ رحلة البحث عن الثراء. وثق أنه سينجح؛ فمنذ صغره امتاز بالذكاء والفطنة، وهو أمر علمه جيدا كما علمه كل من حوله. وقد امتاز بالتفاؤل،
وآمن دوما أن الحظ يبتسم للعظماء الذين يبذلون جهودا كبيرة لتحقيق أحلامهم.
بدأ بتنفيذ خطته، وأولى خطواته كانت الاستعانة بأخيه الصغير وابن عمه؛ لأنهم سيقبلون العمل معه بأقل مردود ممكن، بل حتى لو لم يعد عليهم الأمر بأي مردود.
خطته استندت إلى أن يجوب شتى أنحاء مملكة البقاء وكذلك مملكتي ياقوتة والهيجاء، رغم المساحة الشاسعة لهذه المناطق. وقد تقاسم هو وأخوه وابن عمه هذه المناطق، بحيث يذهب كل منهم إلى
عدد معين منها. وعندما يصل كل واحد منهم منطقة ما، فإنه يسأل أهلها ماذا تملك وماذا تحتاج من البضائع، ثم يسجل كل هذا.
وبعد مرور أربع سنوات كاملة على هذا الحال، بات لدى أمين سجل كامل يحتوي ما تملكه كل مدينة - بل كل قرية حتى – من البضائع وما تحتاجه، من أقصى شرق الممالك الثلاث إلى أقصى
غربها ومن أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها.
ولقد قرر أمين مسبقا أن يمضي كل هذه الأعوام في تسجيل ما تحتاجه وما تمتلكه القرى والمدن. فرغم أنها مدة طويلة، ويستصعب أي تاجر أن يسخرها فقط للبحث عن حاجات القرى وما تملكه،
وأن يجازف بهذه المدة من حياته في شيء غير مضمون ودون مردود، إلا أن أمينا أيقن جيدا أن الصبر زاد العظماء، وأنه من الأمور الضرورية لصناعة الأساطير من البشر.
لم يكن أمين فقيرا معدما، بل امتلك رأسَ مالٍ صغيراً. وفي البداية استخدمه لشراء البضائع وإرسالها إلى المناطق التي تحتاجها وفق السجل الذي معه. ومع مرور الوقت ومع الصبر العظيم، طفق
رأس ماله يزيد شيئا فشيئا. وكلما زاد ماله وظف عاملا جديدا إضافة إلى أخيه وابن عمه. وظل رأس المال يكبر ويكبر، من خلال ذكاء أمين. ومع مرور الوقت، جعل أمين يصير مشهورا شيئا فشيئا.
وبعد مرور تسع سنوات منذ قراره بالبحث عن الثراء وبدئه في تنفيذ خطته، غدا أشهر تاجر وأغنى تاجر في البقاء كلها، بل في البقاء والهيجاء وياقوتة معا.
لقد حقق معجزة خيالية تاريخية في فترة قياسية. ما فعله كان أسطوريا بل شيئا من الخيال، وأثار إعجاب ودهشة أهل الممالك الثلاث جميعا.
***
اشترى أمين أكبر قصر في مدينة الروضة. وقد تكون من غرف كثيرة، وساحات كثيرة واسعة أطلت على الهواء الطلق. وقد كان مبنيا من الحجارة البيضاء الثمينة، وامتلأ بالأعمدة. وقد لُبست
الجدران والأرضية والأسقفة برخام جميل مزين بأحلى الألوان. وامتلأ بالأبنية إسطوانية الشكل التي انتهت بالأعلى بالقباب التي تسحر الألباب.
لقد أراد أمين هذا القصر لمناسبة معينة، إذ حان الوقت لإيفائه بوعده لسمية. توجه أمين إلى دار سمية والتقى والدها، حيث حضر كثير من أقربائها. وحمل أمين معه كثيرا من الصناديق التي امتلأت بالذهب والحلي واللباس.
كان أبو سمية على علم مسبق بنية أمين التقدم لطلب يد سمية، وهو عرف أمينا جيدا؛ فمن لا يعرف أغنى رجل في الممالك الثلاث؟! الرجل الذي كان قبل سنوات نكرة بالنسبة لأبي سمية،
رغم أنهما عاشا في الحي نفسه!
لم يستطع أبو سمية أن يقاوم كل هذا، فقد ارتجف قلبه بقوة وهو يرى منظر لمعان الذهب، أجمل منظر بالنسبة له. وبسرعة وفرحة استشار ابنته سمية بخصوص قبولها بالزواج من أمين،
وهو يرجو أن توافق ليفوز بالذهب، وقد وافقت فورا ودون تردد، مما زاد فرحة الأب الذي لم يعلم بالحب الدفين الذي عمره سنوات كثيرة بين أمين وابنته.
وبعد أيام، أقيم حفل الزفاف الذي لم يشهد له أحد في البقاء كلها مثيلا. أتى أمين - وهو يلبس ثوبا جميلا فريدا - على رأس موكب يتكون من العشرات إلى دار سمية، التي لبست فستانا لم ير مثله أحد قط من أهل البقاء، وتزينت بعقد وحلقين من الماس، وأحاطت الأساور الذهبية المرصعة بالماس يديها. واصطحبها من هناك باتجاه قصره الجديد الفريد. وأثناء سير الموكب، جعل بعض خدم
أمين يرمون الزهور بشتى ألوانها على الناس الذين شاهدوا الموكب مذهولين. بينما وجد في الموكب عدد من الطبالين الذين جعلوا يدقون بأنغام فريدة على دفوفهم.
وصل العريسان إلى قصرهما، وأقيمت هنالك الولائم التي أكل منها معظم أهل الروضة. واستمر ذلك ما يقرب الأسبوعين، حيث أتى الناس باستمرار لتناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب
والحلويات، والاستماع للأصوات العذبة للمغنين والمغنيات والطبالين والعازفين الذين ملؤوا القصر. فرح الجميع، حتى قيل: إن رجلا واحدا أطعم كل أهل الروضة!
وأكبر الفرحين – بالطبع – كان أمينا وزوجه سمية، إذ قال لها بابتسامة عريضة: لقد أوفيت بوعدي لك، وعدت بكل هذا المال فقط من أجلك.
وردت هي بابتسامة أعرض: وأنا أوفيت بوعدي لك، وانتظرتك كل تلك السنين ولم أوافق على أحد غيرك، يا أغلى شيء على قلبي.
***
عاش أمين مع سمية حياة أسطورية فردية؛ لأنها امتلأت سعادة ندر أن يتمتع بمثلها أغلب الناس. وكانت سمية تعتني بأي شيء يخص أمينا، مهما صغر، اعتنت بأدق التفاصيل وأصغرها.
منذ اليوم الأول لزواجهما اعتادت أن تستيقظ قبل الفجر، وأن تنظف غرفتهما –بنفسها- ولكن بهدوء تام حتى لا يستيقظ زوجها، واعتادت أن تجهز له كل يوم ثيابا وحذائين لم يستخدمهما في اليوم السابق، حتى يجدهما فورا حال استيقاظه، كما اعتادت أن تعد له كل يوم صباحا طبقا جديدا من الفطور، إضافة لطبق من الفاكهة التي تنوعت مع كل يوم، وطبقا من الحلوى الجديدة. لقد استطاعت
أن تجعل أي خادمة من خادماتها – وما أكثرهن!- تفعل ذلك، غير أنها أرادت أن يتم ذلك بأفضل وجه، وأن تشعر زوجها أن الاهتمام يأتي منها هي لا غيرهاز اعتادت بعد ذلك الجلوس
على كرسي في الغرفة تنظر إلى زوجها، وتتأمل فيه إلى حين استيقاظه. وفور استيقاظه يجدها في أجمل هيئة وأحلى لباس، وهي تبتسم له وتقول: صباح الخير. فيمتلئ قلبه سرورا برؤية
أكثر من يحب في العالم. ثم تقوم وتقبله وتحضنه، وبعدها يقوم هو ليغسل وجهه، ويعود ليجلس، فيجد ألذ الطعام الذي تشاركه فيه زوجته، وقد اعتادت أن تدلّله فتطعمه بيديها بين الحين
والآخر، وهذا أمر أسعده كثيرا. وبعد وقت عندما يعتزم الخروج يجد لباسه وحذاءه بانتظاره، فيحمد الله على الزوجة التي لا مثيل لها، وقبل أن يغادر تسأله ماذا يحب أن يتغدى اليوم
وأي حلوى يحب أن يتذوق، وأي عصير يحب أن يشرب! فيبتسم ويجيبها عن كل هذا، وهو يحمد الله على هذه الهدية العظيمة. وفي الليل يتكرر الأمر مع العشاء، وما لذ وطاب من
الحلوى والفاكهة والشراب الذي يتنوع مع كل يوم ولا يتكرر إلا بعد مرور أيام كثيرة. ولقد حرصت سمية على ألا تغضب زوجها على الإطلاق، وحتى مع أتفه خطإ، اعتادت أن
تعتذر له أشد اعتذار فورا وتحرص على أنه تقبله. ولم يطلب قط منها طلبا إلا ونفذته. ووسط هذه العناية الجنونية منها به، ظن أمين في كثير من الأحيان أن لديها وسواسا براحته
وسعادته، وكثيرا جدا ما طلب منها ألا تقسو على نفسها من أجله، ودوما ما جاوبته بابتسامتها الرقيقة البريئة، وبأن قسوتها على نفسها من أجله يملأ قلبها بالفرح والسرور.
ذات يوم نظر الزوج السعيد إلى وجه زوجته الجميل، وقال وهو يبتسم: أنا أسعد رجل في العالم، لا تتصورين مدى سعادتي بكِ!
ثم أمسك بيدها الناعمة، وأضاف: لا يهمني أي شيء في هذا العالم سواكِ. لقد رزقني الله كما هائلا من المال، لا أظن أحدا في هذه البلاد يمتلك مثله، كل من أقابلهم وأعرفهم يتمنون
عُشر هذا المال، ويظنون أن من يمتلكه أسعد الأنام. لكن كل هذا المال الجم لا يعني شيئا بجانبك. أنا أكثر الناس حظا في هذا العالم، لأنك لي، ولأنني لكِ.
ملأ السرور قلب سمية، التي ابتسمت ابتسامة بريئة ساحرة، وردت: لو عشت معك – يا حبيبي – في كوخ كل حياتي، لكنت أسعد البشر. أنت حياتي كلها.
زادت ابتسامتها اتساعا وبانت غمازاتها الساحرة وهي تقول: أحبك حبا جنونيا لم يحبه أحد لأحد آخر في التاريخ كله. حتى في أكثر القصص والأشعار مبالغة، لا يوجد حب يضاهي
حبي لك.
ربما يبدو هذا الكلام مبالغة من كليهما، ولا يصدق! وربما يبدو كلامهما عن عدم اهتمامهما بالمال نفاقا وكذبا! لكن كلاهما عنى جيدا الكلام الذي قاله، واستعد للتضحية بكل شيء
مهما عظم من أجل الآخر.
***
تعرف أمين وسمية، على رجل ثري من رجال الروضة اسمه عابد، وبات صديقهما.
وذات يوم أتى لزيارتهما، في قصر أمين.
تبادل الثلاثة التحايا، وجالس عابد الزوجين.
وطفقوا يتحدثون، ثم أحضر الخدم الفاكهة والعصير، ليشرب منها ويأكل الثلاثة.
وطفقت سمية كعادتها، تعتني بزوجها فتقشر له الفاكهة وتقدمها له؛ ما أثار دهشة عابد الذي لم ير زوجين يعشق أحدهما الآخر، كسمية وأمين.
وقال عابد: أنا مستغرب من أمر معين، يا أمين.
فرد أمين بأدبه وهدوئه وصوته المنخفض: وما هو؟
فأجاب عابد: أنا مستغرب من أدبك وهدوئك، وانخفاض صوتك عند الحديث... والأغرب أن سمية تشاركك الأمور ذاتها... برأيي أناس باتوا أغنياء جدا مثلكما، يجب أن يكونوا
حيويين متحمسين... وربما حتى مغرورين... أنا مستغرب للغاية من تواضعكما.
ابتسم أمين، وأجاب بأدبه: هل تحسب أن الغنى سيغيرني؟! أنا وسمية كنا هكذا قبل أن نغدو غنيين، وسنظل هكذا إلى الأبد، ولن يغيرنا شيء تافه كلون الذهب.
نظر أمين إلى زوجه وهو يبتسم، فبادلته الابتسام، وأومأت برأسها مؤكدة اتفاقها معه.
تعجب عابد، كيف أن رجلا بمثل هذا الثراء يحتقر المال؛ فهو لا يدري أن المال – بالنسبة لأمين- شكل مجرد وسيلة لا غاية، فقد أراده كي يتمكن من الزواج بسمية.
ثم قال عابد: وأستغرب من قلة إنفاقكما لما لديكما من مال.
فقال أمين بهدوئه: الحياة علمتني أن المال نعمة من الله، إن لم نشكره عليها، وإن تكبرنا عليها، أو بذرنا، فسيضيع كل ما أملك.
ومن جديد تعجب عابد من الكلام، وأخذ يفكر بأنه لوامتلك مالا مثل أمين، لبذر واشترى كل ما يجول في باله. صحيح أنه ثري جدا، بيد أن أمينا كان غنيا لدرجة كبيرة تجعل
مال عابد الجم مجرد قروش حقيرة بالنسبة لثروته.
***
عاش أمين وسمية حياة سعيدة، حتى إنه شاع في البقاء أنهم أسعد زوجين فيها، وترسخت هذه القناعة لدى كثيرين من أهل المملكة.
ولم ينغص عليهما حياتهما - لا سيما أمين - إلا ما حدث لاحقا، حين احتلت البقاء.
فلما انقض الضبعان ملكا ياقوتة والهيجاء على البقاء وتقاسماها، حزن أمين حزنا عظيما، وحزن على ما حدث لملكها وآله، من قتل وتمثيل ومطاردة من تبقى حيا منهم في كل البسيطة.
لقد أحب أمين البقاء حبا جما، وحقد على المملكتين العدوتين؛ وقرر أن يتوقف عن التجارة فيهما، واكتفى بالتجارة فيما تبقى من أراضي البقاء، وسحب كل أمواله من ياقوتة والهيجاء.
وانتشر عنه في كل البقاء حبه الشديد لها، وأنه فعل كل هذا فقط لأنه رجل وطني أحب بلده بجنون.
وكذلك سمية تألمت كثيرا مما حدث للبقاء، أقدس شيء على قلبها، وتمنت لو تتحرر البقاء يوما، وينتقم أهلها من أعدائها.
***