17
بالقرب من الفيحاء، وجدت مدينة أخرى هي الأمينية. وفي عهد المغيرة، كان عمدتها هو منيباً. عرف منيب بالثراء الفاحش. وقد اعتاد على إرسال القوافل التجارية إلى شتى الأنحاء. وفي إحدى المرات،
انطلقت قافلة له يقودها ابنه الأكبر حمدان. وأثناء مسير القافلة أغار عليها قطاع طرق يقودهم رجل اسمه جازي. فنهبوا القافلة وقتلوا أغلب من فيها، ومنهم حمدان. ولما علم منيب بكل هذا، حزن حزنا
عظيما وتألم ألما لم يشعر به طيلة حياته رغم كبر سنه. لم يكن السبب الرئيس لحزنه ما ضاع من مال وبضائع وحتى عمال وخيول، ولكن مقتل ابنه الغالي حمدان.
شعر منيب بغيظ هائل لا يمكن احتواؤه، وبات هاجسه الأول والأخير أن ينتقم من جازي. وقد أعلن في كل البقاء، أن من يأتيه برأس جازي، سيعطيه جائزة لم يسمع بها إنس ولا جان، ولم ير مثلها
أحد منهم.
لقد اتسم منيب بالثراء الشديد، لكنه علم جيدا أنه لا يملك القوة الكافية لقتال جازي الذي امتلك عددا كبيرا من المقاتلين، والذي شاع أنه لا يوجد في كل البقاء من يضاهيه في قوته الجسدية. لذلك أيقن
منيب أن القصاص منه لا بد وأن يأتي من طرف آخر.
وانتشر الخبر في البقاء بسرعة، حتى أوصله أحد أتباع المغيرة إليه، حين أخبره بكل ما حدث.
تحمس المغيرة للغاية، وتوقع بحدسه أن الجائزة لا بد وأنها مبلغ مهول من المال؛ لأن منيباً ثري جدا.
ولأن المغيرة طموح، فقد قرر أن يأتي برأس جازي لمنيب، لأنه يريد المال ليحقق مزيدا من الطموحات.
***
كلما مر الوقت، ازدادت حماسة المغيرة لاقتناص رأس جازي، ومن ورائه اقتناص الجائزة التي وعد بها منيب.
ومنذ قرر المغيرة أنه سيسعى لذلك، جعل يفكر بعمق وتركيز في خطة محكمة لهزيمة جازي وقتله، وقد أمضى في التفكير وقتا طويلا؛ فغريمه اتسم بالقوة الشديدة، ومجرد قتاله فيه صعوبة بالغة
ومخاطرة كبيرة، فكيف بقتله؟! وفي النهاية المطاف توصل إلى خطة محكمة ذكية لفعل ذلك.
قرر المغيرة الذهاب لزيارة منيب، فقد أراد أن يتعرف عليه أكثر، وأن يتأكد أن مسألة الجائزة أمر جدي، وليس مجرد كلام ناس عابر، ذَكَرَه أحدهم كذبا فانتشر في كل مكان.
توجه المغيرة مع بعض مقاتليه إلى مدينة الأمينية، ثم إلى منزل منيب الذي كان أشبه بالقصر منه إلى منزل عادي، ثم طلب لقاء منيب فاستضافه الأخير.
انبهر المغيرة من شدة جمال المنزل، وبالذات إلى أثاثه الثمين، والذي تكون معظمه من الخزف والخشب الثمين، وكان الأثاث مزخرفا بأجمل الأشكال وأدق فن.
اصطحب الخادم المغيرة ورجلينِ آخرينِ إلى إحدى الغرف في القصر.
لم تتسم الغرفة بالكبر، لكن كانت جميلة جدا، وفيها كراسيّ كثيرة مصنوعة من الخشب الثمين، وامتلأت بالجرار والتحف الخزفية.
دخل المغيرة الغرفة، فرأى رجلا مسنا هو منيب يجلس على كرسي فاخر. ولكن رأى المغيرة شخصا آخر أثار فيه العجب، ولم يتوقعه على الإطلاق. فبجوار منيب وُجِدَ كرسي آخر، جلست عليه
امرأة شديدة البياض حتى إنها تكاد تكون أبيض من الثلج، وقد انتشر في وجهها النمش الأحمر الجميل الذي أضفى عليها جمالا إضافيا. وقد امتلكت نهدين ضخمين جدا نافرين. كانت ممتلئة القوام
مكتنزة الجسد في نحو مثير وجميل، وكانت تعابير وجهها مثيرة للغاية، وكانت صهباء الشعر، في نحو أبرز بياض بشرتها، وعيناها كانتا رماديتا اللون تسلبان الألباب. وكانت انحناءات جسدها كاملة مثيرة للغاية. أحدث جمالها وإثارتها فعله بالمغيرة، الذي اهتاج لرؤيتها؛ إذ لم يسبق له أن رأى شيئا مثيرا كهذا، وتمنى الفارس الفحل لو أنها له.
"أهلا بك" قال منيب.
أراد المغيرة أن يظل ينظر إلى المرأة لكنه خشي أن يكتشف منيب ولعه بها.
رد المغيرة -بعد أن أشاح بنظره عنها-: مرحبا بك.
ثم اختلس نظرة نحوها ثم أشاح بنظره. فالرجل الذي عرف بشدة قساوته وفظاظته بات في تلك اللحظات هشا ضعيف كأنه كرة مصنوعة من القش تتقاذفها رياح جمال تلك المرأة وإثارتها!
فقال منيب: أنا منيب، عمدة الأمينية.
ثم أشار إلى المرأة وقالت: وهذه ابنتي حورية، وهي ثاني أهم شخص بعدي في المدينة كلها.
مما أثار استغراب المغيرة أيضا يوم رأى حورية – عدا عن جمالها وإثارتها غير المحدودين – هو كيف تجلس امرأة بجوار عمدة مدينة في البقاء، في حين اعتاد أهل البقاء كلها أن تنحجب النساء
عن ملاقاة الرجال الغرباء في ذلك الزمان.
لكن ما لم يعرفه هو أن حورية أكثر من يحب أبوها، وقد رباها أن تكون قوية مَثَلُها كمثل الرجال منذ صغرها، ومنذ طفولتها اعتاد العمدة أن يُجلسها معه دوما، وكلما حضر رجل أو رجال للقائه،
مهما بلغوا من مكانة ومنصب. وقد اتسمت منذ صغرها بقوة الشخصية، ولما رباها أبوها بهذه الطريقة، قويت شخصيتها أكثر وأكثر، حتى باتت تضاهي الرجال بالقوة والثبات.
نظر المغيرة إلى حورية وأراد لو تدوم النظرة أبد الدهر، ثم قال: أهلا بسيدتي.
فقالت حورية بصوت واثق قوي لا يهتز: أهلا بك أيها المغيرة، حللت أهلا ووطئت سهلا.
دهش المغيرة من ثقتها!
أما حورية بذكائها وفطنتها، فقد علمت أنها فتنت الرجل الذي أكثر من النظر إليها.
بعدها نظر إلى منيب، ثم قال: لقد سمعت أنك حضرت جائزة ضخمة - لم ير مثلها أحد - لمن يأتيك برأس جازي. أهذا صحيح؟
ضيف أحد الخادمين الواقفين المغيرة فنجانا من القهوة، فطفق يشرب منها.
قال منيب: نعم، هذا صحيح. الجائزة أمر عظيم لدرجة أن أحدا لم يتجرأ أن يحلم به.
سر المغيرة من كلام منيب، وابتسم، ثم قال: حسن، إذاً، أمهلني عدة شهور، وسآتيك برأس جازي إلى هذه الغرفة.
فقال منيب: هو ذا، أنا بالانتظار.
ثم قالت حورية: إذا أتيتنا برأسه، فسيكون ذلك معروفا لن ننساه أبدا.
ارتبك المغيرة وازدرد ريقه، لكنه استجمع قواه، ثم قال: اطمئني، سيحدث ما تريدينه.
ومن الغرائب في تلك الغرفة أيضا، والتي لم يُعْمِ المغيرةَ عنها إثارة حورية، أنه وُجِد في الغرفة رجل يبدو خطيرا جدا يقف بجوار حورية ويضع يده اليمنى فوق اليسرى خلف ظهره،
وقد وقف هناك في وضعية التأهب كأنه مستعد لأي شيء قد يحدث فجأة. وقد كان نحيلا طويلا جدا، ذا نظرات قاسية جادة، شعره أسود كثيف، وله شعر وجه خفيف، وفي خده الأيسر ندب صغير.
ظل الحاضرون في الغرفة يتحادثون، والمغيرة يسترق النظرات إلى حورية، ويحاول متعمدا أن يوجه الحديث إليها بين الحين والآخر. ومر الوقت فاستأذن المغيرة وغادر مع الرجلين اللذين
اصطحبهما إلى الغرفة.
وبعد أن غادر المغيرة، وبينما أحد الرجلين على يمينه والآخر على يساره، قال لهما: لقد أضرمت ابنته النار في قلبي.
"انسها، يا مولاي" قال أحدهم.
فغضب المغيرة، وقال: ويحك! لم تقول مثل هذا؟!
فرد الرجل: منيب يحبها حبا جنونيا، ويربيها على أن تكون العمدة القادم للمدينة، وهي قوية جدا، وتفوق في قوتها وشدتها الرجال. وبسبب كل هذا لم يجرؤ أحد قط على التقدم لخطبتها، حتى
ملوك الضياغم لا يجرؤون على مثل هذا.
"دعك منها، يا مولاي... هذه المرأة لا يتزوجها إلا الملوك" قال الرجل.
فبدأ المغيرة يشعر بحسرة شديدة؛ لأنه تمنى حورية من كل قلبه.
***
حورية تميزت منذ صغرها بجمالها الشديد، فتميزت بوجه شديد الحُسن، إلا أن الأجمل والأجمل هو جسدها المثير المغري شبه الكامل في صفاته. كما تميزت بقوة شخصية – لا مثيل لها-
وخشيها الجميع حتى الرجال، بمن فيهم أخوها حمدان. كل هذا جعلها واثقة بنفسها أتم ثقة منذ صغرها، الأمر الذي تحول لاحقا إلى غرور واستعلاء، لا سيما مع الطريقة التي تعمد أبوها تربيتها
من خلالها، أنها الأهم بين الجميع.
وذات مرة وبينما كان عمرها عشرون عاما، دخلت على حجرتها جاريتها زمردة. تميزت زمردة بأنها أقرب الناس من حورية، بعد أبيها. ورغم ذلك لم تعتبرها حورية صديقتها، ولا حتى رفيقتها،
اعتبرتها مجرد وسيلة للتسلية، وكيل المديح لحورية، فزمردة دوما ما تغزلت بها وجمالها وجمال جسدها، وقوة شخصيتها.
"مرحبا، مولاتي" قالت زمردة.
فلم ترد عليها حورية الترحيب، وإنما قالت بجفاف واستعلاء، وهي تشير إلى كرسي في الغرفة: اجلسي هنا، أين كنتِ طيلة اليوم؟
لقد اتصفت حورية باستعلائها على كل من حولها، فهي الأجمل والأقوى، وثاني أهم شخص في الأمينية بعد أبيها العمدة، لذلك احتقرت الجميع وتكبرت على الجميع.
"اعذريني، يا مولاتي الجميلة" قالت زمردة، وأكملت: لقد طلب مني سيدي منيب عدة أشياء، انشغلت بعملها.
فقالت حورية: لقد سمعت أن أبي سيبتاع أمة جديدة من جارنا أبي مسعود؟ وسمعت أنها جميلة جدا، فهل هذا صحيح؟
ابتسمت زمردة، وقالت: نعم، هي جميلة، لكنها لا تشكل أي شيء أمام رمش واحد من رموشك... أنتِ أجمل امرأة في البسيطة كلها، وكل الرجال – على بكرة أبيهم – يرغبون بك.
فرحت حورية؛ فقد سمعت تماما ما أرادت سماعه، وابتسمت ابتسامة خفيفة سرعان ما أخفتها؛ لأنها لم ترد لجاريتها –الوضيعة مقارنة بها حسب ظنها - أن تظن أن حورية تكترث كثيرا لرأيها.
ثم قالت زمردة: متى سيأتي اليوم الذي أراك فيه عروسا؟
ضحكت حورية، ثم قالت: لا يهم متى سيأتي. المهم أنه آت لا محالة، فالكل يرغبني. من سيتزوجني سيكون أسعد رجل في العالم، لكنني سأذل أي رجل، حتى لو كان أقسى رجل في الكون، بجسدي
وجمالي.
***
تضايق المغيرة كثيرا من كلام صاحبه، الذي دعاه لنسيان حورية. لطالما شعر المغيرة أنه رجل عظيم جدا، بل من أعظم الرجال، فقد اتسم بصفات لا مثيل لها، وحقق إنجازات في حياته
لا يحققها إلا الأبطال وكل ذلك رغم ظروفه الصعبة والمزرية في صغره. وقد عزز نظرته هذه لنفسه، معاملة كل من حوله له بتعظيم وتوقير بعد كل ما فعله في الفيحاء. لهذا كله ساءه كلام صاحبه كثيرا، فقد دخل في صراع نفسي هل هو عظيم كما نظر دوما إلى نفسه أم لا؟! لأول مرة في حياته أحس بضعف وباختلال في احترامه لنفسه. وقد ازداد هذا الصراع ضراوة كلما تذكر جاذبية حورية وسحرها وثقتها بنفسها.
كان لا بد من شخص يثق به يخبره بالحقيقة ويجيب عن تساؤلاته، ومن خير من الأقطش ليفعل ذلك؟!
منذ شبابه عاش الأقطش في قمة الفقر والكدح. وبعد سنوات من تنصيب المغيرة قائدا للفيحاء بأكملها، غدا رجلا ثريا ميسور الحال، فعرض على الأقطش أن يعطيه المال الكثير، لكن الأخير رفض،
فألح المغيرة كثيرا ولفترة طويلة، لكنه استسلم في النهاية بعد أن وجد رفض الأقطش سدا منيعا لا يمكن هدمه، فقد أخبره أنه زاهد في الحياة وفي المال، وأن شهوات الدنيا كلها لا تؤثر به.
توجه المغيرة إلى الحي الذي ولد فيه وعاش فيه طفولته، وبالتحديد إلى دار صغيرة جدا سكنها الأقطش. ولما مر بالحي، تجمع الناس لتحيته، فحياهم جميعا من أصغرهم إلى أكبرهم، ومن أقلهم منزلة
إلى أعظمهم، بتواضعه المعهود عنه.
ثم طرق على باب دار الأقطش، فسمع صوت أقدام وعصا تضرب الأرض تتجه ببطء نحو الباب، ثم فُتِح الباب.
وجد المغيرة رجلا عجوزا يربط عصبة على عينيه وحول رأسه، أصلع يخلو وجهه نهائيا من الشعر وتنتشر في كل أرجائه التجاعيد. كان طويلا منحني الظهر نحيلا جدا.
كان هذا هو الأقطش الذي ظل نظره يضعف مع مرور السنين الكثيرة حتى أصيب بالعمى، أما نحوله فسببه قلة أكله وشربه، الذي كان دافعه زهده في كل شيء منذ صغره.
"كيف حالك، يا أستاذي؟" قال المغيرة.
"بأتم حال، أيها المغيرة." أجاب الأقطش، وأضاف: طمني أيها البطل، عنك.
لقد برع ومنذ زمن طويل في تحميس المغيرة ورفع معنوياته هو وسائر الأطفال الذين علمهم، ولذلك خاطبه بالبطل.
التزم المغيرة الصمت، فعلم الأقطش بحكمته أن هنالك خطبا ما.
هز رأسه وقال: أنت لست على ما يرام. ثم وضع يده على كتف طالبه النجيب، وقال: ادخل، ودعنا نتحادث.
دخل المغيرة وتبعه العجوز بعصاه وخطواته البطيئة.
وبعد مدة وصل العجوز وقال: اجلس، يا بني.
فقال المغيرة: لا يصح أن أجلس قبلك، يا معلمي.
فقال الأقطش: قلت لك: اجلس.
فجلس المغيرة، ثم ببطء شديد تحسس الأقطش الحائط وهو يحاول أن ينزل ويجلس، فنهض المغيرة يريد مساعدته، فنهره الأقطش: منذ سنوات كثيرة، يتكرر كل هذا. إني أخبرك دوما أنني أحب
الاعتماد على نفسي فقط.
عاد المغيرة إلى جلسته بينما تحسس الأقطش الحائط بيده، في حين أمسك – بإحكام - عصاه بيده الثانية، ونزل تدريجيا إلى أن جلس على الفراش على الأرض، ثم أسند ظهره إلى الحائط وأسند
عصاه كذلك إلى الحائط.
ثم قال: ما الخطب؟
ظل المغيرة ملتزما الصمت، فقال الأقطش: لا تخجل، أخبرني بأي شيء.
بدأ المغيرة بالحديث، وأخبر الأقطش كل شيء، أخبره عن منيب ومقتل ابنه وعن الجائزة وعن ابنته التي أضرمت النار في قلبه.
ثم قال المغيرة: المشكلة الحقيقية بدأت عندما أخبرني واحد من أقرب المقربين لي أنني لست ندا لحورية وأن أنساها، وأن الملوك هم فقط من يستطيعون الزواج منها.
تنهد بعمق وشجن ثم أضاف: لطالما وثقت أتم ثقة بنفسي وبأنني رجل عظيم، لكن بعد أن أخبرني صديقي بما أخبرني به، لأول مرة بدأت أشكك في نفسي... دخلتُ في دوامة من الشك هل أنا
رجل عظيم ند لحورية... أم...
تلبك ونظر في الأرض ضعفا، وخجلا من معلمه، ثم أضاف بصوت خفيض حزين: أم إنني أقل منها ولست ندا لها؟!
التزم الاثنان الصمت لمدة، وبعدها قال الأقطش بصوته الهادئ الواثق، لكأنه نهر تسير فيه قطرات الحكمة الواحدة تلو الأخرى: ابتداء، أنا مستغرب من أمر، يا حبيبي وابني المغيرة... إن كنت تبحث عن شريكة للحياة، عن زوجة وأم لأولادك، فأولوليتك أن تكون البحث عن الخلق والطيبة والخير بداخلها... لا أن تكون الأولوية البحث عن الانحناءات والإثارة والجسد المغري والوجه الحسن كما تفعل أنت... البحث عن الجمال ليس عيبا، بل هي فطرة الإنسان، لكن العيب أن تجعله الأولوية وأن تقدمه على الخلق والطبع.
أحس المغيرة بضيق وخجل.
سكت الأقطش لمدة، ثم أضاف بهدوء: ولكن هذا ليس مشكلتنا الآن، لقد وجب علي أن أقدم هذه النصيحة لك منذ زمن بعيد، لا الآن بعد أن سكنت المرأة قلبك ولن تغادره أبدا.
ثم قال الأقطش: المرء عليه أن يعرف قيمته الحقيقية، فإن كان عظيما، فعليه أن يعرف أنه كذلك دون غرور، وإن كان بسيطا قليل الحيلة، فعليه أن يعرف أنه كذلك دون ذل.
ثم وضع كفه على فخذ المغيرة الذي كان ينظر في الأرض خجلا وضعفا، وقال: وأنت أيها المغيرة، رجل عظيم للغاية، وأكبر دليل على ذلك أنك نقي من الداخل وتفضل مصلحة الناس على
مصلحتك، وأنا أعرف هذا جيدا منذ كنتَ طفلا صغيرا. وما يؤكد عظمتك أنك شجاع وجريء وقوي، وأنك حررت مدينة يسكنها الآلاف من الفساد والظلم اللذين أقاما فيها عقودا كثيرة.
كما قلتُ مسبقا، هذا لا يعني أن تصير مغرورا، وأن تتكبر على البشر، لكنه يعني أنك يجب أن تعرف قدر نفسك، وأن تثق بها.
ثم أضاف: أيها المغيرة، عليك أن تثق بنفسك مهما علا قدر من أمامك. أهم رأي في العالم عنك هو وجهة نظر قلبك عنك. الأهم أن تكون راضيا عن نفسك... لا تتملق أحدا، لا تنافق أحدا...
لا تغير من مبادئك ولا ترتكب الأخطاء فقط من أجل إرضاء الآخرين.
ابتسم ثم قال: أنت أعظم رجل قابلته في حياتي، حتى ملوك الضياغم جميعهم لو ولد واحدهم في ظروفك ما استطاع تحقيق ما حققته، وما استطاع تحرير الفيحاء كما حررتها.
عليك أن ترى أنك الأفضل حتى لو رأى الآخرون غير ذلك. لم أقابل امرأة في حياتي – رغم أنني رأيت كثيرا من فاحشات الجمال وعظيمات الذكاء والخلق- وأحسست أنها أعظم من ابني المغيرة.
ليس عليك أن تتساءل وتحتار إن كنت ندا لحورية هذه... العكس هو الصحيح، حورية عليها أن تتساءل إن كانت ندا للمغيرة، الرجل العظيم.
دمعت عينا المغيرة، وانكب على معلمه يحتضنه، فابتسم الأقطش وبعد مدة أحاط بذراعيه المغيرة، وبادله الأحضان.
***
انطلقت قافلة له يقودها ابنه الأكبر حمدان. وأثناء مسير القافلة أغار عليها قطاع طرق يقودهم رجل اسمه جازي. فنهبوا القافلة وقتلوا أغلب من فيها، ومنهم حمدان. ولما علم منيب بكل هذا، حزن حزنا
عظيما وتألم ألما لم يشعر به طيلة حياته رغم كبر سنه. لم يكن السبب الرئيس لحزنه ما ضاع من مال وبضائع وحتى عمال وخيول، ولكن مقتل ابنه الغالي حمدان.
شعر منيب بغيظ هائل لا يمكن احتواؤه، وبات هاجسه الأول والأخير أن ينتقم من جازي. وقد أعلن في كل البقاء، أن من يأتيه برأس جازي، سيعطيه جائزة لم يسمع بها إنس ولا جان، ولم ير مثلها
أحد منهم.
لقد اتسم منيب بالثراء الشديد، لكنه علم جيدا أنه لا يملك القوة الكافية لقتال جازي الذي امتلك عددا كبيرا من المقاتلين، والذي شاع أنه لا يوجد في كل البقاء من يضاهيه في قوته الجسدية. لذلك أيقن
منيب أن القصاص منه لا بد وأن يأتي من طرف آخر.
وانتشر الخبر في البقاء بسرعة، حتى أوصله أحد أتباع المغيرة إليه، حين أخبره بكل ما حدث.
تحمس المغيرة للغاية، وتوقع بحدسه أن الجائزة لا بد وأنها مبلغ مهول من المال؛ لأن منيباً ثري جدا.
ولأن المغيرة طموح، فقد قرر أن يأتي برأس جازي لمنيب، لأنه يريد المال ليحقق مزيدا من الطموحات.
***
كلما مر الوقت، ازدادت حماسة المغيرة لاقتناص رأس جازي، ومن ورائه اقتناص الجائزة التي وعد بها منيب.
ومنذ قرر المغيرة أنه سيسعى لذلك، جعل يفكر بعمق وتركيز في خطة محكمة لهزيمة جازي وقتله، وقد أمضى في التفكير وقتا طويلا؛ فغريمه اتسم بالقوة الشديدة، ومجرد قتاله فيه صعوبة بالغة
ومخاطرة كبيرة، فكيف بقتله؟! وفي النهاية المطاف توصل إلى خطة محكمة ذكية لفعل ذلك.
قرر المغيرة الذهاب لزيارة منيب، فقد أراد أن يتعرف عليه أكثر، وأن يتأكد أن مسألة الجائزة أمر جدي، وليس مجرد كلام ناس عابر، ذَكَرَه أحدهم كذبا فانتشر في كل مكان.
توجه المغيرة مع بعض مقاتليه إلى مدينة الأمينية، ثم إلى منزل منيب الذي كان أشبه بالقصر منه إلى منزل عادي، ثم طلب لقاء منيب فاستضافه الأخير.
انبهر المغيرة من شدة جمال المنزل، وبالذات إلى أثاثه الثمين، والذي تكون معظمه من الخزف والخشب الثمين، وكان الأثاث مزخرفا بأجمل الأشكال وأدق فن.
اصطحب الخادم المغيرة ورجلينِ آخرينِ إلى إحدى الغرف في القصر.
لم تتسم الغرفة بالكبر، لكن كانت جميلة جدا، وفيها كراسيّ كثيرة مصنوعة من الخشب الثمين، وامتلأت بالجرار والتحف الخزفية.
دخل المغيرة الغرفة، فرأى رجلا مسنا هو منيب يجلس على كرسي فاخر. ولكن رأى المغيرة شخصا آخر أثار فيه العجب، ولم يتوقعه على الإطلاق. فبجوار منيب وُجِدَ كرسي آخر، جلست عليه
امرأة شديدة البياض حتى إنها تكاد تكون أبيض من الثلج، وقد انتشر في وجهها النمش الأحمر الجميل الذي أضفى عليها جمالا إضافيا. وقد امتلكت نهدين ضخمين جدا نافرين. كانت ممتلئة القوام
مكتنزة الجسد في نحو مثير وجميل، وكانت تعابير وجهها مثيرة للغاية، وكانت صهباء الشعر، في نحو أبرز بياض بشرتها، وعيناها كانتا رماديتا اللون تسلبان الألباب. وكانت انحناءات جسدها كاملة مثيرة للغاية. أحدث جمالها وإثارتها فعله بالمغيرة، الذي اهتاج لرؤيتها؛ إذ لم يسبق له أن رأى شيئا مثيرا كهذا، وتمنى الفارس الفحل لو أنها له.
"أهلا بك" قال منيب.
أراد المغيرة أن يظل ينظر إلى المرأة لكنه خشي أن يكتشف منيب ولعه بها.
رد المغيرة -بعد أن أشاح بنظره عنها-: مرحبا بك.
ثم اختلس نظرة نحوها ثم أشاح بنظره. فالرجل الذي عرف بشدة قساوته وفظاظته بات في تلك اللحظات هشا ضعيف كأنه كرة مصنوعة من القش تتقاذفها رياح جمال تلك المرأة وإثارتها!
فقال منيب: أنا منيب، عمدة الأمينية.
ثم أشار إلى المرأة وقالت: وهذه ابنتي حورية، وهي ثاني أهم شخص بعدي في المدينة كلها.
مما أثار استغراب المغيرة أيضا يوم رأى حورية – عدا عن جمالها وإثارتها غير المحدودين – هو كيف تجلس امرأة بجوار عمدة مدينة في البقاء، في حين اعتاد أهل البقاء كلها أن تنحجب النساء
عن ملاقاة الرجال الغرباء في ذلك الزمان.
لكن ما لم يعرفه هو أن حورية أكثر من يحب أبوها، وقد رباها أن تكون قوية مَثَلُها كمثل الرجال منذ صغرها، ومنذ طفولتها اعتاد العمدة أن يُجلسها معه دوما، وكلما حضر رجل أو رجال للقائه،
مهما بلغوا من مكانة ومنصب. وقد اتسمت منذ صغرها بقوة الشخصية، ولما رباها أبوها بهذه الطريقة، قويت شخصيتها أكثر وأكثر، حتى باتت تضاهي الرجال بالقوة والثبات.
نظر المغيرة إلى حورية وأراد لو تدوم النظرة أبد الدهر، ثم قال: أهلا بسيدتي.
فقالت حورية بصوت واثق قوي لا يهتز: أهلا بك أيها المغيرة، حللت أهلا ووطئت سهلا.
دهش المغيرة من ثقتها!
أما حورية بذكائها وفطنتها، فقد علمت أنها فتنت الرجل الذي أكثر من النظر إليها.
بعدها نظر إلى منيب، ثم قال: لقد سمعت أنك حضرت جائزة ضخمة - لم ير مثلها أحد - لمن يأتيك برأس جازي. أهذا صحيح؟
ضيف أحد الخادمين الواقفين المغيرة فنجانا من القهوة، فطفق يشرب منها.
قال منيب: نعم، هذا صحيح. الجائزة أمر عظيم لدرجة أن أحدا لم يتجرأ أن يحلم به.
سر المغيرة من كلام منيب، وابتسم، ثم قال: حسن، إذاً، أمهلني عدة شهور، وسآتيك برأس جازي إلى هذه الغرفة.
فقال منيب: هو ذا، أنا بالانتظار.
ثم قالت حورية: إذا أتيتنا برأسه، فسيكون ذلك معروفا لن ننساه أبدا.
ارتبك المغيرة وازدرد ريقه، لكنه استجمع قواه، ثم قال: اطمئني، سيحدث ما تريدينه.
ومن الغرائب في تلك الغرفة أيضا، والتي لم يُعْمِ المغيرةَ عنها إثارة حورية، أنه وُجِد في الغرفة رجل يبدو خطيرا جدا يقف بجوار حورية ويضع يده اليمنى فوق اليسرى خلف ظهره،
وقد وقف هناك في وضعية التأهب كأنه مستعد لأي شيء قد يحدث فجأة. وقد كان نحيلا طويلا جدا، ذا نظرات قاسية جادة، شعره أسود كثيف، وله شعر وجه خفيف، وفي خده الأيسر ندب صغير.
ظل الحاضرون في الغرفة يتحادثون، والمغيرة يسترق النظرات إلى حورية، ويحاول متعمدا أن يوجه الحديث إليها بين الحين والآخر. ومر الوقت فاستأذن المغيرة وغادر مع الرجلين اللذين
اصطحبهما إلى الغرفة.
وبعد أن غادر المغيرة، وبينما أحد الرجلين على يمينه والآخر على يساره، قال لهما: لقد أضرمت ابنته النار في قلبي.
"انسها، يا مولاي" قال أحدهم.
فغضب المغيرة، وقال: ويحك! لم تقول مثل هذا؟!
فرد الرجل: منيب يحبها حبا جنونيا، ويربيها على أن تكون العمدة القادم للمدينة، وهي قوية جدا، وتفوق في قوتها وشدتها الرجال. وبسبب كل هذا لم يجرؤ أحد قط على التقدم لخطبتها، حتى
ملوك الضياغم لا يجرؤون على مثل هذا.
"دعك منها، يا مولاي... هذه المرأة لا يتزوجها إلا الملوك" قال الرجل.
فبدأ المغيرة يشعر بحسرة شديدة؛ لأنه تمنى حورية من كل قلبه.
***
حورية تميزت منذ صغرها بجمالها الشديد، فتميزت بوجه شديد الحُسن، إلا أن الأجمل والأجمل هو جسدها المثير المغري شبه الكامل في صفاته. كما تميزت بقوة شخصية – لا مثيل لها-
وخشيها الجميع حتى الرجال، بمن فيهم أخوها حمدان. كل هذا جعلها واثقة بنفسها أتم ثقة منذ صغرها، الأمر الذي تحول لاحقا إلى غرور واستعلاء، لا سيما مع الطريقة التي تعمد أبوها تربيتها
من خلالها، أنها الأهم بين الجميع.
وذات مرة وبينما كان عمرها عشرون عاما، دخلت على حجرتها جاريتها زمردة. تميزت زمردة بأنها أقرب الناس من حورية، بعد أبيها. ورغم ذلك لم تعتبرها حورية صديقتها، ولا حتى رفيقتها،
اعتبرتها مجرد وسيلة للتسلية، وكيل المديح لحورية، فزمردة دوما ما تغزلت بها وجمالها وجمال جسدها، وقوة شخصيتها.
"مرحبا، مولاتي" قالت زمردة.
فلم ترد عليها حورية الترحيب، وإنما قالت بجفاف واستعلاء، وهي تشير إلى كرسي في الغرفة: اجلسي هنا، أين كنتِ طيلة اليوم؟
لقد اتصفت حورية باستعلائها على كل من حولها، فهي الأجمل والأقوى، وثاني أهم شخص في الأمينية بعد أبيها العمدة، لذلك احتقرت الجميع وتكبرت على الجميع.
"اعذريني، يا مولاتي الجميلة" قالت زمردة، وأكملت: لقد طلب مني سيدي منيب عدة أشياء، انشغلت بعملها.
فقالت حورية: لقد سمعت أن أبي سيبتاع أمة جديدة من جارنا أبي مسعود؟ وسمعت أنها جميلة جدا، فهل هذا صحيح؟
ابتسمت زمردة، وقالت: نعم، هي جميلة، لكنها لا تشكل أي شيء أمام رمش واحد من رموشك... أنتِ أجمل امرأة في البسيطة كلها، وكل الرجال – على بكرة أبيهم – يرغبون بك.
فرحت حورية؛ فقد سمعت تماما ما أرادت سماعه، وابتسمت ابتسامة خفيفة سرعان ما أخفتها؛ لأنها لم ترد لجاريتها –الوضيعة مقارنة بها حسب ظنها - أن تظن أن حورية تكترث كثيرا لرأيها.
ثم قالت زمردة: متى سيأتي اليوم الذي أراك فيه عروسا؟
ضحكت حورية، ثم قالت: لا يهم متى سيأتي. المهم أنه آت لا محالة، فالكل يرغبني. من سيتزوجني سيكون أسعد رجل في العالم، لكنني سأذل أي رجل، حتى لو كان أقسى رجل في الكون، بجسدي
وجمالي.
***
تضايق المغيرة كثيرا من كلام صاحبه، الذي دعاه لنسيان حورية. لطالما شعر المغيرة أنه رجل عظيم جدا، بل من أعظم الرجال، فقد اتسم بصفات لا مثيل لها، وحقق إنجازات في حياته
لا يحققها إلا الأبطال وكل ذلك رغم ظروفه الصعبة والمزرية في صغره. وقد عزز نظرته هذه لنفسه، معاملة كل من حوله له بتعظيم وتوقير بعد كل ما فعله في الفيحاء. لهذا كله ساءه كلام صاحبه كثيرا، فقد دخل في صراع نفسي هل هو عظيم كما نظر دوما إلى نفسه أم لا؟! لأول مرة في حياته أحس بضعف وباختلال في احترامه لنفسه. وقد ازداد هذا الصراع ضراوة كلما تذكر جاذبية حورية وسحرها وثقتها بنفسها.
كان لا بد من شخص يثق به يخبره بالحقيقة ويجيب عن تساؤلاته، ومن خير من الأقطش ليفعل ذلك؟!
منذ شبابه عاش الأقطش في قمة الفقر والكدح. وبعد سنوات من تنصيب المغيرة قائدا للفيحاء بأكملها، غدا رجلا ثريا ميسور الحال، فعرض على الأقطش أن يعطيه المال الكثير، لكن الأخير رفض،
فألح المغيرة كثيرا ولفترة طويلة، لكنه استسلم في النهاية بعد أن وجد رفض الأقطش سدا منيعا لا يمكن هدمه، فقد أخبره أنه زاهد في الحياة وفي المال، وأن شهوات الدنيا كلها لا تؤثر به.
توجه المغيرة إلى الحي الذي ولد فيه وعاش فيه طفولته، وبالتحديد إلى دار صغيرة جدا سكنها الأقطش. ولما مر بالحي، تجمع الناس لتحيته، فحياهم جميعا من أصغرهم إلى أكبرهم، ومن أقلهم منزلة
إلى أعظمهم، بتواضعه المعهود عنه.
ثم طرق على باب دار الأقطش، فسمع صوت أقدام وعصا تضرب الأرض تتجه ببطء نحو الباب، ثم فُتِح الباب.
وجد المغيرة رجلا عجوزا يربط عصبة على عينيه وحول رأسه، أصلع يخلو وجهه نهائيا من الشعر وتنتشر في كل أرجائه التجاعيد. كان طويلا منحني الظهر نحيلا جدا.
كان هذا هو الأقطش الذي ظل نظره يضعف مع مرور السنين الكثيرة حتى أصيب بالعمى، أما نحوله فسببه قلة أكله وشربه، الذي كان دافعه زهده في كل شيء منذ صغره.
"كيف حالك، يا أستاذي؟" قال المغيرة.
"بأتم حال، أيها المغيرة." أجاب الأقطش، وأضاف: طمني أيها البطل، عنك.
لقد برع ومنذ زمن طويل في تحميس المغيرة ورفع معنوياته هو وسائر الأطفال الذين علمهم، ولذلك خاطبه بالبطل.
التزم المغيرة الصمت، فعلم الأقطش بحكمته أن هنالك خطبا ما.
هز رأسه وقال: أنت لست على ما يرام. ثم وضع يده على كتف طالبه النجيب، وقال: ادخل، ودعنا نتحادث.
دخل المغيرة وتبعه العجوز بعصاه وخطواته البطيئة.
وبعد مدة وصل العجوز وقال: اجلس، يا بني.
فقال المغيرة: لا يصح أن أجلس قبلك، يا معلمي.
فقال الأقطش: قلت لك: اجلس.
فجلس المغيرة، ثم ببطء شديد تحسس الأقطش الحائط وهو يحاول أن ينزل ويجلس، فنهض المغيرة يريد مساعدته، فنهره الأقطش: منذ سنوات كثيرة، يتكرر كل هذا. إني أخبرك دوما أنني أحب
الاعتماد على نفسي فقط.
عاد المغيرة إلى جلسته بينما تحسس الأقطش الحائط بيده، في حين أمسك – بإحكام - عصاه بيده الثانية، ونزل تدريجيا إلى أن جلس على الفراش على الأرض، ثم أسند ظهره إلى الحائط وأسند
عصاه كذلك إلى الحائط.
ثم قال: ما الخطب؟
ظل المغيرة ملتزما الصمت، فقال الأقطش: لا تخجل، أخبرني بأي شيء.
بدأ المغيرة بالحديث، وأخبر الأقطش كل شيء، أخبره عن منيب ومقتل ابنه وعن الجائزة وعن ابنته التي أضرمت النار في قلبه.
ثم قال المغيرة: المشكلة الحقيقية بدأت عندما أخبرني واحد من أقرب المقربين لي أنني لست ندا لحورية وأن أنساها، وأن الملوك هم فقط من يستطيعون الزواج منها.
تنهد بعمق وشجن ثم أضاف: لطالما وثقت أتم ثقة بنفسي وبأنني رجل عظيم، لكن بعد أن أخبرني صديقي بما أخبرني به، لأول مرة بدأت أشكك في نفسي... دخلتُ في دوامة من الشك هل أنا
رجل عظيم ند لحورية... أم...
تلبك ونظر في الأرض ضعفا، وخجلا من معلمه، ثم أضاف بصوت خفيض حزين: أم إنني أقل منها ولست ندا لها؟!
التزم الاثنان الصمت لمدة، وبعدها قال الأقطش بصوته الهادئ الواثق، لكأنه نهر تسير فيه قطرات الحكمة الواحدة تلو الأخرى: ابتداء، أنا مستغرب من أمر، يا حبيبي وابني المغيرة... إن كنت تبحث عن شريكة للحياة، عن زوجة وأم لأولادك، فأولوليتك أن تكون البحث عن الخلق والطيبة والخير بداخلها... لا أن تكون الأولوية البحث عن الانحناءات والإثارة والجسد المغري والوجه الحسن كما تفعل أنت... البحث عن الجمال ليس عيبا، بل هي فطرة الإنسان، لكن العيب أن تجعله الأولوية وأن تقدمه على الخلق والطبع.
أحس المغيرة بضيق وخجل.
سكت الأقطش لمدة، ثم أضاف بهدوء: ولكن هذا ليس مشكلتنا الآن، لقد وجب علي أن أقدم هذه النصيحة لك منذ زمن بعيد، لا الآن بعد أن سكنت المرأة قلبك ولن تغادره أبدا.
ثم قال الأقطش: المرء عليه أن يعرف قيمته الحقيقية، فإن كان عظيما، فعليه أن يعرف أنه كذلك دون غرور، وإن كان بسيطا قليل الحيلة، فعليه أن يعرف أنه كذلك دون ذل.
ثم وضع كفه على فخذ المغيرة الذي كان ينظر في الأرض خجلا وضعفا، وقال: وأنت أيها المغيرة، رجل عظيم للغاية، وأكبر دليل على ذلك أنك نقي من الداخل وتفضل مصلحة الناس على
مصلحتك، وأنا أعرف هذا جيدا منذ كنتَ طفلا صغيرا. وما يؤكد عظمتك أنك شجاع وجريء وقوي، وأنك حررت مدينة يسكنها الآلاف من الفساد والظلم اللذين أقاما فيها عقودا كثيرة.
كما قلتُ مسبقا، هذا لا يعني أن تصير مغرورا، وأن تتكبر على البشر، لكنه يعني أنك يجب أن تعرف قدر نفسك، وأن تثق بها.
ثم أضاف: أيها المغيرة، عليك أن تثق بنفسك مهما علا قدر من أمامك. أهم رأي في العالم عنك هو وجهة نظر قلبك عنك. الأهم أن تكون راضيا عن نفسك... لا تتملق أحدا، لا تنافق أحدا...
لا تغير من مبادئك ولا ترتكب الأخطاء فقط من أجل إرضاء الآخرين.
ابتسم ثم قال: أنت أعظم رجل قابلته في حياتي، حتى ملوك الضياغم جميعهم لو ولد واحدهم في ظروفك ما استطاع تحقيق ما حققته، وما استطاع تحرير الفيحاء كما حررتها.
عليك أن ترى أنك الأفضل حتى لو رأى الآخرون غير ذلك. لم أقابل امرأة في حياتي – رغم أنني رأيت كثيرا من فاحشات الجمال وعظيمات الذكاء والخلق- وأحسست أنها أعظم من ابني المغيرة.
ليس عليك أن تتساءل وتحتار إن كنت ندا لحورية هذه... العكس هو الصحيح، حورية عليها أن تتساءل إن كانت ندا للمغيرة، الرجل العظيم.
دمعت عينا المغيرة، وانكب على معلمه يحتضنه، فابتسم الأقطش وبعد مدة أحاط بذراعيه المغيرة، وبادله الأحضان.
***