18
وضع المغيرة خطة محكمة للنيل من جازي، وبعد ما يزيد على ستة أشهر من إعلان منيب عن الجائزة، شرع المغيرة في تنفيذ خطته. كان هنالك مدينة اسمها البادئة قريبة من كل من الفيحاء والأمينية.
وقد اتفق المغيرة مع عمدتها على تنفيذ خطة معينة، وهي إرسال قافلة ضخمة، محملة بالذهب والحلي والبضائع الثمينة والنساء باتجاه الغرب. وقد طلب المغيرة من عمدة البادئة أن يعلن عن هذه القافلة في شتى الأنحاء، حتى يسمع عنها كل أهل البقاء وبالذات جازي. وبالفعل نفذ عمدة البادئة طلب المغيرة. وقد حرص الأخير أن تسلك هذه القافلة الطريق نفسه الذي سلكته قافلة حمدان ابن منيب، عندما أغار
عليها جازي وقتل حمدان؛ حتى يزيد الفرصة لإغارة جازي عليها ويوقعه في الفخ.
دائما، أغار جازي على أية قافلة ضخمة في ناحية الفيحاء وما أحاط بها؛ لأن ذلك يعود عليه بربح كبير دفعة واحدة؛ لذلك حرص كل سكان تلك المناطق على أن يرسلوا قوافل صغيرة؛ ليقللوا فرص إغارة جازي عليها، وكذلك ليقللوا خسائرهم إذا ما حدث وأغار عليها هو ورجاله.
ولهذا كله حرص المغيرة، على أن تكون قافلته المزعومة ضخمة جدا، وأن يُشيع عنها أنها ممتلئة بالكنوز والنساء، حتى يضمن أن يغير عليها جازي.
جمع المغيرة عددا كبيرا من مقاتليه وقسمهم إلى ثلاث فرق، وقاد بنفسه إحداها. وقد ظلت كل فرقة تراقب القافلة المنطلقة من البادئة عن بعد، وقد تحركت الفرق الثلاث بحيث تكون بعيدة عن بعضها.
وكان جميع الرجال في القافلة من مقاتلي المغيرة، ومن أشدهم قوة، وقد تنكروا بزي غير زيهم، فلم يعلم أحد بهويتهم الحقيقية، وظنوهم مجرد تجار عاديين من سكان البادئة.
وبعد ما يقرب الأسبوعين من انطلاق القافلة من البادئة، وأثناء مرورها بمنطقة قريبة من المنطقة التي أغار فيها جازي على قافلة حمدان بن منيب، انطلق مجموعة من قطاع الطرق نحوها. لقد صدق
حدس المغيرة، فها هو جازي ينقاد نحو حتفه بقدميه.
لقد توقع المغيرة أنه لا بد وأن يكون المهاجمون هم جازي ورجاله، فكل قطاع الطرق في تلك المنطقة تحديدا كانوا من أتباع جازي.
عندها اتجهت الفرق الثلاث بسرعة نحو قطاع الطرق واشتبكوا معهم، وكذلك استل المقاتلون الأشداء في القافلة سيوفهم وبدؤوا بقتال قطاع الطرق، ومنهم من جعل يرمي السهام لتصطاد قطاع الطرق
الواحد تلو الآخر.
وهكذا جزع قطاع الطرق وارتبكوا.
وقد اشتد القتل في قطاع الطرق، لا سيما من قبل المغيرة، الذي كان أقوى الحاضرين في ساحة الوغى. وأثناء الاشتباك، اقترب المغيرة من أحد قطاع الطرق، فضرب سيفه بسيفه حتى أزاحه بعيدا،
ثم ضرب ذراع غريمه فجرحها. بعد ذلك أمسك بغريمه من ذراعه المجروحة ووضع سيفه على عنقه، وصرخ: أي هؤلاء جازي؟
فصرخ قاطع الطريق المتألم: لا أعلم.
فجرح المغيرة عنقه بسيفه جرحا صغيرا بات يسيل منه الدم غزيرا، فجزع قاطع الطريق وامتلأ جوفه رعبا.
عندها كرر المغيرة سؤاله، فأجاب قاطع الطريق صاغرا، وهو يشير إلى أحد المقاتلين: هو ذاك.
قطع المغيرة رأس قاطع الطريق، وركب جواده، واتجه نحو المقاتل الذي اُخبر عنه، وبينما هو يفعل ذلك، صرخ المغيرة: جازي.
فالتفت إليه جازي، فتأكد المغيرة أنه هو.
اقترب المغيرة من جازي، وكلاهما على جواده، وجعل أحدهما يضرب سيف الآخر بسيفه، وبعد عدة ضربات كان المغيرة أقوى فيها، أيقن جازي أنه أقل قوة من غريمه، ففر من أرض المعركة،
فأي قاطع طريق لا تشكل الكرامة والشجاعة شيئا له مقابل الحياة.
تبعه المغيرة حتى ابتعدا عن ساحة الوغى. وتمكن المغيرة من اللحاق به، فتبادلا الضربات بالسيوف، ثم نزل المغيرة عن جواده بسرعة، بينما ظل جازي على حصانه، وظلا يتبادلان الضربات. بعدها نزل جازي عن جواده لأنه أحس أن ذلك سيسهل عليه مقاتلة المغيرة. وبدأت معركة شرسة بين أقوى مقاتلين في منطقة الفيحاء وما حولها.
وقد استلم المغيرة زمام المبادرة، فضرب بسيفه يقصد بطن جازي، لكن الأخير تراجع للخلف، ثم ضرب يقصد ذراع المغيرة اليمنى، فتفادى الأخير الضربة، فضرب جازي يقصد ذراع غريمه اليسرى،
لكن المغيرة تفادها، وهو يتحرك برشاقة رغم ضخامة جسمه الممتلئ بالعضلات. وفورا تقدم المغيرة نحو جازي وطعنه في بطنه. ركع جازي على ركبتيه، وعندها غرس المغيرة سيفه كاملا في بطنه.
بعدها وبدون رحمة أو تردد، قطع المغيرة رأسه، وأخذه ولفه بقطعة قماش صحبها معه على حصانه. ثم ركب جواده، وعاد إلى ساحة المعركة.
وظل المغيرة ومقاتلوه يقتنصون أرواح خصومهم. صحيح أن هدفه الرئيس تمثل في الحصول على رأس جازي وقد نجح في ذلك، لكنه أراد أن يخلص الأنام من شرور قطاع الطرق هؤلاء إلى الأبد.
وهكذا استمر التقتيل في قطاع الطرق، فلم يبق منهم إلا قلة قليلة فرت من ساحة المعركة.
لقد أيقن المغيرة بأنه من شبه المستحيل أن يذهب هو ويجد جازيا؛ فهو أشبه بحبة رمل في صحراء شاسعة؛ فهو قاطع طريق لا يسكن مكانا محددا، ولطالما حرص جيدا ألا يعرف أحد أين يقطن.
لهذا، قرر المغيرة أن يرمي له الطعم، فيخرج من جحره.
الزمان والمكان من أهم عناصر نجاح أية خطة، هذا ما أدركه المغيرة وهو يُحكم وضع خطوات خطته.
بالنسبة للزمان، فلم يبدأ المغيرة بتنفيذ خطته فور علمه بجائزة منيب؛ لأن هذا سيجعل جازيا يشك أن هنالك ما يدبر له. وبالنسبة للمكان، فقد حرص المغيرة ألا تنطلق القافلة من الأمينية مدينة منيب،
ولا من الفيحاء مدينته، لأن ذلك قد يثير الشك في نفس جازي، بأن أمرا ما يحاك له. لذا أطلق المغيرة القافلة من مدينة ثالثة هي البادئة.
***
توجه المغيرة ومعه رأس جازي إلى الأمينية تحديدا إلى دار منيب، وهو يكاد يتشقق من الداخل؛ بسبب اللهفة والشوق للجائزة اللغز، والفضول لمعرفة كنهها.
وصل هناك ودخل إلى الغرفة إياها التي قابل فيها منيبا المرة السابقة. وكالعادة جلست بجوار منيب حورية، ووقف بجوارهما الرجل الذي يبدو خطيرا.
"مرحبا" قال المغيرة وهو يدخل الغرفة.
"أهلا بك" رد منيب.
جلس المغيرة، ووقف على يمينه أحد مقاتليه، وعلى يساره واحد آخر منهم.
سر منيب حالما رأى المغيرة؛ فقد أدرك أن مجيئه يعني أنه حقق ما طلبه منه.
قال منيب: هل أتيتنا بما طلبنا؟
أومأ المغيرة برأسه موافقا، ثم قام من كرسيه ووضع قطعة من القماش بداخلها شيء أمام منيب وحورية، ثم نظر إلى حورية، وكأنه يحذرها بنظراته بأن ما ستراه مفزع.
ابتسمت حورية ابتسامة ملؤها الإغراء، وقالت بثقة: لا تخش علي، أرني ما معك.
عندها فك المغيرة قطعة القماش المربوطة بإحكام، فظهر رأس جازي جليا، وهو يمتلئ بالدماء.
توقع المغيرة أن يخيف المنظر حورية، لكن المفاجأة التي صدمته، أنها لم يرتعش لها جفن، بل نظرت بثقة وابتسمت ابتسامة واسعة، لكأنها رجل شديد البأس خاض آلاف المعارك!
قالت وهي تبتسم: بوركت أيها الصنديد، هذا معروف لن ننساه ما حيينا.
فرح المغيرة كثيرا بكلمات المرأة، التي أخفى إعجابه الضخم بها.
وفي الوقت نفسه، كان منيب يبتسم ابتسامة عريضة؛ فقد اقتص من قاتل ابنه.
قال منيب: بارك الله فيك، أيها المغيرة.
ترك المغيرة الرأس مستقرة على أرضية الغرفة، ثم عاد إلى كرسيه، ونظر إلى منيب، وهو ينتظر منه أن يعطيه الجائزة المزعومة.
قال منيب: لقد وعدتك بجائزة لم يجرؤ أن يحلم بها أحد من الإنس والجان، وها أنا أفي بوعدك. جائزتك هنا في الغرفة أمامك، أيها المغيرة.
استغرب المغيرة من كلام منيب، فهو لم ير أية جائزة في الغرفة، وجعل يقلب ناظريه فيها يمينا ويسارا وإلى الأعلى والأسفل، لعله لم ينتبه إلى شيء محدد، لم يجد صندوقا مليئا بالذهب، ولا صندوقا مليئا بالماس أو الحلي، ولا جواري لم تخطر على بال بشر، بل ولا حتى جارية واحدة.
بدأ المغيرة يغضب ويفقد أعصابه؛ إذ حسب أن منيبا يسخر منه.
حدق المغيرة في منيب، وقال بنبرة غاضبة، وعيناه تكادان تغادران محجريهما: أنا لا أرى أية جائزة هنا.
ابتسم منيب، ثم أشار إلى حورية، وقال: حورية هي جائزتك.
فتح المغيرة فاه مشدوها، ولم يصدق ما سمعه، وفرح فرحا هو الأعظم بحياته، فحورية أهم من كل المال الذي تمناه يوم سمع بالجائزة أول مرة، بل إنه لو ملك مال العالمين كله، لبادله مقابل حورية.
ورغم أنها أمامه وباتت له، فقد تاق لها وللعيش معها، فهو أدرك جيدا أن يوما واحدا معها يفوق عمرا مع غيرها.
سرعان ما ابتسم ونظر إلى حورية فوجدها تبتسم ابتسامة عريضة مثيرة.
"ولكن" قال منيب، وأكمل: حورية أغلى شيء على قلبي، ولي شرطان كي أعطيك إياها.
المغيرة استعد أن يقبل الشرطين قبل أن يسمع بهما، لكنه قال: ما هما؟
"الأول: أن تعاملها كند لك، وكأنها عمدة الفيحاء مثلك، وأن تجلس معك في كل مجالسك، مهما حضرها من رجال كثيرين ومهما علت منزلتهم، وأن تشاورها في أي أمر تتخذه، فهذا كله طبقته على نفسي، عندما عاملتها طيلة هذه السنين الكثيرة على أنها ند لي" قال منيب.
"وما الثاني؟" سأل المغيرة.
فأجاب منيب: أريد لكل حاشيتها من خدمها وجواريها والرجال الذين ينفذون طلباتها أن يذهبوا معها وأن يرتحلوا معها أي مكان ترحل إليه.
ثم أشار إلى الرجل الخطير الواقف بجوار حورية: هذا الرجل اسمه عكرمة، وهو أكثر رجل أثق به في العالم، وأريده أن يذهب مع حورية إلى مدينتك ودارك، وأن يظل معها في أي مجلس ومتى طلبته،
فهو أقدر رجل على حمايتها.
لقد كان عكرمة قويا شديد البأس، وعرف بأنه أشد رجال قومه، وكان فطنا قاسيا، لا هينا، ولا يمكن خداعه بسهولة.
نظر المغيرة بامتعاض إلى عكرمة؛ فلم يعجبه أن يأتي رجل آخر إلى بيته ليحرس المرأة التي ستغدو زوجته، وشعر بالإساءة من منيب، فكيف لا يأتمنه على حماية زوجته؟!
وكذلك لم يعجبه أن تشاركه امرأة في إدارة مدينة الفيحاء وحكمها، وخشي من كلام الناس عن هذا.
ولكنه رغم كل هذا، استعد لقبول المستحيل من أجلها، فأنى لرجل أن يرفض كل هذا الجمال؟!
"حسن" قال المغيرة، وأكمل: أنا موافق.
فرد منيب: مبارك.
ونظر المغيرة إلى من ستغدو زوجته بابتسامتها التي كادت تفطر قلبه، ونظرت حورية إلى من سيغدو زوجها.
***
قبل أن تنقل حورية إلى الفيحاء، لتعيش مع زوجها، تحادثت مع جاريتها زمردة.
قالت زمردة: هذا الرجل يبدو فحلا.
فابتسمت حورية ابتسامتها المثيرة.
وأضافت زمردة: إنه قوي وذو شأن في مدينته وفي كل البقاء.
فزادت فرحة حورية، التي أحست أنها ستتزوج رجلا يقترب ولو قليلا – في عظمته – من عظمتها!
سكتت زمردة، ثم قالت: ولكن ألا تخشين أنه بقوته وشدته، سيسطر عليك، ويُفقدكِ المكانة التي تتمتعين بها عند والدك؟!
ضحكت حورية ضحكة قمة في الإثارة والاستهزاء، ثم قالت: أنا سأضع هذا الرجل كالخاتم في إصبعي... بل سأستعبده... تأكدي من هذا جيدا... منذ المرة الأولى التي رأيتها به، لاحظت نظراته
المشتاقة لي، ومنذ تلك اللحظة، عرفت أنني سأمتلكه من خلال جمالي.
***
عاش المغيرة بسعادة مع حورية. في البداية ظل يجامعها. لكن مع مرور الوقت جعلت تحرمه من نفسها أحيانا، وتمنحه نفسها أحيانا أخر. ورغم ذلك لم يستطع أن يقاوم انحناءات جسدها ولا تعابيرها
المثيرة. وبهذا باتت تتحكم به، في البداية كانت تحضر أي اجتماع له أو أي استقبال يستقبل فيه أحدا، ومع مرور الوقت وبعد أن باتت تحرمه جسدها مرة وتعطيه إياه مرة، باتت هي من يتخذ القرارات
وعمدة الفيحاء الحقيقي. تألم مما حدث، وعلم أن ما حدث خطأ لكنه استسلم وسلم نفسه لها؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن المرأة الأكثر إثارة في العالم!
لقد اتسم طيلة عمره بالتواضع، حتى بعد أن حرر الفيحاء ثم غدا عمدة لها، ولم يحتقر الناس حتى أكثرهم ضعفا وذلا، وظل يعاملهم باحترام ولطف، وظل يزور حيه الفقير الذي ولد فيه، بل وعرض المال على جل أهل الحي، وقدمه لمن قبل منهم ذلك. ومما زاد آلامه من حورية، هو غرورها وتكبرها على من حولها، بمن في ذلك خدمه وحتى أصدقاؤه وجنوده والمقربون منه، بل إنها حتى تعالت على أمه
وأخيه وأخواته، الذين لم يحب أحدا كما أحبهم. كانت تتأمر على الجميع بطريقة مهينة، وتوبخ الجميع وتصرخ على الجميع على أتفه الأسباب، كل ذلك ضايقه لكنه من جديد لم يجرؤ على مواجهتها على
الإطلاق، رغم شكاوى أمه وإخوانه المتواصلة!
كانت نفسه في حيرتها طائرا يحلق في سماء عالية، وكلما اقترب ذلك الطير من اليابسة يريد أن يهبط عليها وأن يستقر عاد من جديد للطيران. قرر في مرات كثيرة أن يتركها إلى الأبد، وبعد أن تستقر
نفسه على ذلك لمدة قصيرة يجد نفسه يختار العودة إليها؛ فمن المجنون الذي يترك مثل هذه المرأة التي لا مثيل لها؟!
لم يعرف الرجل ماذا يختار، وأراد شخصا يشير عليه بالصواب، بل حتى استعد لأن يختار عنه ذلك الشخص؟!
توجه المغيرة إلى دار الأقطش وتكرر ما يحدث دوما في كل زيارة يزورها لها، حتى وصل الاثنان إلى محور الحديث، وأخبره المغيرة بسبب حيرته وطلب منه أن يشير عليه بما يجب فعله.
استاء الأقطش كثيرا من كلام تلميذه النجيب، ولأول مرة أحس أنه ليس بنجيب وأنه يفعل أمرا لهو خطأ بيّن. واسود وجهه اسودادا عظيما، ثم قال الرجل الأعمى بحزم: ما هذا، أيها المغيرة؟! أنا لا أصدق أنك المغيرة... هل أنت رجل آخر يستغل أنني أعمى وينتحل شخصيته؟!
زاد كلامه آلام المغيرة أضعافا؛ فقد وجد قسوة لم يعهدها من الرجل الذي أرسل تجاهه دوما الحنان والعطف!
تنهد الأقطش، ثم أضاف بغضب: المغيرة الذي أعرفه رجل...
اسود وجه المغيرة.
سكت الاثنان حتى قال الأقطش بعد مدة بنبرة تحمل غضبا أكبر: المغيرة الذي أعرفه لا يرضى أن تذله جيوش، أبآخر المطاف تذله امرأة وتتحكم به؟!
قال الأقطش السؤال الأخير بامتعاض ملؤه المرارة، بينما طفق المغيرة يتقطع من الداخل من كلام معلمه وحبيبه.
"اسمع، أيها المغيرة." قال الأقطش، وأكمل: اترك هذه المرأة فورا. افهمني جيدا... بقاؤك معها لن يؤدي إلا إلى هلاكك... هذا أمر مؤكد أراه ببصيرتي، كما كنت أرى الشمس في كبد السماء بعينيّ
ذات يوم.
حزن المغيرة؛ لأن هذا الخيار هو الأبعد عن قلبه، فقال بمرارة: كيف؟!!! كيف أكون مجنونا وأضحي بأجمل النساء وأكثرهن جمالا وإثارة؟!
قال هذا وهو يغمض عينيه ويتذكر جسدها وجمالها.
ثم أضاف: أنت لم ترها... لو رأيتها ما قلت ما قلته!
"نعم، لم أرها" قال الأقطش وأضاف: ولن أراها، وهذا ما يجعلني قويا تجاهها، ولا أنغوي بإغوائها مثلك.
أتدري ما سر حكمتي وقوتي التي لطالما وجدتها بي طيلة تلك السنين؟!
أني لم أكترث يوما بأي من متاع الدنيا... لم أكترث بالمال... لم أكترث بالسلطة... لم أكترث بالنساء... كنت - رغم أنني أرى في أيامي القديمة بعينيّ – لا أرى كل هذا بقلبي.
ثم قال: حتى أجمل النساء لم أكترث بهن. هل تظن أنها المرأة الوحيدة في هذا الكون؟! لقد رأيتُ نساء فاحشات الجمال، بديعات الجسد، كن قمة في الإثارة والإغواء بالتصرفات والكلام، لكنني لم أكترث
لهن، فقط اكترثت لرضا الله ونفسي عني.
وأنا هنا لا أزكي نفسي على الله، لكنني أخبرك أن المرء يمكنه - إذا امتلك قلبا قويا - أن يكسر أي متعة باطلة من متاع الدنيا.
ثم وضع كفه على فخذ تلميذه، وقال: وأنت هكذا يجب أن تكون، قويا كعهدك السابق لا تكترث بأي شيء من شهوات الكون، عليك أن تنظر إلى البشر بقلبك لا بعينيك. هذه المرأة شريرة، بل إن الشر
يسكن قلبها. هذه المرأة منحها الله الجمال والأنوثة، ولكنها استغلت كل هذا لاستعباد الرجال، وهذا أمر يتضح أنها تبدع فيه مع سبق الإصرار والترصد.
ثم أحكم قبضته على فخذ المغيرة، وقال: أرجوك، يا بني... اتركها... لا تجعل نهاية المغيرة قاهر اللصوص والمجرمين والفاسدين... الرجل الذي حرر أعظم مدينة وأكبر مدينة... الرجل الذي يفوق بعظمته الملوك... لا تجعل نهاية ذلك المغيرة على يد امرأة تغويه بجسدها.
يا الله، كم أثارت هذه الكلمات الشجن في نفس المغيرة، وصاحبه قافلة سريعة من الحزن غزت قلبه.
رحل المغيرة من دار الأقطش، وظل يتفكر في كلامه وفي المسألة شهورا كثيرة جدا، وهو يتعذب ويتألم ألما عظيما. وقرر أن يطلقها وينصت لكلام معلمه. ولما اتجه لفعل ذلك نظر إلى جسدها
وتعابيرها المثيرة، ثم أنصت لصوتها الذي يغوي المتصوفين، فانهار فورا، وقرر أن يظل معها للأبد.
"أن أكون عبدا لكِ ولجسدكِ، خير من حرية وكرامة وعزة ولو مع نساء الأرض أجمعين" هكذا فكر.
***
أثناء الحرب المقيتة، ظل جيش ياقوتة يتوغل غربا في أراضي البقاء، وظل يحتل المناطق الواحدة تلو الأخرى ويقتل ويأسر ويعذب وينكل. ظل هذا مستمرا حتى وصل عند مدينة الفيحاء. أخبر
الملكَ خلدونا ملكَ ياقوتةَ، مستشاروه باستحالة احتلالها؛ فقد علموا جيدا قوة أهلها وشدة بأسهم، وصعوبة السيطرة على مدينة مزدحمة بالبنيان والسكان والأزقة والحارات متراصة البيوت.
لكنّ الملك خلدوناً بعناده وحقده على البقاء وكل مدنها وطمعه فيها، أصر على احتلال الفيحاء.
في البداية حاصرها أشهرا طويلة، ضَيّقَ فيها على أهلها، طمعا في أن يستسملوا له أو على الأقل أن يخرجوا من المدينة، فيسهل القضاء عليهم. لكن أهلها بقيادة عمدتهم القوي المغيرة صمدوا وثبتوا.
عندها قرر الملك خلدون أن يدخل إليها، رغم تحذيرات مستشاريه. فأمر عددا كبيرا من أرتال جيشه باقتحامها. فلما دخلوها عانوا في أزقتها، وبسبب أهلها القساة الذين عجنتهم الحياة بقسوتها، فاتبعوا
أسلوب حرب العصابات، وكانوا يضربون بأعداد قليلة من المقاتلين جنود ياقوتة الكثر ثم يهربون، وكثيرا ما أطلقوا السهام عليهم فاغتالوهم، وأكثروا من الهجمات في الليل، وفاجؤوا جنود ياقوتة،
فأهل الفيحاء حفظوها زقاقا زقاقا وحارة حارة، على العكس من جنود ياقوتة الذين لم يكن لهم في المدينة ناقة ولا جمل.
وفي النهاية لم يستطع جيش ياقوتة احتلال الفيحاء، التي وقفت أمامهم حصنا منيعا؛ بسبب قوة أهلها، ولا سيما مع قوة عمدتها المغيرة.
عندها قرر الملك خلدون أن يتوقف، رغم أن ذلك نغص عليه عيشه. فقرر أن يعرض على المغيرة أن يخفض الضرائب على الفيحاء إلى الثلث، مقارنة بما أخذه الملك من سائر أراضي البقاء التي احتلها. وكذلك عرض على المغيرة أن تتمتع الفيحاء بحكم ذاتي، فلا يتدخل الملك بشؤونها الداخلية، لكنها ستظل تابعة لمملكة ياقوتة. وإذا لم يرضَ المغيرة بذلك، فيسظل الملك يحاصر الفيحاء أبد الدهر.
تفكر المغيرة جيدا، وفي نهاية المطاف وافق؛ فأحيانا تجبر الظروف المرء على المر؛ ليتهرب من الأمر. فبعد سقوط مملكة البقاء لم يعد للفيحاء نصير، وقد رأى المغيرة أن الموافقة خير من
استمرار حصار المدينة، وما سينجم عن ذلك من ضنك العيش.
ورغم موافقته على عرض الملك خلدون، استاء المغيرة كثيرا من هذا الاتفاق المذل، وقد عرف هذا عنه في كل البقاء، كما عرف عنه حبه الشديد للبقاء وحزنه على سقوطها بيد أعدائها.
***
وقد اتفق المغيرة مع عمدتها على تنفيذ خطة معينة، وهي إرسال قافلة ضخمة، محملة بالذهب والحلي والبضائع الثمينة والنساء باتجاه الغرب. وقد طلب المغيرة من عمدة البادئة أن يعلن عن هذه القافلة في شتى الأنحاء، حتى يسمع عنها كل أهل البقاء وبالذات جازي. وبالفعل نفذ عمدة البادئة طلب المغيرة. وقد حرص الأخير أن تسلك هذه القافلة الطريق نفسه الذي سلكته قافلة حمدان ابن منيب، عندما أغار
عليها جازي وقتل حمدان؛ حتى يزيد الفرصة لإغارة جازي عليها ويوقعه في الفخ.
دائما، أغار جازي على أية قافلة ضخمة في ناحية الفيحاء وما أحاط بها؛ لأن ذلك يعود عليه بربح كبير دفعة واحدة؛ لذلك حرص كل سكان تلك المناطق على أن يرسلوا قوافل صغيرة؛ ليقللوا فرص إغارة جازي عليها، وكذلك ليقللوا خسائرهم إذا ما حدث وأغار عليها هو ورجاله.
ولهذا كله حرص المغيرة، على أن تكون قافلته المزعومة ضخمة جدا، وأن يُشيع عنها أنها ممتلئة بالكنوز والنساء، حتى يضمن أن يغير عليها جازي.
جمع المغيرة عددا كبيرا من مقاتليه وقسمهم إلى ثلاث فرق، وقاد بنفسه إحداها. وقد ظلت كل فرقة تراقب القافلة المنطلقة من البادئة عن بعد، وقد تحركت الفرق الثلاث بحيث تكون بعيدة عن بعضها.
وكان جميع الرجال في القافلة من مقاتلي المغيرة، ومن أشدهم قوة، وقد تنكروا بزي غير زيهم، فلم يعلم أحد بهويتهم الحقيقية، وظنوهم مجرد تجار عاديين من سكان البادئة.
وبعد ما يقرب الأسبوعين من انطلاق القافلة من البادئة، وأثناء مرورها بمنطقة قريبة من المنطقة التي أغار فيها جازي على قافلة حمدان بن منيب، انطلق مجموعة من قطاع الطرق نحوها. لقد صدق
حدس المغيرة، فها هو جازي ينقاد نحو حتفه بقدميه.
لقد توقع المغيرة أنه لا بد وأن يكون المهاجمون هم جازي ورجاله، فكل قطاع الطرق في تلك المنطقة تحديدا كانوا من أتباع جازي.
عندها اتجهت الفرق الثلاث بسرعة نحو قطاع الطرق واشتبكوا معهم، وكذلك استل المقاتلون الأشداء في القافلة سيوفهم وبدؤوا بقتال قطاع الطرق، ومنهم من جعل يرمي السهام لتصطاد قطاع الطرق
الواحد تلو الآخر.
وهكذا جزع قطاع الطرق وارتبكوا.
وقد اشتد القتل في قطاع الطرق، لا سيما من قبل المغيرة، الذي كان أقوى الحاضرين في ساحة الوغى. وأثناء الاشتباك، اقترب المغيرة من أحد قطاع الطرق، فضرب سيفه بسيفه حتى أزاحه بعيدا،
ثم ضرب ذراع غريمه فجرحها. بعد ذلك أمسك بغريمه من ذراعه المجروحة ووضع سيفه على عنقه، وصرخ: أي هؤلاء جازي؟
فصرخ قاطع الطريق المتألم: لا أعلم.
فجرح المغيرة عنقه بسيفه جرحا صغيرا بات يسيل منه الدم غزيرا، فجزع قاطع الطريق وامتلأ جوفه رعبا.
عندها كرر المغيرة سؤاله، فأجاب قاطع الطريق صاغرا، وهو يشير إلى أحد المقاتلين: هو ذاك.
قطع المغيرة رأس قاطع الطريق، وركب جواده، واتجه نحو المقاتل الذي اُخبر عنه، وبينما هو يفعل ذلك، صرخ المغيرة: جازي.
فالتفت إليه جازي، فتأكد المغيرة أنه هو.
اقترب المغيرة من جازي، وكلاهما على جواده، وجعل أحدهما يضرب سيف الآخر بسيفه، وبعد عدة ضربات كان المغيرة أقوى فيها، أيقن جازي أنه أقل قوة من غريمه، ففر من أرض المعركة،
فأي قاطع طريق لا تشكل الكرامة والشجاعة شيئا له مقابل الحياة.
تبعه المغيرة حتى ابتعدا عن ساحة الوغى. وتمكن المغيرة من اللحاق به، فتبادلا الضربات بالسيوف، ثم نزل المغيرة عن جواده بسرعة، بينما ظل جازي على حصانه، وظلا يتبادلان الضربات. بعدها نزل جازي عن جواده لأنه أحس أن ذلك سيسهل عليه مقاتلة المغيرة. وبدأت معركة شرسة بين أقوى مقاتلين في منطقة الفيحاء وما حولها.
وقد استلم المغيرة زمام المبادرة، فضرب بسيفه يقصد بطن جازي، لكن الأخير تراجع للخلف، ثم ضرب يقصد ذراع المغيرة اليمنى، فتفادى الأخير الضربة، فضرب جازي يقصد ذراع غريمه اليسرى،
لكن المغيرة تفادها، وهو يتحرك برشاقة رغم ضخامة جسمه الممتلئ بالعضلات. وفورا تقدم المغيرة نحو جازي وطعنه في بطنه. ركع جازي على ركبتيه، وعندها غرس المغيرة سيفه كاملا في بطنه.
بعدها وبدون رحمة أو تردد، قطع المغيرة رأسه، وأخذه ولفه بقطعة قماش صحبها معه على حصانه. ثم ركب جواده، وعاد إلى ساحة المعركة.
وظل المغيرة ومقاتلوه يقتنصون أرواح خصومهم. صحيح أن هدفه الرئيس تمثل في الحصول على رأس جازي وقد نجح في ذلك، لكنه أراد أن يخلص الأنام من شرور قطاع الطرق هؤلاء إلى الأبد.
وهكذا استمر التقتيل في قطاع الطرق، فلم يبق منهم إلا قلة قليلة فرت من ساحة المعركة.
لقد أيقن المغيرة بأنه من شبه المستحيل أن يذهب هو ويجد جازيا؛ فهو أشبه بحبة رمل في صحراء شاسعة؛ فهو قاطع طريق لا يسكن مكانا محددا، ولطالما حرص جيدا ألا يعرف أحد أين يقطن.
لهذا، قرر المغيرة أن يرمي له الطعم، فيخرج من جحره.
الزمان والمكان من أهم عناصر نجاح أية خطة، هذا ما أدركه المغيرة وهو يُحكم وضع خطوات خطته.
بالنسبة للزمان، فلم يبدأ المغيرة بتنفيذ خطته فور علمه بجائزة منيب؛ لأن هذا سيجعل جازيا يشك أن هنالك ما يدبر له. وبالنسبة للمكان، فقد حرص المغيرة ألا تنطلق القافلة من الأمينية مدينة منيب،
ولا من الفيحاء مدينته، لأن ذلك قد يثير الشك في نفس جازي، بأن أمرا ما يحاك له. لذا أطلق المغيرة القافلة من مدينة ثالثة هي البادئة.
***
توجه المغيرة ومعه رأس جازي إلى الأمينية تحديدا إلى دار منيب، وهو يكاد يتشقق من الداخل؛ بسبب اللهفة والشوق للجائزة اللغز، والفضول لمعرفة كنهها.
وصل هناك ودخل إلى الغرفة إياها التي قابل فيها منيبا المرة السابقة. وكالعادة جلست بجوار منيب حورية، ووقف بجوارهما الرجل الذي يبدو خطيرا.
"مرحبا" قال المغيرة وهو يدخل الغرفة.
"أهلا بك" رد منيب.
جلس المغيرة، ووقف على يمينه أحد مقاتليه، وعلى يساره واحد آخر منهم.
سر منيب حالما رأى المغيرة؛ فقد أدرك أن مجيئه يعني أنه حقق ما طلبه منه.
قال منيب: هل أتيتنا بما طلبنا؟
أومأ المغيرة برأسه موافقا، ثم قام من كرسيه ووضع قطعة من القماش بداخلها شيء أمام منيب وحورية، ثم نظر إلى حورية، وكأنه يحذرها بنظراته بأن ما ستراه مفزع.
ابتسمت حورية ابتسامة ملؤها الإغراء، وقالت بثقة: لا تخش علي، أرني ما معك.
عندها فك المغيرة قطعة القماش المربوطة بإحكام، فظهر رأس جازي جليا، وهو يمتلئ بالدماء.
توقع المغيرة أن يخيف المنظر حورية، لكن المفاجأة التي صدمته، أنها لم يرتعش لها جفن، بل نظرت بثقة وابتسمت ابتسامة واسعة، لكأنها رجل شديد البأس خاض آلاف المعارك!
قالت وهي تبتسم: بوركت أيها الصنديد، هذا معروف لن ننساه ما حيينا.
فرح المغيرة كثيرا بكلمات المرأة، التي أخفى إعجابه الضخم بها.
وفي الوقت نفسه، كان منيب يبتسم ابتسامة عريضة؛ فقد اقتص من قاتل ابنه.
قال منيب: بارك الله فيك، أيها المغيرة.
ترك المغيرة الرأس مستقرة على أرضية الغرفة، ثم عاد إلى كرسيه، ونظر إلى منيب، وهو ينتظر منه أن يعطيه الجائزة المزعومة.
قال منيب: لقد وعدتك بجائزة لم يجرؤ أن يحلم بها أحد من الإنس والجان، وها أنا أفي بوعدك. جائزتك هنا في الغرفة أمامك، أيها المغيرة.
استغرب المغيرة من كلام منيب، فهو لم ير أية جائزة في الغرفة، وجعل يقلب ناظريه فيها يمينا ويسارا وإلى الأعلى والأسفل، لعله لم ينتبه إلى شيء محدد، لم يجد صندوقا مليئا بالذهب، ولا صندوقا مليئا بالماس أو الحلي، ولا جواري لم تخطر على بال بشر، بل ولا حتى جارية واحدة.
بدأ المغيرة يغضب ويفقد أعصابه؛ إذ حسب أن منيبا يسخر منه.
حدق المغيرة في منيب، وقال بنبرة غاضبة، وعيناه تكادان تغادران محجريهما: أنا لا أرى أية جائزة هنا.
ابتسم منيب، ثم أشار إلى حورية، وقال: حورية هي جائزتك.
فتح المغيرة فاه مشدوها، ولم يصدق ما سمعه، وفرح فرحا هو الأعظم بحياته، فحورية أهم من كل المال الذي تمناه يوم سمع بالجائزة أول مرة، بل إنه لو ملك مال العالمين كله، لبادله مقابل حورية.
ورغم أنها أمامه وباتت له، فقد تاق لها وللعيش معها، فهو أدرك جيدا أن يوما واحدا معها يفوق عمرا مع غيرها.
سرعان ما ابتسم ونظر إلى حورية فوجدها تبتسم ابتسامة عريضة مثيرة.
"ولكن" قال منيب، وأكمل: حورية أغلى شيء على قلبي، ولي شرطان كي أعطيك إياها.
المغيرة استعد أن يقبل الشرطين قبل أن يسمع بهما، لكنه قال: ما هما؟
"الأول: أن تعاملها كند لك، وكأنها عمدة الفيحاء مثلك، وأن تجلس معك في كل مجالسك، مهما حضرها من رجال كثيرين ومهما علت منزلتهم، وأن تشاورها في أي أمر تتخذه، فهذا كله طبقته على نفسي، عندما عاملتها طيلة هذه السنين الكثيرة على أنها ند لي" قال منيب.
"وما الثاني؟" سأل المغيرة.
فأجاب منيب: أريد لكل حاشيتها من خدمها وجواريها والرجال الذين ينفذون طلباتها أن يذهبوا معها وأن يرتحلوا معها أي مكان ترحل إليه.
ثم أشار إلى الرجل الخطير الواقف بجوار حورية: هذا الرجل اسمه عكرمة، وهو أكثر رجل أثق به في العالم، وأريده أن يذهب مع حورية إلى مدينتك ودارك، وأن يظل معها في أي مجلس ومتى طلبته،
فهو أقدر رجل على حمايتها.
لقد كان عكرمة قويا شديد البأس، وعرف بأنه أشد رجال قومه، وكان فطنا قاسيا، لا هينا، ولا يمكن خداعه بسهولة.
نظر المغيرة بامتعاض إلى عكرمة؛ فلم يعجبه أن يأتي رجل آخر إلى بيته ليحرس المرأة التي ستغدو زوجته، وشعر بالإساءة من منيب، فكيف لا يأتمنه على حماية زوجته؟!
وكذلك لم يعجبه أن تشاركه امرأة في إدارة مدينة الفيحاء وحكمها، وخشي من كلام الناس عن هذا.
ولكنه رغم كل هذا، استعد لقبول المستحيل من أجلها، فأنى لرجل أن يرفض كل هذا الجمال؟!
"حسن" قال المغيرة، وأكمل: أنا موافق.
فرد منيب: مبارك.
ونظر المغيرة إلى من ستغدو زوجته بابتسامتها التي كادت تفطر قلبه، ونظرت حورية إلى من سيغدو زوجها.
***
قبل أن تنقل حورية إلى الفيحاء، لتعيش مع زوجها، تحادثت مع جاريتها زمردة.
قالت زمردة: هذا الرجل يبدو فحلا.
فابتسمت حورية ابتسامتها المثيرة.
وأضافت زمردة: إنه قوي وذو شأن في مدينته وفي كل البقاء.
فزادت فرحة حورية، التي أحست أنها ستتزوج رجلا يقترب ولو قليلا – في عظمته – من عظمتها!
سكتت زمردة، ثم قالت: ولكن ألا تخشين أنه بقوته وشدته، سيسطر عليك، ويُفقدكِ المكانة التي تتمتعين بها عند والدك؟!
ضحكت حورية ضحكة قمة في الإثارة والاستهزاء، ثم قالت: أنا سأضع هذا الرجل كالخاتم في إصبعي... بل سأستعبده... تأكدي من هذا جيدا... منذ المرة الأولى التي رأيتها به، لاحظت نظراته
المشتاقة لي، ومنذ تلك اللحظة، عرفت أنني سأمتلكه من خلال جمالي.
***
عاش المغيرة بسعادة مع حورية. في البداية ظل يجامعها. لكن مع مرور الوقت جعلت تحرمه من نفسها أحيانا، وتمنحه نفسها أحيانا أخر. ورغم ذلك لم يستطع أن يقاوم انحناءات جسدها ولا تعابيرها
المثيرة. وبهذا باتت تتحكم به، في البداية كانت تحضر أي اجتماع له أو أي استقبال يستقبل فيه أحدا، ومع مرور الوقت وبعد أن باتت تحرمه جسدها مرة وتعطيه إياه مرة، باتت هي من يتخذ القرارات
وعمدة الفيحاء الحقيقي. تألم مما حدث، وعلم أن ما حدث خطأ لكنه استسلم وسلم نفسه لها؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن المرأة الأكثر إثارة في العالم!
لقد اتسم طيلة عمره بالتواضع، حتى بعد أن حرر الفيحاء ثم غدا عمدة لها، ولم يحتقر الناس حتى أكثرهم ضعفا وذلا، وظل يعاملهم باحترام ولطف، وظل يزور حيه الفقير الذي ولد فيه، بل وعرض المال على جل أهل الحي، وقدمه لمن قبل منهم ذلك. ومما زاد آلامه من حورية، هو غرورها وتكبرها على من حولها، بمن في ذلك خدمه وحتى أصدقاؤه وجنوده والمقربون منه، بل إنها حتى تعالت على أمه
وأخيه وأخواته، الذين لم يحب أحدا كما أحبهم. كانت تتأمر على الجميع بطريقة مهينة، وتوبخ الجميع وتصرخ على الجميع على أتفه الأسباب، كل ذلك ضايقه لكنه من جديد لم يجرؤ على مواجهتها على
الإطلاق، رغم شكاوى أمه وإخوانه المتواصلة!
كانت نفسه في حيرتها طائرا يحلق في سماء عالية، وكلما اقترب ذلك الطير من اليابسة يريد أن يهبط عليها وأن يستقر عاد من جديد للطيران. قرر في مرات كثيرة أن يتركها إلى الأبد، وبعد أن تستقر
نفسه على ذلك لمدة قصيرة يجد نفسه يختار العودة إليها؛ فمن المجنون الذي يترك مثل هذه المرأة التي لا مثيل لها؟!
لم يعرف الرجل ماذا يختار، وأراد شخصا يشير عليه بالصواب، بل حتى استعد لأن يختار عنه ذلك الشخص؟!
توجه المغيرة إلى دار الأقطش وتكرر ما يحدث دوما في كل زيارة يزورها لها، حتى وصل الاثنان إلى محور الحديث، وأخبره المغيرة بسبب حيرته وطلب منه أن يشير عليه بما يجب فعله.
استاء الأقطش كثيرا من كلام تلميذه النجيب، ولأول مرة أحس أنه ليس بنجيب وأنه يفعل أمرا لهو خطأ بيّن. واسود وجهه اسودادا عظيما، ثم قال الرجل الأعمى بحزم: ما هذا، أيها المغيرة؟! أنا لا أصدق أنك المغيرة... هل أنت رجل آخر يستغل أنني أعمى وينتحل شخصيته؟!
زاد كلامه آلام المغيرة أضعافا؛ فقد وجد قسوة لم يعهدها من الرجل الذي أرسل تجاهه دوما الحنان والعطف!
تنهد الأقطش، ثم أضاف بغضب: المغيرة الذي أعرفه رجل...
اسود وجه المغيرة.
سكت الاثنان حتى قال الأقطش بعد مدة بنبرة تحمل غضبا أكبر: المغيرة الذي أعرفه لا يرضى أن تذله جيوش، أبآخر المطاف تذله امرأة وتتحكم به؟!
قال الأقطش السؤال الأخير بامتعاض ملؤه المرارة، بينما طفق المغيرة يتقطع من الداخل من كلام معلمه وحبيبه.
"اسمع، أيها المغيرة." قال الأقطش، وأكمل: اترك هذه المرأة فورا. افهمني جيدا... بقاؤك معها لن يؤدي إلا إلى هلاكك... هذا أمر مؤكد أراه ببصيرتي، كما كنت أرى الشمس في كبد السماء بعينيّ
ذات يوم.
حزن المغيرة؛ لأن هذا الخيار هو الأبعد عن قلبه، فقال بمرارة: كيف؟!!! كيف أكون مجنونا وأضحي بأجمل النساء وأكثرهن جمالا وإثارة؟!
قال هذا وهو يغمض عينيه ويتذكر جسدها وجمالها.
ثم أضاف: أنت لم ترها... لو رأيتها ما قلت ما قلته!
"نعم، لم أرها" قال الأقطش وأضاف: ولن أراها، وهذا ما يجعلني قويا تجاهها، ولا أنغوي بإغوائها مثلك.
أتدري ما سر حكمتي وقوتي التي لطالما وجدتها بي طيلة تلك السنين؟!
أني لم أكترث يوما بأي من متاع الدنيا... لم أكترث بالمال... لم أكترث بالسلطة... لم أكترث بالنساء... كنت - رغم أنني أرى في أيامي القديمة بعينيّ – لا أرى كل هذا بقلبي.
ثم قال: حتى أجمل النساء لم أكترث بهن. هل تظن أنها المرأة الوحيدة في هذا الكون؟! لقد رأيتُ نساء فاحشات الجمال، بديعات الجسد، كن قمة في الإثارة والإغواء بالتصرفات والكلام، لكنني لم أكترث
لهن، فقط اكترثت لرضا الله ونفسي عني.
وأنا هنا لا أزكي نفسي على الله، لكنني أخبرك أن المرء يمكنه - إذا امتلك قلبا قويا - أن يكسر أي متعة باطلة من متاع الدنيا.
ثم وضع كفه على فخذ تلميذه، وقال: وأنت هكذا يجب أن تكون، قويا كعهدك السابق لا تكترث بأي شيء من شهوات الكون، عليك أن تنظر إلى البشر بقلبك لا بعينيك. هذه المرأة شريرة، بل إن الشر
يسكن قلبها. هذه المرأة منحها الله الجمال والأنوثة، ولكنها استغلت كل هذا لاستعباد الرجال، وهذا أمر يتضح أنها تبدع فيه مع سبق الإصرار والترصد.
ثم أحكم قبضته على فخذ المغيرة، وقال: أرجوك، يا بني... اتركها... لا تجعل نهاية المغيرة قاهر اللصوص والمجرمين والفاسدين... الرجل الذي حرر أعظم مدينة وأكبر مدينة... الرجل الذي يفوق بعظمته الملوك... لا تجعل نهاية ذلك المغيرة على يد امرأة تغويه بجسدها.
يا الله، كم أثارت هذه الكلمات الشجن في نفس المغيرة، وصاحبه قافلة سريعة من الحزن غزت قلبه.
رحل المغيرة من دار الأقطش، وظل يتفكر في كلامه وفي المسألة شهورا كثيرة جدا، وهو يتعذب ويتألم ألما عظيما. وقرر أن يطلقها وينصت لكلام معلمه. ولما اتجه لفعل ذلك نظر إلى جسدها
وتعابيرها المثيرة، ثم أنصت لصوتها الذي يغوي المتصوفين، فانهار فورا، وقرر أن يظل معها للأبد.
"أن أكون عبدا لكِ ولجسدكِ، خير من حرية وكرامة وعزة ولو مع نساء الأرض أجمعين" هكذا فكر.
***
أثناء الحرب المقيتة، ظل جيش ياقوتة يتوغل غربا في أراضي البقاء، وظل يحتل المناطق الواحدة تلو الأخرى ويقتل ويأسر ويعذب وينكل. ظل هذا مستمرا حتى وصل عند مدينة الفيحاء. أخبر
الملكَ خلدونا ملكَ ياقوتةَ، مستشاروه باستحالة احتلالها؛ فقد علموا جيدا قوة أهلها وشدة بأسهم، وصعوبة السيطرة على مدينة مزدحمة بالبنيان والسكان والأزقة والحارات متراصة البيوت.
لكنّ الملك خلدوناً بعناده وحقده على البقاء وكل مدنها وطمعه فيها، أصر على احتلال الفيحاء.
في البداية حاصرها أشهرا طويلة، ضَيّقَ فيها على أهلها، طمعا في أن يستسملوا له أو على الأقل أن يخرجوا من المدينة، فيسهل القضاء عليهم. لكن أهلها بقيادة عمدتهم القوي المغيرة صمدوا وثبتوا.
عندها قرر الملك خلدون أن يدخل إليها، رغم تحذيرات مستشاريه. فأمر عددا كبيرا من أرتال جيشه باقتحامها. فلما دخلوها عانوا في أزقتها، وبسبب أهلها القساة الذين عجنتهم الحياة بقسوتها، فاتبعوا
أسلوب حرب العصابات، وكانوا يضربون بأعداد قليلة من المقاتلين جنود ياقوتة الكثر ثم يهربون، وكثيرا ما أطلقوا السهام عليهم فاغتالوهم، وأكثروا من الهجمات في الليل، وفاجؤوا جنود ياقوتة،
فأهل الفيحاء حفظوها زقاقا زقاقا وحارة حارة، على العكس من جنود ياقوتة الذين لم يكن لهم في المدينة ناقة ولا جمل.
وفي النهاية لم يستطع جيش ياقوتة احتلال الفيحاء، التي وقفت أمامهم حصنا منيعا؛ بسبب قوة أهلها، ولا سيما مع قوة عمدتها المغيرة.
عندها قرر الملك خلدون أن يتوقف، رغم أن ذلك نغص عليه عيشه. فقرر أن يعرض على المغيرة أن يخفض الضرائب على الفيحاء إلى الثلث، مقارنة بما أخذه الملك من سائر أراضي البقاء التي احتلها. وكذلك عرض على المغيرة أن تتمتع الفيحاء بحكم ذاتي، فلا يتدخل الملك بشؤونها الداخلية، لكنها ستظل تابعة لمملكة ياقوتة. وإذا لم يرضَ المغيرة بذلك، فيسظل الملك يحاصر الفيحاء أبد الدهر.
تفكر المغيرة جيدا، وفي نهاية المطاف وافق؛ فأحيانا تجبر الظروف المرء على المر؛ ليتهرب من الأمر. فبعد سقوط مملكة البقاء لم يعد للفيحاء نصير، وقد رأى المغيرة أن الموافقة خير من
استمرار حصار المدينة، وما سينجم عن ذلك من ضنك العيش.
ورغم موافقته على عرض الملك خلدون، استاء المغيرة كثيرا من هذا الاتفاق المذل، وقد عرف هذا عنه في كل البقاء، كما عرف عنه حبه الشديد للبقاء وحزنه على سقوطها بيد أعدائها.
***