الفصل السابع

حينما حل المساء وعادا سوياً بعد شراء ما يحتاجه
المنزل من متطلبات تركها تضع المشتريات بأماكنها ما بين خزانة المطبخ وما بين المبرد وهرب إلى غرفته يتحصن بها فقد أصبحت هى المكان الوحيد التى لم
تواتيها الجرأة لإقتحامه بالرغم من ذلك كان يتخيلها وهى ترتب الفراش أو تلتقط اشياؤه المبعثرة من كل مكان، ويتساءل هل تتنهد بإستسلام وبإبتسامة كما كانت تفعل والدته أم تتأفف بضجر مثل سلمى من
طباعه الفوضوية؟
أغمض عينيه بإبتسامة متهكمة متذكراً ما قاله له
خالد حينما ذهب إليه طالباً الزواج منها..
"تعرف أننى لم اتمنى ابداً لشقيقتى رجلاً سواك،
وكذلك والدى رحمه الله..لكن مليكة أخطأت بحقك وبحق سلمى ولا أعرف إن كنت يمكنك ان تسامحها،لأن الحياة ابداً لن تستقيم بينكما إن كان بقلبك أثر
ضغينة مما فعلته أو قالته...إننى أعرف أنها اخطأت كثيراً وربما هناك أشياء حدثت لم أعلم بها ولهذا
سؤالى لك زين،هل غفرت لها تلك الأخطاء؟هل
يمكنك أن تنسي كل ما حدث ولا تتذكر سوى أنها
مليكة التى نشأت أمام عينيك وتشاركنا الطعام
جميعاً بطبق واحد؟هل يمكنك أن تتذكر دائماً أنها
أمانتى لديك؟"
كانت إجابته على خالد ثابتة حينها ولم يجد أى تردد وهو يخبره أن مليكة ضلعه الأعوج الذى لا حياة له
بدونه،وهو قادر على أن يعيد ذلك الضلع لموطنه
ليستقر هناك بأمان..
"وهل حمل قلبي حقاً لك سوى العشق يا مليكة
القلب؟هل استطاع يوماً ان يخفق سوى بحبك؟هل
أهرب منكِ أم من نفسي؟فما عدت أملك القوة
لمواجهة دلالك ونظرات عينيك التى تجعلنى اشعر كرجل امتلك النجوم واصبحت بين يديه"تمتم بتنهيدة حارقة مخاطباً نفسه فلو كان إستطاع يوماً ان يعبر
عن مشاعره ما كان إضطر خالد ابداً لتوصيته…
ضرب الفراش بقبضتيه وهو يتذكر أن الغد هو
الجمعة ولديه يومين عطلة إما ان يجوب الشوارع
والمقاهى ليقضيهما أو أن يبقى بالمنزل ويعانى من قربها الذى يحرمه على نفسه..غارقاً فى أفكاره بشأن قضاء عطلته لم يعلم بشأن تلك التى تقف على
الجانب الآخر من باب الغرفة تضع يديها بخصرها
وتنظر للباب بسخط متمتمة :"صبراً زين،وسأقتحم
ذلك الباب يوماً،ولن تستطيع الهرب منى بعدها،
ولكن الآن يجب أن أتعامل مع ذلك الخافق بجنون
داخل صدرى لأعلم ما سبب جنونه"
آرق وسهد وشوق حارق تحملهم الفراش الذى
تبعثرت اغطيته وملاءته وكأنهم هربوا للأرض
محاولين النجاة من قتال ونزاع ما بين العقل وكبرياؤه وبين القلب والجسد..هذا كان حال الفراش حينما.
استيقظ صباحاً ووقف محدقاً به وهو يمرر يده على
خصلات شعره القصيرة للغاية ثم تمتم:"اللعنة عليك
زين!!كيف تحلم بيوماً تحتويها به بين ذراعيك
بالفراش!!ستهرب منك بالتأكيد،إنك تصارع أثناء
نومك"
ابتسم حينما تذكر ضحكة والدته العالية التي يتردد
صداها بالمنزل وهى تحادثه بمكر أنثوى:"مسكينة
هى من ستضطر لمشاركتك الفراش،ستسيقظ
بكدمات"
زفر بإستسلام وغادر الغرفة فهو سأم من البقاء
بالفراش حتى يهرب من لقائها ومعدته تزأر بقوة من الجوع ومن رائحة الإفطار الذى وصلت إليه..اتجه إلى الحمام وبطريقه وجد باب غرفتها مفتوحاً فخطى
للداخل،فلمح هاتفها هناك يقبع على الطاولة
الجانبية للفراش لكنه اشاح بنظره عنه فهو لن يفتح باباً للشيطان ليفسد حياته التى لازال يحاول جاهداً
أن يجعلها تستقر.
إنحدرت عينيه نحو الفراش الكبير الذى بالكاد يبدو
من تجعد ملاءته أنها كانت تنام بين طياته..استنشق
بقوة وملئ رئتيه برائحة زهرة الليمون التى تغطت
على هواء الغرفة، وانحدرت عينيه نحو الفراش ثم
التقط وسادتها ورفعها ليدس بها أنفه مهمهاً
بلسان قلبه:"كمراهق أحمق تشتاق لها،وتبحث عن
تهدئة لشوقك بوسادة،فلتدع كبريائك يطفئ نيران
شوقك إذا"
أعاد الوسادة إلى مكانها غافلاً عن تلك التى كادت
تدخل الغرفة لتحضر هاتفها ولكنها تراجعت حينما رأته يحتضن وسادتها وعادت مسرعة للمطبخ بقلب
يدق كطبول الحرب ثم وقفت للحظات محاولة
تنظيم نبضاتها وابتسامة متسعة إحتلت وجهها
فيوماً بعد يوم تصبح على يقين اقوى من عشقه لها فتمتمت لنفسها:"حسناً زين،دعنا نرى إلى متى
ستستطيع المقاومة"
"زين...زين"هتفت حينما سمعت باب الحمام يُفتح
وهو يغادره.
فتنفس بقوة قبل ان يتجه للمطبخ ملبياً ندائها
ووقف بالمدخل:"صباح الخير"
"صباح النور،الإفطار على وشك الإنتهاء هل أعد لك
شاى بالحليب قبل الطعام؟"
"لا..هل تريدين مساعدة؟"تمتم متلعثماً وعينيه تجوب جسدها بإرتباك فهو للمرة الأولى يراها بمنامة
تلتصق بجسدها تماماً كجلد ثان وسروالها يصل
أسفل ركبتيها بالكاد بينما ذراعيها عاريان.
ابتسمت بوجنتين تتخضب بالحمرة وهى تلتفت وتنظر إليه:"إذا كنت ترغب بمساعدتى فيمكنك إعداد
السلطة،كنت تعدها دائماً يوم الجمعة حينما كنا
نجتمع جميعاً على الإفطار فوق سطح منزلنا"
اومئ بدون ان يتفوه بكلمة واتجه نحو وعاء
الخضروات التى أعدته وبدأ بتقطيعه فانحرفت عينيها نحوه تراقبه ورغم خجلها من إرتدائها مثل تلك
المنامة لكنها ممتنة لتهورها وشجاعتها فما أن
سمعت صوته بالحمام حتى أسرعت لتستبدل
ملابسها.
اقتربت منه لتلتف من حوله وامتدت يدها نحو طبق
الخضراوات تلتقط حبة طماطم ملامسة ذراعه
بتعمد ثم استدارت نحو الموقد وعادت تحمل الطبق
التى سكبت به ما تحتاجه من الفول لتبدأ بتجهيزه وحينما انتهت رفعت القليل على طرف الشوكة
وقربتها من فم زين مهمهمة:"هل مذاقه كما تحبه؟
أم يحتاج إلى شيئ؟"
التفت ينظر إليها وعينيه تنتقل بين عينيها وبين يدها القريبة من فمه ولم يقوى على الرفض فانحنى
يتذوقه من يدها وتمتم بنبرة آجشة:"إنه كما أرغبه
تماماً،حار ويذوب بالفم"
تخضبت وجنتيها حتى صارتا اشبه بحبات الطماطم
التى يقطعها فهى أدركت أنه بالتأكيد لا يعنى
الفول بكلماته،ولكنها أصرت على مواصلة دك
حصونه وبالتأكيد لن تجعل خجلها يوقفها...حينما
جلسا على الطاولة ليتناولا الإفطار انتقلت عينيه بين الأطباق فوق المائدة وبينها ثم قال:"فطور مثالى..
يشبه ذلك الذى كنا نعده يوم الجمعة ونجتمع على
الأرض حول اوراق الجرائد القديمة التي نضع فوقها
الطعام،لكننا اليوم نضعه على مائدة ونجلس فوق
مقاعد بدلاً من إفتراش الأرض"
"نعم،لكن الكميات أقل،وغابت إبتسامة والدى
الراضية ومغازلة عمى توفيق لخالتى وهو يخبرها أنه لم يتذوق بحياته افضل من الفول الذى تطهوه بيدها"
رفع عينيه نحوها يحدق بها وقد لمح ترقرق الدمعات بعينيها فامتدت يده يربت بحنو على وجنتها مجففاً دمعتها التى هربت رغما عنها وهمس:"الموت قضاء الله كما الميلاد،كل منا محدد له يوم ميلاده ويوم
رحيله"
حدقت به بعينيها الدامعة وهى تلعن نفسها بصمت فلقد أفسدت شهيته بالتأكيد وافسدت خطتها
بالتودد إليه..
"هيا لتتناولى طعامك،بالتأكيد لن أهدر هذا الإفطار
المتكامل الذى لم اتناول مثله منذ وقت طويل"
تحدث إليها بنبرة حانية كادت بعدها ان تقفز بين أحضانه وليعتقد بها ما يشاء،ولكنها بحاجة للشعور بذراعيه من حولها.
***********
"لا تضحكى سلمى الآن،فشقيقك يكاد يصيبنى
بالجنون"هتفت بصديقتها عبر الهاتف.
"حسناً..حسناً لا تغضبي"قالت سلمى بنبرة مختنقة
بالضحك.
"منذ أن قبلنى الأسبوع الماضى وهو يبتعد عنى كلما حاولت الإقتراب،وكأنه مُحصن أمام كل ما افعله
لإغوائه"تمتمت بغيظ فبداية عطلة الأسبوع الماضى جعلتها تعتقد أنها لن تنتهى حتى يعترف لها بحبه ولكنه أفسد كل توقعاتها وقضى اليومين بالخارج لا يعود سوى ليلاً ثم يتحصن بغرفته.
"لم تخبرينى هل يجيد شقيقى التقبيل إلى هذا الحد؟"
"تأدبي سلمى،تأدبى"هتفت وهى تهز رأسها
بإستسلام من وقاحة صديقتها.
"حسناً دعى الأدب يفيدك ولن أتحدث،هل تعتقدين ان ارتداء منامة أو الإمساك بيده وانتم تجوبون بين
المحال،إغواء؟يا خيبة أملى لن أرى اطفال شقيقى سوى بعد سنوات بهذه الطريقة"
"ماذا تريديننى أن أفعل؟هل اقتحم غرفته؟ام أمزق
ملابسه حتى لا يغادر المنزل؟"تمتمت مليكة بغصب.
فارتفعت ضحكة سلمى عالياً وهى تقول بلا حياء:"لا
مزقى ملابسه وهو يرتديها"
"اغلقى الهاتف سلمى،أتدرين انا مخطئة لأننى أخبرك بشيئ،وتدرين ايضاً سأترك شقيقك هكذا يهتم بى،
بطعامى ودوائى ويعاملنى كملكة متوجة،يهدينى
اشياء لا اريدها ويصطحبنى للنزهة كل يوم مساء
بعد عمله،ماذا اريد اكثر من ذلك؟"تحدثت بسرعة.
قاذفة كلماتها بغيظ احتدم بصدرها.
"تريدين ان تكونى إمرأته،تريدين الغفو على صدره.
والشعور بذراعيه من حولك"تمتمت سلمى بتنهيدة وهى تشتاق لزوجها الذى سافر مع والدته لأداء
العمرة والبقاء بمكة عدة أيام فالمسافة بين مكة
والمدينة التى يقيمون بها لا تتيح لهم الفرصة
بالذهاب بيوم واحد والعودة.
"نعم..نعم"هتفت مليكة بنبرة خرجت غريبة حتى على أذنيها وقبل ان تكرر السؤال على نفسها سمعته
على لسان صديقتها ولكنه لم يكن تساؤل فقد اقرت سلمى بما تتردد هى فى تصديقه.
"تحبينه مليكة"
"أحبه!!نعم سلمى أحبه،ليس لدىّ تفسير لجنونى
وغضبي منه سوى لأننى أحبه..ليس لدىّ اى تفسير لشوقى له سوى أننى أحبه..اشعر بالإرتياح
والطمأنينة وهو بالمنزل حتى لو كان محصناً بغرفته،أحيانا ألقى باللوم عليه وأفكر لما لم يطالب بى
ويختطفنى؟لما لم يعلن حبه؟ولما لم يمسك عنوة
بيدى لأشعر بنبض قلبه؟لما لم يوقظنى من
كابوسي؟لو فعل لربما كان كل شيئ تغير، كنت
سأكون الآن معه أنعم بعشقه،لكنه لم يفعل"
"إنسي كل شيئ مليكة،انتِ معه الآن،وإذا كان
كبرياؤه يمنعه عنكِ فأخبريه أنتِ بعشقك،إذا لم يكن كل ما ذكرتيه عشقاً فبالتأكيد هو شيئ أكبر منه"
تحدثت سلمى بسعادة غامرة فأخيراً وجد شقيقها
وشقيقة قلبها الراحة بعد عناء ومشقة.
"تريديننى ان اذهب إليه وأقول له،زين..صباح الخير انا
احبك"قالت متهكمة ثم أضافت:"لن أفعل ابداً،
وسأدعه يدللنى واستمتع بذلك كأننا بفترة خطبة"
عادت ضحكات سلمى ترتفع:"حسناً،فلتستمعى بدلاله ولكن دعينا نجعلها عقد قرآن وليست خطبة"
"لا أفهم"
"لم أكن أعنى ان تخبريه بحبك،بالطبع كل فتاة تريد ان تستمع لتلك الكلمة من الرجل الذى احبته،لكن ماذا عن مفاجأتك له بقبلة على وجنته حينما يعود من
العمل،أو تهمسين إليه أنك افتقدتيه..انتظرى!!لما لا تنامى يوماً على الآريكة وتخبريه أنك تخشين البقاء بمفردك ليلاً!!"
"من أين لكِ بهذا الكيد سلمى؟لا عجب أنك أسقطت خالد بشباكك!!"قالت مليكة وقد قررت سراً ان تتبع
نصائح سلمى.
"وهل انا حمقاء مثلك؟!لأترك رجلى يجوب الشوارع ولا أعرف إلى أين يذهب او مع من يقضى وقته"
ضاقت عينيها وزمت شفتيها وهى تتوعده وما ان
استمعت لباب الشقة يُغلق حتى انتفضت قائلة:"إلى
اللقاء سلمى الآن"
أسرعت إلى خارج الغرفة ووجدته منحنياً يحل رباط
حذاءه وعندما استقام اقتربت منه مسرعة وهمست:"كيف حالك زين؟"
التفت نحوها مبتسماً:"بخير،هل تناولت دواءك؟"
"نعم"همست و اقتربت منه خطوة أخرى وهى تقاوم خجلها ثم رفعت يديها لتستند إلى صدره وعادت
لتهمس:"افتقدتك"
راقبت ملامح وجهه التى بدا الإرتباك عليها ورأت
تفاحة آدم تتحرك قبل ان يتحدث بنبرة منخفضة
متلعثمة:"أتخشين البقاء بمفردك ليلاً؟"
"وماذا بعد يا مليكة القلب؟هل صدقاً ما اسمعه أم أن قلبي نسج وهماً يتوق إليه ويتمناه؟!"حادث نفسه
بصمت بينما يحدق بعينيها التى بدت مستاءة من
إجابته عليها،ولكن كبرياؤه يآبى أن يعلن حبه فهو
يعلم أنه كان خياراً جيد لها لا أكثر،ويدرك أنها تحتاج للإستقرار لكن كل هذا لا علاقة له بالحب الذى يهيم به قلبه وليس له أى صلة بما يراه بعينيها.
"لا...لا،لا أخشي البقاء وحيدة وانت تعرف هذا"صرخت فجأة بغيظ ثم تأففت وهى تبتعد عنه
"اتدرى؟تناول طعامك بمفردك،فلا اريد مشاركتك
الطعام"عادت لتهتف وهى تستدير مبتعدة عنه
واتجهت إلى غرفتها صافعة الباب خلفها بقوة.
فابتسم بالخارج هامساً:"اغضبي مليكتى،فلم أعرفك مستكينة،هادئة..اغضبي فأنا عشقتك كالعاصفة
الهوجاء تقتلع نبضات قلبي من صدرى بكلمة
وتعيدها بنظرة،ما عاهدتك تتوسلين الإهتمام بل
تقتنصيه اقتناصاً"
دارت بالغرفة بغضب ذهاباً وإياباً تفرك يديها وهى
تتوعده بالخصام والمقاطعة..ولكن دقاته على باب
غرفتها جعلتها تنتفض وتتجه إلى باب الغرفة لتقف خلفه بدون أن تجيب.
"مليكة،هل يمكننى ان أعرف ما سبب غضبك؟ولما
تمتنعين عن الطعام؟بالكاد بدأت شهيتك تتحسن
قليلاً من فضلك هيا لنتناول الطعام سوياً"
"لا أرغب،ومن اخبرك أننى ممتنعة عن الطعام؟
سأتناول طعامى ولكن ليس معك؟"قالت بنبرة غاضبة جعلت ابتسامته تزداد اتساعاً فتلك المتمردة الصغيرة هى مليكته،هى نفسها المراهقة الصغيرة التى
خاصمته اياماً لأنها رأته يتحدث لأحد فتيات الحارة.
استند بجبهته على باب الغرفة مغمضاً عينيه وهو
يتنهد بقوة...لقد أرهقته كثيراً فسنوات طويلة كانت كل تصرفاتها تجاه مذبذبة،احياناً تجعله يشعر أنها
تخشاه وتخاف منه ومرات يشعر وكأنها تعلن
ملكيتها له فلا يتحدث لفتاة ولا ينظر لفتاة وإلا
أصبحت غاضبة لا تمنحه حتى نظرة وتتوقف عن. المجيئ لمنزلهم وعندما يحضر تركض إلى غرفتها،سنوات ظلت تزلزل قلبه تارة وتحبطه تارة،فما الذى تفعلينه
بى الآن؟
"مليكة،إذا لم تفتحى الباب الآن لنتناول الطعام سوياً سأفتح الباب وإن كان مغلقاً سأكسره،واحملك
للمائدة ثم اطعمك بنفسي"قال محاولاً أن تبدو نبرته صارمة وهو على يقين أنها ستواصل تمنعها.
على الجانب الآخر من الباب كانت تقفز للأعلى
وترقص رقصات غريبة بإنتصار ثم قفزت إلى الفراش. لتجلس فوقه وهى تجيب:"ابتعد عنى زين،أخبرتك أننى لا اريد مشاركتك الطعام"
حرك مقبض الباب متوقعاً أن يجده مفتوحاً فهوسها بتنظيف الشقة والمحافظة عليها لم يكن أبداً
ليجعلها تغامر بتحطيم مقبض الباب..وكما توقع
وجد المقبض يستجيب له وحينما أطل برأسه وجدها تجلس فوق الفراش توليه ظهرها فاقترب منها
وانحنى يحملها بين ذراعيه بينما قلبه يرقص طرباً
حتى كاد يشعر بأن صدره ما عاد يتسع لهدير ذلك
الخافق بجنون فهى بين ذراعيه!!
حدقت به ثم رفعت ذراعيها تحيط عنقه ودست
وجهها بصدره الصلب هامسة بدلال:"اتركنى،لن
اتناول طعامى معك"
أسفل أذنيها كان هدير نبضاته يطربها فهى الآن
تعرف تأثيرها عليه وتعرف أنه ليس منيعاً كما يبدو
عليه.
"ستتناولين طعامك وتخبرينى ماذا فعلت لأغضبك"
همس بنبرة آجشة مختنقة مدركاً لتمنعها الواهى
بينما يسير بها نحو الطاولة التى وضع فوقها
الطعام.
اجلسها فوق المقعد ثم التف ليجلس على مقعده
بجانبها محاولاً أن يتحكم برغبته فى بقائها بين
ذراعيه ثم أضاف:"هيا تناولى طعامك"
هادنته لهدفاً تخطط له وبدأت بتناول طعامها
بصمت حتى شعرت بالإمتلاء وانتظرت حتى انتهى
من طعامه ثم التقطت من جيب منامتها
الشيكولاتة التى كانت تحتفظ بها من أجله.
"تذوقها كتحلية"همست وهى ترفع الشيكولاتة أمام فمه فالتقت عينيه بعينيها غارقاً بنظرة الدلال بهما.
"لقد تذوقتها سابقاً ولم تؤذيك"أضافت بينما لازالت
ترفع الشيكولاتة أمام فمه.
"لم أتناول منها سوى القليل..والقليل لا يؤذى"قال
بينما يبتلع لعابه بصعوبة.
"مهلاً..مهلاً أيها الخافق،لا تتوه بجمال عينيها،
وابحث عن حروفك التى تاهت فى سحر شفتيها ولا
تلهيك أنفاسها المتسارعة فهى قادرة على بعثرتك ولملمتك بطرفة عين"هتف بقلبه الذى تمرد ولم يعد قادراً على إخفاق ثورته.
"والكثير ايضاً لن يؤذى،اقسم لك..لكن لا بأس دعها
إن كانت تعفاها نفسك وابحث عن حلوى أخري
لا..."
لم يمنحها الفرصة لتكمل فقد أمسك بيدها وقضم
قضمة كبيرة من الشيكولاتة هامساً قلبه بصمت:"لو تعلمى كم هو أمراً شاقاً أن أحبك بقلب متعب،مثقل بالهموم،وبرغم كل مرارة سنواتى الماضية التي
لازالت تنزف وجعاً،أحاول أن أحبك بكل حلاوة هذا
العالم،و رغم كل الخيبات بحياتى والتى لازلت أعانى
آلامها فإنني أحاول أن أعيد ترتيب حياتى لأجلك،
أحارب التعاسة وأنفض الوجع لكي ارسم على
ملامحى إبتسامة فقط لأجلك"
ابتسمت له وهو يبتلعها ثم رفعت الشيكولاتة
لفمها لتتناول قطعة كبيرة ايضاً وكادت أن ترفع
اصبعها التى لطخته الشيكولاته لفمها لكنه عاد
ليوقفها فجأة وجذب يدها منحنياً نحوها مغمضاً
عينيه ليمتص إصبعها بإشتهاء،جعل انفاسها
تتلاشي وجسدها يرتجف..
."لدىّ رغبة مجنونة أن تلتقى شفتينا وأُقَبِلك حتى
يهلك كلانا فليس من العدل أن ابقى هالكاً وحدى"عاد قلبه ليهمس بصدره.
ولكن ما نطق به لسانه كان بلسان عقله قبل أن
ينتفض واقفاً ويغادر إلى غرفته:"سنذهب لنهنئ
والدتك بالعودة من العُمرة بعد غد إن شاء الله"
********
"أريد ان أفهم خالد،بأول الأمر لم تسمح لى بزيارة
مليكة ولا حتى دعوتهم واخبرتنى ان اتركهم يجدون بداية لطريق يسيروا فيه سوياً،وصمت رغم عدم
اقتناعى ثم من يومين أخبرتنى انك دعوت زين
ومليكة على الغداء رغم أننى لازلت لم أرى ذلك
الطريق الذى وجداه"قالت سلمى
وهى تزم شفتيها بتهكم وتشيح بيدها.
ولكن قبل ان تواصل تهكمها المبطن الذى فهمه
زوجها على الفور فضاقت عينيه قائلاً:"حاولى..فقط حاولى ان تصفى نواياكِ المنحرفة تلك،وتوقفى عن
دس أنفك بشئون منزل شقيقك"
"انا لم ادس أنفى بشئون شقيقى،لكننى اريد ان أفهم لما الآن؟ولما تتركونها بمفردها مع خالتى؟بالرغم
انك تعرف أن خالتى لا تتحدث إليها ومنذ عشرة
دقائق وكلتاهما صامتة بالخارج"تمتمت سلمى بتبرم.
هز رأسه بيأس من زوجته ثم همس:"لما لا تعدين لى
القهوة انا وزين وتتوقفى عن التلصص عليهما؟"
تأففت سلمى قبل أن تتمتم بسخط:"حسناً اخبرنى
بشيئ واحد لما الآن؟"
"لأنه الوقت المناسب،والدتى بحالة نفسية جيدة جدا بعد اداء العُمرة وتحدثنا سوياً كثيراً خلال الأيام
الماضية ونحن بمكة،بالإضافة إلى أن إبتعادها عن
الحارة ووجودها بيننا وأيضاً عدم رؤيتها لمليكة منذ
أكثر من شهر وتعمدى ألا أطمئنها حتى عليها،كل هذا جعل مهمتى أسهل فى إقناع والدتى بأننا
جميعاً بحاجة لنطرد شبح الحزن من حياتنا،وان
مليكة خاصة تحتاج لبداية جديدة"
هزت سلمى رأسها بتفهم فأضاف خالد:"حسناً اعدى لى انا وزين القهوة إذا كنت انتهيتِ من تلصصك
عليهما"
"لا لم انتهى ولكنى سأعد لكما القهوة"أجابته بينما ضاقت عينيها بتحدى مشاكسة له.
عاد ليهز رأسه ثم غادر المطبخ تاركاً لزوجته التى عادت لتتلصص بأسى على صديقتها متمتمة:"الله يهدى قلبك إليها خالتى"
التفتت إلى غرفة صغيرها التى تشاركه بها جدته
فوجدت زين وخالد يتهامسان ويبتسمان فضغطت
على فكيها بغيظ وعادت لتلتفت نحو بمنطقة
المعيشة فرأت مليكة تقف وتتجه نحو الآريكة التى
تجلس عليها والدتها ثم ركعت على الأرض امامها وهمست:"افتقدتك والدتى،أكثر من شهر مر بدون أن
آراكِ،ألم تفتقدينى؟"
انحنت تُقبل يد والدتها التى لم تجيبها ثم أضافت:
"لقد أخطأت والدتى ولكن ربما حياتى كانت بحاجة
لهذا الخطأ لتستقيم..ربما أراد الله أن أرى كل شيئ
بنظرة جديدة لم أكن أدركها بدون كل ما مررت به"
صمتت ورفعت يدها تجفف دموعها التى بدأت تنهمر على وجنتيها محاولة خنق انتحابها ثم التقطت عدة
أنفاس ليخرج بعدها صوتها متحشرجاً:"اعرف أنكِ...لا تستطيعين أن تغفرى لى،لأن والدى توفى..."
قاطعتها والدتها فجأة بعد صمت طال"كنت حزينة،ووحيدة،أشعر بعجزى وضعفى،ربما ألقيت اللوم عليك لموت والدك لأن الغضب أعاق عقلى عن الصواب..
إننى إمرأة مؤمنة وأعرف أن الموت مُقدر لكن موت
والدك منكس الرأس كان خيارك،تطاول كل نذل
علينا كان خيارك ،وسيرتك التى مصغتها الألسن ايضاً خيارك..لقد أخطأتِ بحق نفسك وبحق والدك الذى
كان الكبير قبل الصغير يوقره ويحترمه ويطلب
مشورته"
امتزجت بداخلها مشاعر متناقضة مابين السعادة
لسماع صوت والدتها تتحدث إليها وما بين الشعور
بالخزى فاخفضت عينيها منكسة رأسها بينما
تنتحب وصورة والدها تكحل عينيها بإبتسامته
الهادئة وكلماته الحانية..
"نادراً ما تمنح الحياة فرص ثانية،ولكنها منحتك لذا
اتمنى أن تكونى تلقنتِ درسك جيداً"
عاودت مليكة إخفاض رأسها وتقبيل يد والدتها وهى تتشبث بها:"زين ليس فرصة والدتى..زين قلباً اهتديت له وربما لم أكن لأهتدى إليه لولا كل ما مررت به،قلباً غفر لى عندما لم يغفر لى الجميع ولم استطع حتى أن أغفر لنفسي"
رفعت عينيها لتلتقى بعين والدتها وللمرة الأولى منذ وفاة والدها لم تشيح والدتها بوجهها عنها بل
تأملتها قليلاً ثم قالت:"أتمنى حقاً ان تكونى
استطعت ترويض نفسك المتمردة،زين رجل شهم
ونبيل،والنبل لا يقاس برصيده فى البنك بل بالمواقف التى تُظهر معادن الرجال"
"إننى أحبه والدتى"همست تعترف بينما دموعها
رطبت يد والدتها.
"لا أعرف متى أحببته حقاً ولا كيف،ربما أحببته دائماً ولكننى لم أدرك هذا إلا مؤخراً"واصلت بعينين لاح
بعمقهما إبتسامة أشرقت من بين دموعها لذكره.
"لقد أهنتِ كبرياؤه كثيراً،لذا إن كنت تحبين زوجك
أخبريه،ليس أصعب على الرجل من الشعور بالرفض
وأنت لم تدخرى أى طريقة بدون أن ترفضيه بها،
كبرياؤه بحاجة لمداوة وبيدك وحدك مداواته"
اومأت بخجل ودهشة بذات الوقت فحديث والدتها
كان يوحى بأنها تعرف أنها وزين ينامان بغرف
منفصلة،فتساءلت كيف علمت والدتها؟
"السنون التى كست رأسى بالشعر الشائب هى
نفسها التى جعلتنى أعرف من عينيكِ"أجابت والدتها على سؤالها التى لم تتفوه به.
بكت سلمى من خلف الستار التى تقف وراءه
واختلطت دموعها بإبتسامتها بينما تتمتم:"كان
يجب أن تستمع لإعترافها بحبك أيها الأحمق"
"من الأحمق؟"همس خالد بأذنها فانتفضت من
مكانها واستدارت نحوه.
"لقد تزوجت من إمرأة مجنونة بالتأكيد،تبكين
وتبتسمين وتتكلمين وتتلصصين بآن واحد،ألم تتذكرى إعداد القهوة بين كل تلك الأشياء؟!"تمتم خالد
ساخراً
"لن اعد القهوة سأضع الغداء على المائدة حتى أرحم المسكينة من خالتى وتأنيبها"
"حسناً هذا أفضل"تمتم خالد ثم أضاف :"دعينى
أساعدك لننهى جلستهما المنفردة بسرعة"
رفعت إحدى حاجبيها بدهشة وهى تتأمل زوجها
الذى بدأ بالفعل فى التقاط ادوات المائدة والأطباق بينما تتساءل عن سر تعجله المفاجئ،ولكن نفاذ
صبر زين الذى بدا عليه مع سماعه لإنتحاب مليكة
كان خلف رغبة خالد فى إنهاء تأنيب والدته.
"ربما لم يصفو قلب والدتى لمليكة تماماً ولكن بمرور الوقت سيعود كل شيئ لسابق عهده"تمتم خالد وهو ينظر من خلف كتفه إلى سلمى.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي