الفصل السادس والثلاثون

بينما كان الجمبع جالسون حول مائدة الطعام يتناولون وجبة العشاء بصمت متخلل بينهم، كان "ماسيمو" يسترقَ النظر بين الفنية و الأخرى ل "أستريد" متعجبا من حالة الوجوم البادية عليها و ملامحها المشدودة للغاية منذ عودتها.

على الرغم من معرفة أنه لربما رؤيتها ل"مارتن" عند جامعتها هي السبب في ذلك التغير إلا انه يشعر أن هناك شيء آخر خاصة أنها خرجت بعد عودتها و لم يدرِ إلى أين ذهبت لعدم وجوده بالبيت حينها و علم من مربيتها عند عودته، بذلك الأمر.

بالطبع سيستفسر منها بعد العشاء لمَ خرجت مجددا و لمَ لم تخبره و إلى أين ذهبت بالأساس، و هذا ليس عدم ثقة بها على الإطلاق و إنما خوف عليها من أن تفتعل أي أمر غير صائب بنفسها فهو منذ قرأ ذلك الجزء بدفترها برغبته بالإنتحار لتنهي ذلك الوجع و تفاقم الأحداث المتتالية المؤذية لها و المسببة لها بجروح عارمة تصيبها دون هوادة.

و هو يخشى للغاية عليها و يترقب أفعالها باستمرار و يحاول قدر استطاعته أن يشعرها بأهميتها عنده و أنها ليست وحيدة دون ابيها كما تعتقد، و أنها ذات أهمية بالغة في قلبه.

لقد حاول كثيرا أن يخبرها بوجده الثائر الذي تمكن من قلبه و أصبح ملكا لها هي وحدها و لكنه يتراجع في كل مرة لكي لا تتهمه بالكذب و اصطناع تلك المشاهر و أن هذه شفقة منه ليس إلا كما تعتقد حول كل ما يبدر منه تجاهها مؤخرا.

هو يريدها أن تشعر بحبه من داخل قلبها أولا ثم بعد ذلك يخبرها بالأمر، و يخبرها برغبة بقضاء الباقي من حياته رفقتها هي دونا عن نساء العالمين فما أصبح بداخله لها فاق كل تخيلاته في عشق امرأة يوما.

لم يكن يتخيل بالأساس أنه هو بعلاقاته المتعددة و نزواته التي ليس لها عدد و لا تحصى و لم تكن تنتهتي أن يقع أسير فتاة بذات عمرها، ويعزف عزوفا تاما عن مساوئه في الماضي و لكن في العادة يحدث لنا ما لا نتوقعه بالطبع.

و ها هو "ماسيمو" كمراهق يختلس النظر لحبيبته التي لا تكترث له و لا لحبه الذي مازال في مهده بعد، أثناء متابعته لتناول طعامه الذي يتخلله بعض النظرات إليها رفع نظره تجاه والده الذي صرخ بالعامل الذي يضع الطعام فوق المائدة لاهتزاز يده قليلا و اسقاطه لبعض قطرات المياة فوق بنطاله قائلا :

-أأنت عبي ؟، ألا تنظر وأنت تضع الصحون ؟

تراجع ذلك العامل الكهل للخلف برهبة من صراخه به و أردف بتلعثم و هو ناظرا لأسفل بإحراج :

- متأسفا للغاية يا سيد نوح، لم أكن أقصد صدقا.

سدد له "نوح" نظرة ناقمة بينما شوَّر له "ماسيمو" بيده لكي يغادر شاعرا بالضيق كونه أحرج ذلك الكهل أمامهم و لكنه على حين غرة وجد "أستريد" تشهق بجانبه، ليصيبه الفزع عند استماعه لشهقتها و جلب لها كوب ماء على الفور لاعتقاده انها شرقت و غص حلقها الطعام أثناء ابتلاعها له، التقطته "استريد" منه على الفور و ارتشفت القليل، و وضعت الكوب على الطاولة ثم نهضت عن مقعدها ليوقفها صوته المتسائل بتعجب :

-أين أنت ذاهبة أستريد ؟، ألن تكملي طعامك ؟

التفتت "استريد" برأسها له و أجابته بنبرة فاترة جافة و هي ترمقه بنظرات ساهمة طاغِ عليها الحزن للغاية :

-فرغت من تناول طعامي و امتلأت معدتي، سأذهب لأستذكر دروسي قليلا.

أومأ لها "ماسيمو" و هو يشعر بعدم الإرتياح من تبدل حالتها تلك شاعرا أن هناك أمرا ما غير "مارتن" هو من بدل هيئتها و جعل الحزن يطرف عينيها و يطغي عليها هكذا، لم يرِد أن يصعد خلفها لكي لا يجذب الأنظار نحوهما و لكنه بعد انتهاء العشاء سيصعد إليها ليفهم منها ما الأمر، لا ينبغي أن يتركها هكذا و هو يكاد يرى لمعة الدموع غائمة على رماديتيها

¤¤¤¤¤¤

وقفت "استريد" بشرفتها بعد صعودها و الذي لم يكن السبب به هو رغبتها في الاستذكار مثلما أخبرت "ماسيمو" و لكن كان صراخ عمها على ذلك العامل هو السبب الأساسي

فقد شهقت عندما تذكرت صراخه عليها من قبل عندما كان يأتي إلى بيتهم و يتشاجر مع والدها باستمرار، فلقد تخيلت دفعته له عندما ظهرت أمامه بغتة و صراخه عليها بمثل تلك الطريقة منذ قليل و هي تلعب بالحديقة و هو يترجل من بيتهم شاعرة بوجع سقطتها على الأرض حينها و لم تتحكم هي بتلك الشقهة التي اندلعت من فيهها مما جعلها ترغب في الصعود لكي لا يلاحظ عليها أحد شيء بالأخص "ماسيمو" الذي لاحظت نظراته لها منذ برهة و هم يتناولون العشاء.

اكل تلك النظرات التي يختلسها لها عالما أنها لا تنتبه لها مزيفة أيضا ؟، لمَ تحاول والدتها دفع الشكوك بداخلها تجاهه بتلك الطريقة المتعبة لفكرها !، لمَ تريد أن تنغص عليها حياتها !، أكثير عليها أن تحظى بحب أحدهم ؟، أمحرم عليها الآمان التي أضحت تشعر به معه ؟، لمَ لا تتركها تهنأ بحياتها الجديدة و تحاول ان تنسى كل أحزان الماضي ؟

تهاوت دموعها بتواتر رغما عنها فكل ما يحدث يدفعها للسقوط و الإنهيار، يدفعها إلى حافة الهاوية لمَ خشت بالأساس من تحدث "مارتن" بأي شيء أمام "ماسيمو" و هي ليست مذنبة فما كان يفعله ؟، لمَ تخَف من ذنب لم تقترفه ؟.

تهتدل كتفيها و أصبح لبكائها صوت واضح لتشعر أثناء ذلك بيدٍ وضعت فوق كتفها تعلم صاحبها و هو "ماسيمو" بالطبع فلقد أصبحت تستطيع التمييز بين لمسة يده على جسدها، فهي أضحت تحفظها عن ظهر قلب، و لكنها لم تشعر بدلوفه الغرفة لانخراطها بالبكاء، فهو قد جاء إليها ليطمئن عليها و يستشف ما بها و دلف دون أن يطرق على باب غرفتها عندما استمع لصوت بكائها

تقدم "ماسيمو" منها قليلا و قبض على جانبي ذراعيها مديرا إياها إليه، و رفع ذقنها إليه، ليمسح بنظراته القلقة سائر وجهها الذي امتلأ بعبراتها، ليرفع يديه و جفف وجنتبها بإبهاميه و هو يتساءل بنبرة صوت هادئة ممزوجة بالإهتمام النابع من قلبه :

-ما السبب في كل تلك الدموع أستريد ؟، ما الذي حدث ؟

طرقت "استريد" بنظراتها لأسفل و عبراتها تزداد انهمارا من جديد ليزم هو شفتيه بأسى و قام بسحبها بهدوء لأحضانها ضامما إياها بذراعيه ممسدا بحنانٍ على ظهرا و شعرها و هو يقول بعتاب :

-ألم أتفق معك إذا حدث أي شيء أو أن هناك ما هو يخنقك تأتي إلي و تحكي لي ما بجعبتك حينها

تجاهلت "استريد" ما قاله عمدا فهناك ما هو أبلغ من ذلك يشغل ذهنها لتطلق العنان للسانها أن ينطق بتلك الهواجس التي دفعتها والدتها بعقلها لإرهاق تفكيرها بصوت مهزوز منتحب تساءلت :

-أنت حقا لا تخدعني ؟، ما تفعله كله معي ليس لأجل الورث ؟

ابعدها "ماسيمو" قليلا عنه و هو مازال محاوطها بذراعيه جاعلا وجهاهما يقابلان بعضهما و حدق بعينيها بنظرات متفحصة و هو يتساءل باستشفاف معقبا راغبا في معرفة إحساسها حوله :

-أأنتِ ترين أنني أفعل كل ذلك لأجل الورث ؟

شعرت "استريد" بالتخبط الشديد من نظراته تلك و من الهواجس الكثيرة التي تتآكل برأسها و من كلمات والدتها و "مارتن" اللذين يحاولان بها دفع الشك بداخلها تجاهه و أردفت بتشتت و هو تبادله نظراته بنظراتٍ متوسلة تخبرها بها ألا يكون يخدعها بالفعل كما تخبرها والدتها :

-أنا التي أسألك و اريد منك إجابة، أريد أن تجيبني أرجوك.

تنهد "ماسيمو" بضيق جم فهو لا يشغله أمر الورث بالأساس و بعدما اصبح بداخله كل ذلك الحب الدفين لها لم يعد يريد أن يشارك والده في استغلاله لها، فتلك الزيحة هو متابعا بها الحين لرغبة قلبه في ذلك و ليس لاتفاقه مع والده، ليتكلم بتصميم بعد برهة من الصمت المتبادل بينهما و نظرات كلا منهما التي تخبر الآخر بشيء مختلف :

-و أنا أريد أن اعرف ماذا ترين انتِ حيال ذلك اولا ؟

ابتلعت "استريد" تلك الغصة المريرة بحلقها و هي مازالت ترمقه بنظرات بها جزء متوسل له ألا يصدمها به بعدما أصبحت تثق به و جزء آخر واثق من إحساسها نحوه لترد عليه بتردد :

- انا أصدقك، لكنني خائفة أن أكون ..

وضع "ماسيمو" أصابع يده فوق فمها مانعا إياها عن المتابعة بعدما التقطت أذنه ما أراد أن يستمع له و ردد بهدوء و نبرة دافئة بثت القليل من الطمأنينة بقلبها :

-ظلي على موقفك ذلك، أنا بالأساس لا أريد منك أي شيء أكثر من تصديقك لي.

رغم أنه بصوته الدافئ و نظراته الصادقة بدد مخاوفها جميعها حول تلك الشكوك التي استبدت بعقلها لبرهة إلا أنها مازالت تشعر بثقل جاثم فوق صدرها و رغبة في الشكوى عما يجيش بصدرها من هموم يتسبب بها اقرب الأقربون لها لينتفض جسدها و هي تحاول أن تنطق من بين نهنهات بكائها :

-إذا لمَ هي تضع الشكوك برأسي ناحيتك ؟، أنا أخبرتها انك لا تكذب علي و انك لا تريد مني الإرث و أنك ستحميني من أي إجحاف من اي أحد علي، لمَ لا تريد هي تركي أعيش مع شخص مرتاحة في العيش معه ؟، لمَ تريد إبعادي عنك ؟

بالرغم من توجع قلبه عليها و علمه بأن "هي" التي تقصدها لن تكون سوى والدتها "صوفيا" و لكنه عند كلماتها الآخيرة تلألأ عينيه بوميض الحب و هو يتأمل رماديتيها تغاضى عن كل ما قالته و تساءل باهتمام بالغ بصوت خفيض حول الآخير من كلماتها :

-انت لا تريدين أن تباعدي عني أستريد ؟

هدأ بكاء "استريد" عندما التقطت اذنها تساؤله و رمقته بتردد من اعترافها له بإنها لم تعد تريد الابتعاد عنه، و انها أصبحت ترى به مأمنها بعدما كانت ظنت أنه قد ضاع للأبد من بعد وفاة والدها، و لكنها استلهمت الجرأة بداخلها و قالت و هي تنظر بداخل عينيه بنبرة ضعيفة مازال يعتليها البكاء :

-لا أريد أن ابتعد عنك، لكن هي لا تريد أن تتركني لحالي، و تشككني فيك و مارتن أيضا يحا...

توقفت "استريد" عن استرسال كلماتها بغتة، لاعنة بداخلها عن غبائها و عدم احترازها معه في الحديث فها هي قد جاءت بذكر "مارتن" و هي لا تريد أن تلفت الأنظار إليه، ليضيق عينيه هو عندما التقمت باقي حديثها عالما أنها تخفي شيئا هو ذلك البغيض ليتساءل بجدية و هو يتفقد تعبيراتها التي اتسمت بالتوتر :

- مارتن أيضا ماذا ؟

تدفق الادرينالين بعروق "استريد" من كثرة توترها من تساؤله و سرت قشعريرة بجسدها شعر هو بها ليكز على اسنانه بغضب عالما سبب تلك الرهبة بداخلها و هو هلعها مما كان يفعله و التي لم تتخذ والدتها أي رد فعل صارم حوله، وجدها ابتعدت عن أحضانه و ابعدت يديه عنها و قالت بنبرة مهزوزة و هي تتراجع للخلف و طرقت نظرها لأسفل :

-أريد أن ابقى بمفردي

أومأ "ماسيمو" برأسه بالسلب و تقدم منها تلك الخطوتبن التي تراجعتهما و أمسك بجانب ذراعها و هو يقول برفض قاطع :

-لن استطيع أن اتركك و انت على الحالة هذه.

انزلت "استريد" يده برفق عن ذراعها، و تظاهرت بالثبات و زيفت انضباط نفسها و هي تقول بترجٍ :

-أرحوك اتركني الحين، و انا سأكون بخير لا عليك.

زم "ماسيمو" شفتيه لجزء من الثانية لم يكن يرغب بتركها و لكنه امتثل لرغبتها لكي لا يضغط على أعصابها و تراجع عنها خطوة بتحفز لمغادرة غرفتها و بإيماءة خفيفة قائلا بهدوء جاد :

-حسنا أستريد، سأرحل لكن من المؤكد أن لنا حديث مع بعضنا فيما بعد

أولاها "ماسيمو" ظهره بعد اتمامه لما قاله متحركا نحو باب الغرفة تحت نظراتها، هي في أمس الحاجة لوجود أحد بجانبها يبدد مخافوفها و يحتضن وحدتها و بالأخص هو و لكن خوفها من التطرق في الحديث حول "مارتن" جعلته تشعر بالهلع و لا تدري لما تحمل نفسها ذنب جرائره البغيضة معها و أفعاله النكراء، هي المجني عليها و ليست الجانية، و لكن لعلمها بخبثه و مكره اللذين ليس لهمها حد خشيت أن يندفع "ماسيمو" بفعل أهوج و يذهب إليه و يتبادلا الحديث حول الأمر و يراوغ معه و يخبره أنها هي التي كانت تتودد إليه كما أخبرها من قبل، هي لا تريد أن يراها "ماسيمو" بصورة كريهة، لا تريد أن تساوره الشكوك حولها و هي لم ترتكب أي فعلا خاطئ قبلا

يُتبع ...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي