20

كان الهيثم قائدا لجيش البقاء إبان حكم الملك هزبر عم الملك الهارب قصي. امتاز الهيثم بالشجاعة وشدة البأس، وعرف في كل أنحاء البقاء وأحبه جل أهلها. ومما امتاز به ثقته العميقة بنفسه،
حتى إن كل من حوله استمد الثقة منه، ومنهم الملك هزبر وسائر آله ومنهم الملك الهارب قصي.
قبل الحرب المقيتة، أقام القائد الهيثم في المعتزة عاصمة البقاء، في قصر فخم. إذ عاش فيه مع زوجته سوسن، وثلاثة من أبنائه الذكور وابنتيه. وأصغر أفراد العائلة كان سليما.
وبعد اغتيال الملك هزبر وآله، تتالت الأحداث، حتى أمر القائد هيثم بجمع كل ما تبقى من جيش البقاء غربا، وتوجيهه نحو الشرق؛ للتفرغ لقتال جيش الملك خلدون ملك ياقوتة.
كما طلب الهيثم من الملك قصي – المتوج حديثا آنذاك – الهرب غربا؛ وذلك لأن الهيثم تيقن بنسبة كبيرة بأن جيشه سيهزم في الحرب القادمة.
لقد سحب الهيثم الجيش المتعسكر غربا على الحدود مع الهيجاء نحو الشرق، لأنه أراد التركيز على مقاتلة ملك ياقوتة، فقد توقع أن أهل غرب البقاء سيتمكنون من إعاقة تقدم ملك الهيجاء،
لا سيما مع وجود صحراء الكثبة هناك، والتي يستحيل حتى على الجن احتلالها، لصعوبة تضاريسها ومناخها وقوة أهلها وشدة بأسهم.
وبالتالي وقعت الحرب التي باتت تعرف لاحقا بالحرب المقيتة، ودارت المعركة بين جيش ياقوتة وجيش البقاء. وقد فاق عدد جنود جيش ياقوتة عدد جنود البقاء بكثير؛ فقد فقد جيش البقاء
ما يقرب من نصفه في المعارك التي دارت بعد هجوم جيش ياقوتة من الشرق وجيش الهيجاء من الغرب، لا سيما مع عنصري المفاجأة والمباغتة اللذين ميزا هذه الهجمات.
وأيضا شعر كثير من جنود البقاء بالتعب الشديد، بالذات أؤلئك الذين سحبهم الهيثم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق بسرعة كبيرة فأنهكهم السفر، كما أنهم تركوا كثيرا
من سلاحهم ودروعهم ومجانيقهم؛ ليتحركوا تحركا أسرعَ، وبالتالي ليصلوا الشرق في أقرب فرصة.
وقد لبس مقاتلو ياقوتة زيهم المعروف المتكون من اللون الأبيض في معظمه، ويتخلله زخرفة باللون البرتقالي المائل للحمرة. في حين لبس مقاتلو البقاء زيهم المعروف
عنهم المتكون من اللون البنفسجي في معظمه ويتخلله اللون الأسود.
وقد اصطحب الهيثم معه إلى الحرب ابنيه الكبيرين، اللذين كانت أعمارهما عشرين عاما وثمانية عشر عاما، ولم يصطحب معه ابنه الأصغر سليما؛ لأنه كان ذا ثمانية
أعوام فقط إبان الحرب المقيتة.
فرغم تيقن الهيثم من الهزيمة، فقد أصر على اصطحاب ابنيه؛ فالقائد الحقيقي يضحي بأبنائه أولا وقبل غيرهم.
بعد الهيثم، كان أهم من في جيش البقاء، عشرة من العمداء، من بينهم ثلاثة أسماؤهم بهاء وصلاح ومعتصم. وامتاز هؤلاء العشرة بالقوة العظيمة، وقد عرفوا في شتى أنحاء البقاء.
وقعت الحرب، واشتبك جيشا ياقوتة والبقاء، ومع مرور الوقت وقع القتل الكثير في صفوف جيش البقاء، وباتت الكفة تميل ميلا بائنا باتجاه كفة جيش ياقوتة، وصدق
حدس الهيثم، إذ انتصر جيش ياقوتة انتصارا مؤزرا. وفي أثناء المعركة ورغم تفوق عدوه، فقد ظل الهيثم يقاتل حتى اللحظة الأخيرة. ففي أثناء المعركة، كان الهيثم مترجلا،
وتوغل في صفوف جيش ياقوتة وجعل يُقتّل جنوده، حتى قتل عدد كبيرا جدا منهم وحده، مما أبهر أفراد الجيشين. وبينما هو يفعل ذلك طُعن في أحد رجليه،
ولكنه ظل يتوغل، ثم جرحوا إحدى يديه، ورغم ذلك ظل يتوغل ويتوغل، ثم قطع أحدهم رجله، فركع على ركبيته ولكنه ظل ممسكا بسيفه ويقاتل وهو ثابت على ركبتيه،
ونجح في قتل جندي وهو على هذا الحال، لكن الشجاعة أحيانا تودي بصاحبها، فقد انتهى المطاف به بأن قتله جنود ياقوتة. وأثناء توغله هذا قتل ما يزيد على خمسة عشر فارسا بمفرده،
وهو أمر عظيم جدا لدرجة أنه يقارب الخيال.
ولاحقا لما علم أهل البقاء بكل هذا، أصبح في نظرهم أسطورة وبطلا قوميا لكل البقاء. لا سيما مع تضحيته بابنيه اللذين قتلا أيضا في الحرب. وبهذا غدا أكثر رجل محبوب في البقاء،
حتى أكثر من الملك الهارب قصي!
أما العمداء العشرة الذين ولوه في الأهمية في الجيش فقد قتل منهم سبعة، ولم يبق سوى بهاء وصلاح ومعتصم، الذين قاتلوا بشراسة حتى اللحظة الأخيرة، حين فروا
بحياتهم مع كل هذا التقتيل في جيش البقاء، وهذا الفرار أسكن شعورا بالعار في قلوبهم لم يفارقهم مدى حياتهم.
وهكذا طحن جيش ياقوتة جيش البقاء، وقتل ما يقرب من نصفه في حين انقسم النصف الثاني بين جريح وفارّ.
***
وبهذا لم يتبقَ من عائلة الهيثم، سوى أرملته سوسن، وابنه سليم ذي الثمانية أعوام، وابنتيه. وبعد الحرب المقيتة، ومقتل الهيثم، هربت سوسن بأبنائها الثلاثة، خوفا من
بطش ملكي ياقوتة والهيجاء ومرض قلبيهما.
استقرت سوسن ومن تبقى من عائلتها في قرية صغيرة نائية تقع حول مدينة اسمها الغراء في جنوب البقاء. وقد خافت كثيرا على ابنها سليم؛ فهو أهم ما تبقى بحياتها بعد
كل ما خسرته. ولهذا دللته كثيرا، وجعلته يعتزل الناس حتى لا يعلم أحد بمكان وجوده. وقد نجحت في ذلك؛ فقد علم كل أهل البقاء بوجود ابنٍ للهيثم، لم يزل على قيد الحياة،
لكن جلهم لم يعرف بمكان وجوده.
ومع مرور الأيام، وزيادة عمر سليم، امتاز بالضعف؛ وذلك لأنه تربى على يدي امرأة دون وجود رجل في حياته، لا سيما مع تدليلها المفرط له، وأيضا لاعتزاله الناس.
ولأن أول قدوة لأغلب البشر هو والد كل واحد منهم، نظر سليم إلى الحياة وإلى المستقبل من خلال والده. وبما أن الهيثم كان رجلا عظيما جدا، طمح سليم لأن يصبح مثله وأن يحقق مثل الذي حققه
وربما أكثر، لم لا؟! وبعد أن كبر سليم – بعد أن ظلت أمه تحدثه باستمرار عن بطولات أبيه – بدأ الفتى يحلم ويطمح.
وذات يوم، وبينما جلس سليم وسوسن في كوخهما البائس، قال سليم بصوته الناعم الرقيق: أمي، أنا أشعر بملل شديد.
عبست الأم وهي تسمع هذه الكلمات، وردت: لم، يا بني؟! هل أصابك أي مكروه؟!
"لا" أجاب بصوته الناعم، وأَضاف: لكنني سئمت هذه الحياة التي نعيشها، سئمت الفقر والبؤس... والجبن... نعم، إلامَ سنظل نعيش هنا هاربين جبناء؟! كيف أفعل هذا وأنا ابن القائد العظيم الهيثم؟!
أنا رجل ولست امرأة تخاف القتال!
"سليم" قالت سوسن بحزم، وأضافت بالحزم نفسه: إياك أن تكرر هذا الكلام، أبوك كان شجاعا نعم، لكن إلى أين قادته شجاعته؟! وإلى أين قادتنا نحن؟! كل ما نحن فيه بسبب تلك الشجاعة.
عليك أن تكون واقعيا وترضى بما نحن فيه؛ لأنك إذا طمعت فسيسوء وضعك أكثر وأكثر، وغالبا ستلاقي حتفك.
فقال الصبي بصوت رقيق: لكن –يا أمي – أنا دوما ما أحلم بالمدن الكبيرة، أحاول أن أتصور شكلها، وأشكال أهلها، وما بها من أشياء. مخيلتي تعذبني، لأنها تشوق قلبي لمعرفة كل هذا.
أريد العيش في مدينة كبيرة، في بيت مريح... لا أريد أن أظل في هذا الكوخ البائس.
صرخت سوسن بحزم وغضب: كفى، يا سليم.
فنظر الصبي - الذي اتسم بالضعف والخوف من أمه - إلى الأرض.
صحيح أنها لطالما غمرته في بحر من الحنان والدلال، لكنها دوما أغرقته في محيط من القسوة والصد كلما تبادر إلى ذهنه – ولو طيف فكرة بسيطة - بأن يخرج من هذه القرية النائية
أو أن يصرح للناس بأنه ابن القائد الهيثم.
اقتربت أمه منه، وركعت على ركبتيها، بينما أمسكت كفيه بكفيها، ثم قالت: سليم، أعداؤنا يريدون سلب حياتك، ولو وجدوك، فلن يتوانوا في قتلك.
ثم شدت على كفيه، وقالت بحنية: أنا الوحيدة التي أستطيع ان أحميك... فثق بي. سنظل هنا إلى الأبد، أو حتى تحدث معجزة وتتحرر البقاء، رغم أن ذلك لن يحدث أبدا.
ثم أضافت: ثق بي، يا بني. أنا فقط من سيقودك لبر الأمان. كل ما نحن فيه بسبب طموحات والدك. لقد علمتني الحياة أن القناعة والواقعية هما سبيلا النجاة.
ثم نهضت وقبلت رأسه بنعومة، وهي تهمس: ثق بي.
واحتضنته.
لم يقتنع الفتى الطموح على الإطلاق بكلام أمه؛ لكنه آثر الصمت؛ لأنه كان يخاف منها.
ولاحقا تكرر مثل هذا الحوار كثيرا، لكن سوسن دائما ما قتلت طموحات ابنها بحزم، حتى رضخ سليم في النهاية لأمر أمه؛ لأنه كان ضعيفا ولأن أمه وحدها التي حمته دائما، ولأنه خاف من
الحياة ولم يستطع أن يواجهها وحده!
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي