22

وهكذا نجح الزبير في الحصول على موافقة كل الأشخاص الضرورين لإنجاح خطته. فقد حصل على موافقة الملك الهارب وبالتالي على الشرعية، وعلى موافقة أمين وبالتالي على المال،
وعلى موافقة المغيرة وبالتالي على القوة، وعلى موافقة سليم وبالتالي على الروح المعنوية.
قامت خطته بعد تجميع هؤلاء، على الثورة ضد المملكتين المحتلتين. فقد قرر بالبداية الثورة ضد ياقوتة شرقا، وبعد الانتصار الثورة ضد الهيجاء غربا. وقد خطط لدعوة الناس سريا إلى الثورة،
وجمع أكبر عدد من أبناء البقاء، ثم الفتك بالمملكتين المحتلتين.
توجه إلى المنطقة المحيطة بجبال اليبس، تحديدا إلى النزل نفسه الذي نزل فيه في المرات السابقة، وهناك أتاه رجال الملك الهارب أنفسهم الذين يأتونه كل مرة. ورغم اتفاقه مع الملك الهارب
على الخطة وأنهما أصبحا في صف واحد، أصر المقاتلون على السرية ذاتها والخطوات ذاتها في نقل الزبير للقاء الملك. فوضعوا عصبة من القماش على عينيه، ثم أخذوه إلى الملك قصي.
التقى الزبير بالملك وأعلمه بنجاحه في الحصول على موافقة الأشخاص المهمين لخطته جميعهم؛ ففرح الملك وأثنى عليه وشكره، وطلب منه أن يستدعي الرجال المهمين لتنفيذ الخطة إلى جبال اليبس؛
لأن الملك أراد أن يلتقيهم والزبير في جلسة واحدة، وأن يتعارفوا جميعا قبل أن يتعاونوا معا في تنفيذ الخطة الخطيرة.
أرسل الزبير رسائل إلى أمين والمغيرة وسليم، أعلمهم فيها برغبة الملك الهارب لقاءهم، وطلب منهم أن يأتوا إلى جبال اليبس، وأخبرهم أنهم قد يقيمون هناك مدة ليست بالقليلة،
وأنبأهم بمكان النزل الذي اعتاد النزول به، كلما أراد زيارة الملك.
أتى أمين ثم المغيرة ثم سليم، وكل واحد منهم نزل في النزل نفسه، وكان مقاتلو الملك يتوجهون هناك ويصطحبون الضيف بالطريقة نفسها التي اعتادوا اصطحاب الزبير بها،
وهي أن يضعوا عصبة على أعين كل ضيف وألا يزيلوها إلا عندما يصلون أعلى جبال اليبس.
في البداية أتى أمين، ولكنه لم يكن وحده، فقد أتت معه زوجه سمية. أعلم مقاتلو قوة الحماية الزبير بمقدمه، فخرج لاستقباله.
المقاتلون الذين أتَوا بأمين ساعدوه في الترجل عن جواده، ثم أزالوا العصبة عن عينيه. ثم ساعد أمين زوجته سمية على الترجل وأزال العصبة عن عينيها.
الزبير راقب كل هذا، إذ رأى سمية ذات العينين الزرقاوين والبشرة التي فاقت الثلج في بياضها، وعاكسها في تناقض جميل وتصارع يسر النظر، شعرها الذي فاق الليل في سواده،
وقد كانت نحيلة طويلة، جميلة الوجه.
وضعت سمية كفيها على كتفي زوجها أمين، وقالت بنعومة وحنان فائضين: هل أنت بخير؟! لقد خفت عليك طيلة الرحلة.
وبالفعل شعرت سمية بالخوف من القدوم إلى هذا المكان المجهول، ووسط كل هذه الاحترازات من مقاتلي الملك الهارب.
ابتسم أمين، وأمسك كفها وقبلها، ثم قال: أنا بأتم خير، لا تخافي علي. المهم، كيف حالك أنتِ؟
"أنا بخير" ردت سمية بصوتها الناعم، ثم جعلت تنفض بيديها الغبار والتراب من على لباس زوجها، وتعدل له هندامه الذي تغير موضعه جراء السفر.
انذهل الزبير؛ إذ لم يسبق له أن رأى امرأة بهذا الجمال وبهذه النعومة، ولم يسبق أن رأى امرأة تملك صفات تقارب هذه الصفات، وتدلل زوجها كل هذا الدلال، وتعتني به أقصى عناية.
لطالما اعتقد الناس - ومنهم الزبير- أن أمينا محظوظ لأنه يمتلك أموالا لا تحصى، لكن الزبير أدرك في ذلك اليوم أن أمينا محظوظ لسبب آخر، وهو امتلاكه تلك الزوجة الرائعة التي لا مثيل لها.
اقترب الزبير من أمين، ومد ذراعيه جانبا ثم أحاط بهما أمينا، واحتضنه، فاحتضنه أمين.
"أهلا بك بيننا" قال الزبير.
فرد أمين: مرحبا بالزبير.
ابتعد الرجلان أحدهما عن الآخر، ثم قال الزبير: لقد انتظرناك بفارغ الصبر.
ابتسم أمين، ثم نظر إلى سمية، وقال للزبير: هذه زوجتي سمية.
ارتبك الزبير غير المعتاد على التعامل مع النساء، وقال بارتباك: أهلا بك، سيدتي.
ابتسمت سمية، وردت: مرحبا أيها الزبير، لقد سمعت عنك كثيرا.
ابتسم الزبير، ثم قال: تفضلا من هنا.
وقادهما إلى الغرفة التي سيقيمان فيها، وأخبرهما أنه حالما يريد الملك لقاءهما فسيستدعيهما.
بعد عدة أيام وصلت حورية وزوجها المغيرة إلى جبال اليبس، ضمن الإجراءات ذاتها التي اتُّبِعَت مع أمين، من حرص على السرية، ومن العصب حول الأعين.
وحالما وصلا أعلم الزبير فخرج للقائهما.
ساعد مقاتلو الحماية المغيرة على الترجل عن جواده، ثم أزالوا العصبة عن عينيه، ثم ساعد المغيرة حورية على الترجل، وأزال العصبة عن عينيها.
اقترب الزبير منهما، وحالما رأياه، قالت حورية: كيف حالك، أيها الزبير؟
غضب المغيرة؛ لأنها تحدثت قبله، كعادته في كل مرة يحدث فيها هذا، لكنه أتقن إخفاء غضبه كالعادة.
ثم قال للزبير: كيف حالك؟
ابتسم الزبير فرحا، وقال: أهلا بكما، لقد اشتقنا لكما.
وطفقوا يتحادثون ثم اصطحبهما إلى حيث سيقيمان، وأخبرهما أنه سيستدعيهما لاحقا للقاء الملك.
وأخيرا، وبعد أيام وصل سليم ضمن الاحترازات نفسها، ومن جديد استقبله الزبير بالأحضان بالطريقة ذاتها، واصطحبه إلى الغرفة التي سيقيم فيها، وأنبأه أنه سيستدعيه لاحقا للقاء الملك.
أقام جميع الزوار فرحين مستبشرين بلقاء الملك قصي، اللقاء الذي لم يكن هنالك شيء أعظم شرفا منه في البقاء كلها. وبعد عدة أيام –أكرم فيها الملك وفادتهم جميعا-، وذات ليلة حان موعد اللقاء، فأرسل الزبير في طلبهم جميعا.
تجمعوا كلهم على باب الغرفة التي اعتاد الملك الهارب لقاء الناس فيها، والتي سبق له أن التقى فيها الزبير مرات عدة.
بعدها أدخلهم الزبير إلى الغرفة، ووقفوا جميعا أمام الملك الذي جلس على عرشه. وفي الغرفة وُجد الأمير ريان، والقائد جاسم، وابنه القائد عاصم وعدد كبير من الحرس، إضافة لعدد كبير من الخدم.
في البداية تقدم الزبير، وانحنى وقال: مرحبا، يا مولاي.
فرد الملك، وهو يمسك رأس الضيغم: أهلا بك وبضيوفي.
ثم استوى الزبير من انحناءته، وانحنى من جديد نحو الأمير، وهو يقول: تحيتي، يا مولاي.
وبينما جلس الأمير على كرسي بجوار أبيه، بدا الغضب والامتعاض واضحين عليه، ولم يرد على الزبير؛ مما أثار استغراب كل من في الحجرة.
بعدها استدرك الزبير المسألة، واستوى من انحناءته، وقال وهو يشير إلى أمين: هذا أمين أغنى رجل في البقاء، بل في الممالك الثلاث كلها.
ثم أشار إلى زوجته سمية، وقال: وهذه زوجته سمية.
تقدم أمين وسمية، وانحنيا إجلالا للملك، وقال الاثنان: مرحبا، يا مولاي.
فقال الملك: أهلا بكما.
ثم تنحيا جانبا.
وبعدها أشار الزبير إلى المغيرة، وقال: وهذا المغيرة عمدة الفيحاء، وواحد من أقوى رجال البقاء.
فابتسم المغيرة من ثناء الزبير عليه.
بعدها أشار الزبير إلى حورية وعرف الملك بها.
تقدم الزوجان وانحنيا، وحيّا الملك فرد عليهما التحية، ثم تنحيا جانبا.
بعدها أشار الزبير إلى سليم، وقال: وهذا الشاب هو سليم ابن القائد الخالد الهيثم.
عندما دمعت عينا الملك؛ إذ تذكر القائد الباسل الذي ضحى من أجل البقاء، فوقف احتراما لذكرى القائد، ثم قال لسليم: اقترب مني، يا بني.
فشعر سليم كعادته بخجل عظيم، لا سيما أنه هذه المرة يحادث أهم رجل في البقاء كلها، ونظر في الأرض خجلا دون حراك.
وبعد مدة توجه إليه الزبير ووضع كفه على كتفه، وشجعه: هيا، يا سليم، نفذ أمر الملك.
عندها وبينما سليم يطأطئ رأسه، جعل يقترب من الملك، ثم وقف وانحنى له، ثم أكمل طريقه نحوه، ولما غدا قريبا منه، احتضنه الملك بقوة وضمه إليه؛ لكي يشتم رائحة صديقه الهيثم.
وفي لحظات اقتراب سليم من الملك، زاد تركيز جاسم، وتهيأ لأي شيء من الممكن أن يحدث فجأة، فهذه كانت عادته، أن يخشى على الملك حتى من أقرب المقربين له، وحتى من الأشخاص
الذين لا يبدو عليهم أنهم يشكلون خطرا.
ولاحظ القائد عاصم تصرفات أبيه التي حرص الابن أن يتعلم منها ويقلدها.
كان خدم الملك قد وضعوا طاولة فاخرة طويلة في الغرفة، وقد علاها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وحولها كراسيّ فاخرة.
دعا الملك ضيوفه للجلوس حول الطاولة، ثم جلس على رأس الطاولة، ووقف خلفه وعلى يمينه القائد جاسم. بينما جلس البقية على الكراسي. ثم دعاهم الملك ليبدؤوا بالأكل والشرب، فبدأ هو بنفسه،
ثم تبعوه.
وجعل الخدم يستجيبون لطلبات الملك وضيوفه.
وجعل الجميع يتبادلون الحديث ويتعرف بعضهم على بعض، وأبدوا جميعا للملك شرفهم العظيم بلقائه شخصيا، وأبدى هو سعادته بلقائهم وافتخاره باحتواء مملكته على أمثالهم، وركز على الإثناء
على الهيثم، مما أسر قلب سليم كثيرا. أما الأمير ريان، فقد التزم الصمت طيلة الجلسة، وامتنع عن الأكل والشرب، وبدا الغضب جليا عليه، مما أثار حفيظة الحضور جميعا، واستغرابهم.
وبينما هم يتحادثون، نظر الملك إلى الزبير، ثم قال: علينا ألا ننسى أن نشكر الزبير على مجهوده وتخطيطه وبراعته في إحكام هذه الخطة، والأهم على حبه للبقاء.
ابتسموا جميعا ونظروا إلى الزبير بإعجاب، ثم قال أمين: بالتأكيد، الزبير يستحق الثناء، فخطته ستعيد لنا البقاء.
ثم أكدت سمية على كلام زوجها: هذا صحيح، لولاه لاندفن الأمل بتحرير بلادنا إلى الأبد.
ثم قالت حورية: إنه من أعظم الرجال في هذه البلاد.
فأكد زوجها المغيرة كلامها: كلامك صحيح، لم يسبق أن رأيت رجلا بهذه القوة والحنكة.
ولم يتبق أحد لم يثن عليه سوى سليم، فقال بخجل: شكرا، أيها الزبير.
فرح الزبير بكلامهم جميعا، وكانت تلك إحدى أجمل لحظات حياته.
الاستثناء الوحيد، هو الأمير ريان، الذي اشتعل قلبه غضبا وغيرة من كلام أبيه.
بعدها أكمل الجمع حديثهم وأكلهم وشربهم.
***
كانت الفيحاء أقرب مكان يتمتع بالحرية على ياقوتة يمكن لأهل البقاء الوصول إليه. ووقع بالقرب منها معسكر ضخم لجيش ياقوتة احتوى على ربع جيشها.
وقد قامت خطة الزبير لتحرير البقاء على قاعدتين، القاعدة الأولى تجميع الثوار في الفيحاء، وعندما يغدو عددهم كبيرا جدا، خطط لأن يهجموا على معسكر ياقوتة الضخم. والقاعدة الثانية أن تثور -
في اليوم نفسه للهجوم على المعسكر – سائر مدن وقرى البقاء المحتلة ضد ياقوتة والهيجاء.
لهذا طلب الزبير من المغيرة، أن يعلن أنه سيقيم مهرجانا لمدة شهر صيفَ كلِّ سنةٍ في الفيحاء، وأن المهرجان سيخصص للبيع والشراء، وسيعج بالمهرجين والمغنين والشعراء والخطباء، وأن يدعو الناس من شتى الممالك لزيارة المهرجان. وبالفعل نفذ المغيرة طلب الزبير وفعل كل هذا.
بعدها أرسل الملك وحلفاؤه الثلاثة الزبير والمغيرة وأمين، رجالهم في شتى أنحاء البقاء سواء الأراضي المحتلة منها أو الأراضي المحررة. وشرعوا يدعون الرجال سرا إلى المشاركة في ثورة
لتحرير البقاء كاملة، وأخبروهم أن الملك الهارب ما زال على قيد الحياة وأنه سيقود الثورة بنفسه.
وكلما قبل أحدهم المشاركة في الثورة، طلبوا منه إما الذهاب إلى الفيحاء والانتظار هناك لحين الهجوم على المعسكر، أو أن يظل في مدينته أو قريته المحتلة وأن يساهم في الثورة ضد جنود
ياقوتة والهيجاء.
صحيح أن الزبير اختار المغيرة ضمن منفذي خطته، لقوته الشديدة وكثرة أتباعه، لكنه اختاره أيضا؛ لأنه احتاج لتجميع الناس في الفيحاء أقرب مناطق البقاء على معسكر ياقوتة.
***
احتاج كل هؤلاء المقاتلين الذين عزموا على الاشتراك بالثورة، مالا للإنفاق عليهم سلاحِهم وخيولهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم ودروعهم وتُرُسهم ومرتباتهم. وهذه الأموال حصل عليها
الزبير من أمين الذي امتلك مبلغا هائلا من المال.
ولهذا كله؛ شكل أمين حجرَ زاوية في خطة الزبير، الذي أدرك مدى أهمية حياة أمين.
وذات يوم توجه الزبير إلى غرفة أمين في جبال اليبس، وتبادلا التحايا، ثم جلسا يتحادثان، وجلست معهم سمية زوجة أمين.
وبعد مدة قال الزبير: أريد أن أحادثك بأمر معين على حدة، يا أمين.
ثم نظر إلى سمية نظرة سريعة، ثم عاود النظر إلى أمين.
ابتسم أمين، وقال بصوته الهادئ: أرجوك، تحدث أمام سمية، فأنا وإياها امرؤ واحد، ولا أتخذ قرارا ً إلا بإعلامها وموافقتها.
لقد علم الزبير أن أمينا لا بد وأنه أراد المشاركة في القتال في الثورة المرتقبة؛ بسبب حبه الجم للبقاء، لذلك أراد أن يثنيه عن هذه الفكرة مبكرا.
قال الزبير بحزم: أمين، أثناء الثورة، أريدك أن تظل هنا في جبال اليبس وألا تشارك في القتال.
عبس أمين، ثم قال - بغضب على غير عادته - : هذا غير مقبول، أيها الزبير. هل تظنني امرأة لأخشى الوغى؟!
فقال الزبير: سأتحدث معك بصراحة. مساهمتك بمالك أهم بأضعاف مضاعفة من مساهمتك في القتال. نحن بحاجة لأموالك، ويجب أن تظل حيا حتى نستفيد منها.
فقال أمين العابس: لا، لن أقبل.
عندها قالت سمية بصوتها الحنون: أمين، أرجوك، استمع للزبير، فكلامه صحيح ومنطقي.
قال أمين: مستحيل، لن أتوانى في التضحية بحياتي لأجل البقاء.
عندها وجد الزبير نفسه أمام الخيار الأخير لإقناع أمين، فقال: إذا فلتقبل بحل وسط بيني وبينك.
"وما هو؟" سأل أمين.
أجاب الزبير: تأتي معنا إلى ساحة القتال، وتشاهد المعركة عن بعد، بينما يحرسك عدد كبير من المقاتلين، لكن دون أن تشارك بالقتال.
نظرت سمية ببراءة إلى زوجها وقالت بصوتها الناعم: إن هذا لعين العقل.
أطرق أمين – الذي لا يستطيع رفض طلب لحبيبته سمية - قليلا وفكر بعمق، ثم قال ناظرا إلى الأرض: حسن، أنا موافق.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي