23
ظل المقاتلون والمتطوعون يتجمعون في مدينة الفيحاء، واقترب موعد الهجمة المخطط لها على معسكر ياقوتة القريب.
كان على الملك الهارب أن يعين قائدا للجيش المتجمع في الفيحاء، وقد اختار جاسما قائد قواته، قائدا للمقاتلين المتجمعين هناك.
انتقل الملك الهارب والقائد جاسم وقائد الحرس عاصم إلى الفيحاء، وكذلك انتقل إليها الزبير وأمين وسليم. وأثناء هذا كله، تعمد الملك وأتباعه تغيير لباسهم، ولبسوا ألبسة متعددة الألوان غير موحدة،
كما أن الملك وجاسما ظلا متلثمين طيلة السفر.
وبعد تجمع عدد هائل من المقاتلين في الفيحاء، حان موعد الهجوم. وضع الزبير خطة الهجوم. ونصت على إحاطة المقاتلين بالمعسكر من جميع الجهات، بحيث يهجمون على المعسكر من جهة
ويبقون على مسافة بعيدة نسبيا من الجهة الثانية. وقد خطط لأن يتم الهجوم ليلا، وهذا ما حصل.
وفي إحدى الليالي، تهيأ مقاتلو البقاء للمعركة.
وخرج الملك وريان والزبير والمغيرة وأمين وسليم مع المقاتلين.
توجه الزبير إلى سليم الذي أحاط به ثلاثون مقاتلا من فرقة الزنوج لحمايته. فعدد كبير من مقاتلي الكثبة وكل فرقة الزنوج، تجمعوا ككثير من أهل البقاء في الفيحاء.
انبهر سليم من منظر أعضاء فرقة الزنوج، مفتولي العضلات، طويلي القامة، عريضي المناكب، والذين ظهرت عليهم علامات القوة والبأس الشديدين.
قال الزبير لسليم: سليم - كما وعدتك ووعدت والدتك - سأحافظ على حياتك، أريدك أن تبقى هنا وألا تخاطر بحياتك.
ثم وضع الزبير يديه على كتفي سليم، وقال: أنت ابني، وعزيز علي، ومنذ رأيتك أحسست بمشاعر الأبوة والمحبة تجاهك.
وأكمل: يجب أن تظل حيا لتبث الثقة في صفوف المقاتلين.
اعتاد الزبير أن يحادث سليما باستمرار، ولطالما أخبره أنه يشعر بأنه ابنه، وفي تلك الليلة تحديدا حادثه مرارا وتكرارا طالبا منه ألا يتهور ويشارك في القتال. وطلب مرارا وتكرار من
مقاتلي فرقة الزنوج المنوطين بحراسته، أن يمنعوا حتى الرياح من الاقتراب منه.
وفي تلك الليلة كذلك، توجه الزبير إلى أمين، وقال: أمين، تذكر اتفاقنا جيدا. أنت حيا أهم لنا منك ميتا... لا يمكن لخطتنا أن تنجح... لا يمكن للبقاء أن تعود، إذا فقدناك. إياك أن تتهور وتشارك بالقتال.
أومأ أمين برأسه، مع أن الحزن ملأ قلبه؛ لأنه أراد من كل ذرة في قلبه أن يشارك في القتال، وأن يضحي بحياته في سبيل بلده البقاء.
كذلك أوكل الزبير إلى ثلاثين من فرقة الزنوج حراسة أمين، وأن يمنعوا حتى الرياح من الاقتراب منه.
وحانت اللحظة المنتظرة. تقدم الزبير المقاتلين، وصرخ: يا أهل البقاء، اليوم بينكم ملككم الملك قصي.
فصرخ المقاتلون: يحيا الملك...
وكرروا ذلك.
ثم صرخ الزبير: وبينكم سليم ابن القائد الأسطوري الهيثم.
فهتف المقاتلون: يحيا الهيثم...
وكرروا ذلك.
ثم صرخ الزبير: اليوم، مصير البقاء بأيديكم، فلا ترحموا عدوكم.
وقد لبس مقاتلو البقاء لباسا بنفسجيا في معظمه ويتخلله اللون الأسود. أما مقاتلو بدو الكثبة فلبسوا لباسهم الأبيض في معظمه ويتخلله اللون الأحمر. وأما الزبير وبيدق وسائر أعضاء فرقة الزنوج لبسوا
زيهم الأسود في معظمه والذي يتخلله اللون الأبيض. وقبل هذه الحرب، قرب بيدق منه ومن الزبير اثنين هما الأقوى بعد بيدق في كل فرقة الزنوج. الأول اسمه هلال والثاني اسمه الأقرط. وبات بيدق
وهلال والأقرط يصاحبون الزبير في أي مكان يذهب إليه، وعرف الثلاثة بالنسور السوداء؛ وذلك لأنهم شابهوا النسور في قوتها وشدتها وجديتها وحدة نظراتها، كما أن لباسهم الأسود في معظمه
والذي يتخلله اللون الأبيض، شابه النسور السوداء في معظمها عدا عن كون رأسها باللون الأبيض.
بعدها انطلق الزبير وخلفه الجمع باتجاه معسكر ياقوتة من جهة معينة. ووصلوا المعسكر وشرعوا يقتلون جنود ياقوتة الواحد تلو الآخر. الزبير والأمير ريان وجاسم والمغيرة وقيس والداهية،
شربت سيوفهم من دماء جنود ياقوتة، وأظهروا قوة في القتال أبهرت الجميع. فدب الذعر في جنود ياقوتة، وقد ظنوا أن ثوار البقاء هاجموهم من جهة واحدة، فطفق بعضهم يهرب باتجاه الجهة المقابلة،
ولكن للمفاجأة وجدوا هناك ثوارا آخرين بانتظارهم جعلوا يصطادونهم واحدا تلو الآخر بأسهمهم، وبعدما مر الوقت، هجم هؤلاء الثوار أيضا على معسكر ياقوتة، وهكذا باتت الهجمات تأتي من كل اتجاه.
ومر الوقت حتى أباد مقاتلو البقاء جنود ياقوتة على بكرة أبيهم، فحتى الجرحى والأسرى تم قتلهم؛ لإيصال رسالة قوية ومرعبة لملك ياقوتة ومقاتليه.
تألق الزبير الذي استخدم أسلوب القتال بالسيف والخنجر معا، بينما ظل يحيط به أفراد فرقة الزنوج من كل ناحية، وكل هذا تكرر في كل الحروب التي خاضها لاحقا. أما الأمير ريان، فقد تألق هو الآخر، وقد اعتمد في قتاله على الإمساك بمقبض سيفه من خلال كفيه الاثنتين، وتوجيه الضربات القاسمة لأعدائه. وقد أبدع المغيرة، الذي كان يقاتل بإمساك السيف بيد واحدة، وتميز بقوة ذراعه اليمنى، فكانت
ضرباته كأنها زلازل تنهال على خصومه.
وهكذا قضى مقاتلو البقاء على ربع جيش ياقوتة عندما غدروا بهم، كما غدر جيش ياقوتة بالبقاء في الحرب المقيتة.
***
المعسكر الذي دمره ثوار البقاء، وضعه ملك ياقوتة منذ اللحظة التي انتهى فيها زحفه في أراضي البقاء وحرص على أن يكون عدد الجنود فيه ضخما؛ فلطالما خشي أن تحدث ثورة ذات يوم. وبالفعل
أتى اليوم الذي خشيه ملك ياقوتة، وقامت الثورة، ففي الليلة نفسها التي دمر فيها ثوار البقاء معسكر ياقوتة، ثارت كل مدن وقرى ومناطق البقاء المحتلة من قبل مملكة ياقوتة، وجعل الناس يقتلون
جنود ياقوتة، حتى أبادوهم على بكرة أبيهم. فما منعهم من فعل مثل هذا مسبقا، هو خشيتهم من وصول قوات كبيرة من مقاتلي ياقوتة من ذلك المعسكر الضخم الذي دمره الملك الهارب.
***
حالما انتصر مقاتلو البقاء انتصارهم الساحق على ياقوتة، أقاموا معسكرا لهم إلى الشرق من الفيحاء، حيث نصبوا خيامهم. وذلك لأنهم احتاجوا مكانا فسيحا يتحركون فيه بسهولة، ويتدربون ويتهيؤون على النحو الذي يناسبهم، فمدينة الفيحاء، ضيقة الشوارع مملوءة بالزقق الضيقة، والبيوت التي يزاحم بعضها بعضا، ومكتظة بالسكان.
وبعد أيام من تدمير معسكر ياقوتة، وتحرير مدن البقاء الواحدة تلو الأخرى، التقى الملك قصي بالزبير، في معسكر مقاتلي البقاء، في خيمة الملك. كانا – كسائر أهل البقاء – فرحين كثيرا. وظلا
يتبادلان الحديث والضحكات.
وضمن حديثهما نظر الملك بتمعن إلى الزبير، وانتبه الزبير إلى نظرات الملك، وساد صمت مهيب في الغرفة، انتهى بقول الملك: أتدري، أيها الزبير؟
"ماذا، يا مولاي؟" رد الزبير.
فأجاب الملك: منذ مقتل أهلي، واحتلال البقاء، كل ليلة وأنا على وسادة النوم، اعتدت أن أدعو الله، أن يمدني بجيش ينتقم لي من قتلة أهلي، ويعيد إلي ملكي الضائع.
تنهد ثم نظر بعيدا عن الزبير، ثم أكمل: ظننت أنه سيرسل لي جيشا جرارا من البشر... أو ربما من الملائكة.
ثم نظر إلى الزبير بنظرات ملؤها التعظيم والتبجيل له، وقال: لكن أتدري ماذا كان الجيش؟
فرد الزبير: ماذا، يا مولاي؟
فأجاب الملك: كان أنت!
هذا الكلام كان أجمل ما سمعه الزبير في حياته؛ فقد أحب الملك بعمق وجنون. لذا فرح فرحا عظيما.
ثم قال للملك: أنت أعظم رجل قابلته في حياتي.
ثم ارتجف صوته وهو يقول: أنت أبي... لا سيما بعد أن فقدت والدي الحقيقي وجدي.
وتلك من اللحظات النادرة جدا في حياة الزبير التي ارتبك فيها، فقد اتسم بالقسوة الشديدة.
قام الزبير واتجه نحو الملك، وحضن أحدهما الآخر بعمق وحرارة شديدين.
***
بينما الملك الهارب جالس ليلا في خيمته في المعسكر، استأذن قائد الحرس عاصم للدخول عليه.
"من هناك؟" سأل الملك.
فأجاب عاصم: أنا القائد عاصم، أتأذن لي بالدخول، يا مولاي؟
فرد الملك: بالطبع، تفضل.
دخل القائد عاصم الغرفة، وانحنى للملك قائلا: تحيتي، يا مولاي.
ثم أضاف: مولاي، منذ الصباح، أتى ثلاثة رجال مسنين يريدون مقابلتك، فمنعناهم عن ذلك، لكنهم أصروا على لقائك، ثم جلسوا على الأرض ، وقالوا إنهم لن يرحلوا إلى أن يلقوك، وإنه لن يردهم شيء عن ذلك سوى الموت!
تعجب الملك ثم تساءل مستغربا: أولم يخبروك ماذا يريدون؟
فقال القائد: إنهم يزعمون أنهم آخر ثلاثة عمداء في جيش مملكة البقاء السابق... إنه طبعا أمر لا يصدق، إما إنهم عجزة خرفون أو إنهم محتالون.
تسارعت أنفاس الملك، ولم يصدق ما سمعه.
"أيعقل أنهم ما يزالون أحياء؟!" تساءل الملك بتعجب، فلطالما سمع أن العمداء بهاء وصلاح والمعتصم هم وحدهم من ظلوا أحياء من جيش البقاء، بعد أن فروا من الحرب ضد مملكة ياقوتة. لكنه
لطالما ظن أنها مجرد إشاعات أو أساطير يروج لها الحكاؤون في البقاء وهم يروون شجون مملكتهم التي انهارت.
بسرعة صرخ الملك: أدخلهم علي بسرعة.
استغرب القائد عاصم، وتوجه مسرعا لينفذ أمر الملك.
في حين ذهب الملك ونادى ابنه الأمير ريانا، وتوجها معا وسط حراسة مشددة إلى أكبر خيمة في المعسكر، والتي خصصت للتخطيط للمعارك.
وبعد مدة دخل القائد عاصم، ومعه ثلاثة رجال مسنين، لكن أجسادهم – رغم تقدم العمر – كانت قوية البنية مشدودة العضلات، توحي بهيئة عسكرية فذة وبقوة جسدية لا مثيل لها. كانوا جميعا
ذوي لحى وشوارب كثيفة، وكان شعرهم كلهم رماديا من تقدم العمر.
نظر الثلاثة إلى الأرض بخجل وبشعور بالعار، وهم بين يدي الملك.
لم يصدق الأخير عينيه.
ساد صمت عظيم في الغرفة حتى قال الملك متعجبا: هل أنتم فعلا من تزعمون؟!
تبادل الثلاثة استراق نظرات خاطفة نحو الملك، ثم عادوا ينظرون إلى الأرض بخجلهم وشعورهم بالعار.
كان أحدهم يتقدمهم بخطوتين ويتوسطهم.
بعدها انحنى الثلاثة على ركبهم، وهم ما زالوا ينظرون إلى الأرض، حتى قال أوسطهم الذي تقدمهم بخطوات قليلة: مولاي، نعم، أنا العميد بهاء.
ثم أشار إلى الرجل على يمينه وقال: وهذا العميد المعتصم.
ثم أشار إلى الرجل الثالث، وقال: وهذا العميد صلاح.
قال كل هذه الكلمات وهو ينظر إلى الأرض.
احمرت عينا الملك وجحظتا، وبرزت العروق في رقبته، وأحس جميع من بالغرفة أنه في قمة غضبه، وأن شيئا سيئا جدا سيحدث قريبا.
ساد صمت في الغرفة توقفت معه القلوب والأنفاس بسبب غضب الملك، حتى قال: كيف فعلتم ما فعلتموه؟!
صمت قليلا ثم صرخ: ألا تخجلون من أنفسكم؟! ألا تشعرون بالعار؟! الهيثم يضحي بنفسه وبأولاده، وكذلك سائر العمداء، وأنتم تفرون من أرض المعركة كالنساء! بئس الرجال أنتم!
ثم أعرض بوجهه عنهم.
جعل العمداء الثلاثة يبكون بشدة وتسيل دموعهم غزيرة كأنهم أطفال رضع رغم أنهم مسنون.
استغرب جميع الحاضرين مما يحدث، كان مشهدا منفرا ومزعجا للغاية، وهابوا غضب الملك العارم، حتى ابنه الأمير ريان.
وبعد حين وبينما هم يبكون، قال العميد بهاء وصوته يتهدج: يا مولاي، منذ فررنا من ساحة الحرب، والعار يتجمع في قلوبنا تجمع المياه في الوديان، حتى استحال سيولا طفحت وسالت سريعة.
مولاي، نحن نشعر بالذل والعار، نتمنى ليلَ نهارَ أننا لم نولد، نتمنى في كل لحظة أن يخطفنا الموت حتى يريحنا من عارنا.
مولاي، أرجوك، ارحمنا. نرجوك، سامحنا واسمح لنا أن نشارك في الثورة، ونقسم لك بالله أننا لن نرجع حتى ننتصر أو نموت فدى البقاء وفداك.
مولاي، إما أن تفعل ذلك...
ثم زاد بكاؤه وتهدج صوته، وأكمل: ... أو أن تأمر بقتلنا جميعا وتريحنا من الذل والعار.
بينما الملك معرض بوجهه وبينما سمع هذه الكلمات، وقد أحاط به صوت البكاء من كل جهة، دمعت عيناه حزنا وشفقة عليهم وحنينا لهم.
فمسح عينيه بسرعة؛ لأنه منذ صغره – وقد تربى في عائلة ملكية - أدرك أنه لا يجوز لأي ملك أن يظهر ضعيفا لمن حوله.
بعدها عاد ينظر إليهم، ثم قام من كرسيه وتوجه نحوهم.
ابنه الأمير ريان تأثر كثيرا بما حدث وجعلت الدموع تسيل من عينيه، لكنه أتقن عدم إظهار أي صوت. وتعجب كثيرا من القسوة التي أظهرها أبوه، وأدرك أن مهمة المَلِكِ ليست شيئا هينا.
وحتى القائد عاصم تأثر كثيرا بما حدث، مثله كمثل سائر من في الغرفة.
وصل الملك إليهم، وتسارعت دقات القلوب في الغرفة، ففي لحظة إما سيسامحهم، وإما سيحكم بإنهاء حياتهم.
نظر إليهم بعينيه الجاحظتين المحمرتين، بينما ظلوا ينظرون إلى الأرض خجلا، ولكنهم توقفوا عن البكاء إجلالا واحتراما له.
مضى وقت كان كأنه دهر، حتى قال الملك: يمكنكم القتال معنا.
عندها نهض العميد بهاء، وحضن الملك بقوة بينما أرخى الأخير ذراعيه جانبا لكنه بعد حين حضن العميد بقوة، ثم نهض المعتصم فحضن هو والملك أحدهما الآخر، ثم كرر الملك ذلك مع صلاح
بعد نهوضه.
وهكذا عفا الملك عن العمداء الثلاثة وسط فرحتهم العظيمة هم والملك وسائر الحاضرين.
***
كان العمداء الثلاثة قد سمعوا مسبقا بالزبير، وأنه وراء كل هذه الأحداث الجسام. وقد شعروا بالفضول والحماسة وأرادوا مقابلة هذا الرجل؛ فطلبوا من الملك الهارب أن يجمعهم به.
ولبى الملك طلبهم، فبعد يومين من مقدمهم، أرسل في طلب الزبير ليحضر إلى الخيمة الكبيرة في المعسكر، المخصصة للتخطيط للمعارك. وبالفعل نفذ الزبير طلب الملك ودخل عليه بينما جالس
ابنه الأمير ريانا، والعمداء الثلاثة.
حيا الزبير الملك وانحنى له ثم حيا الجالسين.
وبعدها جلس بعد أن أذن له الملك بذلك.
وتحادث الجمع حتى قال الملك: هؤلاء العمداء الثلاثة الوحيدون المتبقون من جيش البقاء بعد الحرب المقيتة، وقد أتوا ليعينونا في الثورة.
ثم أشار الملك إلى الزبير، وقال: وهذا هو الزبير العقل الداهية المدبر لكل ثورة البقاء.
فرح الزبير بإطراء الملك، وابتسم ابتسامة خفيفة للعمداء الثلاثة، ورغم جلالة منظرهم وكبر أعمارهم وأنهم من أهم عشرة رجال في تاريخ البقاء في العقدين الأخيرين، لم يظهر عليه تأثر كبير
عندما رآهم.
فقال بثباته وزانته المعهودين: أهلا بكم معنا.
تعجب العمداء الثلاثة؛ فخلال أعوامهم الكثيرة، لم يشاهدوا رجلا بمثل هذا الثبات وشدة البأس، لا سيما وأنه في منتصف العمر.
فرد المعتصم: مرحبا، أيها الزبير.
وحيا بهاء وصلاح بدورهما الزبير.
ثم قال بهاء: لقد سمعنا عنك كثيرا... يقال إنك رجل لم يمر مثيله على البقاء منذ مئات الأعوام. نحن نريد القتال معك لخدمة بلدنا البقاء.
فرح الزبير بإطراء بهاء، وبأنه سيسخر وصلاحا والمعتصم قوتهم الهائلة في خدمة خطته لتحرير البقاء.
ثم قال بهدوء: لطالما أحسست أن خطتي ينقصها شيء ما لتكون كاملة، والآن أدرك أنكم أنتم ما كان ينقصها.
ابتسم العمداء الثلاثة من إطراء الزبير. بينما استاء ريان من كل هذا الحوار.
وظل الحاضرون يتبادلون الحديث، ويتناولون مما ضيفه إياهم الخدم من شراب وطعام، حتى وقت متأخر من الليل.
***
كان على الملك الهارب أن يعين قائدا للجيش المتجمع في الفيحاء، وقد اختار جاسما قائد قواته، قائدا للمقاتلين المتجمعين هناك.
انتقل الملك الهارب والقائد جاسم وقائد الحرس عاصم إلى الفيحاء، وكذلك انتقل إليها الزبير وأمين وسليم. وأثناء هذا كله، تعمد الملك وأتباعه تغيير لباسهم، ولبسوا ألبسة متعددة الألوان غير موحدة،
كما أن الملك وجاسما ظلا متلثمين طيلة السفر.
وبعد تجمع عدد هائل من المقاتلين في الفيحاء، حان موعد الهجوم. وضع الزبير خطة الهجوم. ونصت على إحاطة المقاتلين بالمعسكر من جميع الجهات، بحيث يهجمون على المعسكر من جهة
ويبقون على مسافة بعيدة نسبيا من الجهة الثانية. وقد خطط لأن يتم الهجوم ليلا، وهذا ما حصل.
وفي إحدى الليالي، تهيأ مقاتلو البقاء للمعركة.
وخرج الملك وريان والزبير والمغيرة وأمين وسليم مع المقاتلين.
توجه الزبير إلى سليم الذي أحاط به ثلاثون مقاتلا من فرقة الزنوج لحمايته. فعدد كبير من مقاتلي الكثبة وكل فرقة الزنوج، تجمعوا ككثير من أهل البقاء في الفيحاء.
انبهر سليم من منظر أعضاء فرقة الزنوج، مفتولي العضلات، طويلي القامة، عريضي المناكب، والذين ظهرت عليهم علامات القوة والبأس الشديدين.
قال الزبير لسليم: سليم - كما وعدتك ووعدت والدتك - سأحافظ على حياتك، أريدك أن تبقى هنا وألا تخاطر بحياتك.
ثم وضع الزبير يديه على كتفي سليم، وقال: أنت ابني، وعزيز علي، ومنذ رأيتك أحسست بمشاعر الأبوة والمحبة تجاهك.
وأكمل: يجب أن تظل حيا لتبث الثقة في صفوف المقاتلين.
اعتاد الزبير أن يحادث سليما باستمرار، ولطالما أخبره أنه يشعر بأنه ابنه، وفي تلك الليلة تحديدا حادثه مرارا وتكرارا طالبا منه ألا يتهور ويشارك في القتال. وطلب مرارا وتكرار من
مقاتلي فرقة الزنوج المنوطين بحراسته، أن يمنعوا حتى الرياح من الاقتراب منه.
وفي تلك الليلة كذلك، توجه الزبير إلى أمين، وقال: أمين، تذكر اتفاقنا جيدا. أنت حيا أهم لنا منك ميتا... لا يمكن لخطتنا أن تنجح... لا يمكن للبقاء أن تعود، إذا فقدناك. إياك أن تتهور وتشارك بالقتال.
أومأ أمين برأسه، مع أن الحزن ملأ قلبه؛ لأنه أراد من كل ذرة في قلبه أن يشارك في القتال، وأن يضحي بحياته في سبيل بلده البقاء.
كذلك أوكل الزبير إلى ثلاثين من فرقة الزنوج حراسة أمين، وأن يمنعوا حتى الرياح من الاقتراب منه.
وحانت اللحظة المنتظرة. تقدم الزبير المقاتلين، وصرخ: يا أهل البقاء، اليوم بينكم ملككم الملك قصي.
فصرخ المقاتلون: يحيا الملك...
وكرروا ذلك.
ثم صرخ الزبير: وبينكم سليم ابن القائد الأسطوري الهيثم.
فهتف المقاتلون: يحيا الهيثم...
وكرروا ذلك.
ثم صرخ الزبير: اليوم، مصير البقاء بأيديكم، فلا ترحموا عدوكم.
وقد لبس مقاتلو البقاء لباسا بنفسجيا في معظمه ويتخلله اللون الأسود. أما مقاتلو بدو الكثبة فلبسوا لباسهم الأبيض في معظمه ويتخلله اللون الأحمر. وأما الزبير وبيدق وسائر أعضاء فرقة الزنوج لبسوا
زيهم الأسود في معظمه والذي يتخلله اللون الأبيض. وقبل هذه الحرب، قرب بيدق منه ومن الزبير اثنين هما الأقوى بعد بيدق في كل فرقة الزنوج. الأول اسمه هلال والثاني اسمه الأقرط. وبات بيدق
وهلال والأقرط يصاحبون الزبير في أي مكان يذهب إليه، وعرف الثلاثة بالنسور السوداء؛ وذلك لأنهم شابهوا النسور في قوتها وشدتها وجديتها وحدة نظراتها، كما أن لباسهم الأسود في معظمه
والذي يتخلله اللون الأبيض، شابه النسور السوداء في معظمها عدا عن كون رأسها باللون الأبيض.
بعدها انطلق الزبير وخلفه الجمع باتجاه معسكر ياقوتة من جهة معينة. ووصلوا المعسكر وشرعوا يقتلون جنود ياقوتة الواحد تلو الآخر. الزبير والأمير ريان وجاسم والمغيرة وقيس والداهية،
شربت سيوفهم من دماء جنود ياقوتة، وأظهروا قوة في القتال أبهرت الجميع. فدب الذعر في جنود ياقوتة، وقد ظنوا أن ثوار البقاء هاجموهم من جهة واحدة، فطفق بعضهم يهرب باتجاه الجهة المقابلة،
ولكن للمفاجأة وجدوا هناك ثوارا آخرين بانتظارهم جعلوا يصطادونهم واحدا تلو الآخر بأسهمهم، وبعدما مر الوقت، هجم هؤلاء الثوار أيضا على معسكر ياقوتة، وهكذا باتت الهجمات تأتي من كل اتجاه.
ومر الوقت حتى أباد مقاتلو البقاء جنود ياقوتة على بكرة أبيهم، فحتى الجرحى والأسرى تم قتلهم؛ لإيصال رسالة قوية ومرعبة لملك ياقوتة ومقاتليه.
تألق الزبير الذي استخدم أسلوب القتال بالسيف والخنجر معا، بينما ظل يحيط به أفراد فرقة الزنوج من كل ناحية، وكل هذا تكرر في كل الحروب التي خاضها لاحقا. أما الأمير ريان، فقد تألق هو الآخر، وقد اعتمد في قتاله على الإمساك بمقبض سيفه من خلال كفيه الاثنتين، وتوجيه الضربات القاسمة لأعدائه. وقد أبدع المغيرة، الذي كان يقاتل بإمساك السيف بيد واحدة، وتميز بقوة ذراعه اليمنى، فكانت
ضرباته كأنها زلازل تنهال على خصومه.
وهكذا قضى مقاتلو البقاء على ربع جيش ياقوتة عندما غدروا بهم، كما غدر جيش ياقوتة بالبقاء في الحرب المقيتة.
***
المعسكر الذي دمره ثوار البقاء، وضعه ملك ياقوتة منذ اللحظة التي انتهى فيها زحفه في أراضي البقاء وحرص على أن يكون عدد الجنود فيه ضخما؛ فلطالما خشي أن تحدث ثورة ذات يوم. وبالفعل
أتى اليوم الذي خشيه ملك ياقوتة، وقامت الثورة، ففي الليلة نفسها التي دمر فيها ثوار البقاء معسكر ياقوتة، ثارت كل مدن وقرى ومناطق البقاء المحتلة من قبل مملكة ياقوتة، وجعل الناس يقتلون
جنود ياقوتة، حتى أبادوهم على بكرة أبيهم. فما منعهم من فعل مثل هذا مسبقا، هو خشيتهم من وصول قوات كبيرة من مقاتلي ياقوتة من ذلك المعسكر الضخم الذي دمره الملك الهارب.
***
حالما انتصر مقاتلو البقاء انتصارهم الساحق على ياقوتة، أقاموا معسكرا لهم إلى الشرق من الفيحاء، حيث نصبوا خيامهم. وذلك لأنهم احتاجوا مكانا فسيحا يتحركون فيه بسهولة، ويتدربون ويتهيؤون على النحو الذي يناسبهم، فمدينة الفيحاء، ضيقة الشوارع مملوءة بالزقق الضيقة، والبيوت التي يزاحم بعضها بعضا، ومكتظة بالسكان.
وبعد أيام من تدمير معسكر ياقوتة، وتحرير مدن البقاء الواحدة تلو الأخرى، التقى الملك قصي بالزبير، في معسكر مقاتلي البقاء، في خيمة الملك. كانا – كسائر أهل البقاء – فرحين كثيرا. وظلا
يتبادلان الحديث والضحكات.
وضمن حديثهما نظر الملك بتمعن إلى الزبير، وانتبه الزبير إلى نظرات الملك، وساد صمت مهيب في الغرفة، انتهى بقول الملك: أتدري، أيها الزبير؟
"ماذا، يا مولاي؟" رد الزبير.
فأجاب الملك: منذ مقتل أهلي، واحتلال البقاء، كل ليلة وأنا على وسادة النوم، اعتدت أن أدعو الله، أن يمدني بجيش ينتقم لي من قتلة أهلي، ويعيد إلي ملكي الضائع.
تنهد ثم نظر بعيدا عن الزبير، ثم أكمل: ظننت أنه سيرسل لي جيشا جرارا من البشر... أو ربما من الملائكة.
ثم نظر إلى الزبير بنظرات ملؤها التعظيم والتبجيل له، وقال: لكن أتدري ماذا كان الجيش؟
فرد الزبير: ماذا، يا مولاي؟
فأجاب الملك: كان أنت!
هذا الكلام كان أجمل ما سمعه الزبير في حياته؛ فقد أحب الملك بعمق وجنون. لذا فرح فرحا عظيما.
ثم قال للملك: أنت أعظم رجل قابلته في حياتي.
ثم ارتجف صوته وهو يقول: أنت أبي... لا سيما بعد أن فقدت والدي الحقيقي وجدي.
وتلك من اللحظات النادرة جدا في حياة الزبير التي ارتبك فيها، فقد اتسم بالقسوة الشديدة.
قام الزبير واتجه نحو الملك، وحضن أحدهما الآخر بعمق وحرارة شديدين.
***
بينما الملك الهارب جالس ليلا في خيمته في المعسكر، استأذن قائد الحرس عاصم للدخول عليه.
"من هناك؟" سأل الملك.
فأجاب عاصم: أنا القائد عاصم، أتأذن لي بالدخول، يا مولاي؟
فرد الملك: بالطبع، تفضل.
دخل القائد عاصم الغرفة، وانحنى للملك قائلا: تحيتي، يا مولاي.
ثم أضاف: مولاي، منذ الصباح، أتى ثلاثة رجال مسنين يريدون مقابلتك، فمنعناهم عن ذلك، لكنهم أصروا على لقائك، ثم جلسوا على الأرض ، وقالوا إنهم لن يرحلوا إلى أن يلقوك، وإنه لن يردهم شيء عن ذلك سوى الموت!
تعجب الملك ثم تساءل مستغربا: أولم يخبروك ماذا يريدون؟
فقال القائد: إنهم يزعمون أنهم آخر ثلاثة عمداء في جيش مملكة البقاء السابق... إنه طبعا أمر لا يصدق، إما إنهم عجزة خرفون أو إنهم محتالون.
تسارعت أنفاس الملك، ولم يصدق ما سمعه.
"أيعقل أنهم ما يزالون أحياء؟!" تساءل الملك بتعجب، فلطالما سمع أن العمداء بهاء وصلاح والمعتصم هم وحدهم من ظلوا أحياء من جيش البقاء، بعد أن فروا من الحرب ضد مملكة ياقوتة. لكنه
لطالما ظن أنها مجرد إشاعات أو أساطير يروج لها الحكاؤون في البقاء وهم يروون شجون مملكتهم التي انهارت.
بسرعة صرخ الملك: أدخلهم علي بسرعة.
استغرب القائد عاصم، وتوجه مسرعا لينفذ أمر الملك.
في حين ذهب الملك ونادى ابنه الأمير ريانا، وتوجها معا وسط حراسة مشددة إلى أكبر خيمة في المعسكر، والتي خصصت للتخطيط للمعارك.
وبعد مدة دخل القائد عاصم، ومعه ثلاثة رجال مسنين، لكن أجسادهم – رغم تقدم العمر – كانت قوية البنية مشدودة العضلات، توحي بهيئة عسكرية فذة وبقوة جسدية لا مثيل لها. كانوا جميعا
ذوي لحى وشوارب كثيفة، وكان شعرهم كلهم رماديا من تقدم العمر.
نظر الثلاثة إلى الأرض بخجل وبشعور بالعار، وهم بين يدي الملك.
لم يصدق الأخير عينيه.
ساد صمت عظيم في الغرفة حتى قال الملك متعجبا: هل أنتم فعلا من تزعمون؟!
تبادل الثلاثة استراق نظرات خاطفة نحو الملك، ثم عادوا ينظرون إلى الأرض بخجلهم وشعورهم بالعار.
كان أحدهم يتقدمهم بخطوتين ويتوسطهم.
بعدها انحنى الثلاثة على ركبهم، وهم ما زالوا ينظرون إلى الأرض، حتى قال أوسطهم الذي تقدمهم بخطوات قليلة: مولاي، نعم، أنا العميد بهاء.
ثم أشار إلى الرجل على يمينه وقال: وهذا العميد المعتصم.
ثم أشار إلى الرجل الثالث، وقال: وهذا العميد صلاح.
قال كل هذه الكلمات وهو ينظر إلى الأرض.
احمرت عينا الملك وجحظتا، وبرزت العروق في رقبته، وأحس جميع من بالغرفة أنه في قمة غضبه، وأن شيئا سيئا جدا سيحدث قريبا.
ساد صمت في الغرفة توقفت معه القلوب والأنفاس بسبب غضب الملك، حتى قال: كيف فعلتم ما فعلتموه؟!
صمت قليلا ثم صرخ: ألا تخجلون من أنفسكم؟! ألا تشعرون بالعار؟! الهيثم يضحي بنفسه وبأولاده، وكذلك سائر العمداء، وأنتم تفرون من أرض المعركة كالنساء! بئس الرجال أنتم!
ثم أعرض بوجهه عنهم.
جعل العمداء الثلاثة يبكون بشدة وتسيل دموعهم غزيرة كأنهم أطفال رضع رغم أنهم مسنون.
استغرب جميع الحاضرين مما يحدث، كان مشهدا منفرا ومزعجا للغاية، وهابوا غضب الملك العارم، حتى ابنه الأمير ريان.
وبعد حين وبينما هم يبكون، قال العميد بهاء وصوته يتهدج: يا مولاي، منذ فررنا من ساحة الحرب، والعار يتجمع في قلوبنا تجمع المياه في الوديان، حتى استحال سيولا طفحت وسالت سريعة.
مولاي، نحن نشعر بالذل والعار، نتمنى ليلَ نهارَ أننا لم نولد، نتمنى في كل لحظة أن يخطفنا الموت حتى يريحنا من عارنا.
مولاي، أرجوك، ارحمنا. نرجوك، سامحنا واسمح لنا أن نشارك في الثورة، ونقسم لك بالله أننا لن نرجع حتى ننتصر أو نموت فدى البقاء وفداك.
مولاي، إما أن تفعل ذلك...
ثم زاد بكاؤه وتهدج صوته، وأكمل: ... أو أن تأمر بقتلنا جميعا وتريحنا من الذل والعار.
بينما الملك معرض بوجهه وبينما سمع هذه الكلمات، وقد أحاط به صوت البكاء من كل جهة، دمعت عيناه حزنا وشفقة عليهم وحنينا لهم.
فمسح عينيه بسرعة؛ لأنه منذ صغره – وقد تربى في عائلة ملكية - أدرك أنه لا يجوز لأي ملك أن يظهر ضعيفا لمن حوله.
بعدها عاد ينظر إليهم، ثم قام من كرسيه وتوجه نحوهم.
ابنه الأمير ريان تأثر كثيرا بما حدث وجعلت الدموع تسيل من عينيه، لكنه أتقن عدم إظهار أي صوت. وتعجب كثيرا من القسوة التي أظهرها أبوه، وأدرك أن مهمة المَلِكِ ليست شيئا هينا.
وحتى القائد عاصم تأثر كثيرا بما حدث، مثله كمثل سائر من في الغرفة.
وصل الملك إليهم، وتسارعت دقات القلوب في الغرفة، ففي لحظة إما سيسامحهم، وإما سيحكم بإنهاء حياتهم.
نظر إليهم بعينيه الجاحظتين المحمرتين، بينما ظلوا ينظرون إلى الأرض خجلا، ولكنهم توقفوا عن البكاء إجلالا واحتراما له.
مضى وقت كان كأنه دهر، حتى قال الملك: يمكنكم القتال معنا.
عندها نهض العميد بهاء، وحضن الملك بقوة بينما أرخى الأخير ذراعيه جانبا لكنه بعد حين حضن العميد بقوة، ثم نهض المعتصم فحضن هو والملك أحدهما الآخر، ثم كرر الملك ذلك مع صلاح
بعد نهوضه.
وهكذا عفا الملك عن العمداء الثلاثة وسط فرحتهم العظيمة هم والملك وسائر الحاضرين.
***
كان العمداء الثلاثة قد سمعوا مسبقا بالزبير، وأنه وراء كل هذه الأحداث الجسام. وقد شعروا بالفضول والحماسة وأرادوا مقابلة هذا الرجل؛ فطلبوا من الملك الهارب أن يجمعهم به.
ولبى الملك طلبهم، فبعد يومين من مقدمهم، أرسل في طلب الزبير ليحضر إلى الخيمة الكبيرة في المعسكر، المخصصة للتخطيط للمعارك. وبالفعل نفذ الزبير طلب الملك ودخل عليه بينما جالس
ابنه الأمير ريانا، والعمداء الثلاثة.
حيا الزبير الملك وانحنى له ثم حيا الجالسين.
وبعدها جلس بعد أن أذن له الملك بذلك.
وتحادث الجمع حتى قال الملك: هؤلاء العمداء الثلاثة الوحيدون المتبقون من جيش البقاء بعد الحرب المقيتة، وقد أتوا ليعينونا في الثورة.
ثم أشار الملك إلى الزبير، وقال: وهذا هو الزبير العقل الداهية المدبر لكل ثورة البقاء.
فرح الزبير بإطراء الملك، وابتسم ابتسامة خفيفة للعمداء الثلاثة، ورغم جلالة منظرهم وكبر أعمارهم وأنهم من أهم عشرة رجال في تاريخ البقاء في العقدين الأخيرين، لم يظهر عليه تأثر كبير
عندما رآهم.
فقال بثباته وزانته المعهودين: أهلا بكم معنا.
تعجب العمداء الثلاثة؛ فخلال أعوامهم الكثيرة، لم يشاهدوا رجلا بمثل هذا الثبات وشدة البأس، لا سيما وأنه في منتصف العمر.
فرد المعتصم: مرحبا، أيها الزبير.
وحيا بهاء وصلاح بدورهما الزبير.
ثم قال بهاء: لقد سمعنا عنك كثيرا... يقال إنك رجل لم يمر مثيله على البقاء منذ مئات الأعوام. نحن نريد القتال معك لخدمة بلدنا البقاء.
فرح الزبير بإطراء بهاء، وبأنه سيسخر وصلاحا والمعتصم قوتهم الهائلة في خدمة خطته لتحرير البقاء.
ثم قال بهدوء: لطالما أحسست أن خطتي ينقصها شيء ما لتكون كاملة، والآن أدرك أنكم أنتم ما كان ينقصها.
ابتسم العمداء الثلاثة من إطراء الزبير. بينما استاء ريان من كل هذا الحوار.
وظل الحاضرون يتبادلون الحديث، ويتناولون مما ضيفه إياهم الخدم من شراب وطعام، حتى وقت متأخر من الليل.
***