24

إبان الحرب المقيتة، حكم مملكة ياقوتة الملك خلدون. وقد نجح مع نهاية الحرب من توسيع مملكته بضم أجزاء شاسعة من البقاء إليها. ولكنه توفي بعد سنوات، واستلم الحكم ابنه الملك حازم.
أقام الملك حازم كسائر من سبقوه في بهيرة عاصمة ياقوتة والتي توسطتها. وقد كان له ابنان فقط، وهما إيهاب وسامح.
وإبان ثورة البقاء التي قادها الملك الهارب وخطط لها الزبير، كان إيهاب يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، في حين كان سامح يصغره بعام واحد. وإبان الثورة كذا، أقام الأميران في مدينة بحران.
لقد وقعت هذه المدينة في الشمال الغربي لمملكة ياقوتة، وكانت مدينة ساحلية إذ أطلت على شاطئ بحر اسمه البحر الرمادي.
وقد امتازت بأنها أفضل مكان للاستجمام والاستمتاع في ياقوتة كلها؛ بسبب جوها العليل، وإطلالتها على المناظر الخلابة على البحر الرمادي، وامتلائها بالشجر والخَضَار، إضافة لتميزها بجمال عمرانها، وبترف أهلها.
لكل هذا، أحب الأخوان الأميران الإقامة في هذه المدينة، وألحا على والدهما بأن يسمح لهما أن يقيما فيها معظم الوقت، وقد وافق؛ فقد أحبهما أكثر من أي شيء آخر؛ لأنهما وحيداه من الذكور.
وبهذا اعتادا على الإقامة فيها معظم السنة، بينما زارا والدهما وزارا أفراد عائلتهما في بهيرة بين الحين والآخر، وكذا زارهما أبوهما في بحران بين الحين والآخر.
***
بعد اندلاع ثورة البقاء، والقضاء على المعسكر الضخم، وثورة الناس في المدن والقرى المحتلة ضد جنود ياقوتة، انضم المقاتلون الذين أشعلوا الثورة في المناطق المحتلة إلى جيش الثورة
الرئيس الذي قضى على معسكر ياقوتة الضخم. وبهذا بات الجيش يضم عددا هائلا من المقاتلين.
توقع الجميع أن يزحف جيش الثورة شرقا باتجاه بهيرة عاصمة ياقوتة. لكن على عكس المتوقع، اتجه الجيش نحو الشمال الشرقي نحو مدينة بحران.
وفي طريقهم إلى هناك، خاضوا عدة معارك ضد جنود ياقوتة الذين إما حاولوا اعتراض مسيرة جيش الثورة، أو أقاموا في معسكرات صغيرة على الطريق إلى بحران.
وفي هذه المعارك، أبدع الزبير والمغيرة والقائد جاسم والأمير ريان. لكن الأكثر إبداعا في كل جيش الثورة، كان العمداء الثلاثة صلاحا وبهاءً والمعتصم. فقد أبدوا شجاعة وقوة وبراعة في القتال،
فاقوا فيها الجميع دون استثناء.
***
وصل ثوار البقاء إلى مدينة بحران خلال ثلاثة أيام فقط، وحاصروها من كل جانب. ورغم أن الملك حازما لما علم بنبإ محاصرتهم لبحران، أرسل قوة كبيرة باتجاهها، إلا أن تلك القوة لم تتمكن
من الوصول في الوقت المناسب بسبب بعد بحران عن بهيرة عاصمة ياقوتة. لا سيما بعد تدمير معسكر ياقوتة الغربي من قبل الثوار، والذي كان قريبا جدا من بحران.
أحيطت بحران بسور شكل حاجزا أمام الثوار لاقتحامها.
حاصر الثوار المدينة ستة أيام وقد انتظروا خروج مقاتلي بحران لقتالهم مما سيسهل مهمتهم لا سيما وأن عددهم يفوق بعشرات الأضعاف عدد مقاتلي بحران، ولكن ذلك لم يحدث. فالأمير
إيهاب الابن الأكبر للملك حازم، والذي كان يحكم بحران آنذاك، كان يبلغ من العمر سبعة عشر عاما فقط! وقد احتل الخوف قلبه عندما حاصر الثوار بحران، وأرسل عشرات الرسائل لوالده
بواسطة الحمام الزاجل يطلب منه مساعدته من خلالها لكن دون فائدة. ورغم أن بعض مستشاريه وبعض كبار القادة في بحران أشاروا عليه بالخروج للقاء الثوار؛ فقد أحجم عن ذلك من شدة الخوف،
وتمنى أن يحميه السور المحيط بمدينته، أو لعل معجزة ربانية تحدث فتنجيه من الهلاك، وقد تحدث معجزة ما توصل جيش أبيه لنجدته.
ولما يئس الثوار من خروج الأمير ومقاتليه إليهم، قرروا اقتحام بحران.
وكما اعتاد الزبير دوما قبل كل معركة، اتجه إلى سليم للحديث معه.
"إياك أن تهجم مع الثوار على بحران" قال الزبير.
ثم قال: قيمتك وأنت حي أهم بكثير من مشاركتك بالقتال.
وأضاف: أنت ابني، يا سليم. وثاني من أحب في هذا العالم بعد ابن أخي سهيل. لمّا يرزقني الله بأولاد بعد، لكنكما ولداي.
بالفعل كانت هذه مشاعر الزبير الحقيقية الصادقة دون مبالغة أو تهويل.
فرح سليم كثيرا بما سمعه؛ فقد أحب الزبير كثيرا وشعر بمشاعر البنوة تجاهه. فلطالما شعر بفراغ كبير بعد مقتل أبيه القائد الهيثم، ولطالما دعا الله أن يسد له هذا الفراغ، وقد استجاب الله لدعوته بأن جعل الزبير يحبه كابن له.
وكالعادة أمر الزبير حراس سليم من فرقة الزنوج بأن يحموه بعيونهم.
وكالعادة كذلك اتجه الزبير إلى أمين، وقال له: أمين، مهما حدث، مهما شاهدت اختلاط الحابل بالنابل، مهما اشتعلت الحماسة بداخلك، إياك أن تتهور وتشارك في القتال... أنت حيّا أهم منك بكثير ميتا.
امتعض أمين من كلام الزبير؛ لأنه كعادته تمنى أن يفتدي البقاء بروحه، ولكنه أذعن لكلماته؛ لأنه أدرك أن ذلك ضروري لتنفيذ خطة الزبير لتحرير البقاء.
وكما فعل مع حراس سليم، أمر الزبير حراس أمين من فرقة الزنوج أن يحموه بعيونهم.
لقد كان سور بحران قليل الارتفاع يسهل اقتحامه، كما أن الفارق الشاسع بين عدد مقاتلي البقاء ومقاتلي بحران، جعل الزبير يقرر أن يضحي بأي عدد من مقاتليه في سبيل اقتحام بحران.
هجم الثوار على بحران وبدأ الرماة المتجمعون أعلى سورها يرمونهم بالسهام، واصطادوا عددا كبيرا من الثوار، لكن الثوار لم يتراجعوا حتى وصلوا السور، فاستخدموا جذعا ضخما من الخشب
لكسر بوابة بحران الضخمة السميكة محكمة الإغلاق. في حين جعل كثير منهم يسندون سلالم خشبية على جدران بحران ويتسلقونها للوصول إلى أعلى السور. وضمن هؤلاء المهاجمين
كان الزبير والمغيرة والأمير ريان والعمداء الثلاثة بهاء وصلاح والمعتصم والقائد جاسم؛ فلم يكونوا ليوفروا حياتهم ويحرموا البقاء من تضحياتهم في سبيلها.
وفي النهاية نجح عدد من الثوار في الوصول إلى أعلى السور وبدؤوا يقتلون رماة بحران حتى قتلوهم جميعا. وهذا سهل مهمة الثوار الذين في الأسفل فتمكنوا من كسر بوابة بحران باستخدام
الجذع الخشبي.
اقتحم الثوار بحران، وجعلوا يقتلون كل مقاتل يجدونه فيها دون رحمة، فهذه تعليمات قائدهم العسكري جاسم، بناء على توصيات الزبير للملك الهارب؛ فكل خطوة في الثورة كانت بتخطيط الزبير
المحنك وتدبيره.
ومع هذا العنف والقتل، وأخذاً بعين الاعتبار كثرة عدد الثوار مقارنة بمقاتلي بحران، دب الرعب في قلوب مقاتلي المدينة، فزاد القتل فيهم، وبدأت هزيمتهم تتجلى.
وأثناء المعركة اقترب الزبير والمغيرة والقائد جاسم والأمير ريان والعمداء الثلاثة بعضهم من بعض. وقد كانوا أقوى من في المعركة ومن الطرفين. وأثناء القتال وبينما الزبير يقاتل أحد المقاتلين،
اقترب منه مقاتل آخر، واجتمعا عليه. ولكنه كان أقوى منهما، وجعل يوجه الضربات لكليهما بقوة شديدة، بينما تفادى ضرباتهما برشاقة عالية. وقد تعاظم الغيظ في نفسي المقاتلين، وطفقا يبذلان
أقصى الجهد، وأثناء قتالهما مع الزبير، ضرب أحدهما بسيفه بقوة شديدة يقصد وجه الزبير. تراجع الزبير للخلف، وأرجع وجهه للخلف محاولا تفادي الضربة، لكن طرف السيف نجح في
ضرب وجهه حتى جرح خده الأيمن من أعلاه إلى أسفله، وشرع الدم يسيل غزيرا أحمرَ قاتما من الجرح. فتعاظم الغضب في صدر الزبير حتى بلغ أوجه، ووصلت الحماسة فيه أقصاها،
فصرخ بكل قوته حتى دب الرعب في قلبي المُقَاتِلَينِ، وضرب الزبير بسيفه سيف المقاتل، فأزاحه جانبا، ثم أمسك الزبير مقبض سيفه بكفيه الاثنتين، وغرز سيفه في بطن المقاتل الذي
جرحه حتى خرج من ظهره. وفي هذه الأثناء، ضرب المقاتل الآخر بسيفه يقصد رأس الزبير، لكن الأخير تفادها، ثم ضرب عنق غريمه بخنجره – الذي استله بسرعة خاطفة - فشقه.
كل هذا حدث أمام المغيرة أشد الناس قوة في البقاء كلها – حسب وجهة نظر الكثيرين-، فتفاجأ جدا من قوة الزبير وشدته، رغم الجرح الذي سيترك ندبا على وجهه أبد الدهر.
"والله إن الزبير لمثلي في القوة أو... حتى قد يكون أقوى" صارح المغيرة نفسه.
واستمرت المعركة، واتجه الثوار إلى القصر حيث يقيم الأميران إيهاب وسامح، وجعلوا يقاتلون المقاتلين وحرس الأميرين هناك، فلم يذروا منهم أحدا حيا، وظلوا يبحثون عن الأميرين مدة طويلة،
حتى نجحوا في النهاية في أسرهما حيين؛ فهذه توصيات الزبير، وأهم نقطة في خطته: أن يُقبض على الأميرين حيين، وألا يقتلا مهما كلف الأمر.
بعد انتهاء المعركة بنصر الثوار الساحق، كان العمداء الثلاثة بهاء وصلاح والمعتصم والمغيرة والقائد جاسما والزبير قريبين بعضهم من بعض.
وحينئذ ما زال الدم يسيل من الجرح في وجه الزبير أحمر قاتماً غزيرا، حتى سال على ثوبه وملأه، ورغم ذلك جعل يهنئ الثوار الذين حوله ويثني عليهم.
وفجأة هنأ أحد الثوار المارين، فأمسكه الثائر من كتفيه، وصرخ: أنت وحش، ولست إنسانا، أيها الزبير.
ابتسم الزبير ابتسامة خفيفة، رغم الجرح والدم النازف منه بغزارة، ثم صرخ قائلا للثائر: بوركت، وبوركت البقاء.
تفأجأ العمداء الثلاثة، والقائد جاسم، والمغيرة، والأمير ريان، مما رأوه من ثبات الزبير رغم ما حدث، حتى إن المغيرة أنشأ يفكر: "كيف يضحك هكذا رغم الندب الذي سيبقى على وجهه
وسيشوهه أبد الدهر؟!"
اقترب المغيرة من الزبير، وتبادلا التهنئة والثناء حتى سأل المغيرة متعجبا: يبدو أنك لم تتأثر بأن المعركة ستترك على وجهك ندبا لن يبرأ أبدا؟!
قال الزبير: هذا الندب لا شيء.
ثم تنهد وأضاف: في قلبي ندوب أكبر بكثير، وقد تعودت على الندوب.
زاد تعجب المغيرة من إجابة الزبير، وعرف أن الأخير إنسان مختلف عن البقية.
***
بعد القبض على الأميرين، وبعد احتلال بحران من قبل الثوار، وبناء على توصيات الزبير، أمر قائد الثوار جاسم بجمع من يمكن جمعهم من أهل بحران أمام قصر الأميرين. وحضر الملك الهارب
إذ جلس على كرسي عظيم، وحضر ابنه الأمير ريان، وكذا الزبير والمغيرة وأمين وسليم والعمداء الثلاثة.
وجِيء بالأميرين إيهاب وسامح، وقد كانا أشقرين ذَوَي عيون زرقاء. كان لإيهاب شعر وجه مهذب أشقر اللون، في حين خلا وجه أخيه من أي شعر.
الأميران اليافعان افتقدا للخبرة وللشجاعة؛ واجتاحهما الرعب.
وقد زاد الطين بلة، عندما أمر القائد جاسم بإحضار كل من أُسر من مقاتلي بحران، ثم أمر بوضعهم أمام الناس جمعا بعد جمع، وبقطع رؤوسهم جميعا.
وتمت عمليات الإعدام، بربط رأس كل أسير وذراعيه بحبال غليظة، على قطع خشب توضع على الأرض، ثم قطع رؤوسهم بسيوف حادة.
تكرر المشهد المرعب أمام الحضور، واجتاح الخوف قلوب أهل بحران، بينما كلا الأميرين قاربت روحه على مغادرة جسده رعبا.
بعد أن انتهوا من إعدام الأسرى جميعا دون ترك أي منهم، أمر القائد جاسم بإحضار الأمير إيهاب، وبعد ذلك أمر بقطع رأسه.
جعل الأمير يرتجف بطريقة جنونية، ويرجو القائد، لكن دون جدوى، فقطعت رأسه وسال الدم أحمر قاتما أمام الجميع. وأحس أخوه الصغير الأمير سامح برعب، لو تقاسمه أهل البسيطة جميعا ما احتمله
واحد منهم، وجعل يرتجف هو الآخر ارتجافا جنونيا، بينما استعد لمصافحة عزرائيل؛ إذ ظن أنه التالي بعد أخيه.
وقد ظن ذلك أيضا الحاضرون من أهل بحران، لكن للعجب، لم يأمر القائد جاسم بقطع رأس الأمير الصغير بل تركه حيا.
لقد أراد الزبير من كل هذا، بث الرعب في أهل ياقوتة، لا سيما في قلب ملكها حازم، وبالتالي إجباره على الرضا بطلبات الزبير لاحقا. لقد اتسم أهل البقاء بالمروءة والأخلاق، لكنهم اجتنبوها في
تعاملهم مع أسرى ياقوتة وأميريها؛ لأن جيش ياقوتة من ابتدأ الأمر بجرائمه المتتابعة ضد البقاء، والبادئ أظلم، وقد وجب الانتقام.
بعدها أرسل الملك الهارب إلى ملك ياقوتة حازم رسالة، مفادها أنه يجب عليه أن يوقع معاهدة معه، ينسحب فيها من أراضي البقاء التي تحتلها ياقوتة، بل يجب أن ينسحب إلى حدود أبعد من حدود
البقاء قبل الحرب المقيتة. وأعلمه فيها أنه إن لم يوقع المعاهدة خلال أسبوعين، فسيقتلون ابنه الأصغر.
وبالفعل، حدث ما توقعه ملك البقاء ومؤيدوه؛ إذ وافق الملك حازم على مطالبهم، ووقع المعاهدة، وسحب مقاتليه كلهم من أراضي البقاء التي يحتلها، وعسكر جيشه على الحدود الغربية مع البقاء،
بل وأعطى البقاء أراضي أكثر مما كنت تملكه قبل الحرب المقيتة، تنفيذا لأوامر الملك الهارب. وبعد ذلك، نفذ الملك الهارب وعده، وأرسل الأمير سامحاً الصغير إلى أبيه. وهكذا أدب ملك البقاء وثوارها ملك ياقوتة وأهلها شر تأديب، وانتقموا منهم شر انتقام، وهكذا أيضا تحررت الأجزاء الشرقية من البقاء، أخيرا بعد سنوات قاسية كثيرة.
طيلة السنوات الكثيرة التي سبقت الثورة، درس الزبير أعداء البقاء جيدا، حتى توصل لأفضل خطة ممكنة للانتصار عليهم. لقد عرف جيدا أنه بعد أن يتم القضاء على معسكر ياقوتة شرق البقاء،
سيكون من الجنون الزحف شرقا باتجاه بهيرة عاصمة ياقوتة كما يتوقع الجميع. وذلك لأن جيش الثوار سيكون مفتقدا للتدريب والتنظيم والانسجام، على العكس تماما من جيش ياقوتة. كما أن جيش
الثوار يجب أن ينتصر دون أن يتكبد خسائر كثيرة؛ فلاحقا سيزحف غربا باتجاه جيش الهيجاء، في الوقت الذي سيفتقد فيه عنصر المفاجأة الذي امتلكه عندما هاجم جيش ياقوتة.
لذلك كان لا بد له من إيجاد خطة بديلة. ومن دراسته لملك ياقوتة، بحث عن أكبر نقاط ضعفه، فوجد أنها ابناه الأميران، اللذان كانا وحيداه، وقد أشيع عن ملك ياقوتة أنهما أكثر من يحب في العالم كله.
بعد تأكد الانتصار على ملك ياقوتة، التقى الزبير بأعز أصدقائه قيس.
قيس البدوي الذي كان حبيس بادية قاسية منذ الصغر، والذي لم يألف معاشرة الملوك، لم يصدق أنه في يوم ما، تمكن بدوي مثله من مصاحبة الملوك، وتمكن من تركيع ملك – أي ملك ياقوتة -
على ركبتيه.
"لا أصدق ما يحدث أمام عيني" قال قيس، وأضاف: أنت أسطورة أيها الزبير!... أنت أسطورة لا مثيل لها!
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي