25
بعد احتلال الثوار لبحران، أقام كبار الثوار كالملك الهارب والأمير ريان، والزبير والمغيرة وسليم وأمين في القصر الذي كان يقيم فيه الأميران أمير وسامح. أما بقية الثوار فقد أقاموا في مناطق مختلفة
من المدينة.
وأما القصر فقد كان جميلا جدا، فاخرا جدا، يسر الناظرين، مبنيا من الحجارة الزرقاء الداكنة الثمينة، وغطى أرضيته وسقفه وجدرانه الرخام الفاخر ذو اللون الأزرق الداكن، وانتشرت التحف الذهبية
والكراسي والطاولات الذهبية في كل أرجائه.
وبعد توقيع ملك ياقوتة على المعاهدة مع الملك الهارب، وبينما الثوار جميعا ومن بينهم الزبير ما زالوا يقيمون في بحران، جلس الزبير في إحدى غرف القصر.
فإذا بباب الغرفة يُطرق.
قام الزبير ففتحه، فإذا به بضيف لم يتوقعه أبدا.
قالت حورية: مرحبا.
بعد تدمير الثوار لمعسكر ياقوتة شرق البقاء، وبدء زحفهم نحو بحران، أصرت حورية على الالتحاق بمعسكر الثوار، فما كان للمغيرة – كعادته معها – سوى أن يوافق على طلبها. فقد اعتبرت نفسها جزءا ضروريا لنجاح خطة تحرير البقاء. وهكذا التحقت بمعسكر الثوار، وكلما وقعت معركة، ظلت في مؤخرة المعسكر؛ حفاظا على حياتها؛ فهي لا تستطيع القتال. وظلت تسير مع الثوار كلما ساروا
إلى أن احتلوا بحران، فدخلتها معهم.
وكأي رجل يراها، أذهل الزبير من شدة جمالها ومدى إثارتها.
ورغم شدته المعهودة عليه، ارتبك، لكنه سرعان ما قال: أهلا بك.
ابتسمت ابتسامة مثيرة، ثم قالت: هل لي أن أحادثك قليلا؟
فقال الزبير: بالطبع...
ثم أضاف: تفضلي بالدخول.
وتساءل ما الذي تريده منه.
فتح الباب، فدخلتْ إلى الغرفة ثم تبعها.
ثم قال لها وهو يشير إلى كرسي في الغرفة: تفضلي بالجلوس.
فجلست، بينما ظل واقفا احتراما لها؛ فرغم أنه رجل من البادية لم يعتد مخالطة النساء إلا أنه وقّر النساء واحترمهن أشد احترام، لا سيما إن كن بمنزلة حورية.
ابتسمتْ ابتسامة مثيرة من جديد، ثم قالت: لا عليك، اجلس.
تفاجأ من جرأتها ومبادرتها بالحديث، فنساء عهده لم يعتدن التصرف هكذا!
جلس على السرير الذي في الغرفة.
من جديد ابتسمت ابتسامة مثيرة واسعة، كشفت عن أسنانها ناصعة البياض المصفوفة كحبات لؤلؤ في عقد، ثم قالت: كيف حالك؟
من جديد، استغرب من جرأتها ومبادرتها بقيادة دفة الحديث، وظل يستغرب كل مرة بادرت فيها حورية لما تبقى من الحديث بينهما.
"أنا بأتم خير" قال.
ثم أضاف: في حقيقة الأمر، أنا في قمة السعادة... لا سيما بعد نصرنا وتحقيقنا ما حققناه.
ولأول مرة بادر بالحديث وقال: وأنتِ، كيف حالك؟
ازدادت ابتسامتها اتساعا، كأنها كانت تنتظر السؤال، ثم أجابت: أنا أسعد منك، أيها الزبير.
قالت اسمه بنعومة ودلال وإثارة لم ير مثيلا لهم في حياته، مما جعله يرتبك من جديد.
ثم أكملت: ما حققناه أمر من الخيال لم يتوقعه أحد قط.
وليكسر الارتباك، وكذلك ليوفي ضيفته حقها، قام وسكب عصيرا من إبريق في كأس.
"تفضلي" قال وهو يعرض الكأس عليها.
وبينما حافظت على ابتسامتها، أخذت الكأس من يده، وطفقت تشرب ببطء.
ظل واقفا من جديد، فقالت له: اجلس.
فجلس.
ثم قالت: كم استغرقك التخطيط لكل هذا؟
أجاب: سنوات... تنهد ثم أضاف: سنوات كثيرة.
"لا عليك، الإنسان مهما عانى فبالنهاية بعد تحقيق مراده ينسى كل معاناته" قالت.
استغرب من كلامها؛ فهو لم يتوقع حكمة كهذه من امرأة كل ما يفكر به المرء وهو يحادثها، هو إثارتها الطاغية التي تنبعث منها واضحة.
"صحيح" ردًّ.
ثم قالت: في حقيقة الأمر، لقد أتيت، أيها الزبير، لأشكرك على كل هذا. لولاك ما تحقق أي جزء من هذا الحلم الذي حلمناه جميعا، نحن أهلَ البقاء، لسنوات كثيرة.
"شكرا" قالت بصوت ملؤه الإثارة والغَنْج.
رد الزبير المرتبك من جديد: العفو.
شربت من العصير، ثم قالت: أنا لم أقابل قط رجلا مثلك. لم أر رجل بمثل هذا الذكاء، وبمثل هذه القوة، وبمثل هذه الشخصية والإصرار من قبل، والأدهى أنك تجمع كل هذه الصفات معا.
زاد ارتباكه، وسكت قليلا، ثم استجمع قوته وقال: شكرا... لك... هذا واجبي تجاه وطني.
ابتسمت من جديد ابتسامة قمة في الإثارة، ثم وضعت الكأس جانبا، وقامت، فقام الزبير.
ثم قالت: ائذن لي.
فقال: تفضلي.
سارت باتجاه الباب، فأسرع وفتحه لها، فخرجت ثم التفت، وقالت: مع السلامة.
فرد: مع السلامة.
رحلت، بينما أغلق الباب وعاد إلى الغرفة، وجلس على السرير.
جعل الزبير المرتبك، يتفكر في كل ما حدث، ولماذا جاءته ولماذا أخبرته بكل هذا.
منذ بداية الحديث حاول تجنب النظر إليها؛ احتراما لصديقه المغيرة وتفاديا للنظر إلى امرأة تحادثه، مما عُد سوء خلق في ذلك العصر والمكان. ولكن مع مرور الوقت، لم يستطع وهو يسمع صوتها
الرقيق الممتلئ بالدلال والإثارة، سوى أن يوزع نظراته على وجهها وجسدها الجميلين. وظل كذلك طيلة حديثه معها. وفي الواقع، لم يكن وحده من يفعل ذلك، فالغالبية العظمى من الرجال فعلوا الشيء
نفسه عندما حادثوها، فقد كانت واحدة في الألف!
وبعد رحيلها، احتل الزبير شعور عارم بالذنب؛ لأنه أحس أنه أساء بطريقة أو بأخرى لصديقه المغيرة، الذي لولا مساعدته الحاسمة، ما تحققت وما نجحت خطة الزبير. وتمنى لو أنه يستطيع أن يعتذر
له بأية طريقة.
***
أتم ملك ياقوتة الانسحاب من أراضي البقاء، بل إنه انسحب من بعض الأراضي التي لم تتبع لملوك البقاء قبل الحرب المقيتة، وهذا بناء على الاتفاق مع الملك الهارب.
وهذا أفرح كل من شاركوا بالثورة من أقل مشارك فيها إلى أعظم مشارك، لا سيما الملك الهارب، خاصة بعد تحرير المعتزة عاصمة البقاء، إذ ذهب الملك إليها ودخل القصر الذي عاش فيه في صغره
. منظره وهو يدخله ويسير في رحابه الواسعة اقترب من منظر رجل يرى الجنة!
وقد صحب الملكُ الهاربُ إلى قصره، إضافة إلى عائلتِه وابنِه الأميرِ ريانٍ كلا من: الزبير والمغيرة وزوجه وأمين وزوجه وجاسم وابنه عاصم، وسليم. وجعلهم الملك يقيمون فيه تكريما لهم على الحدث
العظيم، الذي لم يكن لينجز لو غاب أي منهم.
ولفرحة الملك الهارب العظيم، زاد ثناؤه على الزبير وشكره له، حتى ظن الزبير أن الملك لا يفعل شيئا سوى شكره.
وأثنى الملك كذلك على العمداء الثلاثة بهاء وصلاح والمعتصم، ونشر رسالة شكر لهم في المملكة كلها.
"ولكن لماذا لم يعين أحدهم قائدا عاما على الجيش بدلا من جاسم، رغم أن كل واحد منهم أقوى منه جسديا، وأخبر منه في القيادة والتخطيط والأمور العسكرية؟!" سؤال تبادر لذهن الكثيرين من أهل البقاء.
والإجابة هي أن الملك ظل واضعا في ذهنه أنهم – ورغم كل ما قدموه سواء قبل سنوات كثيرة أو في الثورة - ذات يوم هربوا من ساحة الوغى وفضلوا أرواحهم على مصلحة البقاء. شكل ذلك نقطة
سوداء على لوح إنجازاتهم الأبيض، غفرها الملك لكنه لم ينسها.
العمداء الثلاثة كانوا الأقوى في القتال في الثورة، حتى أقوى من الزبير والمغيرة! وكانوا أقوى بفارق كبير مقارنة بغيرهم. لهذا كله عرفهم أهل البقاء جميعا، ولقبوهم "الثلاثة الأقوياء".
***
ذات صباح جلس الزبير يتناول الفطور في ركن أمام غرفته في قصر الملك الهارب، حيث كانت الكراسي الثمينة المطلية حوافها بالذهب، وطاولة ثمينة عليها الكثير مما لذ وطاب من الطعام والشراب،
وقد أحاطت به الجميل من الشجر والورد من كل ناحية، وقد أطل ذلك الركن على فناء القصر حيث تحرك الخدم والحرس في كل اتجاه، وأطل على السماء كذلك. وقد وقف حول الزبير عدد كبير
من الخدم الذين خصصهم الملك الهارب لخدمته.
وبينما الزبير على حاله هذا، أتى أمين.
سر الزبير حالما رآه.
قال أمين: أتأذن لي أن أجالسك؟
سر الزبير، كما حدث له كلما حادثه أمين بأدبه المعهود.
ابتسم الزبير وقال: بالتأكيد، تفضل، يا صديقي.
جلس أمين، فقال الزبير: تفضل بالأكل.
فرد أمين بأدبه المعتاد: لا، شكرا لك.
فأصر الزبير: قلت لك: كل، يا رجل.
فبدأ أمين يأكل ويشرب وواصل الزبير أكله وشربه.
وجعلا يتحادثان، وسأل أحدهما الآخر عن حاله وحال أهله، حتى قال أمين بصوته الهادئ: أيها الزبير، أريد أن أخبرك شيئا.
فسأل الزبير: وما هو؟
فأجاب أمين: أريد أن أبدي لك إعجابي العظيم بك.
سر الزبير كثيرا، بينما أكمل أمين: أنا لم أر قط رجلا مثلك.
سكت قليلا ثم أكمل: لقد حققت كثيرا من أحلام أهل البقاء، وقريبا ستحقق كل أحلامهم بلا استثناء.
زاد سرور الزبير، بينما أكمل أمين: أنت أعز صديق لي...
ارتبك وسكت قليلا ثم أكمل: وأنا مستعد لأن أفديك بروحي.
لقد صدق أمين فيما قاله؛ فبالفعل أحب الزبير حبا لا حدود له رغم صغر مدة معرفته به.
بلغ سرور الزبير أقصاه بهذه الكلمات، وأيقن أنه اكتسب صديقا لا مثيل له.
ابتسم ابتسامة عريضة، ثم قال: شكرا لك، يا أمين، أنت لا تعلم مدى سروري بكلامك.
نظر بإمعان إلى أمين وأكمل: وأنا أعدك أنني سأفديك بروحي إذا تطلب الأمر.
فرح أمين بكلام الزبير فرحا جما، وأكمل الاثنان جلستهما معا...
***
من المدينة.
وأما القصر فقد كان جميلا جدا، فاخرا جدا، يسر الناظرين، مبنيا من الحجارة الزرقاء الداكنة الثمينة، وغطى أرضيته وسقفه وجدرانه الرخام الفاخر ذو اللون الأزرق الداكن، وانتشرت التحف الذهبية
والكراسي والطاولات الذهبية في كل أرجائه.
وبعد توقيع ملك ياقوتة على المعاهدة مع الملك الهارب، وبينما الثوار جميعا ومن بينهم الزبير ما زالوا يقيمون في بحران، جلس الزبير في إحدى غرف القصر.
فإذا بباب الغرفة يُطرق.
قام الزبير ففتحه، فإذا به بضيف لم يتوقعه أبدا.
قالت حورية: مرحبا.
بعد تدمير الثوار لمعسكر ياقوتة شرق البقاء، وبدء زحفهم نحو بحران، أصرت حورية على الالتحاق بمعسكر الثوار، فما كان للمغيرة – كعادته معها – سوى أن يوافق على طلبها. فقد اعتبرت نفسها جزءا ضروريا لنجاح خطة تحرير البقاء. وهكذا التحقت بمعسكر الثوار، وكلما وقعت معركة، ظلت في مؤخرة المعسكر؛ حفاظا على حياتها؛ فهي لا تستطيع القتال. وظلت تسير مع الثوار كلما ساروا
إلى أن احتلوا بحران، فدخلتها معهم.
وكأي رجل يراها، أذهل الزبير من شدة جمالها ومدى إثارتها.
ورغم شدته المعهودة عليه، ارتبك، لكنه سرعان ما قال: أهلا بك.
ابتسمت ابتسامة مثيرة، ثم قالت: هل لي أن أحادثك قليلا؟
فقال الزبير: بالطبع...
ثم أضاف: تفضلي بالدخول.
وتساءل ما الذي تريده منه.
فتح الباب، فدخلتْ إلى الغرفة ثم تبعها.
ثم قال لها وهو يشير إلى كرسي في الغرفة: تفضلي بالجلوس.
فجلست، بينما ظل واقفا احتراما لها؛ فرغم أنه رجل من البادية لم يعتد مخالطة النساء إلا أنه وقّر النساء واحترمهن أشد احترام، لا سيما إن كن بمنزلة حورية.
ابتسمتْ ابتسامة مثيرة من جديد، ثم قالت: لا عليك، اجلس.
تفاجأ من جرأتها ومبادرتها بالحديث، فنساء عهده لم يعتدن التصرف هكذا!
جلس على السرير الذي في الغرفة.
من جديد ابتسمت ابتسامة مثيرة واسعة، كشفت عن أسنانها ناصعة البياض المصفوفة كحبات لؤلؤ في عقد، ثم قالت: كيف حالك؟
من جديد، استغرب من جرأتها ومبادرتها بقيادة دفة الحديث، وظل يستغرب كل مرة بادرت فيها حورية لما تبقى من الحديث بينهما.
"أنا بأتم خير" قال.
ثم أضاف: في حقيقة الأمر، أنا في قمة السعادة... لا سيما بعد نصرنا وتحقيقنا ما حققناه.
ولأول مرة بادر بالحديث وقال: وأنتِ، كيف حالك؟
ازدادت ابتسامتها اتساعا، كأنها كانت تنتظر السؤال، ثم أجابت: أنا أسعد منك، أيها الزبير.
قالت اسمه بنعومة ودلال وإثارة لم ير مثيلا لهم في حياته، مما جعله يرتبك من جديد.
ثم أكملت: ما حققناه أمر من الخيال لم يتوقعه أحد قط.
وليكسر الارتباك، وكذلك ليوفي ضيفته حقها، قام وسكب عصيرا من إبريق في كأس.
"تفضلي" قال وهو يعرض الكأس عليها.
وبينما حافظت على ابتسامتها، أخذت الكأس من يده، وطفقت تشرب ببطء.
ظل واقفا من جديد، فقالت له: اجلس.
فجلس.
ثم قالت: كم استغرقك التخطيط لكل هذا؟
أجاب: سنوات... تنهد ثم أضاف: سنوات كثيرة.
"لا عليك، الإنسان مهما عانى فبالنهاية بعد تحقيق مراده ينسى كل معاناته" قالت.
استغرب من كلامها؛ فهو لم يتوقع حكمة كهذه من امرأة كل ما يفكر به المرء وهو يحادثها، هو إثارتها الطاغية التي تنبعث منها واضحة.
"صحيح" ردًّ.
ثم قالت: في حقيقة الأمر، لقد أتيت، أيها الزبير، لأشكرك على كل هذا. لولاك ما تحقق أي جزء من هذا الحلم الذي حلمناه جميعا، نحن أهلَ البقاء، لسنوات كثيرة.
"شكرا" قالت بصوت ملؤه الإثارة والغَنْج.
رد الزبير المرتبك من جديد: العفو.
شربت من العصير، ثم قالت: أنا لم أقابل قط رجلا مثلك. لم أر رجل بمثل هذا الذكاء، وبمثل هذه القوة، وبمثل هذه الشخصية والإصرار من قبل، والأدهى أنك تجمع كل هذه الصفات معا.
زاد ارتباكه، وسكت قليلا، ثم استجمع قوته وقال: شكرا... لك... هذا واجبي تجاه وطني.
ابتسمت من جديد ابتسامة قمة في الإثارة، ثم وضعت الكأس جانبا، وقامت، فقام الزبير.
ثم قالت: ائذن لي.
فقال: تفضلي.
سارت باتجاه الباب، فأسرع وفتحه لها، فخرجت ثم التفت، وقالت: مع السلامة.
فرد: مع السلامة.
رحلت، بينما أغلق الباب وعاد إلى الغرفة، وجلس على السرير.
جعل الزبير المرتبك، يتفكر في كل ما حدث، ولماذا جاءته ولماذا أخبرته بكل هذا.
منذ بداية الحديث حاول تجنب النظر إليها؛ احتراما لصديقه المغيرة وتفاديا للنظر إلى امرأة تحادثه، مما عُد سوء خلق في ذلك العصر والمكان. ولكن مع مرور الوقت، لم يستطع وهو يسمع صوتها
الرقيق الممتلئ بالدلال والإثارة، سوى أن يوزع نظراته على وجهها وجسدها الجميلين. وظل كذلك طيلة حديثه معها. وفي الواقع، لم يكن وحده من يفعل ذلك، فالغالبية العظمى من الرجال فعلوا الشيء
نفسه عندما حادثوها، فقد كانت واحدة في الألف!
وبعد رحيلها، احتل الزبير شعور عارم بالذنب؛ لأنه أحس أنه أساء بطريقة أو بأخرى لصديقه المغيرة، الذي لولا مساعدته الحاسمة، ما تحققت وما نجحت خطة الزبير. وتمنى لو أنه يستطيع أن يعتذر
له بأية طريقة.
***
أتم ملك ياقوتة الانسحاب من أراضي البقاء، بل إنه انسحب من بعض الأراضي التي لم تتبع لملوك البقاء قبل الحرب المقيتة، وهذا بناء على الاتفاق مع الملك الهارب.
وهذا أفرح كل من شاركوا بالثورة من أقل مشارك فيها إلى أعظم مشارك، لا سيما الملك الهارب، خاصة بعد تحرير المعتزة عاصمة البقاء، إذ ذهب الملك إليها ودخل القصر الذي عاش فيه في صغره
. منظره وهو يدخله ويسير في رحابه الواسعة اقترب من منظر رجل يرى الجنة!
وقد صحب الملكُ الهاربُ إلى قصره، إضافة إلى عائلتِه وابنِه الأميرِ ريانٍ كلا من: الزبير والمغيرة وزوجه وأمين وزوجه وجاسم وابنه عاصم، وسليم. وجعلهم الملك يقيمون فيه تكريما لهم على الحدث
العظيم، الذي لم يكن لينجز لو غاب أي منهم.
ولفرحة الملك الهارب العظيم، زاد ثناؤه على الزبير وشكره له، حتى ظن الزبير أن الملك لا يفعل شيئا سوى شكره.
وأثنى الملك كذلك على العمداء الثلاثة بهاء وصلاح والمعتصم، ونشر رسالة شكر لهم في المملكة كلها.
"ولكن لماذا لم يعين أحدهم قائدا عاما على الجيش بدلا من جاسم، رغم أن كل واحد منهم أقوى منه جسديا، وأخبر منه في القيادة والتخطيط والأمور العسكرية؟!" سؤال تبادر لذهن الكثيرين من أهل البقاء.
والإجابة هي أن الملك ظل واضعا في ذهنه أنهم – ورغم كل ما قدموه سواء قبل سنوات كثيرة أو في الثورة - ذات يوم هربوا من ساحة الوغى وفضلوا أرواحهم على مصلحة البقاء. شكل ذلك نقطة
سوداء على لوح إنجازاتهم الأبيض، غفرها الملك لكنه لم ينسها.
العمداء الثلاثة كانوا الأقوى في القتال في الثورة، حتى أقوى من الزبير والمغيرة! وكانوا أقوى بفارق كبير مقارنة بغيرهم. لهذا كله عرفهم أهل البقاء جميعا، ولقبوهم "الثلاثة الأقوياء".
***
ذات صباح جلس الزبير يتناول الفطور في ركن أمام غرفته في قصر الملك الهارب، حيث كانت الكراسي الثمينة المطلية حوافها بالذهب، وطاولة ثمينة عليها الكثير مما لذ وطاب من الطعام والشراب،
وقد أحاطت به الجميل من الشجر والورد من كل ناحية، وقد أطل ذلك الركن على فناء القصر حيث تحرك الخدم والحرس في كل اتجاه، وأطل على السماء كذلك. وقد وقف حول الزبير عدد كبير
من الخدم الذين خصصهم الملك الهارب لخدمته.
وبينما الزبير على حاله هذا، أتى أمين.
سر الزبير حالما رآه.
قال أمين: أتأذن لي أن أجالسك؟
سر الزبير، كما حدث له كلما حادثه أمين بأدبه المعهود.
ابتسم الزبير وقال: بالتأكيد، تفضل، يا صديقي.
جلس أمين، فقال الزبير: تفضل بالأكل.
فرد أمين بأدبه المعتاد: لا، شكرا لك.
فأصر الزبير: قلت لك: كل، يا رجل.
فبدأ أمين يأكل ويشرب وواصل الزبير أكله وشربه.
وجعلا يتحادثان، وسأل أحدهما الآخر عن حاله وحال أهله، حتى قال أمين بصوته الهادئ: أيها الزبير، أريد أن أخبرك شيئا.
فسأل الزبير: وما هو؟
فأجاب أمين: أريد أن أبدي لك إعجابي العظيم بك.
سر الزبير كثيرا، بينما أكمل أمين: أنا لم أر قط رجلا مثلك.
سكت قليلا ثم أكمل: لقد حققت كثيرا من أحلام أهل البقاء، وقريبا ستحقق كل أحلامهم بلا استثناء.
زاد سرور الزبير، بينما أكمل أمين: أنت أعز صديق لي...
ارتبك وسكت قليلا ثم أكمل: وأنا مستعد لأن أفديك بروحي.
لقد صدق أمين فيما قاله؛ فبالفعل أحب الزبير حبا لا حدود له رغم صغر مدة معرفته به.
بلغ سرور الزبير أقصاه بهذه الكلمات، وأيقن أنه اكتسب صديقا لا مثيل له.
ابتسم ابتسامة عريضة، ثم قال: شكرا لك، يا أمين، أنت لا تعلم مدى سروري بكلامك.
نظر بإمعان إلى أمين وأكمل: وأنا أعدك أنني سأفديك بروحي إذا تطلب الأمر.
فرح أمين بكلام الزبير فرحا جما، وأكمل الاثنان جلستهما معا...
***