26
كم ليلة - طيلة هذه السنوات الكثيرة – تألم الزبير، وحرمه الأرق من النوم، وهو يتذكر مشهد مقتل جده، وهو يتوق للانتقام من ملك الهيجاء، وهو يشعر بالخزي والعار والندم؛ لأنه ترك جده يُقتل
بينما فر من أرض المعركة!
كم كابوس - تكرر مرارا في ليالي لا تعد ولا تحصى- عن مشهد مقتل جده، وكم كابوس أتاه عن معاتبة جده له وسؤاله له كيف تركه يُذبح دون أن يسانده! تلك الكوابيس امتلأت بالدم الذي يسيل
من جسد جده، وملأت جوف الزبير رعبا رغم شدة قوته وبأسه!
امتلأت أيامه كلها بالتنغيص والألم؛ ولهذا كله وجب الانتقام، وبات الهاجس الأول الذي يشغل باله.
لم يكن تحرير الأجزاء الشرقية من البقاء ومحاربة ياقوتة النهاية، بل كان ذلك محطة في خطة الزبير، فقد كان لا بد من تحرير الغرب ومقاتلة الهيجاء.
لكن هذه المرة لم يكن الأمر وطنيا فحسب للزبير، بل شخصيا كذلك.
"إذا اشتعلت النار بداخله رغبة في الانتقام، لماذا إذاً بدأ بمحاربة ياقوتة قبل الهيجاء؟!"
هو لم يرد أن يقول الناس إنه يفضل مصلحته على مصلحة البقاء، ويفكر بنفسه أكثر منها، وعوضا عن الاتجاه شرقا لتحرير العاصمة المعتزة يتجه غربا لأسباب شخصية.
بالنسبة للحرب مع الهيجاء، افتقد ثوار البقاء عنصر المفاجأة الذي صب في مصلحتهم عندما قاتلوا ياقوتة؛ فلا بد وأن ملك الهيجاء علم - بعد ما حدث - أن الثوار سيقاتلونه عاجلا أم آجلا.
لهذا أدرك الزبير أنه لا بد من الصبر، لا سيما وأن الثوار يفتقدون الانسجام والتدريب والتنظيم الموجودين عند جيش الهيجاء.
لذلك بنى خطته على تأجيل قتال ملك الهيجاء ستة أشهر، بحيث يتدرب الثوار في هذه الفترة الطويلة جدا تدريبا كافيا، يستحيلون به جيشا نظاميا قويا منسقا منسجما.
***
خطة مثل الخطة التي وضعها الزبير، لا تحدث إلا مرة واحدة كل مئة عام أو حتى أكثر، وحتى إن حدثت فنسبة نجاحها قليلة كثيرا.
وعندما تضع خطة مثل هذه، فعليك أن تكون في أقصى درجات الحذر والترقب؛ لأن أي خطإ -مهما صغر - سيعني الفشل المدوي، وسيتبعها انتقام مدو وعقاب أليم من أعدائك.
كل هذا أدركه الزبير جيدا، لذا حاول دوما أن يتنبأ بالأمور قبل وقوعها وحاول أن يفكر بطريقة أعدائه حتى يعرف ردود أفعالهم، فهو أدرك جيدا أن أعداءه ليسوا تماثيل تتلقى اللكمات وتظل ساكنة،
بل هم كائنات حية ترد على أي شيء يحدث تجاهها.
فخلال الستة أشهر التي تلت الحرب مع ياقوتة، أمر الملك قصي بوضع الحشائش الكثيرة والكثيفة على كامل امتداد الحدود الطويلة جدا مع ياقوتة، وهدد بأنه سيحرقها إذا ما حاول جنود ياقوتة الهجوم
في أية وقت، كما أمر الملك بحفر الخنادق على الحدود مع ياقوتة، وأمر كذلك بمنع دخول أي أحد نهائيا منها إلى البقاء؛ خشية تسرب خلايا من الجواسيس والمقاتلين وتمركزهم داخل البقاء.
ورغم أن ذلك سيؤثر على حياة الناس في البقاء ومصالحهم وتجارتهم، لكن إبان تلك الفترة لم يكن كل ذلك مهما.
وكل هذه الإجراءات أوعز بها الزبير للملك، فقد خطط الأول لكل هذا منذ سنين بعيدة. وذلك لأنه أراد إرسال الغالبية العظمى من الثوار غربا لمقاتلة ملك الهيجاء، وأراد إبقاء قلة قليلة فقط مع حدود
ياقوتة شرقا؛ فقد احتاج كل جندي ممكن لهزيمة جيش الهيجاء. وقد توقع الزبير – رغم عدم وجود قرينة ملموسة – أنه حين يتوجه الثوار غربا فسينقض جيش ياقوتة في أية لحظة من الشرق.
***
بعد ما يزيد على الستة أشهر من التدريب المضني المكثف لثوار البقاء، حانت لحظة الحسم. توجه المقاتلون غربا باتجاه الهيجاء، ومنهم الغالبية العظمى من المقاتلين الذين تمركزوا شرقا على الحدود
مع ياقوتة. ولم يبقِ الملك سوى عدد قليل جدا، ليضرموا النار في الحشائش على الحدود، وليحاولوا تأخير جنود ياقوتة إذا ما حاولوا الغدر بالبقاء.
وتعمد الزبير أن يأتي الثوار من منطقة صحراء الكثبة على الحدود بين البقاء والهيجاء. لقد رمى الزبير من ذلك إلى إرسال رسالة لملك الهيجاء، أنه هو وراء كل هذا، ليقوي انتقامه المنشود أكثر وأكثر. كما أنه أراد الاستفادة من معرفته - وبدو الكثبة - بتلك المناطق التي لطالما استعصت على ملك الهيجاء، ولأن الزبير أراد أن يكون ظهر الجيش لأماكن سكنى أفراد قبائل الكثبة، حتى يتلقى أي
دعم قد يحتاجه من الباقين في ديار القبائل.
عسكر المقاتلون في الكثبة بالقرب من أرض قبيلة الأسد، بوجود الملك الهارب وابنه الأمير ريان والزبير والمغيرة وأمين وسليم والأقوياء الثلاثة. توجه الزبير بعد أن استقرت القوات إلى خيمة
الملك الهارب، ودخل عليه وحياه فرد الملك عليه التحية.
دخل خادم الملك، وضيف الملك كأس قهوة، ثم ضيف الزبير مثله.
طفق الملك يشرب، ثم طفق الزبير.
نظر الزبير إلى الملك، وقال: لي طلب عندك، يا مولاي.
فقال الملك: طلبك منفذ أيا كان، أيها الزبير.
فرح الزبير بكلام الملك الذي دل على محبته وثقته به، وقال: لقد حننت إلى دياري، وأريد أن أستأذنك لأغادر المعسكر وأزورهم.
ابتسم الملك، ثم قال مبتسما: وهل يحتاج مثل هذا إلى استئذان؟!
بادله الزبير الابتسام، ثم قال: شكرا، يا مولاي.
صب الخادم المزيد من القهوة للملك الذي شرع يشرب، ثم قال للزبير: وأنا لي طلب عندك، أيها الزبير.
استحى الزبير من كلام الملك، وقال فورا: طلباتك أوامر منفذة، يا مولاي.
فقال الملك: أريد أن آتي معك إلى دياركم أزورك وأهلك.
عبس الزبير، وحزن كثيرا، ونظر خجلا في الأرض ووجهه أسود، والتزم الصمت.
عرف الملك ما سبب كل هذا، فقبيلة الزبير كلها عاشت إبان فترة القائد عامر ثراء فاحشا، ثم انتقلت إلى الفقر المدقع، والزبير خجل أن يرى الملك مثل هذا الفقر، فينظر إليه نظرة ازدراء أو احتقار.
قال الملك بصوت هادئ: بني...
تفاجأ الزبير من مناداة الملك له بهذه الكلمة! وعانق خجله فرح عظيم، ونظر إلى الملك الذي أكمل: صحيح أنني ملك عاش فترة طويلة في الرخاء والغنى اللذين لا مثيل لهما لدى بقية الناس. لكنني لا أحكم على أرض أو قبيلة، من خلال مالهم أو ممتلكاتهم، بل أحكم عليهم بما في صدورهم، بشجاعتهم وإقدامهم ومروءتهم. وكفى فخرا للأسد أن لديهم رجلا مثل القائد العظيم عامر، ومثل الثائر الباسل...
سكت الملك، ثم أضاف: مثل الثائر الباسل الزبير.
زادت المفاجأة والفرحة في فؤاد الزبير من كلام الملك، وابتسم ابتسامة عريضة وتلاشى الخجل، ثم قال: زيارتك تشرفنا، مولاي.
فبادله الملك الابتسام، ثم قال: عندما تعتزم الرحيل، أعلمني.
"أمرك، مولاي" رد الزبير.
غادر الزبير وبعد ساعات عاد إلى الملك، وأنبأه عزمه الرحيل.
خرج الملك والزبير من الخيمة، وركب الملك جواده، وقال: هيا، أيها الزبير.
استغرب الزبير، فلا أحد من حراس الملك اعتلى جواده ليصطحبهما.
سأل الزبير متعجبا: ألن يصحبنا حرسك، يا مولاي؟!
ابتسم الملك، وأجاب مبتسما: أنت ابني، أيها الزبير. أنت تماما كابني ريان، ولا تقل منزلتك عندي عن منزلته... إن لم أثق بك وبقومك، فبمن سأثق؟!
فرح الزبير فرحة عارمة، وابتسم ابتسامة عريضة ثم ركب جواده.
كان القائد جاسم والقائد عاصم، ألحا إلحاحا شديدا على الملك بوجوب ذهاب الحرس معه إلى أرض الأسد؛ فالحرس لا يصح أن يفارقوه في أي مكان يذهب إليه أيا كان. ولكن الملك رفض رفضا قاطعا،
وغلظا في إلحاحهما، حتى بلغ بالملك أن نهرهما بعنف.
انطلق الفارسان نحو أرض الأسد حتى وصلاها، فخرج أهلها يرحبون أحر ترحيب بالزبير قائدهم العظيم، فرحب بهم ترحيبا مماثلا، وفرح فرحا عظيما برؤية أهله، ولكن فرحته تضاعفت أضعافا عندما رأى سهيلا أعز الناس على قلبه.
سهيل كان قد نما وكبر.
ترجل الزبير عن جواده، واحتضن سهيلا بعمق، وبادله الشاب الأحضان، ثم قبله الزبير، وسأل: كيف حالك، يا عزيزي؟
فأجاب: بأتم حال... لقد اشتقنا إليك.
فابتسم الزبير، وأجاب: وأنا اشتقت لكم شوق صحرائنا للغيث.
بالتأكيد لم يعرف الناس من هو الرجل المسن الذي اصطحبه الزبير إلى أرضهم.
وبينما ساد هرج ومرج بين القوم فرحا بعودة قائدهم ورمزهم، قال الزبير بصوت عالٍ: يا قوم...
فسكتوا جميعا وأنصتوا، وأكمل: لقد اصطحبت معي اليوم، رجلا هو أعظم رجل في بلادنا، بل في البسيطة كلها.
نظر الجميع بفضول إلى الرجل العجوز، ثم قال الزبير: أقدم لكم، جلالة الملك قصي.
"آاااااااه" قال أكثرهم، بينما اجتاحت المفاجأة وعدم التصديق وجوههم جميعا. فهؤلاء أهل الصحراء، الذين عانوا الأمرين بعد الحرب المقيتة، ها هو أعظم رجال البقاء يزورهم، الرجل الذي ظن جل
الناس أنه مات منذ زمن بعيد.
انحنى الجميع احتراما للملك، ومنهم الزبير.
فقال الملك: مرحبا بكم، يا شعبي العظيم.
فاستقاموا جميعا، وبدؤوا يرحبون بالملك فرادى وجماعات.
فقال الملك: أنتم قبيلة عظيمة، بل من أعظم أهل مملكتي. وقائدكم رجل عظيم... عظيم جدا. وعندما نحرر مملكتنا سيكون لكم شأن عظيم فيها.
احتلت الفرحة العارمة قلوبهم جميعا بمن فيهم الزبير، فرحة كادت تنسيهم سنوات الشقاء والضنك والمعاناة.
ركب الزبير جواده، وقال: ائذنوا لي أن آخذ الملك في جولة في أرضنا.
فأفسح القوم المجال للفارسين، وقادا جواديهما، بينما أرى الزبير الملك أرجاء أرض قبيلة الأسد. وبعد هذه الجولة وصل الفارسان دار الزبير، فترجل الفارسان، ثم قال الزبير: هذه داري، يا مولاي.
ثم أشار بيده إلى الدار، وقال: تفضل.
فتح الزبير باب الدار، ودخل الملك أولا ثم تبعه الزبير، حتى وصلا مجلس الضيوف، وهناك اسود وجه الزبير خجلا من تواضع المجلس.
لاحظ الملك ذلك وسرعان ما قال: أيها الزبير، ما بالك؟! هل نسيت كلامي في خيمتي ذلك اليوم؟! ألم أخبرك أنني أحكم على ما في داخل الناس لا على ما يملكونه؟!
عندها تلاشى خجل الزبير، وابيض وجهه، وقال وهو يشير إلى الأبسطة: تفضل، يا مولاي.
فجلس الملك، بينما ضيفه الزبير كأس قهوة، فطفق الملك يشرب، بينما ظل الزبير واقفا حتى أذن له الملك: اجلس، أيها الزبير.
اتسم الملك بتواضع مهول أثار استعجاب الزبير، فقد جلس على البساط البسيط رغم أنه أعظم أهل مملكة البقاء مترامية الأطراف.
فجلس الزبير وصب قهوة في كأس وطفق يشرب بدوره.
بعد مدة قال الملك: أنتم تعيشون حياة صعبة جدا، على عكس حياتكم إبان الشيخ الراجل جدك.
ثم شد بيده على فخذ الزبير، وقال: لكن لا تخف... كل هذا سينتهي قريبا... بفضلك أنت...
فرد الزبير: لا، يا مولاي. بل بفضلك أنت... أنا مجرد جندي واحد في جيش فيه الألوف.
تبادل الرجلان الحديث لمدة طويلة، حتى طرق باب دار الزبير.
خرج الزبير ليرى من على الباب، بينما ظل الملك جالسا بالداخل، وبعد مدة سمع الملك الزبير وهو يصرخ: قلتُ لك ارحل.
ثم عاد الزبير غاضبا إلى مجلس الضيوف.
"اعذرني، يا مولاي، على صراخي" قال الزبير.
"ما الذي حدث؟!" سأل الملك متعجبا.
فأجاب الزبير: لا شيء، يا مولاي. أمر تافه، فلا تشغل بالك.
فأصر الملك بحدة: قلت لك: ماذا حدث؟
عبس الزبير، ثم قال: ابن أخي يريد شيئا بإلحاح وقد رفضته.
فقال الملك: ابن أخيك، ذلك الذي احتضنته بعمق عندما دخلنا دار القبيلة؟!
قال الزبير: نعم.
ساد الصمت لمدة حتى قال الملك: طيلة سنيني الكثيرة، لم أشاهد رجلا يحتضن أحدا بمثل هذا العمق والمحبة. حتى الآباء... حتى الأمهات، لم أشاهد أحدا منهم يحضن ابنا له كما احتضنته... هذا الشاب هو أغلى أهل الأرض على قلبك.
"نعم، هو كذلك" قال الزبير.
فقال الملك: لكنك منعته من مقابلتي، رغم أنه طلب منك ذلك! أليس كذلك؟
استغرب الزبير كم كان الملك نبيها، وكيف عرف ما دار بينه وبين سهيل.
ثم قال الزبير: بلى، يا مولاي.
فقال الملك: اذهب واجلبه.
استغرب الزبير من جديد من تواضع الملك، ثم قال: أحقا، يا مولاي؟
"هل عهدتني أمازح الناس؟!" استنكر الملك، وأضاف: لقد أخبرتك أنت وعائلتك عائلتي، وابن أخيك حفيدي بما أنك ابني.
ابتسم الزبير ابتسامة عريضة، وانشرح صدره، وأسرع لإحضار سهيل الذي لا يحب أن يرفض له طلبا.
بعد مدة عاد الزبير مع سهيل الذي كاد يطير من الفرحة.
التزم الشاب الصمت من شدة الخجل.
قال الملك: اقترب، يا بني.
فاقترب منه سهيل ببطء وهو ينظر في الأرض خجلا، ولما دنا كثيرا من الملك احتضنه الملك بعمق وشدة، ثم قال: اجلسا.
فجلس الزبير ثم سهيل ووجهاهما يشعان فرحا.
وبعدها طفق الثلاثة يتحادثون، وشكلت تلك أسعد لحظات في حياة سهيل حتى تلك اللحظة؛ لأنه تميز عن كل شباب البقاء - على اتساعهما – بأمر لن يحظى به أحدهم أبدا.
ولما حل المساء، اتجه الفارسان نحو المعسكر، وظلا يتحادثان طيلة الطريق.
ومما تحادثا به، أن الزبير سأل الملك: يا مولاي، لي طلب عندك. واعذرني على كثرة طلباتي.
فقال الملك: أبشر.
فرد الزبير: أريد أن أجتمع بجلالتك وبسمو الأمير ريان وبالعمداء بهاء وصلاح والمعتصم وبالمغيرة وجاسم.
احتل قلبَ الملك الفضولُ، وقال: حسن، لك ذلك...
***
وصل الفارسان المعسكر، وفي صباح اليوم التالي جمع الملك في الخيمة الكبيرة المخصصة للتخطيط للمعارك، ابنه الأمير ريانا والأقوياء الثلاثة والمغيرة وجاسما، وهؤلاء هم من طلبهم الزبير، ثم أرسل في طلب الأخير.
دخل الزبير الخيمة فوجدهم جميعا، ألقى عليهم التحية فردوا عليه بحرارة، إلا الأمير رياناً التزم الصمت، ولاحظ الجميع ومنهم الزبير ذلك.
بعد مدة من الحديث، قال الملك: أحبائي، الزبير طلب أن أجمعكم به لأنه يريد أن يحادثنا في أمر ما. فلننصت جيدا إليه.
نظر الجميع إلى الزبير الذي تنهد ثم قال: يا قوم، أنتم تعلمون مدى ولائي للبقاء، وملكها... ولا يمكن أن أبدي مصلحتي على مصلحة المملكة أو الملك اللذينِ أفديهما بروحي. لكن لي رجاء لكم.
فقال العميد بهاء: تفضل، أيها الشاب المغوار. اطلب ما تشاء.
فقال الزبير: ملك الهيجاء الحالي، ميمون، شارك في الحرب التي قتل فيها جدي، والتي قادها والده الملك هزيم.
والملك هزيم كان قد مات في اللحظات التي تحدث فيها الزبير.
فأكمل الزبير: ويجب أن أنتقم لجدي بنفسي، وأن أمحو عار الهزيمة بانتصار يشفي غليلي وغليل قبيلتي وقبائل الكثبة بأسرها. وهذا الأمر يتأتى بقتلي للملك ميمون، ويجب أن أقتله بيدي هاتين.
قال جملته الأخيرة وهو يمد كفيه للأمام، ويقلب أنظاره بينهما.
ثم أكمل: ما أريده منكم أن تحاولوا قدر الإمكان أن تتركوا ميمونا لي، وألا يقتله أي منكم أو من أتباعكم إذا أتيحت له الفرصة، وأريد أن تعمموا هذا على كل الثوار... فبئس الرجل الذي يرضى أن يأتي ثأره بيد رجل آخر.
صمت كل الحاضرين إعجابا بشجاعة الزبير وقوته وشدته، عدا الأمير الذي لم يعجبه الكلام.
وبعد مدة، قال الملك: لك هذا، أيها الزبير... ولا أعتقد أن أحدا من الحاضرين لديه أي مانع.
بدا الغضب واضحا على محيا الأمير، بينما تبادل الجميع النظرات.
ثم قال العميد المعتصم: لا مانع لدينا، فالزبير يمكنه أن يطلب حتى أعيننا. وأعتقد أن رفيقيّ لا يمانعان.
فأومأ العميدان بهاء وصلاح برأسيهما موافقين.
ثم قال المغيرة: أيها الزبير، لك ما تشاء.
وأومأ جاسم برأسه موافقا.
اطمأن الزبير لكلامهم جميعا، حتى نغص صفو ذهنه كلام الأمير الذي قال بنبرة حادة وبغضب: ومن أنت لتطلب مثل هذا من ملك وقادة عظام؟! وكيف تشترط علينا مثل هذا؟! أنت مجرد قائد في
الجيش، فكيف تملي على ملك وأمير وعمداء ما تريد؟!
في كل فرصة سانحة، تعمد الأمير توجيه لكمة للزبير، وقد كان هذا واضحا للجميع.
رغم أن الملك اعتاد القسوة مع ابنه في مثل هذه المواقف، إلا أنه ارتأى في تلك اللحظة أن يحادث ابنه بهدوء بالغ؛ لأنه أدرك أنه إذا وبخه في تلك اللحظة، فلن يحصد سوى إشعال نار الغيرة والكره
في قلب ابنه تجاه الزبير.
فقال الملك بهدوء: بني، لا أعتقد أن الزبير يفكر بالطريقة التي ذكرتَها. هو لا يعتبر نفسه أعلى مني أو من سواي. وقد قال طلبه بطريقه لبقة تضمنت في كل طياتها الأدب والاستئذان. وبسبب هذا
الرجل نحن الآن على بعد خطوات لتحرير البقاء، الأمر الذي حلمنا به لسنين طويلة. وسأعود أنا ملكا بسببه، ويوما ما ستغدو أنت ملكا بسببه.
الرجل يستحق منا أن نكرمه ونشكره بشتى الطرق، وما طلبه ليس بالكثير، فملك الهيجاء لم يؤذ أيا من الجالسين كما آذى الزبير، والزبير أولى برأسه منا.
وليكن هذا أول هدية نرد بها جميل الزبير له، ولو بعضا منه.
اتسعت عينا الأمير غضبا، وقرر التزام الصمت؛ لأنه لم يمتلك من الردود ما يحاجج به كلام أبيه المنطقي.
***
بينما فر من أرض المعركة!
كم كابوس - تكرر مرارا في ليالي لا تعد ولا تحصى- عن مشهد مقتل جده، وكم كابوس أتاه عن معاتبة جده له وسؤاله له كيف تركه يُذبح دون أن يسانده! تلك الكوابيس امتلأت بالدم الذي يسيل
من جسد جده، وملأت جوف الزبير رعبا رغم شدة قوته وبأسه!
امتلأت أيامه كلها بالتنغيص والألم؛ ولهذا كله وجب الانتقام، وبات الهاجس الأول الذي يشغل باله.
لم يكن تحرير الأجزاء الشرقية من البقاء ومحاربة ياقوتة النهاية، بل كان ذلك محطة في خطة الزبير، فقد كان لا بد من تحرير الغرب ومقاتلة الهيجاء.
لكن هذه المرة لم يكن الأمر وطنيا فحسب للزبير، بل شخصيا كذلك.
"إذا اشتعلت النار بداخله رغبة في الانتقام، لماذا إذاً بدأ بمحاربة ياقوتة قبل الهيجاء؟!"
هو لم يرد أن يقول الناس إنه يفضل مصلحته على مصلحة البقاء، ويفكر بنفسه أكثر منها، وعوضا عن الاتجاه شرقا لتحرير العاصمة المعتزة يتجه غربا لأسباب شخصية.
بالنسبة للحرب مع الهيجاء، افتقد ثوار البقاء عنصر المفاجأة الذي صب في مصلحتهم عندما قاتلوا ياقوتة؛ فلا بد وأن ملك الهيجاء علم - بعد ما حدث - أن الثوار سيقاتلونه عاجلا أم آجلا.
لهذا أدرك الزبير أنه لا بد من الصبر، لا سيما وأن الثوار يفتقدون الانسجام والتدريب والتنظيم الموجودين عند جيش الهيجاء.
لذلك بنى خطته على تأجيل قتال ملك الهيجاء ستة أشهر، بحيث يتدرب الثوار في هذه الفترة الطويلة جدا تدريبا كافيا، يستحيلون به جيشا نظاميا قويا منسقا منسجما.
***
خطة مثل الخطة التي وضعها الزبير، لا تحدث إلا مرة واحدة كل مئة عام أو حتى أكثر، وحتى إن حدثت فنسبة نجاحها قليلة كثيرا.
وعندما تضع خطة مثل هذه، فعليك أن تكون في أقصى درجات الحذر والترقب؛ لأن أي خطإ -مهما صغر - سيعني الفشل المدوي، وسيتبعها انتقام مدو وعقاب أليم من أعدائك.
كل هذا أدركه الزبير جيدا، لذا حاول دوما أن يتنبأ بالأمور قبل وقوعها وحاول أن يفكر بطريقة أعدائه حتى يعرف ردود أفعالهم، فهو أدرك جيدا أن أعداءه ليسوا تماثيل تتلقى اللكمات وتظل ساكنة،
بل هم كائنات حية ترد على أي شيء يحدث تجاهها.
فخلال الستة أشهر التي تلت الحرب مع ياقوتة، أمر الملك قصي بوضع الحشائش الكثيرة والكثيفة على كامل امتداد الحدود الطويلة جدا مع ياقوتة، وهدد بأنه سيحرقها إذا ما حاول جنود ياقوتة الهجوم
في أية وقت، كما أمر الملك بحفر الخنادق على الحدود مع ياقوتة، وأمر كذلك بمنع دخول أي أحد نهائيا منها إلى البقاء؛ خشية تسرب خلايا من الجواسيس والمقاتلين وتمركزهم داخل البقاء.
ورغم أن ذلك سيؤثر على حياة الناس في البقاء ومصالحهم وتجارتهم، لكن إبان تلك الفترة لم يكن كل ذلك مهما.
وكل هذه الإجراءات أوعز بها الزبير للملك، فقد خطط الأول لكل هذا منذ سنين بعيدة. وذلك لأنه أراد إرسال الغالبية العظمى من الثوار غربا لمقاتلة ملك الهيجاء، وأراد إبقاء قلة قليلة فقط مع حدود
ياقوتة شرقا؛ فقد احتاج كل جندي ممكن لهزيمة جيش الهيجاء. وقد توقع الزبير – رغم عدم وجود قرينة ملموسة – أنه حين يتوجه الثوار غربا فسينقض جيش ياقوتة في أية لحظة من الشرق.
***
بعد ما يزيد على الستة أشهر من التدريب المضني المكثف لثوار البقاء، حانت لحظة الحسم. توجه المقاتلون غربا باتجاه الهيجاء، ومنهم الغالبية العظمى من المقاتلين الذين تمركزوا شرقا على الحدود
مع ياقوتة. ولم يبقِ الملك سوى عدد قليل جدا، ليضرموا النار في الحشائش على الحدود، وليحاولوا تأخير جنود ياقوتة إذا ما حاولوا الغدر بالبقاء.
وتعمد الزبير أن يأتي الثوار من منطقة صحراء الكثبة على الحدود بين البقاء والهيجاء. لقد رمى الزبير من ذلك إلى إرسال رسالة لملك الهيجاء، أنه هو وراء كل هذا، ليقوي انتقامه المنشود أكثر وأكثر. كما أنه أراد الاستفادة من معرفته - وبدو الكثبة - بتلك المناطق التي لطالما استعصت على ملك الهيجاء، ولأن الزبير أراد أن يكون ظهر الجيش لأماكن سكنى أفراد قبائل الكثبة، حتى يتلقى أي
دعم قد يحتاجه من الباقين في ديار القبائل.
عسكر المقاتلون في الكثبة بالقرب من أرض قبيلة الأسد، بوجود الملك الهارب وابنه الأمير ريان والزبير والمغيرة وأمين وسليم والأقوياء الثلاثة. توجه الزبير بعد أن استقرت القوات إلى خيمة
الملك الهارب، ودخل عليه وحياه فرد الملك عليه التحية.
دخل خادم الملك، وضيف الملك كأس قهوة، ثم ضيف الزبير مثله.
طفق الملك يشرب، ثم طفق الزبير.
نظر الزبير إلى الملك، وقال: لي طلب عندك، يا مولاي.
فقال الملك: طلبك منفذ أيا كان، أيها الزبير.
فرح الزبير بكلام الملك الذي دل على محبته وثقته به، وقال: لقد حننت إلى دياري، وأريد أن أستأذنك لأغادر المعسكر وأزورهم.
ابتسم الملك، ثم قال مبتسما: وهل يحتاج مثل هذا إلى استئذان؟!
بادله الزبير الابتسام، ثم قال: شكرا، يا مولاي.
صب الخادم المزيد من القهوة للملك الذي شرع يشرب، ثم قال للزبير: وأنا لي طلب عندك، أيها الزبير.
استحى الزبير من كلام الملك، وقال فورا: طلباتك أوامر منفذة، يا مولاي.
فقال الملك: أريد أن آتي معك إلى دياركم أزورك وأهلك.
عبس الزبير، وحزن كثيرا، ونظر خجلا في الأرض ووجهه أسود، والتزم الصمت.
عرف الملك ما سبب كل هذا، فقبيلة الزبير كلها عاشت إبان فترة القائد عامر ثراء فاحشا، ثم انتقلت إلى الفقر المدقع، والزبير خجل أن يرى الملك مثل هذا الفقر، فينظر إليه نظرة ازدراء أو احتقار.
قال الملك بصوت هادئ: بني...
تفاجأ الزبير من مناداة الملك له بهذه الكلمة! وعانق خجله فرح عظيم، ونظر إلى الملك الذي أكمل: صحيح أنني ملك عاش فترة طويلة في الرخاء والغنى اللذين لا مثيل لهما لدى بقية الناس. لكنني لا أحكم على أرض أو قبيلة، من خلال مالهم أو ممتلكاتهم، بل أحكم عليهم بما في صدورهم، بشجاعتهم وإقدامهم ومروءتهم. وكفى فخرا للأسد أن لديهم رجلا مثل القائد العظيم عامر، ومثل الثائر الباسل...
سكت الملك، ثم أضاف: مثل الثائر الباسل الزبير.
زادت المفاجأة والفرحة في فؤاد الزبير من كلام الملك، وابتسم ابتسامة عريضة وتلاشى الخجل، ثم قال: زيارتك تشرفنا، مولاي.
فبادله الملك الابتسام، ثم قال: عندما تعتزم الرحيل، أعلمني.
"أمرك، مولاي" رد الزبير.
غادر الزبير وبعد ساعات عاد إلى الملك، وأنبأه عزمه الرحيل.
خرج الملك والزبير من الخيمة، وركب الملك جواده، وقال: هيا، أيها الزبير.
استغرب الزبير، فلا أحد من حراس الملك اعتلى جواده ليصطحبهما.
سأل الزبير متعجبا: ألن يصحبنا حرسك، يا مولاي؟!
ابتسم الملك، وأجاب مبتسما: أنت ابني، أيها الزبير. أنت تماما كابني ريان، ولا تقل منزلتك عندي عن منزلته... إن لم أثق بك وبقومك، فبمن سأثق؟!
فرح الزبير فرحة عارمة، وابتسم ابتسامة عريضة ثم ركب جواده.
كان القائد جاسم والقائد عاصم، ألحا إلحاحا شديدا على الملك بوجوب ذهاب الحرس معه إلى أرض الأسد؛ فالحرس لا يصح أن يفارقوه في أي مكان يذهب إليه أيا كان. ولكن الملك رفض رفضا قاطعا،
وغلظا في إلحاحهما، حتى بلغ بالملك أن نهرهما بعنف.
انطلق الفارسان نحو أرض الأسد حتى وصلاها، فخرج أهلها يرحبون أحر ترحيب بالزبير قائدهم العظيم، فرحب بهم ترحيبا مماثلا، وفرح فرحا عظيما برؤية أهله، ولكن فرحته تضاعفت أضعافا عندما رأى سهيلا أعز الناس على قلبه.
سهيل كان قد نما وكبر.
ترجل الزبير عن جواده، واحتضن سهيلا بعمق، وبادله الشاب الأحضان، ثم قبله الزبير، وسأل: كيف حالك، يا عزيزي؟
فأجاب: بأتم حال... لقد اشتقنا إليك.
فابتسم الزبير، وأجاب: وأنا اشتقت لكم شوق صحرائنا للغيث.
بالتأكيد لم يعرف الناس من هو الرجل المسن الذي اصطحبه الزبير إلى أرضهم.
وبينما ساد هرج ومرج بين القوم فرحا بعودة قائدهم ورمزهم، قال الزبير بصوت عالٍ: يا قوم...
فسكتوا جميعا وأنصتوا، وأكمل: لقد اصطحبت معي اليوم، رجلا هو أعظم رجل في بلادنا، بل في البسيطة كلها.
نظر الجميع بفضول إلى الرجل العجوز، ثم قال الزبير: أقدم لكم، جلالة الملك قصي.
"آاااااااه" قال أكثرهم، بينما اجتاحت المفاجأة وعدم التصديق وجوههم جميعا. فهؤلاء أهل الصحراء، الذين عانوا الأمرين بعد الحرب المقيتة، ها هو أعظم رجال البقاء يزورهم، الرجل الذي ظن جل
الناس أنه مات منذ زمن بعيد.
انحنى الجميع احتراما للملك، ومنهم الزبير.
فقال الملك: مرحبا بكم، يا شعبي العظيم.
فاستقاموا جميعا، وبدؤوا يرحبون بالملك فرادى وجماعات.
فقال الملك: أنتم قبيلة عظيمة، بل من أعظم أهل مملكتي. وقائدكم رجل عظيم... عظيم جدا. وعندما نحرر مملكتنا سيكون لكم شأن عظيم فيها.
احتلت الفرحة العارمة قلوبهم جميعا بمن فيهم الزبير، فرحة كادت تنسيهم سنوات الشقاء والضنك والمعاناة.
ركب الزبير جواده، وقال: ائذنوا لي أن آخذ الملك في جولة في أرضنا.
فأفسح القوم المجال للفارسين، وقادا جواديهما، بينما أرى الزبير الملك أرجاء أرض قبيلة الأسد. وبعد هذه الجولة وصل الفارسان دار الزبير، فترجل الفارسان، ثم قال الزبير: هذه داري، يا مولاي.
ثم أشار بيده إلى الدار، وقال: تفضل.
فتح الزبير باب الدار، ودخل الملك أولا ثم تبعه الزبير، حتى وصلا مجلس الضيوف، وهناك اسود وجه الزبير خجلا من تواضع المجلس.
لاحظ الملك ذلك وسرعان ما قال: أيها الزبير، ما بالك؟! هل نسيت كلامي في خيمتي ذلك اليوم؟! ألم أخبرك أنني أحكم على ما في داخل الناس لا على ما يملكونه؟!
عندها تلاشى خجل الزبير، وابيض وجهه، وقال وهو يشير إلى الأبسطة: تفضل، يا مولاي.
فجلس الملك، بينما ضيفه الزبير كأس قهوة، فطفق الملك يشرب، بينما ظل الزبير واقفا حتى أذن له الملك: اجلس، أيها الزبير.
اتسم الملك بتواضع مهول أثار استعجاب الزبير، فقد جلس على البساط البسيط رغم أنه أعظم أهل مملكة البقاء مترامية الأطراف.
فجلس الزبير وصب قهوة في كأس وطفق يشرب بدوره.
بعد مدة قال الملك: أنتم تعيشون حياة صعبة جدا، على عكس حياتكم إبان الشيخ الراجل جدك.
ثم شد بيده على فخذ الزبير، وقال: لكن لا تخف... كل هذا سينتهي قريبا... بفضلك أنت...
فرد الزبير: لا، يا مولاي. بل بفضلك أنت... أنا مجرد جندي واحد في جيش فيه الألوف.
تبادل الرجلان الحديث لمدة طويلة، حتى طرق باب دار الزبير.
خرج الزبير ليرى من على الباب، بينما ظل الملك جالسا بالداخل، وبعد مدة سمع الملك الزبير وهو يصرخ: قلتُ لك ارحل.
ثم عاد الزبير غاضبا إلى مجلس الضيوف.
"اعذرني، يا مولاي، على صراخي" قال الزبير.
"ما الذي حدث؟!" سأل الملك متعجبا.
فأجاب الزبير: لا شيء، يا مولاي. أمر تافه، فلا تشغل بالك.
فأصر الملك بحدة: قلت لك: ماذا حدث؟
عبس الزبير، ثم قال: ابن أخي يريد شيئا بإلحاح وقد رفضته.
فقال الملك: ابن أخيك، ذلك الذي احتضنته بعمق عندما دخلنا دار القبيلة؟!
قال الزبير: نعم.
ساد الصمت لمدة حتى قال الملك: طيلة سنيني الكثيرة، لم أشاهد رجلا يحتضن أحدا بمثل هذا العمق والمحبة. حتى الآباء... حتى الأمهات، لم أشاهد أحدا منهم يحضن ابنا له كما احتضنته... هذا الشاب هو أغلى أهل الأرض على قلبك.
"نعم، هو كذلك" قال الزبير.
فقال الملك: لكنك منعته من مقابلتي، رغم أنه طلب منك ذلك! أليس كذلك؟
استغرب الزبير كم كان الملك نبيها، وكيف عرف ما دار بينه وبين سهيل.
ثم قال الزبير: بلى، يا مولاي.
فقال الملك: اذهب واجلبه.
استغرب الزبير من جديد من تواضع الملك، ثم قال: أحقا، يا مولاي؟
"هل عهدتني أمازح الناس؟!" استنكر الملك، وأضاف: لقد أخبرتك أنت وعائلتك عائلتي، وابن أخيك حفيدي بما أنك ابني.
ابتسم الزبير ابتسامة عريضة، وانشرح صدره، وأسرع لإحضار سهيل الذي لا يحب أن يرفض له طلبا.
بعد مدة عاد الزبير مع سهيل الذي كاد يطير من الفرحة.
التزم الشاب الصمت من شدة الخجل.
قال الملك: اقترب، يا بني.
فاقترب منه سهيل ببطء وهو ينظر في الأرض خجلا، ولما دنا كثيرا من الملك احتضنه الملك بعمق وشدة، ثم قال: اجلسا.
فجلس الزبير ثم سهيل ووجهاهما يشعان فرحا.
وبعدها طفق الثلاثة يتحادثون، وشكلت تلك أسعد لحظات في حياة سهيل حتى تلك اللحظة؛ لأنه تميز عن كل شباب البقاء - على اتساعهما – بأمر لن يحظى به أحدهم أبدا.
ولما حل المساء، اتجه الفارسان نحو المعسكر، وظلا يتحادثان طيلة الطريق.
ومما تحادثا به، أن الزبير سأل الملك: يا مولاي، لي طلب عندك. واعذرني على كثرة طلباتي.
فقال الملك: أبشر.
فرد الزبير: أريد أن أجتمع بجلالتك وبسمو الأمير ريان وبالعمداء بهاء وصلاح والمعتصم وبالمغيرة وجاسم.
احتل قلبَ الملك الفضولُ، وقال: حسن، لك ذلك...
***
وصل الفارسان المعسكر، وفي صباح اليوم التالي جمع الملك في الخيمة الكبيرة المخصصة للتخطيط للمعارك، ابنه الأمير ريانا والأقوياء الثلاثة والمغيرة وجاسما، وهؤلاء هم من طلبهم الزبير، ثم أرسل في طلب الأخير.
دخل الزبير الخيمة فوجدهم جميعا، ألقى عليهم التحية فردوا عليه بحرارة، إلا الأمير رياناً التزم الصمت، ولاحظ الجميع ومنهم الزبير ذلك.
بعد مدة من الحديث، قال الملك: أحبائي، الزبير طلب أن أجمعكم به لأنه يريد أن يحادثنا في أمر ما. فلننصت جيدا إليه.
نظر الجميع إلى الزبير الذي تنهد ثم قال: يا قوم، أنتم تعلمون مدى ولائي للبقاء، وملكها... ولا يمكن أن أبدي مصلحتي على مصلحة المملكة أو الملك اللذينِ أفديهما بروحي. لكن لي رجاء لكم.
فقال العميد بهاء: تفضل، أيها الشاب المغوار. اطلب ما تشاء.
فقال الزبير: ملك الهيجاء الحالي، ميمون، شارك في الحرب التي قتل فيها جدي، والتي قادها والده الملك هزيم.
والملك هزيم كان قد مات في اللحظات التي تحدث فيها الزبير.
فأكمل الزبير: ويجب أن أنتقم لجدي بنفسي، وأن أمحو عار الهزيمة بانتصار يشفي غليلي وغليل قبيلتي وقبائل الكثبة بأسرها. وهذا الأمر يتأتى بقتلي للملك ميمون، ويجب أن أقتله بيدي هاتين.
قال جملته الأخيرة وهو يمد كفيه للأمام، ويقلب أنظاره بينهما.
ثم أكمل: ما أريده منكم أن تحاولوا قدر الإمكان أن تتركوا ميمونا لي، وألا يقتله أي منكم أو من أتباعكم إذا أتيحت له الفرصة، وأريد أن تعمموا هذا على كل الثوار... فبئس الرجل الذي يرضى أن يأتي ثأره بيد رجل آخر.
صمت كل الحاضرين إعجابا بشجاعة الزبير وقوته وشدته، عدا الأمير الذي لم يعجبه الكلام.
وبعد مدة، قال الملك: لك هذا، أيها الزبير... ولا أعتقد أن أحدا من الحاضرين لديه أي مانع.
بدا الغضب واضحا على محيا الأمير، بينما تبادل الجميع النظرات.
ثم قال العميد المعتصم: لا مانع لدينا، فالزبير يمكنه أن يطلب حتى أعيننا. وأعتقد أن رفيقيّ لا يمانعان.
فأومأ العميدان بهاء وصلاح برأسيهما موافقين.
ثم قال المغيرة: أيها الزبير، لك ما تشاء.
وأومأ جاسم برأسه موافقا.
اطمأن الزبير لكلامهم جميعا، حتى نغص صفو ذهنه كلام الأمير الذي قال بنبرة حادة وبغضب: ومن أنت لتطلب مثل هذا من ملك وقادة عظام؟! وكيف تشترط علينا مثل هذا؟! أنت مجرد قائد في
الجيش، فكيف تملي على ملك وأمير وعمداء ما تريد؟!
في كل فرصة سانحة، تعمد الأمير توجيه لكمة للزبير، وقد كان هذا واضحا للجميع.
رغم أن الملك اعتاد القسوة مع ابنه في مثل هذه المواقف، إلا أنه ارتأى في تلك اللحظة أن يحادث ابنه بهدوء بالغ؛ لأنه أدرك أنه إذا وبخه في تلك اللحظة، فلن يحصد سوى إشعال نار الغيرة والكره
في قلب ابنه تجاه الزبير.
فقال الملك بهدوء: بني، لا أعتقد أن الزبير يفكر بالطريقة التي ذكرتَها. هو لا يعتبر نفسه أعلى مني أو من سواي. وقد قال طلبه بطريقه لبقة تضمنت في كل طياتها الأدب والاستئذان. وبسبب هذا
الرجل نحن الآن على بعد خطوات لتحرير البقاء، الأمر الذي حلمنا به لسنين طويلة. وسأعود أنا ملكا بسببه، ويوما ما ستغدو أنت ملكا بسببه.
الرجل يستحق منا أن نكرمه ونشكره بشتى الطرق، وما طلبه ليس بالكثير، فملك الهيجاء لم يؤذ أيا من الجالسين كما آذى الزبير، والزبير أولى برأسه منا.
وليكن هذا أول هدية نرد بها جميل الزبير له، ولو بعضا منه.
اتسعت عينا الأمير غضبا، وقرر التزام الصمت؛ لأنه لم يمتلك من الردود ما يحاجج به كلام أبيه المنطقي.
***