28

في المعتزة عاصمة البقاء، في قصر الضيغم أهم قصور آل الضياغم، اجتمع الملك الهارب قصي وآله وأهمهم زوجته الملكة رقية وابنه الأمير ريان وابنته الأميرة هدى، وكثير من الحضور
بغية إعلان تحرير مملكة البقاء، وتنصيب قصي ملكا عليها. حضر الحفل الزبير والمغيرة وحورية زوجه وأمين وزوجه سمية وسليم وأمه وأختاه. أقيم الحفل في أكبر قاعات القصر،
حيث امتلأت القاعة أرضيتها وسقفها وجدرانها بالرخام بنفسجي اللون المزين بشتى الزخارف متنوعة الألوان، وأحيط سقف القاعة بالذهب الذي زينه واتخذ أشكالا فنية جميلة. ونزل من السقف ثرية ذهبية عملاقة أضاءت شموعها القاعة، وأحاطت بها ثريات ذهبية أخرى بأحجام مختلفة. وفي نهاية القاعة وُجد كرسي العرش المصنوع من الخشب الفخم وقد علت حوافه الذهب، وعلى يمينه كرسي آخر
مماثل لكنه أصغر خصص لولي العهد الأمير ريان. وامتلأت القاعة بالطاولات الفخمة التي علاها ما لذ من الطعام والشراب والحلوى والفاكهة، وجلس على الكراسي المحيطة به الحضور.
وانتشرت أعلام دولة الضياغم البنفسجية اللون في معظمها، وتحوي رأس أسد في رمز لآل الضياغم، في كل أنحاء القاعة. هذه الفخامة وهذا البذخ هما وحدهما ما كانا مناسبين لمناسبة إعلان تحرير
البقاء، المناسبة التي انتظرها كل الحاضرون بل كل مواطن وفي من مواطني البقاء طيلة هذه السنين الكثيرة جدا.
نهض عن إحدى الطاولات رجل مسن تظهر عليه علامات الجلال وفخامة اللباس والأصل والحسب، وهو ابن خال الملك قصي، ومشى إلى حيث كرسيا العرش ووقف أمامها. وفي تلك الأثناء انشغل
كل من في القاعة بالحديث، وكان صوت حديثهم العالي كأنه صوت هدير نهر جار. فقال الرجل، وقد كان متحدثا بارعا وجريئا: يا قوم.
فبدأ صوت الهدير بالانخفاض، فكرر الرجل بصوت أعلى: يا قوم، أنصتوا إلي وانتبهوا.
فانتبه الجميع إليه، وعم الصمت في القاعة الكبيرة الجليلة.
ثم قال الرجل، وهو يقلب نظره يمينا ويسارا بين الحاضرين: جلالةَ الملكِ قصيا، جلالة الملكة رقية، سمو الأمير رياناً، الحضور الكرام، أهل البقاء كلهم، أهلا بكم جميعا في قصر الضيغم،
في هذا اليوم المبارك، الذي أدعو الله أن تستمر حياتنا بمثل سعادته وخيره.
لقد كانت مملكة البقاء أعظم مملكة في البسيطة كلها، ومضرب الأمثال في كل حدب وصوب بخيرها، وطيبة أهلها، وعدل ملوكها، وسعادة مواطنيها، والبذخ الذي عاش به جميعهم.
والأهم كانت مضرب المثل بالمحبة التي انتشرت بين أهلها جميعا.
ولكن التاريخ علمنا أن الغيرة والطمع هي من سمات البشرية، وللأسف، ولغدر الزمان لقد استشريا في قلوب أعدائنا شرقا وغربا، وفي ليلة غادرة وضحاها، انقض علينا الأعداء من كل حدب وصوب،
واحتلوا مملكتنا واغتصبوها ومزقوها شر ممزق، وغدروا بآل الضياغم الكرام الذين لطالما أكرموا شعبهم أيما إكرام.
وقد ظن كل أعدائنا، وكثير من ضعاف النفوس من أحبائنا أن البقاء انتهت للأبد، وأن الضياغم انتهوا للأبد. لكن كل مواطن حقيقي وفي صادق من أهل البقاء، ظل متمسكا بالأمل حتى آخر لحظة،
وظل يدعو الله حتى آخر لحظة، ومرت السنوات الكثيرة، والليالي السوداء الطويلة، حتى أشرقت الشمس أخيرا، واستجاب الله لدعائنا جميعا، وها هي البقاء تتحرر وتعود لأيدي أهلها، لتقهر
أعداءها وتهزمهم شر هزيمة وتذلهم أمر إذلال.
ونحن اليوم هنا نعلن تحرير مملكتنا وقيام مملكة البقاء من جديد.
أيها الحضور الكرام، قفوا تحية للملك قصي، فقد حانت لحظة تتويجه.
عندها وقف الملك الهارب، ووقف كل من في القاعة، وتوجه الملك نحو ابن خاله.
وقد اقترب أحد الجنود ومعه وسادة من الحرير لونها بنفسجي يعلوها تاج فضي مزين بالألماس.
بعد أن اقترب قصي، أخذ ابن خاله التاج ووضعه على رأسه، ثم قال: أنا أعلن قصيا من آل الضياغم ملكا على البقاء.
فصفق الجميع بينما سار الملك قصي والابتسامة عريضة على محياه وجلس على كرسي العرش.
ثم قال ابن خاله: والآن حيوا الأمير ريانا.
وعندها بدأ الأمير ريان يسير نحو ابن خال أبيه.
وفي الوقت نفسه، اقترب أحد الجنود وهو يحمل وسادة بنفسجية أخرى عليها تاج فضي مرصع بالألماس لكنه أصغر من تاج الملك قصي.
فلما اقترب الأمير، أخذ الرجل المسن التاج ووضعه على رأس ريان، وهو يقول: وها أنا أعلن الأمير ريانا وليا لعهد مملكة البقاء.
فبدأ الجميع بالتصفيق، بينما سار ريان نحو الكرسي الذي بجوار كرسي الملك وجلس عليه. ظهرت علامات الفرح طاغية جدا على وجه الأمير الذي عرف بعبوسه في أغلب الأحيان.
ثم تحرك ابن خال الملك وتوجه إلى إحدى الطاولات وجلس على كرسي يحيط بها؛ ليخلو المشهد للملك قصي والأمير ريان وهما يجلسان على كرسيي العرش، بينما وقف كل من في القاعة.
ثم قال الملك بصوت عال: اجلسوا، يا قوم.
وبعد أن جلسوا قال بصوت عال: حللتم أهلا، ووطئتم سهلا. أهلا بكم في بيتي الذي هو بيتكم، في هذه المناسبة المباركة. فليبارك الله لنا جميعا هذه المناسبة الرائعة بتحرير بلادنا وقهر أعدائنا.
ليس لدي الكثير لأضيفه على ما قاله ابن خالي العزيز. أنا اليوم غدوت ملكا عليكم، وأعدكم أن أسير على خطى من خلفتهم من آل الضياغم، أعدكم بالعدل والرخاء والسعادة، سأجعل البقاء مضرب
المثل من جديد برغد العيش، بل أعدكم بأن تكون أفضل مما كانت عليه في عهد أسلافي.
سكت الملك لمدة، ثم أضاف بصوت عال: ولكن يا قوم، لقد تعلمت في حياتي هذه أن أشكر من لهم فضل علي. وهذه الحرب كان لها أبطال عظام ضحوا بأرواحهم وأهاليهم وأموالهم فدائي وفداء البقاء،
فلا بد وأن نخلد ذكرهم في حفل ميلاد مملكتنا هذا. أبدأ بالمغيرة، الأمير المغوار الصنديد الذي لا مثيل له في الشجاعة والقتال. ثم أذكر أمينا الرجل الذي لم نسمع عن أحد يمتلك ما يملكه من مال،
حتى في حكايا الأطفال، ورغم ذلك ضحى بماله الغزير فداء البقاء دون من أو أذى. وكذلك كان لدينا ابن الأسطورة القائد الراحل الهيثم، الشاب الشجاع سليم.
فحيوهم جميعا أفضل تحية.
بدأ الجميع بالتصفيق الحار لكل هؤلاء، الذين ارتسمت علامات السرور على محياهم ومحيا أزواجهم وعائلاتهم، فأي تكريم أفضل من إثناء ملك البلاد عليهم في أهم حفل في تاريخ البقاء، حفل تحريرها.
وبينما استمر التصفيق، أشار الملك بيده، وهو يقول: انتظروا، يا قوم... انتظروا.
فسكت الجميع.
فأكمل الملك: ولكن هنالك رجل هو أعظم رجل في هذه الحرب على الإطلاق. رجل لن تذكر البقاء من هنا ولقيام الساعة إلا وذكر معها. رجل أرسله الله لنا من السماوات العليا، كان معجزة لبى بها
الله دعاء النساء المظلومات والأطفال الذين ذاقوا اليتم بسبب تلك الحرب المقيتة القذرة. أريدكم أن تخصوا بالشكر البطل الباسل، الزبير... وأنا الآن أعلنه الوزير الأول في المملكة، وهذا أعلى منصب فيها بعد منصب الملك ومنصب ولي العهد.
عندها وقف الجميع بلا استثناء بمن فيهم الملك وحتى الأمير ريان، وبدؤوا بالتصفيق الحار للزبير.
شكلت تلك أسعد لحظات حياة الزبيرحتى ذلك الوقت. لم يتصور كل هذا التكريم، وأن يخلد اسمه في كتب التاريخ بهذه الطريقة، وأن الملك سيكافئه بأن يجعله الرجل الثالث في المملكة.
بعدها هدأ الناس، ثم بايعوا الملك وولي العهد والزبير وزيرا أولَ.
ثم تناولوا ما لذ من الطعام والشراب، وتبادلوا الكلمات والضحكات، وتحولت القاعة مركزا للفرحة والسعادة، بينما أثنى الجميع على المغيرة وأمين وسليم والأقوياء الثلاثة والقائد جاسم، والأهم على الزبير الذي سمع في ذلك اليوم من الثناء ما لم يسمعه رجل من قبل في تاريخ البقاء كلها.
***
استمر الحفل حتى المساء، حين غادر الحضور جميعا القاعة. وبينما الزبير في غرفته في القصر، أتاه أحد الجنود يخبره أن الملك قصيا يود لقاءه في غرفة النوم الخاصة به.
فرح الزبير فرحة عارمة؛ فبالفعل أضحى بالنسبة للملك كابنه تماما وها هو يدعوه كأنه أحد أفراد عائلته إلى غرفة النوم الخاصة به.
توجه الزبير إلى هناك واستأذن الحارسين الواقفين على باب الغرفة، ودخل إليها.
كانت كسائر غرف القصر ينتشر في كل أرجائها الرخام البنفسجي المزين بألوان متنوعة، وقد كانت واسعة، فيها سرير كبير جدا، وفي الغرفة وجدت طاولة عريضة أحاطت بها كراسي كثيرة،
وكلها مصنوعة من الخشب الثمين. وقد تدلى من سقف الغرفة ثرية ذهبية ضخمة أضاءت شموعها الغرفة، وفي الغرفة كذلك رأى الزبير ثريات أخرى مشابهة لكن أصغر حجما. وانتشر هنا وهناك المرايا المزخرفة حوافها بأجمل الزخارف. وقد انتشر الذهب والفضة والألماس في كل أرجاء الغرفة وعلا الأثاث والمرايا وحوافهم. لم يشهد الزبير مكانا مثل هذا قط، وهاله ما رآه!
جلس الملك على كرسي عريض، وبجواره على الكرسي نفسه ابنته الأميرة هدى وهو يمسك بيدها بينما تدفع بجسدها نحو جسد والدها. وعلى كرسي آخر جلست الملكة رقية، وعلى آخر جلس
الأمير ريان. وقد لبسوا جميعا لباسا أنيقا فاخرا، وفاحت رائحة عطورهم زكية جميلة في أرجاء الغرفة. ووقف في الغرفة جارية تلبس هي الأخرى لباسا أنيقا.
وقد فرحوا جميعا أكبر فرحة، فها هم يعودون لأقصى القمة، بعد أن ذاقوا ذل أدنى القاع في جبال اليبس.
في اليوم السابق، جالست الملكة رقية زوجها الملك، وأخبرته: أتدري، يا قصي؟
"ماذا؟" سأل الملك.
فأجابت: أشعر بشعور غريب تجاه الزبير، لم أشعر به تجاه أحد آخر من غير أولادي... أشعر أنه ابني تماما كريان وهدى، ولا تختلف مكانته في قلبي قيد أنملة عن مكانتهم...
فرد الملك: أتعلمين شيئا؟ أنا أحس بالأمر ذاته تجاه الزبير.
فقالت: ما رأيك أن ندعوه غدا إلى غرفتنا، ونجتمع به وأولادنا وحدنا، حتى نشعره بهذا الأمر؟
فرد الملك: ما أجملها من مشورة، لك ذلك.
وعودة إلى يوم استدعى الملك الزبير إلى غرفته، إذ خاطب الملك الزبير: أهلا، بابني الزبير. تفضل بالجلوس.
فرح الزبير بما ناداه به الملك، وسرعان ما جلس على كرسي آخر مما أحاط بالطاولة.
صبت الجارية القهوة في فنجان للزبير، الذي أمسكه وطفق يشرب.
"هل تعلم كم أنت عظيم، أيها الزبير؟!" قال الملك مبتسما.
فعلت محيا الزبير ابتسامة عريضة، في حين أكمل الملك: الشكر لك، أيها الزبير، على تحقيق أحلامنا... الشكر لك يا بني.
فقال الزبير: بل ألف شكر لك، يا مولاي. فأنت لست ملك البقاء فحسب، أنت البقاء نفسها... إن كنت أنا قد حققت الحلم – ولا أزكي نفسي– فأنت هو الحلم نفسه.
لقد أخجلتني اليوم – يا مولاي – بفائض كرمك، وإن هذا لأسعد يوم في حياتي على الإطلاق، ولا أحسب أنه سيأتي علي يوم أسعد فيه أكثر من هذا... لا أعلم إن استحققت فعلا هذا التكريم!
فرد الملك: بل هذا قليل تجاه ما فعلتَه، لقد حققتَ لنا كل أحلامنا، وبصورة أجمل مما تخيلنا. أنت تستحق أكثر من هذا بكثير، وأنت بالفعل ثالث أعلى الرجال منزلة في المملكة بعدي وبعد ابني.
نظر الملك إلى ابنه، ثم أكمل: اليوم غدوتُ ملكا بسببك... ويوما ما سيغدو ريان ملكا بسببك أنت أيضا.
الملك بكلامه هذا عاتب ابنه عتابا غير مباشر، لكأنه يقول له: هذا الزبير الذي لطالما عاملته بالسوء، والذي أضمرت في صدرك الكره تجاهه، ها هو يحقق أحلامنا وأحلامك.
فهم ريان رسالة والده، ونظر في الأرض خجلا من الزبير.
"أيها الزبير" قالت الملكة، وأكملت: شكرا جزيلا... لقد خلصتنا من آلامنا ومن الكوابيس التي دمرت حياتنا. شكرا لأنك ثأرت لنا وحررت بلادنا وأعدت لنا ملكنا.
أنت ابني، أيها الزبير. أنت مني كريان وهدى تماما. أرجوك، أريدك أن تناديني أمي منذ اليوم وإلى أبد الأبدين.
تفاجأ الزبير من كل هذا، وقال فورا والخجل يعتريه: لا، يا مولاتي. أولا، لا يصح أن ترجيني لأفعل أي شيء، بل أنت تأمرينني أمرا. ثانيا، أنا لا أستطيع أنا أناديك أمي، فهذا شرف لا أستحقه.
فقالت الملكة فورا: أرجوك، نادني أمي.
سر الزبير كثيرا، ورد: أمرك، يا مولاتي... يا أمي.
نظرت الأميرة الفتية هدى بإعجاب إلى الفارس المغوار الذي بات موضع إعجاب لرجال المملكة، فكيف بنسائها اللاتي غدا رجل أحلامهن؟!
وظلوا جميعا جالسين يتبادلون الأحاديث والإثناءات والفرح منتشر بينهم، وبالفعل كانوا تماما عائلة واحدة، وأحس الزبير أنه يجلس مع أهله، وأحسوا هم بدورهم أنهم يجلسون مع واحد منهم.
وشاركوا جميعا في الحديث إلا ريانا الذي ظل يقلب نظره بين الأرض وأجزاء الغرفة، ويجتنب النظر إلى الزبير.
وبعد مدة استأذن الزبير من الملك، وغادر الغرفة.
وبينما هو يسير بالخارج متجها نحو غرفته، سمع صوت ريان يقول: أيها الزبير، انتظر.
التف الزبير، ونظر مستغربا إلى ريان الذي اقترب منه ثم نظر إلى الأرض، وحاول أن يقول: أنا...
لكنه ارتبك والتزم الصمت، ثم استجمع قواه وقال خجلا وهو ينظر إلى الأرض: أيها الزبير، أنا... أنا...
ثم تخلى الأمير عن كبريائه العظيم الذي عرف عنه، وقال مخاطبا من اعتبره من ألد أعدائه ذات يوم: أنا آسف.
ثم أضاف مرتبكا: أتمنى أن تسامحني، أيها الزبير. بالفعل أنا سأغدو ملكا ذات يوم... بسببك أنت. وبالفعل أنت السبب في تحقيق كل أحلامي... أريد أن... أريد أن نكون أصدقاء... بل حتى إخوة...
لقد لعب الشيطان بي، واستسلمت له، وعاملتك بالشر والسوء، ولكنك لطالما بادلتني بالخير والطيبة!
ابتسم الزبير ابتسامة طيبة دلت على مدى الفرحة في قلبه مما حدث، بل إن هذا أسعده أكثر من تكريم الملك له أمام العشرات من أرقى أهل المملكة.
ثم قال: أنت ولي العهد، وأنت أمير... وملك في المستقبل... ليس عليك أن تعتذر، بل على الناس العاديين – وأنا منهم – أن يقبلوا أفعالك أيا كانت، وألا ينزعجوا أو يغضبوا منها أبدا... وهذا هو
شعوري تجاهك منذ اللحظة الأولى... المحبة والأخوة.
ابتسم الأمير، ورفع رأسه وتبادل النظرات مع الزبير، ثم احتضن الرجلان أحدهما الآخر بحرارة لا تحدث إلا بين أخوين حقيقين من الأب والأم نفسهما.
***
بعد الحرب الثانية ضد جيش الهيجاء، عادت قبائل الكثبة فورا إلى ديارهم القديمة في صحراء الكثبة والتي تحررت كاملة. تلك الديار امتازت بجمال البناء والفخامة رغم كونها في الصحراء.
وبعد حفل تتويج الملك قصي بمدة، استأذنه الزبير – الوزير الأول – بأن يزور ديار قبيلته في الكثبة، فوافق الملك.
توجه الزبير هناك والتقى أهله ومنهم سهيل، وسائر قبيلته، وقد فرحوا جميعا برؤيته، وتلقى أحر الإثناءات والإطراءات والتعظيمات كذلك، بعد كل ما فعله.
سر الزبير بهذا الاستقبال الحار سرورا عظيما، وسرعان ما أرسل في طلب شيوخ قبائل الكثبة الخاضعين له جميعهم.
بدأ قادة القبائل وكبار أهلها بالقدوم إلى أراضي قبيلة الأسد، وجعل الزبير يستقبلهم بحفاوة لا مثيل لها، وأكرم ضيافتهم في ديار قبيلة الأسد.
وظل الزبير يولم لهم ما لذ وطاب من الطعام، ويقدم لهم ما تشتهيه النفس من الشراب، لأيام كثيرة. كما أنه أرسل لكل قائد قبيلة الكثير من المال والهدايا والخدم، فقد أصبح الزبير يمتلك كثيرا من المال،
بعد تحرير البقاء وما تبعه من تنصيبه وزيرا أول، وقربه الشديد من الملك.
وبعد أن اجتمع قادة القبائل جميعهم، دعاهم الزبير ودعا أفراد قبيلته إلى بناء كبير في أرض قبيلة الأسد، معد لاستقبال الضيوف والاجتماعات. احتوى البناء قاعة ضخمة اتسعت لعدد هائل من الحضور،
ووجدت فيها كراسي فخمة مصنوعة من الخشب الباهظ، وكان بناؤها من الداخل والخارج جميلا. وهذا أمر أثار العجب، لأناس يسكنون الصحراء، لكن الأسد منذ أيام الشيخ عامر امتازوا بثراء فاحش،
فاق ثراء كثير من أثرياء المدن.
تبادل الحاضرون التحايا والسلام وكثيرا من الحديث، وهم يستمتعون بما يضيفه الخدم لهم.
وبعد مدة، قال الزبير: يا قوم.
فأنصت الجميع للرجل الذي ملأ قلوبهم – بلا استثناء – مهابة وتوقيرا.
أكمل الزبير: إني فخور بكم منذ بداية الثورة الخالدة لتحرير البقاء، والتي بدأت بكم واعتمدت عليكم وانتهت بنجاح بكم... إني فخور أعظم فخر أنني واحد منكم... وما زاد فخري حتى بلغ عنان السماء، أنكم قبلتم بي - أنا أخيكم – سيدا لكم، ولا أزكي نفسي على أحد منكم.
كان الزبير داهية، وأجاد جيدا كسب قلوب الجماهير ومن يهتم بأن يتبعوه، وقد أسعد كلَّ الحاضرين كلامُه.
قال أحد قادة القبائل: بل أنت خيرنا، أيها الزبير، بل وخير رجال البقاء أجمعها.
فطفق عدد من الحاضرين يثنون على الرجل ويؤكدون كلامه.
ثم قال الزبير: بوركتم، يا إخوتي... بالفعل كنتم أشد من السباع في الحرب، وبيضتم وجهي أمام الملك، وأمام الكون كله... أنتم – أهلَ الكثبة – أعظم أهل البقاء على الإطلاق وأشجعهم، وإن لكم للفضل
الأكبر في تحريرها، وكل هذا الكلام يشهد به القاصي والداني، وأولهم جلالة الملك قصي نفسه.
وإني – يا قوم – أشهدكم وأعدكم – ولست بالرجل الذي يخلف وعده – أنني سأفرحكم وسأسعدكم، من خلال كوني الوزير الأول في المملكة، ومن خلال قربي من الملك. فأبشروا برغد في العيش، وحياة سعيدة ليس لغيركم مثلها. أبشروا لكم ولنسائكم وأولادكم بأكثر مما اشتهته أنفسكم، أو لاح في مخيلتكم ذات يوم.
فسُرّ الحاضرون جميعا، واشتركوا جميعا بعلامات الفرح العارمة التي ظهرت واضحة على وجوههم جميعا بلا استثاء، وزادت في تلك اللحظات محبتهم للزبير أضعافا مضاعفة.
تنهد الزبير، ثم قال: ولأنني رجل يفي بوعوده – كما ذكرت قبل ثوانٍ – ولأنني لا أرضى أن أعيش وقد نكثت وعدا حتى لو طال عمره، فإن هنالك وعدا علي منذ زمن بعيد، وعلي أن أنفذه.
فقال قائد قبيلة: قل – يا مولانا – ونحن معك في أي شيء.
"نعم، نحن معك" قال أحد الحاضرين، وطفق آخرون يؤكدون ذلك.
قال الزبير: لقد وعدت أعز الناس على قلبي – سهيلا – بأمر.
نظر إلى سهيل الذي جلس بجواره، ثم أعاد نظره إلى الحاضرين وأكمل: لقد وعدته أن يصير شيخ الكثبة أكلمها عندما يكبر... والآن سأنفذ وعدي ذلك، وها أنا أتنازل عن قيادة قبائل الكثبة، وأعلن سهيلا شيخا على قبائل الكثبة أكملها من أعظم رجل فيها إلى أبسط واحد من أهلها.
صُدم الحاضرون، وأولهم سهيل، مما سمعوه، واجتاحتهم دهشة عظيمة.
استاء قيس والداهية كثيرا مما سمعاه، لمحبتهما العظيمة للزبير، ولأنهما آمنا إيمانا عظيما أنه أفضل من يمكن أن يقود بدو الكثبة، وأن كونه الشيخ في مصلحتهم. لكنهما في تلك اللحظات المتوترة
آثرا أن يلتزما الصمت؛ لأنهما يعلمان مصير من يجادل الزبير في أمر كهذا.
سهيل الذي كان في تلك الأثناء في العشرينات من عمره، نظر برهبة في عمه الزبير، ثم قال بخوف: أنا أرفض ذلك، يا عمي.
ثم قال قائد قبيلة: لا يمكن أن يحدث ذلك أيها الزبير... بقاؤك شيخا لنا لمصلحة الكثبة.
ثم قال قائد قبيلة آخر: سهيل رجل عظيم، لكن ليس في البقاء كلها من هو مثلك أو ند لك، أيها الزبير. لماذا لا تظل أنت الشيخ، في حين يتعلم منك سهيل؟! ويوما ما – بعد عمر طويل لك –
سيصبح هو الشيخ، وسيكون حينئذ قائدا صنديدا مثلك الآن.
بدأ قادة القبائل الآخرون، وعدد من كبار قبيلة الأسد وكبار القبائل الأخرى، يتحدثون بكلام مماثل، ويحاولون جهد قدراتهم أن يثنوا الزبير عن قراره.
غضب الزبير غضبا عظيما، واحمرت عيناه، وظهر الفارس الغضوب واغتال بسرعة فائقة الرجل الحاني الحليم الذي تحدث قبل لحظات مع القوم.
ثم صرخ: هذا أمر... هذا ليس اقتراحا أشاوركم فيه... منذ متى يعصي بدوي حر أمر شيخه؟! ومن أعطاكم الصلاحية لتقولوا إنني يجب أن أبقى الشيخ، وإن سهيلا ليس بالرجل المناسب؟!
جمدت الدماء في عروق جميع الحاضرين، واحتل الخوف صدورهم، واتسعت عيونهم وهي تنظر إلى الأسد الهصور الذي أكمل: أنا لن أظل شيخا للكثبة، ومنذ هذه اللحظة سهيل هو الشيخ.
ثم أشار بأصابعه، وهو يقول: من لديه كلام غير ذلك، فليقله، وسيأتي الجواب عليه من حسامي.
التزم كل الحاضرون الصمت في ذلك المشهد المهيب المخيف.
سهيل كان منذ بدء غضب الزبير، يبكي بحزن شديد، حزنا على أنه سيحل محل رجل أحلامه وقدوته.
نظر الزبير إلى سهيل، وقال بغضب: امسح دموعك، أنت رجل.
فنفذ سهيل الأمر، وتوقف عن البكاء.
وفجأة قال الزبير بحنية وهدوء ناقض تماما ما اعتراه من غضب قبل لحظات: أنا الزبير، أبايعك الآن – يا سهيل – شيخا على الكثبة كاملة.
احتضن سهيل والزبير أحدهما الآخر.
ثم بدأ الحاضرون بمبايعة سهيل واحدا واحدا، حتى بايعوه جميعا.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي