30
ثبت الملك جاسما قائدا للجيش، وثبت ابن جاسم عاصما قائدا للحرس الملكي.
ومر عامان وبعدها اتخذ الملك قرارا بخصوص ابنه الأمير ريان.
تناول الملك وزوجته وابنه وابنته الفطور، في غرفة نومه صبيحة يوم مشمس عليل الجو. وبعد أن أنهوا الإفطار طلب الملك أن يحادث ريانا وحدهما، فغادرت الملكة والأميرة الغرفة.
كان الملك والأمير يجلسان عندما قال الملك: كما تعلم يا ريان، لطالما اعتاد ملوك الضياغم على إرسال ولاة عهدهم، بل وعدد من الأمراء إلى مدن بعيدة يحكمونها وحدهم، وذلك لتعليمهم الاعتماد
على أنفسهم، وإكسابهم الثقة الكافية بأنفسهم، وجعلهم أقوياء صلبين، مما يمكنهم من الحكم بحكمة وبراعة عندما يستلمون الملك والحكم. وقد أرسلني عمي الملك هزبر، إلى عدة مناطق لإدارتها،
إبان فترة حكمه.
في هذه اللحظات زاد تركيز ريان مع أبيه الذي أكمل: ولهذا كله، قررت إرسالك إلى مدينة بحران. ستكون أميرا على المدينة بل على كامل المنطقة الشرقية من مملكتنا.
نظر الملك بحنية الأب إلى ابنه، ثم أكمل: أريدك أن تثري خزينة الدولة وأن تجعل الأناس في المنطقة الشرقية أثرياء جدا... هذا تحدٍ ليس بالسهل، لكنني أثق بك – يا بني – ومتأكد من أنك ستنجح
في هذه المهمة أتم الثقة، فقد أبديت شجاعة وفروسية لا مثيل لها في حربي التحرير.
و"حربا التحرير" هو اللقب الذي استخدمه كل أهل البقاء، للحربين اللتين قادهما الملك قصي ضد ياقوتة والهيجاء.
ابتسم الأمير لإثناء أبيه عليه، وفرح جدا بقرار والده تسلميه المنطقة الشرقية بأكملها.
وقد تعمد الملك قصي إرسال ابنه إلى هذه المدينة بالذات، فقد كانت هذه المدينة التي أطلت على البحر الرمادي، بالغة الجمال، كثيرة الرفاهية، وقد أراد الملك أن يعوض ابنه عن سنوات الحرمان
والهرب والاختباء في جبال اليبس، لا سيما وأنه عامله فيها بقسوة بالغة متعمدة.
وبينما ابتسم ريان ابتسامة عريضة، قال: أمرك، يا مولاي. اعتبر الأمر منتهيا، سأحقق لك كل شيء طلبته. سأثبت لك أنني أهل للحكم، وسأجعل أهل المنطقة الشرقية أثرياء مرفهين كما طلبت.
وهكذا مضى ريان إلى بحران واعتبر ذلك تحديا وأراد أن يثبت للجميع - والأهم لنفسه – أنه ناجح ومتمكن وقوي.
وقد سعى للحصول على المال وإثراء خزينة الدولة، لكن المشكلة أن المملكتين العدوتين لا يمكن تطوير التجارة معهما كثيرا، بعد كل ما حدث وما سُفك من الدماء. والمشكلة الكبرى أن الممالك
الأخرى كلها كانت بعيدة عن البقاء كثيرا، وتحتاج أشهرا عدة من السفر. لكن إصرار ريان على إثبات نفسه جعله يفعل المستحيل ويتوجه إلى هذه الممالك، فرغم بعدها الشديد أصر على
زيارتها والاتجار معها. أحاط بالبقاء جنوبا بحر الأشرعة وهو بحر كبير، وأقرب مملكة إلى البقاء في هذا البحر هي مملكة الودعاء. أما شمالا فيقع البحر الرمادي وهو أضخم من بحر الأشرعة بكثير،
وفي أقصى شماله تقع سلطنة القَدْمَاء وهي أضخم دولة سمع بها أهل البقاء. كما يقع في البحر الرمادي جزيرة الأنوار الصغيرة. وقد قرر الأمير ريان زيارة هذه المناطق الثلاث فراسل ملك كل منها،
وأعلمه نيته زيارة مملكة كل واحد منهم، لتطوير العلاقات التجارية بين البقاء وبين المملكة المعنية، ولمعرفة ما ينقص تلك الممالك من البضائع المتوفرة في البقاء، ولمعرفة ما لدى كل مملكة منها من
بضائع تنقص أهل البقاء. فما وجد من ملوك هذه الممالك سوى الترحيب والتشجيع والحث على زيارتهم.
***
بعد ما يزيد على العام بشهرين تقريبا، أتت الزبير فكرة رغب بإعلام الملك بها. توجه إلى غرفة النوم الخاصة بالملك، فوجده جالسا على الكراسي الثمينة في الغرفة، وبجواره الملكة.
فقال الزبير وهو ينظر إلى الملك: تحيتي، يا مولاي.
فقال الملك: أهلا بالغالي.
ثم نظر الزبير إلى الملكة وقال: كيف حالك، يا أمي؟
فقالت: بأتم خير، وكيف حالك، يا بني؟
فرد: أنا بخير، أماه.
وقد اعتاد منذ إعلان المملكة مناداتها ب "أمي" وهي اعتادت مناداته ب "بني".
تحادث الزبير والملك والملكة، وسأل الملك والملكة عن حال الزبير وآخر أخبار أهله والكثبة، في حين بادلهم الزبير السؤال عن حال الأمير والأميرة وسائر أفراد العائلة المالكة.
مضى وقت إلى أن قال الزبير: أريد أن أحادثك في مسألة معينة، يا مولاي.
ابتسمت الملكة، وقالت برزانة: أنا سأغادر؛ لترتاحوا وأنتم تتحادثون.
فقال الزبير فورا: لا، أمي. ابقي معنا.
فردت: أنا لا أحب أن أتدخل في أمور الحكم.
فرد الزبير: وجودك ليس تدخلا؛ فلا شيء نخفيه عنك على الإطلاق.
فقالت: من تدخل فيما لا يعينيه لقي ما لا يرضيه، أيها الزبير.
قامت الملكة وغادرت الغرفة.
قال الملك: تفضل، أيها الزبير. حادثني بالأمر.
فقال الزبير: مولاي، المرء الشهم يشكر من أحسن إليه. وكونك أكثر أهل البقاء شهامة، أراك أكثرهم جدارة بشكر من يحسن إليك.
"من تقصد، أيها الزبير؟!" سأل الملك بتعجب وفضول.
فأجاب الزبير: لقد انصب تركيزك وتركيزي بعد نهاية الحرب وإعلان قيام المملكة، على تكريم أمراء الثورة. ولكنني نسيت أناسا كان لهم دور بارز جدا في الثورة، لا يقل عن أمرائها، بل ربما يزيد.
تنهد الزبير ثم أضاف: مولاي، لم لا نكرم الأقوياء الثلاثة، وجاسما وعاصما؟! بعد ما أدوه في الحرب، هم يستحقون أفضل تكريم.
"أحسنت، أيها الزبير" قال الملك المسرور بكلام جليسه فورا، وأكمل: إنها لخير مشورة. ولكن كيف نحقق ذلك؟
فأجاب الزبير: مولاي، أرى أن نرفعهم جميعا إلى رتبة عميد أول، بعد أن نستحدث هذه الرتبة لتكون بين رتبتك قائدا عاما للجيش ورتبة العمداء العاديين. وهذه الرتبة الجديدة لا يشاركهم فيها أحد من سائر أفراد الجيش. وأرى أن يتم كل هذا بحضور كبار أهل المملكة وعلى رأسهم جلالتك وسمو الأمير ريان، ومن أمكن من أفراد العائلة المالكة، ووزراء الدولة، وكبار أهل المملكة وأعيانها.
فرد الملك بابتسامة عريضة: بوركت، أيها الزبير. لا أدري من أين تأتيك هذه الأفكار الجهنمية؟! هل تحادث الجن أم ماذا؟!
ضحك الزبير على مزاح الملك.
ثم قال: وأرى أن نعطيهم مكافآت مالية ضخمة، وأن نمنح كلا منهم منزلا فخما جدا خاصا به.
"لك ذلك، يا بني" قال الملك.
تأثر الزبير بكلام الملك وتنهد.
ثم قال الملك: ولكن للأسف هنالك شيء واحد سينغص احتفالنا.
"وما هو؟" سأل الزبير على الفور.
فأجاب الملك: للأسف ريان لن يستطيع الحضور.
عبس الزبير عبوسا عظيما، وتساءل: لماذا، يا مولاي؟
فأجاب الملك: ريان الآن عائد من رحلته إلى مملكة الودعاء، وهو يحتاج ما يقرب الأسبوع للعودة. بعد ذلك سيمضي ما يقرب الشهر والنصف في البقاء، ثم سيسافر شمالا نحو مملكة القدماء،
وسفره هذا يحتاج ثلاثة أشهر، وسيظل هنالك تسعة أشهر. ولا نريد - في الشهر والنصف الذي سيمضيه هنا – أن نرهقه بالسفر والترحال بين بحران والمعتزة.
فقال الزبير فورا: ولكن، يا مولاي، هو سيقيم في البقاء شهرا ونصف!
فرد الملك: نعم، ولكنه يحتاج ما يقرب الأسبوعين من السفر للقدوم إلى العاصمة، وأسبوعين للعودة إلى بحران، وبالتالي لن يتبقى له سوى أسبوعين للراحة قبل الرحلة الطويلة المتعبة. ونحن أهل يابسة ولسنا أهل بحر معتادين على السفرفيه. فدعه يرتاح... ولا أظنه يستطيع تأجيل رحلته إلى القدماء، فقد سمعت أن ملكها أعد ما أعده من مراسم لاستقبال ريان. ولا تنسى حماسة ريان لزيارة القدماء لأنه يريد إثبات نفسه بأية طريقة.
فقال الزبير: ولكن لا بد وأن يحضر، فلا أريد أن يستاء الأقوياء الثلاثة أو جاسم من عدم مجيئة.
فقال الملك: لماذا أنت مصر كل هذا الإصرار؟! لا عليك، سأطلب منه أن يرسل كلمة تلقيها أنت نيابة عنه.
سكت الزبير لمدة ثم سأل: ولكن هل لي بطلب خاص لي، يا مولاي؟
فأجاب الملك فورا: بالتأكيد، أيها الزبير! أي طلب تطلبه مجاب، وأنت أصلا تُقِلّ في الطلبات رغم أنك تستحق أكثر بكثير مما عندك.
فقال الزبير: ألف شكر، يا مولاي... هل من الممكن أن يحضر كبار أهل الكثبة حفل التكريم، وأن يتم تكريم قادة قبائل الكثبة بأوسمة خاصة تمنحهم شرفا لن ينسوه ما عاشوا؟!
فرد الملك: بالتأكيد، لك ذلك، والمزيد إن أحببت...
ثم قال: أنت في قلبي مباشرة بعد ابني وزوجتي وابنتي.
نظر الزبير إلى الملك بتركيز، وقال: ما أعظم هذه المحبة، يا مولاي!
فقال الملك: نظم الأمر، وأخبرني بالترتيبات.
***
في اليوم نفسه توجه الزبير إلى مقر القائد جاسم والقائد عاصم في أعلى القصر. وقد كان لهما مركز في منطقة في طرف القصر، خصص لإدارة الجيش والحرس الملكي، وقد اختلف تصميم المركز عن سائر القصر، فلم يكن مبلطا بالرخام البنفسجي، ولكن غطى الأرضية والسقف والجدران خشب ثمين جدا، محفورة فيه الزخارف بفنية عالية وإتقان وحرفية لا مثيل لهما.
وقد خصص لجاسم غرفة خاصة به، وكذلك لعاصم، وقد احتوت كل طاولة علتها الخرائط وحجارة صغيرة تماثل أشكال الجنود والخيول والخيام، للتخطيط للحروب في حالة القائد جاسم،
وللتخطيط لحراسة الملك في حالة القائد عاصم.
وصل الزبير إلى غرفة القائد جاسم، وتبادل الرجلان التحايا الحارة، وضيف خادم القائد جاسم الزبير وقائده كأسين من الشاي. جلس جاسم خلف مكتبه في حين جلس الزبير على أحد الكراسي الخشبية
الثمينة المزخرفة والمحفورة بحرفية والمنتشرة في الغرفة.
وتبادل الرجلان الحديث حتى قال الزبير: هلا تنادي القائد عاصما، أريد أن أخبركما معا بأمر معين.
أرسل القائد جاسم أحد جنوده في طلب ابنه عاصم، وسرعان ما أتى قائد الحرس الملكي، وتبادل بدوره والزبير التحايا الحارة.
وطفق الثلاثة يتحادثون، حتى قال جاسم: لقد شوقتنا، أيها الزبير. ما الأمر الذي تريد محادثتنا به؟!
ابتسم الزبير؛ وبشرهما قائلا: لقد اقترحت على جلالة الملك تكريمكما إضافة إلى الأقوياء الثلاثة، وذلك باستحداث رتبة جديدة هي عميد أول، تقع بين رتبة الملك ورتبة العميد، ولا يشارككم فيها أحد.
فأنتم تستحقون أفضل تكريم، وقد أديتم دورا عظيما هائلا في الثورة، لولاه ما تمت ولا نجحت...
سكت الزبير، ليشعل الشوق والفضول في صدري الرجلين، ولما لاحظ نظراتهما المترقبة ازدرد ريقه، ثم أكمل: وقد وافق الملك على هذا...
اجتاح السرور قلبي الرجلين بينما ظهرت علامات الفرحة واضحة على محياهما، وأكمل الزبير: سنقيم حفلا مهيبا، في القصر هنا، يحضره جلالة الملك، وكبار قادة الجيش وكبار أهل المملكة ووزراؤها، وفيه سيتم ترفيعكم وتكريمكم.
ابتسم القائد جاسم ابتسامة عريضة، وقال: لك الشكر الكامل، أيها الزبير. كلما تفضلت علينا، أتبعت فضلك بفضل أعظم. لا أعرف بدونك كيف كان سيمسي حالنا! لك الحمد والشكر الجزيل، أيها البطل
العظيم.
ابتسم الزبير ابتسامة خفيفة، وقال: هذا أمر ضئيل جدا، مقارنة بما فعلتموه في الحرب، وقد وجب أن يحدث مثل هذا التكريم منذ أمد بعيد، فسامحاني على التأخر.
فقال عاصم: يعجبني تواضعك، أيها الزبير. لم أر رجلا تتعانق فيه العظمة والتواضع مثلما يتعانقان فيك. ألف شكر لك. قائد عظيم ووفي، يقال إنك ابن الملك الثاني، ولكنني أراك تحبه أكثر من
محبة ابنه الحقيقي له.
وأكمل الرجال الثلاثة حديثهم.
***
بعد أقل من أسبوع، أعلم الزبير الملك بكل ترتيبات حفل التكريم. وقد أصدر الديوان الملكي مرسوما أعلن فيه عن حفل التكريم وموعده وموقعه. وقد تم إرسال الدعوات إلى الحضور وعلى رأسهم
الأقوياء الثلاثة، والقائد جاسم والقائد عاصم، وقادة قبائل الكثبة. وقد تم تحديد ما عرف ب "الساحة الجنوبية" موقعا لحفل التكريم، وهي ساحة كبيرة جدا واسعة جدا، تقع جنوبي قصر الضيغم،
وهذه الساحة مفتوحة على الهواء الطلق، وتحوي مدرجا كبيرا جدا، مبنيا من الحجر الأبيض جميل المنظر، وأمامها منصة ضخمة مرتفعة عن الأرض بمسافة كبيرة، خصصت لجلوس الملك
والأمراء وكبار حاشيته. وقد خصصت هذه القاعة منذ بناء قصر الضيغم للخطابات والاحتفالات الملكية الكبيرة.
ولأن الأمير ريانا لن يحضر التكريم، أرسل لوالده كلمة كتبها خصيصا للحفل، وطلب أن يلقيها الزبير نيابة عنه.
***
في صباح يوم التكريم توجه الزبير إلى غرفة الملك، فوجد الملك والملكة جالسين. ألقى عليهما التحية فرداها عليه.
جلس الزبير وطفق الثلاثة يتحادثون، حتى قالت الملكة كعادتها: سأذهب الآن، لتتحادثوا براحة عن تكريم اليوم.
"لماذا – يا مولاتي- تصرين دوما على المغادرة؟" سأل الزبير والتعجب جلي على وجهه، وأضاف: كما أخبرك دوما، لا شيء نخفيه عنك.
ابتسمت الملكة وقالت بصوتها الرزين: وأنا دوما أخبرك أن من يتدخل فيما لا يعنيه يلقَ ما لا يرضيه.
قامت الملكة وغادرت الغرفة.
بعدها قال الملك: هذا يوم عظيم.
ابتسم الزبير بطيبة ومحبة، وبادله الملك الابتسام بطيبة ومحبة أكبر.
ثم قال الملك: أريد أن نجتمع الأسبوع المقبل مع كل الوزراء لمناقشة ميزانية الدولة.
"أمر مولاي" قال الزبير.
حك الملك ذقنه بيده، وقال: أتمنى أن يكون الحفل م...
نهض الزبير بسرعة وركض نحو الملك، ثم وضع كفه على فم الملك، الذي لم يفهم ولم يستوعب ما الذي يجري. قلبه الزبير بقوة هائلة والكرسي أرضا، حتى بات ظهر الملك على الأرض،
ثم ركع الزبير على ركبتيه فوق الملك، في هذه الأثناء كلها حاول الملك أن يصرخ لكنه لم يستطع لأن الزبير أحكم قبضته على فمه. ولما بات ملقى على الأرض، جعل يحاول دفع الزبير بيديه
لكنه فشل بذلك؛ لأن الزبيرفاقه بكثير بالقوة الجسدية، ثم أضاف الملك إلى ذلك تحريكه أرجله بأقصى سرعة يستطيعها، لكنه فشل في إبعاد الزبير. وبينما الزبير يغطي فم الملك، استل الخنجر
الذهبي الذي أهدته إياه سمية، وطعن الملك ثلاث طعنات في قلبه الذي أحب الزبير ابناً له وكريان تماما، وأتبعها بطعنتين في بطنه. اجتاحت الملك صدمة وتفاجؤ هما الاكبر بحياته.
وبينما الزبير يطعنه، اتسعت عيناه أقصى اتساع وبرزتا بروزا عظيما حتى بدا كأنهما ستغادران رأسه! وتسارع العرق شلالات على وجهه وسائر جسده. آلمه قلبه في تلك اللحظات
أكبر ألم في حياته، حزنا من ابنه الزبير ومن خيانته له، حتى أكثر من الألم الذي شعر به عند مقتل كل أهله على يد ملك ياقوتة ذات يوم، اليوم الذي سُلِبَ فيه ملكُ البقاء، بل والبقاء كلها.
وبينما الملك ما زال حيا، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدم الغزير يجري سريعا من قلبه وبطنه ومن فمه ومنخريه، ابتسم الزبير ابتسامة صفراء قذرة ملؤها الشماتة والخبث، لعلها أقذر
ابتسامة في تاريخ البشرية، وقال وهي تعلو وجهه: خسئت أن تكون الملك وأنا موجود.
قالها ويعلو وجهه تعابير شيطانية قاسية وعبوس عظيم، وهذا حال وجهه منذ بدأ عملية الاغتيال. اتسمت طعناته الخمسة للملك، بالقوة الشديدة، والعنف البالغ، والسرعة الهائلة.
لفظ الملك أنفاسه الأخيرة، وترجل الفارس الأسطوري أخيرا وغادر الحياة، وهكذا قتل الزبير الملك، قتل أباه، وقتل معه المحبة والوفاء والعشرة، قتل التاريخ واللحظات الجميلة والذكريات الخالدة،
قتل الإنجازات المشتركة، قتل الأسطورة التي قدسها طيلة عمره، أسطورةَ الملك الهارب التي كذبها نسبة هائلة من أهل البقاء، في حين آمن بها الزبير إيمانا مطلقا، قتل الرجل الذي حقق معه
المستحيل وحرر معه مملكة ظنها الجميع ذهبت بلا عودة، قتل الزبير البنوة التي بداخله، والأهم من هذا كله قتل الزبير المروءة التي بداخله.
بعد عملية الاغتيال التي تمت بسرعة البرق، لم ينتظر الزبير كثيرا، ففورا سحب الزبير جثة الملك وأخفاها خلف السرير، ثم أحضر لحاف السرير ومسح به الدم الذي انتشر على أرضية الغرفة،
ثم مسح قدر استطاعته الدم الذي أتى على يديه ولباسه، وفورا خرج مسرعا ووقف هنالك على باب غرفة الملك حارسان، أحدهما على يمين الباب والآخر على يساره. الزبير،
رغم أنه حتى في تلك اللحظات العصيبة جدا اتسم بالهدوء والثقة اللذين عرف بهما دوما، إلا إنه مثل أمام الحارسين أنه مرتبك متلبك هلع، وقال وهو هكذا: الملك أصابه مكروه! إنه لا يتنفس!
اندفع الحارسان بسرعة إلى الداخل، واندفع الزبير بسرعة خلفهما، فأصبح أحدهما في المقدمة، يليه الآخر، فالزبير.
قال الحارس الذي في المقدمة بعد أنْ لم ير الملك: أين الملك؟!
في هذه الأثناء كان الزبير قد استل خنجره الذهبي، فوضع كفه من الخلف حول فم الحارس الأقرب عليه، وجز عنقه.
وبينما الحارس المغدور يسقط أرضا، صرخ الحارس الثاني غير مصدق: أيها الوغد الخائن!
واستل سيفه وهجم على الزبير وضرب بسيفه يقصده. تحرك الزبير جانبا وتفادى الضربة، ثم تبادل المقاتلان الضربات بسيفيهما وخنجر الزبير، قبل أن يضرب الزبير صدر
الحارس بسيفه ليشقه فيسقط صريعا على الأرض.
ومن جديد لم ينتظر الزبير، ففورا خرج من الغرفة، وبينما هو على بابها أشار لرجلين كانا قد اصطحباه، وقد لبسا زي الحرس الملكي!
وقف الرجلان على يمين باب الغرفة ويساره، والزبير أوصاهما مسبقا ألا يسمحا لأحد بدخول الغرفة نهائيا حتى زوجة الملك وعائلته وسائر أقربائه، وأي أحد من كبار الدولة،
وأن يخبروا أي امرئ يريد الدخول أن الملك يعاني وعكة صحية وطلب ألا يراه أحد.
أعطى أحد الحارسين الزبير صرة كان يحملها، فأخذها الزبير ودخل الغرفة، وأخفى الجثث الثلاثة أسفل السرير، ثم أخفى آثار الدم في الغرفة. بعدها فتح الصرة المغلقة،
فأخرج منها قربة ماء كبيرة، غسل من خلالها الدماء التي علت جسده، ولما فرغ من ذلك، نزع ثيابه وأخرج ثيابا من الصرة ولبسها، وكل هذا حتى لا يرى أحد أي دماء لو ظل لابسا ثيابه القديمة!
***
ومر عامان وبعدها اتخذ الملك قرارا بخصوص ابنه الأمير ريان.
تناول الملك وزوجته وابنه وابنته الفطور، في غرفة نومه صبيحة يوم مشمس عليل الجو. وبعد أن أنهوا الإفطار طلب الملك أن يحادث ريانا وحدهما، فغادرت الملكة والأميرة الغرفة.
كان الملك والأمير يجلسان عندما قال الملك: كما تعلم يا ريان، لطالما اعتاد ملوك الضياغم على إرسال ولاة عهدهم، بل وعدد من الأمراء إلى مدن بعيدة يحكمونها وحدهم، وذلك لتعليمهم الاعتماد
على أنفسهم، وإكسابهم الثقة الكافية بأنفسهم، وجعلهم أقوياء صلبين، مما يمكنهم من الحكم بحكمة وبراعة عندما يستلمون الملك والحكم. وقد أرسلني عمي الملك هزبر، إلى عدة مناطق لإدارتها،
إبان فترة حكمه.
في هذه اللحظات زاد تركيز ريان مع أبيه الذي أكمل: ولهذا كله، قررت إرسالك إلى مدينة بحران. ستكون أميرا على المدينة بل على كامل المنطقة الشرقية من مملكتنا.
نظر الملك بحنية الأب إلى ابنه، ثم أكمل: أريدك أن تثري خزينة الدولة وأن تجعل الأناس في المنطقة الشرقية أثرياء جدا... هذا تحدٍ ليس بالسهل، لكنني أثق بك – يا بني – ومتأكد من أنك ستنجح
في هذه المهمة أتم الثقة، فقد أبديت شجاعة وفروسية لا مثيل لها في حربي التحرير.
و"حربا التحرير" هو اللقب الذي استخدمه كل أهل البقاء، للحربين اللتين قادهما الملك قصي ضد ياقوتة والهيجاء.
ابتسم الأمير لإثناء أبيه عليه، وفرح جدا بقرار والده تسلميه المنطقة الشرقية بأكملها.
وقد تعمد الملك قصي إرسال ابنه إلى هذه المدينة بالذات، فقد كانت هذه المدينة التي أطلت على البحر الرمادي، بالغة الجمال، كثيرة الرفاهية، وقد أراد الملك أن يعوض ابنه عن سنوات الحرمان
والهرب والاختباء في جبال اليبس، لا سيما وأنه عامله فيها بقسوة بالغة متعمدة.
وبينما ابتسم ريان ابتسامة عريضة، قال: أمرك، يا مولاي. اعتبر الأمر منتهيا، سأحقق لك كل شيء طلبته. سأثبت لك أنني أهل للحكم، وسأجعل أهل المنطقة الشرقية أثرياء مرفهين كما طلبت.
وهكذا مضى ريان إلى بحران واعتبر ذلك تحديا وأراد أن يثبت للجميع - والأهم لنفسه – أنه ناجح ومتمكن وقوي.
وقد سعى للحصول على المال وإثراء خزينة الدولة، لكن المشكلة أن المملكتين العدوتين لا يمكن تطوير التجارة معهما كثيرا، بعد كل ما حدث وما سُفك من الدماء. والمشكلة الكبرى أن الممالك
الأخرى كلها كانت بعيدة عن البقاء كثيرا، وتحتاج أشهرا عدة من السفر. لكن إصرار ريان على إثبات نفسه جعله يفعل المستحيل ويتوجه إلى هذه الممالك، فرغم بعدها الشديد أصر على
زيارتها والاتجار معها. أحاط بالبقاء جنوبا بحر الأشرعة وهو بحر كبير، وأقرب مملكة إلى البقاء في هذا البحر هي مملكة الودعاء. أما شمالا فيقع البحر الرمادي وهو أضخم من بحر الأشرعة بكثير،
وفي أقصى شماله تقع سلطنة القَدْمَاء وهي أضخم دولة سمع بها أهل البقاء. كما يقع في البحر الرمادي جزيرة الأنوار الصغيرة. وقد قرر الأمير ريان زيارة هذه المناطق الثلاث فراسل ملك كل منها،
وأعلمه نيته زيارة مملكة كل واحد منهم، لتطوير العلاقات التجارية بين البقاء وبين المملكة المعنية، ولمعرفة ما ينقص تلك الممالك من البضائع المتوفرة في البقاء، ولمعرفة ما لدى كل مملكة منها من
بضائع تنقص أهل البقاء. فما وجد من ملوك هذه الممالك سوى الترحيب والتشجيع والحث على زيارتهم.
***
بعد ما يزيد على العام بشهرين تقريبا، أتت الزبير فكرة رغب بإعلام الملك بها. توجه إلى غرفة النوم الخاصة بالملك، فوجده جالسا على الكراسي الثمينة في الغرفة، وبجواره الملكة.
فقال الزبير وهو ينظر إلى الملك: تحيتي، يا مولاي.
فقال الملك: أهلا بالغالي.
ثم نظر الزبير إلى الملكة وقال: كيف حالك، يا أمي؟
فقالت: بأتم خير، وكيف حالك، يا بني؟
فرد: أنا بخير، أماه.
وقد اعتاد منذ إعلان المملكة مناداتها ب "أمي" وهي اعتادت مناداته ب "بني".
تحادث الزبير والملك والملكة، وسأل الملك والملكة عن حال الزبير وآخر أخبار أهله والكثبة، في حين بادلهم الزبير السؤال عن حال الأمير والأميرة وسائر أفراد العائلة المالكة.
مضى وقت إلى أن قال الزبير: أريد أن أحادثك في مسألة معينة، يا مولاي.
ابتسمت الملكة، وقالت برزانة: أنا سأغادر؛ لترتاحوا وأنتم تتحادثون.
فقال الزبير فورا: لا، أمي. ابقي معنا.
فردت: أنا لا أحب أن أتدخل في أمور الحكم.
فرد الزبير: وجودك ليس تدخلا؛ فلا شيء نخفيه عنك على الإطلاق.
فقالت: من تدخل فيما لا يعينيه لقي ما لا يرضيه، أيها الزبير.
قامت الملكة وغادرت الغرفة.
قال الملك: تفضل، أيها الزبير. حادثني بالأمر.
فقال الزبير: مولاي، المرء الشهم يشكر من أحسن إليه. وكونك أكثر أهل البقاء شهامة، أراك أكثرهم جدارة بشكر من يحسن إليك.
"من تقصد، أيها الزبير؟!" سأل الملك بتعجب وفضول.
فأجاب الزبير: لقد انصب تركيزك وتركيزي بعد نهاية الحرب وإعلان قيام المملكة، على تكريم أمراء الثورة. ولكنني نسيت أناسا كان لهم دور بارز جدا في الثورة، لا يقل عن أمرائها، بل ربما يزيد.
تنهد الزبير ثم أضاف: مولاي، لم لا نكرم الأقوياء الثلاثة، وجاسما وعاصما؟! بعد ما أدوه في الحرب، هم يستحقون أفضل تكريم.
"أحسنت، أيها الزبير" قال الملك المسرور بكلام جليسه فورا، وأكمل: إنها لخير مشورة. ولكن كيف نحقق ذلك؟
فأجاب الزبير: مولاي، أرى أن نرفعهم جميعا إلى رتبة عميد أول، بعد أن نستحدث هذه الرتبة لتكون بين رتبتك قائدا عاما للجيش ورتبة العمداء العاديين. وهذه الرتبة الجديدة لا يشاركهم فيها أحد من سائر أفراد الجيش. وأرى أن يتم كل هذا بحضور كبار أهل المملكة وعلى رأسهم جلالتك وسمو الأمير ريان، ومن أمكن من أفراد العائلة المالكة، ووزراء الدولة، وكبار أهل المملكة وأعيانها.
فرد الملك بابتسامة عريضة: بوركت، أيها الزبير. لا أدري من أين تأتيك هذه الأفكار الجهنمية؟! هل تحادث الجن أم ماذا؟!
ضحك الزبير على مزاح الملك.
ثم قال: وأرى أن نعطيهم مكافآت مالية ضخمة، وأن نمنح كلا منهم منزلا فخما جدا خاصا به.
"لك ذلك، يا بني" قال الملك.
تأثر الزبير بكلام الملك وتنهد.
ثم قال الملك: ولكن للأسف هنالك شيء واحد سينغص احتفالنا.
"وما هو؟" سأل الزبير على الفور.
فأجاب الملك: للأسف ريان لن يستطيع الحضور.
عبس الزبير عبوسا عظيما، وتساءل: لماذا، يا مولاي؟
فأجاب الملك: ريان الآن عائد من رحلته إلى مملكة الودعاء، وهو يحتاج ما يقرب الأسبوع للعودة. بعد ذلك سيمضي ما يقرب الشهر والنصف في البقاء، ثم سيسافر شمالا نحو مملكة القدماء،
وسفره هذا يحتاج ثلاثة أشهر، وسيظل هنالك تسعة أشهر. ولا نريد - في الشهر والنصف الذي سيمضيه هنا – أن نرهقه بالسفر والترحال بين بحران والمعتزة.
فقال الزبير فورا: ولكن، يا مولاي، هو سيقيم في البقاء شهرا ونصف!
فرد الملك: نعم، ولكنه يحتاج ما يقرب الأسبوعين من السفر للقدوم إلى العاصمة، وأسبوعين للعودة إلى بحران، وبالتالي لن يتبقى له سوى أسبوعين للراحة قبل الرحلة الطويلة المتعبة. ونحن أهل يابسة ولسنا أهل بحر معتادين على السفرفيه. فدعه يرتاح... ولا أظنه يستطيع تأجيل رحلته إلى القدماء، فقد سمعت أن ملكها أعد ما أعده من مراسم لاستقبال ريان. ولا تنسى حماسة ريان لزيارة القدماء لأنه يريد إثبات نفسه بأية طريقة.
فقال الزبير: ولكن لا بد وأن يحضر، فلا أريد أن يستاء الأقوياء الثلاثة أو جاسم من عدم مجيئة.
فقال الملك: لماذا أنت مصر كل هذا الإصرار؟! لا عليك، سأطلب منه أن يرسل كلمة تلقيها أنت نيابة عنه.
سكت الزبير لمدة ثم سأل: ولكن هل لي بطلب خاص لي، يا مولاي؟
فأجاب الملك فورا: بالتأكيد، أيها الزبير! أي طلب تطلبه مجاب، وأنت أصلا تُقِلّ في الطلبات رغم أنك تستحق أكثر بكثير مما عندك.
فقال الزبير: ألف شكر، يا مولاي... هل من الممكن أن يحضر كبار أهل الكثبة حفل التكريم، وأن يتم تكريم قادة قبائل الكثبة بأوسمة خاصة تمنحهم شرفا لن ينسوه ما عاشوا؟!
فرد الملك: بالتأكيد، لك ذلك، والمزيد إن أحببت...
ثم قال: أنت في قلبي مباشرة بعد ابني وزوجتي وابنتي.
نظر الزبير إلى الملك بتركيز، وقال: ما أعظم هذه المحبة، يا مولاي!
فقال الملك: نظم الأمر، وأخبرني بالترتيبات.
***
في اليوم نفسه توجه الزبير إلى مقر القائد جاسم والقائد عاصم في أعلى القصر. وقد كان لهما مركز في منطقة في طرف القصر، خصص لإدارة الجيش والحرس الملكي، وقد اختلف تصميم المركز عن سائر القصر، فلم يكن مبلطا بالرخام البنفسجي، ولكن غطى الأرضية والسقف والجدران خشب ثمين جدا، محفورة فيه الزخارف بفنية عالية وإتقان وحرفية لا مثيل لهما.
وقد خصص لجاسم غرفة خاصة به، وكذلك لعاصم، وقد احتوت كل طاولة علتها الخرائط وحجارة صغيرة تماثل أشكال الجنود والخيول والخيام، للتخطيط للحروب في حالة القائد جاسم،
وللتخطيط لحراسة الملك في حالة القائد عاصم.
وصل الزبير إلى غرفة القائد جاسم، وتبادل الرجلان التحايا الحارة، وضيف خادم القائد جاسم الزبير وقائده كأسين من الشاي. جلس جاسم خلف مكتبه في حين جلس الزبير على أحد الكراسي الخشبية
الثمينة المزخرفة والمحفورة بحرفية والمنتشرة في الغرفة.
وتبادل الرجلان الحديث حتى قال الزبير: هلا تنادي القائد عاصما، أريد أن أخبركما معا بأمر معين.
أرسل القائد جاسم أحد جنوده في طلب ابنه عاصم، وسرعان ما أتى قائد الحرس الملكي، وتبادل بدوره والزبير التحايا الحارة.
وطفق الثلاثة يتحادثون، حتى قال جاسم: لقد شوقتنا، أيها الزبير. ما الأمر الذي تريد محادثتنا به؟!
ابتسم الزبير؛ وبشرهما قائلا: لقد اقترحت على جلالة الملك تكريمكما إضافة إلى الأقوياء الثلاثة، وذلك باستحداث رتبة جديدة هي عميد أول، تقع بين رتبة الملك ورتبة العميد، ولا يشارككم فيها أحد.
فأنتم تستحقون أفضل تكريم، وقد أديتم دورا عظيما هائلا في الثورة، لولاه ما تمت ولا نجحت...
سكت الزبير، ليشعل الشوق والفضول في صدري الرجلين، ولما لاحظ نظراتهما المترقبة ازدرد ريقه، ثم أكمل: وقد وافق الملك على هذا...
اجتاح السرور قلبي الرجلين بينما ظهرت علامات الفرحة واضحة على محياهما، وأكمل الزبير: سنقيم حفلا مهيبا، في القصر هنا، يحضره جلالة الملك، وكبار قادة الجيش وكبار أهل المملكة ووزراؤها، وفيه سيتم ترفيعكم وتكريمكم.
ابتسم القائد جاسم ابتسامة عريضة، وقال: لك الشكر الكامل، أيها الزبير. كلما تفضلت علينا، أتبعت فضلك بفضل أعظم. لا أعرف بدونك كيف كان سيمسي حالنا! لك الحمد والشكر الجزيل، أيها البطل
العظيم.
ابتسم الزبير ابتسامة خفيفة، وقال: هذا أمر ضئيل جدا، مقارنة بما فعلتموه في الحرب، وقد وجب أن يحدث مثل هذا التكريم منذ أمد بعيد، فسامحاني على التأخر.
فقال عاصم: يعجبني تواضعك، أيها الزبير. لم أر رجلا تتعانق فيه العظمة والتواضع مثلما يتعانقان فيك. ألف شكر لك. قائد عظيم ووفي، يقال إنك ابن الملك الثاني، ولكنني أراك تحبه أكثر من
محبة ابنه الحقيقي له.
وأكمل الرجال الثلاثة حديثهم.
***
بعد أقل من أسبوع، أعلم الزبير الملك بكل ترتيبات حفل التكريم. وقد أصدر الديوان الملكي مرسوما أعلن فيه عن حفل التكريم وموعده وموقعه. وقد تم إرسال الدعوات إلى الحضور وعلى رأسهم
الأقوياء الثلاثة، والقائد جاسم والقائد عاصم، وقادة قبائل الكثبة. وقد تم تحديد ما عرف ب "الساحة الجنوبية" موقعا لحفل التكريم، وهي ساحة كبيرة جدا واسعة جدا، تقع جنوبي قصر الضيغم،
وهذه الساحة مفتوحة على الهواء الطلق، وتحوي مدرجا كبيرا جدا، مبنيا من الحجر الأبيض جميل المنظر، وأمامها منصة ضخمة مرتفعة عن الأرض بمسافة كبيرة، خصصت لجلوس الملك
والأمراء وكبار حاشيته. وقد خصصت هذه القاعة منذ بناء قصر الضيغم للخطابات والاحتفالات الملكية الكبيرة.
ولأن الأمير ريانا لن يحضر التكريم، أرسل لوالده كلمة كتبها خصيصا للحفل، وطلب أن يلقيها الزبير نيابة عنه.
***
في صباح يوم التكريم توجه الزبير إلى غرفة الملك، فوجد الملك والملكة جالسين. ألقى عليهما التحية فرداها عليه.
جلس الزبير وطفق الثلاثة يتحادثون، حتى قالت الملكة كعادتها: سأذهب الآن، لتتحادثوا براحة عن تكريم اليوم.
"لماذا – يا مولاتي- تصرين دوما على المغادرة؟" سأل الزبير والتعجب جلي على وجهه، وأضاف: كما أخبرك دوما، لا شيء نخفيه عنك.
ابتسمت الملكة وقالت بصوتها الرزين: وأنا دوما أخبرك أن من يتدخل فيما لا يعنيه يلقَ ما لا يرضيه.
قامت الملكة وغادرت الغرفة.
بعدها قال الملك: هذا يوم عظيم.
ابتسم الزبير بطيبة ومحبة، وبادله الملك الابتسام بطيبة ومحبة أكبر.
ثم قال الملك: أريد أن نجتمع الأسبوع المقبل مع كل الوزراء لمناقشة ميزانية الدولة.
"أمر مولاي" قال الزبير.
حك الملك ذقنه بيده، وقال: أتمنى أن يكون الحفل م...
نهض الزبير بسرعة وركض نحو الملك، ثم وضع كفه على فم الملك، الذي لم يفهم ولم يستوعب ما الذي يجري. قلبه الزبير بقوة هائلة والكرسي أرضا، حتى بات ظهر الملك على الأرض،
ثم ركع الزبير على ركبتيه فوق الملك، في هذه الأثناء كلها حاول الملك أن يصرخ لكنه لم يستطع لأن الزبير أحكم قبضته على فمه. ولما بات ملقى على الأرض، جعل يحاول دفع الزبير بيديه
لكنه فشل بذلك؛ لأن الزبيرفاقه بكثير بالقوة الجسدية، ثم أضاف الملك إلى ذلك تحريكه أرجله بأقصى سرعة يستطيعها، لكنه فشل في إبعاد الزبير. وبينما الزبير يغطي فم الملك، استل الخنجر
الذهبي الذي أهدته إياه سمية، وطعن الملك ثلاث طعنات في قلبه الذي أحب الزبير ابناً له وكريان تماما، وأتبعها بطعنتين في بطنه. اجتاحت الملك صدمة وتفاجؤ هما الاكبر بحياته.
وبينما الزبير يطعنه، اتسعت عيناه أقصى اتساع وبرزتا بروزا عظيما حتى بدا كأنهما ستغادران رأسه! وتسارع العرق شلالات على وجهه وسائر جسده. آلمه قلبه في تلك اللحظات
أكبر ألم في حياته، حزنا من ابنه الزبير ومن خيانته له، حتى أكثر من الألم الذي شعر به عند مقتل كل أهله على يد ملك ياقوتة ذات يوم، اليوم الذي سُلِبَ فيه ملكُ البقاء، بل والبقاء كلها.
وبينما الملك ما زال حيا، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدم الغزير يجري سريعا من قلبه وبطنه ومن فمه ومنخريه، ابتسم الزبير ابتسامة صفراء قذرة ملؤها الشماتة والخبث، لعلها أقذر
ابتسامة في تاريخ البشرية، وقال وهي تعلو وجهه: خسئت أن تكون الملك وأنا موجود.
قالها ويعلو وجهه تعابير شيطانية قاسية وعبوس عظيم، وهذا حال وجهه منذ بدأ عملية الاغتيال. اتسمت طعناته الخمسة للملك، بالقوة الشديدة، والعنف البالغ، والسرعة الهائلة.
لفظ الملك أنفاسه الأخيرة، وترجل الفارس الأسطوري أخيرا وغادر الحياة، وهكذا قتل الزبير الملك، قتل أباه، وقتل معه المحبة والوفاء والعشرة، قتل التاريخ واللحظات الجميلة والذكريات الخالدة،
قتل الإنجازات المشتركة، قتل الأسطورة التي قدسها طيلة عمره، أسطورةَ الملك الهارب التي كذبها نسبة هائلة من أهل البقاء، في حين آمن بها الزبير إيمانا مطلقا، قتل الرجل الذي حقق معه
المستحيل وحرر معه مملكة ظنها الجميع ذهبت بلا عودة، قتل الزبير البنوة التي بداخله، والأهم من هذا كله قتل الزبير المروءة التي بداخله.
بعد عملية الاغتيال التي تمت بسرعة البرق، لم ينتظر الزبير كثيرا، ففورا سحب الزبير جثة الملك وأخفاها خلف السرير، ثم أحضر لحاف السرير ومسح به الدم الذي انتشر على أرضية الغرفة،
ثم مسح قدر استطاعته الدم الذي أتى على يديه ولباسه، وفورا خرج مسرعا ووقف هنالك على باب غرفة الملك حارسان، أحدهما على يمين الباب والآخر على يساره. الزبير،
رغم أنه حتى في تلك اللحظات العصيبة جدا اتسم بالهدوء والثقة اللذين عرف بهما دوما، إلا إنه مثل أمام الحارسين أنه مرتبك متلبك هلع، وقال وهو هكذا: الملك أصابه مكروه! إنه لا يتنفس!
اندفع الحارسان بسرعة إلى الداخل، واندفع الزبير بسرعة خلفهما، فأصبح أحدهما في المقدمة، يليه الآخر، فالزبير.
قال الحارس الذي في المقدمة بعد أنْ لم ير الملك: أين الملك؟!
في هذه الأثناء كان الزبير قد استل خنجره الذهبي، فوضع كفه من الخلف حول فم الحارس الأقرب عليه، وجز عنقه.
وبينما الحارس المغدور يسقط أرضا، صرخ الحارس الثاني غير مصدق: أيها الوغد الخائن!
واستل سيفه وهجم على الزبير وضرب بسيفه يقصده. تحرك الزبير جانبا وتفادى الضربة، ثم تبادل المقاتلان الضربات بسيفيهما وخنجر الزبير، قبل أن يضرب الزبير صدر
الحارس بسيفه ليشقه فيسقط صريعا على الأرض.
ومن جديد لم ينتظر الزبير، ففورا خرج من الغرفة، وبينما هو على بابها أشار لرجلين كانا قد اصطحباه، وقد لبسا زي الحرس الملكي!
وقف الرجلان على يمين باب الغرفة ويساره، والزبير أوصاهما مسبقا ألا يسمحا لأحد بدخول الغرفة نهائيا حتى زوجة الملك وعائلته وسائر أقربائه، وأي أحد من كبار الدولة،
وأن يخبروا أي امرئ يريد الدخول أن الملك يعاني وعكة صحية وطلب ألا يراه أحد.
أعطى أحد الحارسين الزبير صرة كان يحملها، فأخذها الزبير ودخل الغرفة، وأخفى الجثث الثلاثة أسفل السرير، ثم أخفى آثار الدم في الغرفة. بعدها فتح الصرة المغلقة،
فأخرج منها قربة ماء كبيرة، غسل من خلالها الدماء التي علت جسده، ولما فرغ من ذلك، نزع ثيابه وأخرج ثيابا من الصرة ولبسها، وكل هذا حتى لا يرى أحد أي دماء لو ظل لابسا ثيابه القديمة!
***