الهروب إلى الجحيم ١

هبة الله محمد`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-05-16ضع على الرف
  • 3K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

مقدمة الفصل الاول

مقدمة

أنا ليلى فهمي الدوري، أنت لا تعرفني ، ربما أو تعرفني ، لا يهم ، ربما التقيت بي صدفة في الشارع أو رأيتني وأنت جالس في مقهى على قارعة الطريق أو لمحت صورتي تمتزج بأخيلة المارة على واجهة إحدى المحلات ، وتذوب لتختلط بشكل المعروضات ، لكنك لن تذكرني فلست ممن يعلق بالذهن كثيرا أو هكذا أصبحت ، هذه الطرحة الملفوفة حول الوجه على عجل ، والخصلات البيضاء التي تخرج من أسفلها في إهمال ، نعم خصلات بيضاء لامرأة لم تصل الأربعين بعد فما رأيته ليس بالقليل لكن مهما شطح بك الخيال فلا يمكنك أن تتصور أن واحدة مثلي قد تعرف عنك كل شيء ربما وأحيانا أكثر مما تعرف عن نفسك !
عندما تتجاوز الثلاثين مثلي ثم تصطدم بحقيقة أنك لم تكن تعرف شيئا عن العالم من حولك ، عن البشر وعن أقرب الأقربين إليك ، فجأة تكتشف أن من كان شريك حياتك كانت لديه حياة أخرى ، لم تكن تعرف عنها شيئا ، ولم تكن لتعرف لولا أنه مات فجأة .
وفي الوقت الذي كنت فيه ما أزال أحاول استيعاب معنى كلمة (أرملة) التي أصبحت لقبي ، وحيدة ضائعة كطفلة فقدت أبويها في منتصف الطريق ، ظهرت تلك المرأة من لا مكان تطالب بحقها ، وحق ابنها في الإرث وحاولت أنا أن أفهم أي شيء ، نعم أي شيء دون جدوى . ولأول مرة أشعر بمقدار غبائي أمام هذا العالم العبقري الجنون.
بالفعل لم أكن أفهم ، ولم يكن هناك من يعينني على الفهم ، بينما بدا أن تلك المرأة الغريبة الأخرى تعرف كل شيء عني حتى خيل إليَ أنها قادرة على معرفة لون فرشاة أسناني .
كان موقفي الأضعف ، بلا أولاد ، بلا عائلة ، بلا معرفة لأي شيء عن أي شيء . وسارت الأمور مثلما تسير أية أمور أخرى مماثلة يعرفها محترفو الحياة في هذا العالم ، لكنني من وقتها أصبت بهذا الهوس الجنوني لمعرفة كل شيء عن الآخرين .
أولئك السائرون في الشوارع ، في أماكن العمل ، الذين لا تعرف عنهم سوى وجه واحد ، صورة واحدة ، لكن حقيقتهم تبقى مختفية وراء أقنعة الوجوه البلاستيكية الباردة .
أولئك الذين يظهرون على شاشات التلفاز يتكلمون يبتسمون ويقضبون ، ما الذي يفعلونه عندما ينفردون بأنفسهم عندما يخلعون ثيابهم الاجتماعية ويمددون أرجلهم على أسرة الذات .
حقيقة كنت أريد أن أعرف ، والفضول امرأة ، هكذا يقولون ، لكنني لم أكن فضولية هكذا أبدا طوال حياتي، تغيرت كثيرا في الأعوام الأخيرة ، أصبحت أكثر صمتا ، وأكثر ميلا إلى الغوص في التفاصيل المعرفية ، شيء يشبه النيكروميكون ؛ علم تشريح الموتى لمعرفة ما كانوا يعرفون، أنا أشرّح الأحياء لأعرف ما يعرفونه لو كان هذا التشبيه يعجبك.
قد لا يكون الفضول عيبا في حد ذاته فالفضول يحرك الحياة ، الفضول يجعل الجرائد تباع والكتب تقرأ والأفلام تُشاهد .
لِمَ يحب الناس قراءة أبواب المشاكل في الجرائد والمجلات ؟ ليس للاستفادة من الخبرات الأخرى كما تعتقد ولكنه الفضول ، الرغبة في معرفة أكثر عن الآخرين. صفحات الحوادث ، السياسة ، حتى استكمال رواية بدأتها يحمل فضول الرغبة في معرفة ما سيحدث للبطل !
يقولون أنه لو وجدت المدينة الفاضلة لكانت جرائدها مملة جدا ويبدو هذا منقيا جدا !
لابد وأنك ستصاب بالذهول لو فتحت أدراج مكتبي ورأيت تلك الملفات المتراكمة، وعلى غلافها تتراص الأسماء . بشري سليم ، نادية حلمى ، أحمد فتحي و........أسماء كثيرة أخرى ، هل وجدت اسمك بينهم ؟ ! لا تندهش لو حدث !
الأدهى عندما تفتح تلك الملفات الأعمق بكثير من ملفات المخابرات والأوضح صورة والأشد خطرا !
جمعت كل شيء عن هؤلاء الأشخاص الذين لم أعرفهم من قبل قط ، عرفت كل شيء عنهم دون أن يعرفوا حتى من أنا ، ربما عرفوا الاسم أو الشكل لكنهم لم يفكروا يوما فيما يمكن أن يكون مقدار معرفتي عنهم.
أجمع، واجمع تلك المعلومات وتتراص الملفات فوق بعضها ، مستمتعة بمعرفة أن هناك من هم أكثر مني غفلة في هذا العالم ، لست وحدي الغبية، لست وحدي الضعيفة والمهزومة ، كلهم كذلك ، كلهم ، بلا استثناء.
كل هذا رائع ، كل هذا يجعلني انتشي ، لكن أشياء كثيرة تغيرت في الفترة الأخيرة جعلتني أستبدل النشوة بالذعر ، والقوة بالضعف ، ذلك عندما بدأت الملفات تختفي واحدا وراء الآخر و............................


الملف الأول
( بشرى سليم )

إن الزوج الفقير مرهق في كل شيء حتى عند الطلاق والخلاص النهائي منه ، هذا ما أدركته بشرى متأخرا جدا ، في السابق لم تكن تفكر في مثل تلك الأمور، ولم تتخيل يوما أنها قد تفكر فيها.
عندما تحصل المرأة على الطلاق من رجل ثري فإنها تحصل معه على نفقة مناسبة تكفل لها معيشة مريحة دون أن تضطر للبحث عن عمل أو محاولة التعايش بمبلغ خرافي لا يكفي لإطعام نملة كالذي حصلت عليه هي الآن.
في الأفلام يظهرون الفتي الفقير- الذي تركته فتاته لتتزوج من رجل غني - بمظهر البائس ذي القلب الكسير ، وهي النذلة القاسية القلب التي لم تضحِ من أجل الحب ، وفي الجرائد والمجلات والبرامج التليفزيونية يظهر بعض العامة والمحللون الاجتماعيون يهزون رؤوسهم في أسف ، ناعين سلوك فتيات هذه الأيام اللاتي أصبحن ماديات أكثر من اللازم.
أما هي فمتأكدة من شيء واحد ؛ أن واحدا من هؤلاء لم يجرب التضحية بالزواج من شاب فقير في بداية حياته تحت مسمى الحب ، ولم ير أحدهم ما الذي يتحول إليه هذا الشاب الرومانسي الحالم بعد مرور مدة قصيرة على الزواج و ذهاب فورة الانبهار الأولى.
بدأ زوجها عزف تلك السيمفونية التي لم يتوقف عنها حتى حصلت على الطلاق ، زملاءه الآخرون سافروا وكونوا مستقبلهم ولم يربطوا أنفسهم بالزواج المبكر مثله ، وانه لولا ارتباطه بها لكان الآن قد أصبح ثريا ، لديه سيارة من أحدث طراز ، وشقة في أفضل موقع بالمدينة وبالطبع زوجة أفضل منها بكثير.
كانت كعادة كل النساء تشك في أن أمه هي مصدر كل هذا الكلام ، خاصة وأنها لم تكن موافقة على تلك الزيجة منذ البداية وظلت تغلي غيظا من هذه الحماة الشريرة النكِدة ، لكنها وبمرور الوقت بدأت تفكر في أنه لو لم يكن مقتنعا بهذا الكلام لما ردده ، وانه لو كان يستمع جيدا لنصائح والدته لما تزوجها من الأساس .
مرة في مرة انتقلت لها العدوى هي الأخرى ، وصارت تغزف أنشودة العريس الثري الذي رفضته من أجله ، هذا بالرغم من أنه لم يتقدم لها أي عريس ثري على الإطلاق وتشك في أنه كان من الممكن أن يحدث ، لكن تلك الكلمات المستمرة منه كانت تشكل إهانة شديدة لها ، كانت تقول وبكل وضوح ، أنت لم تكوني شيئا يستحق تضحيتي ، لذا كانت لابد وأن ترد بذات الطريقة ، و من بدأ هو الأظلم كما يقال.
منذ اصطدمت بالحقيقة وهي كلما قرأت في الجريدة المشكلة الأزلية للشاب الذي تركته فتاته لأنه لم يكون مستقبله بعد ، تبتسم في شماتة ، وتهز رأسها قائلة:
-  " فتاة تفهم الدنيا بحق ."
ثم تبتئس مكملة:
-  " ليست غبية مثلي . "
في أحيان أخرى ، عندما كانت تجلس مساءً في الشرفة مع كوب من الليمون البارد، تدغدغها نسمات الصيف المنعشة وتسمح لها بالغوص في بواطن الأمور وتحليلها على نحو أفضل ، كانت تفكر في أنه حتى لو كان هو ثريا والتقيا في ظروف أفضل فإنهما لم يكونا سيصلحان لبعضهما أيضا ، وكان الأمر سينتهي بالطلاق كما هو الحال الآن ،ليس هذا لأنه كان إنسانا سيئا إلى هذه الدرجة وعليها أن تعترف بهذا وإن كان أحدا لن يسمع اعترافها بطبيعة الحال .
لقد اعتادت على أن تصوره في أسوأ صورة ممكنة أمام المحامين والقضاة الحقيقيين ، وأيضا أمام المحامين والقضاة من الأقارب والمعارف والجيران كي تحصل على حقها من النفقة والشفقة بطبيعة الحال ، لكن الحقيقة - تقولها أمام نفسها الآن - انه لم يكن أسوا من أي واحد آخر لكنهما لم يكونا متفقين.
ضع الليمون على اللبن فستحصل على سائل فاسد كريه ، ليس معنى هذا أن الليمون سيء أو أن اللبن كذلك ، كلاهما جيد لكن بمعزل عن الآخر، لو وضعت الزيت فوق الماء فإنهما لن يمتزجا أبدا مهما حاولت .
إن الطبيعة تخبرنا بأشياء كثيرة ، لكننا نتميز بالغباء المحكم للأسف ، ولا نتعلم أبدا إلا عندما نسقط على رؤوسنا فقط لنكرر نفس الغلطة بعد عدة خطوات قصيرة من موضع السقوط.
وتساءلت ، ما الذي جمعهما منذ البداية يا ترى ؟ كان الاختلاف واضحا كالشق في الحجر لكن لعنة الله على روايات الحب وأفلامه !! لا تقع بين يديها الآن رواية عاطفية إلا وتحرقها في تلذذ ؛ هذه أحد مصادر الوباء في العالم أجمعه !
لقد جعلتهما يقنعان نفسيهما بأنهما يحبان والحقيقة أن الأمر لم يكن أكثر من انجذاب طبيعي كما يحدث عندما يلتقي قطبي مغناطيس مختلفين .
كانت متأكدة من انه لو اختفت أغنيات الحب ، وأفلامه ورواياته لما سقط الناس في حفرة التقليد وانكسرت رقابهم مثلها .
لهذا تنتشر أغنيات الحب ، هكذا فكرت ، إن الناس تحب الأشياء الخيالية التي تخفف عنهم وطأة الحياة الواقعية، فقط لتجعلها أكثر وطأة لو صدقوها .
لو قدر لها أن تكون مسئولة في الدولة لبذلت جهودا مضاعفة في سبيل مكافحة هذا الوباء المسمى الحب ، ولأحرقت كل هؤلاء المشعوذين والدجالين الذين يروجون له في ميدان عام، ، ودون أدنى قدر من التردد .
تلفحها نسمة هواء أخرى فتقلب ذكريات لم يكن لها أن تقترب منها ، كانت تحاول أن تتناساها ، كيف سمحت للامور بينهما أن تصل إلى هذا الحد ؟ كان يجب عليهما أن ينهيا الأمر مبكرا جدا ، قبل أن يصلا إلى هذه المرحلة اللعينة ، مرحلة التشابك بالأيدي ! لقد تدنى إلى درجة أن يضربها وتدنت هي إلى درجة أن ترد له الضرب !
لا ، لا يجب عليها أن تتذكر هذا الأمر ، قد انتهى كل شيء الآن.
هذا أمر يجب أن تحتفظ به داخلها ولا تعترف به حتى أمام نفسها كي تحفظ كرامتها أمامها.
صحيح أنها اضطرت أن تعترف به مرارا من قبل كي تحصل على حقوقها ، لكن تلك الأيام قد انتهت وليست مضطرة لمثل هذا الآن .
عليها أن تتخيل أن هذا لم يحدث أبدا ، لقد كان كابوسا وانتهى أو أنه قد حدث لواحدة أخرى تشبهها أو تحمل اسمها .
كانت تستفزه أحيانا أو كثيرا ، تعترف ، وتتذكر ذلك الباحث الغبي الذي أخبرها أنه يجري دراسة حول المطلقات ، تحمست للمساعدة قبل أن يخبرها أن البحث يدور حول نقطة لاحظها وهي أن أغلب المطلقات سليطات اللسان وهو يريد أن يعرف عبر بحثه إن كان هذا سببا أم نتيجة! يومها أرته سلاطة اللسان الحقيقية ، وجعلته لا يساوي بصلة في وسط الباحثين!
لكنها وبعدما ذهب تذكرت كم كانت تركز على أمور بعينها تعرف أنها ستجرحه ، كيف كانت تستغل كل نقطة ضعف تعرفها عن أسرته كي تحط من قدره أكثر ، يقولون أن الرجال ينسون لكنهم لا يسامحون ، ربما لم يتذكر التفاصيل لكنها تعرف أنه لم يسامحها أبدا ، ما فعلته معه كان سببا أم نتيجة لا تعرف ، حقا لا تعرف ، ولا تريد أن تتذكر المزيد عن تلك الأيام اللعينة!
لكن الأيام الحالية ليست أفضل بكثير ولا تتوقع أن تكون الأيام القادمة أفضل . إن مبلغ النفقة الذي تقبضه لا يصلح لأي شيء على الإطلاق أكثر من أن يعرض في متحف الأشياء المنقرضة تحت عنوان النفقات . هذا لو كان هناك معرض بهذا الاسم .
حاولت أن تكون مقتصدة جدا ، تطبق كل مبادئ الاقتصاد والسياسة أيضا التي درستها دون جدوى . لم يكن هذا المبلغ ليطعم امرأة وطفلا أبدا سوى في الأحلام أو لو عاد الزمن ثلاثين عاما إلى الوراء .
المشكلة الحقيقية أن الأمور كانت تزداد وطأة بلا توقف ، كأن هناك شبح خفي لن يجد سعادته وراحته إلا لو رآها هي وأمثالها يسحقون ويعصرون حتى آخر قطرة دم ، تتذكر أغنية مسلسل عربي قديم ، كانت تسمعه مع أمها وهي صغيرة:
واحلم بعين صاحية ولا تنامشي
غير لما تقطف زهر أحلامك.
أين هو صاحب تلك العين اللعينة ؟ لو وجدته لفقأتها له على الفور ، كل شيء أسعاره ترتفع بطريقة جنونية ، اقرب إلى الخبال ، انتهى ذلك الزمن الجميل الذي كانوا يتحدثون فيه عن زيادة جنينيهن أو حتى عشرة في أسعار الخضار ، هذا ارتفاع مسعور نهشها بنابه هي وأمثالها ، المشكلة الأكبر أن والدها لم يكن ينقصه هذا ، صحيح أن الرجل لا يتكلم ، لكنه ليس بحاجة إلى الحديث لكي يفصح عن ما به.
لقد كان متحمسا جدا لزواجها لكي يتخلص من جزء من الحمل الثقيل المرهق الذي ينوء به ، كي يستيقظ على كابوس يجدها فيه قد انقسمت إلى شخصين ، أحدهما لا يكتفي بحاجات الإنسان العادية بل يحتاج أيضا إلى حفاظات ولبن اصطناعي ، ألم يكن من الأفضل لو أنها لم تتزوج مطلقا !
لو كان هناك زر سحري كالموجود في الحواسب ، تضغط عليه فتنمحي كل الأخطاء التي ارتكبتها لكن هذا الزر ليس موجودا في الحياة للأسف .
كان من أكبر الأخطاء التي فعلتها هي دخولها تلك الكلية من الأساس ، لو لم تكن دخلتها لكان هذا سيلغي أشياء كثيرة أهمهما أنها لم تكن لتلتقي به أبدا .
تتذكر يومها أن جارتهم قد قالت شيئا عن أن هذه الكلية لا تعين سوى أبناء الأشخاص المهمين أما أمثالها فأقصى شيء يمكن أن تحلم به هو أن تصبح مدرسة اقتصاد في إحدى المدارس الثانوية يومها عزت كلمات المرأة إلى الغيرة ، تلك الحيزبون تغار لأن ابنتها بالكاد استطاعت دخول كلية الآداب وبالانتساب أيضا بينما قالت أختها إنها عادة الكبار في إحباط أحلام الصغار وتصنع الحنكة والخبرة بالحياة.
العالم أفضل بكثير مما تتخيله تلك المرأة التي تعيش في جحر صغير خانق لا يجعلها ترى دائما سوى الجانب المظلم من الدنيا ومن كل شيء فيها ، لكن يبدو أن هذه الجارة كانت متفائلة أكثر من اللازم فحتى وظيفة المدرسة لم تستطع الحصول عليها.
وهكذا بغباء شديد تندم عليه الآن قضت لياليها في المذاكرة بالرغم من حبها لهذا الفتى الصعلوك الذي لم يكن يذاكر مطلقا سوى قبيل الامتحان بأسبوع على الأكثر وكان ينجح دائما ، ليس بتفوق مثلها بالتأكيد ، لكن الرؤوس تساوت في النهاية ، ليتها هي فعلت مثله ، على الأقل لم يكن ليساورها هذا الشعور الغبي الذي ينغص عليها حياتها أكثر من أي شيء آخر وهو أنها كانت تستحق الأفضل ، ألم يكونوا يقولون أن من جد وجد ومن زرع حصد ، فما بالها لا تحصد إلا الهشيم ؟
ربما كان العيب فيها هي ، منحوسة كأنها شرارة بطل المسلسل العربي القديم ، تخرجت من العشرة الأوائل على دفعتها وكان هذا هو العام الذي قررت فيه الدولة أنها اكتفت من الأوائل ومن المتفوقين وأنها لا تريد سوى أصحاب المال وحدهم .

"الغربال الجديد له شدة."
تذكرت المثل الذي كانت أمها تردده . كانت هي مثل هذا الغربال الجديد عند تخرجها ثم بدأت ترتخي تلك الشدة رويدا، رويدا حتى أصبحت مترهلة تماما لا تصلح لأي شيء ، لكنها إذ وضعتها الظروف في تلك الورطة كانت مضطرة للعمل .
عملت في مهن غريبة وغير مناسبة لم تتوقعها يوما لكن حتى تلك المهن التي رضيت بها آسفةً لم ترض هي بها.
عملت مساعدة في مطبخ احد المطاعم ، وهذا طبعا كي تختفي عن أعين من يمكن أن يعرفها ، لكن المشكلة كانت في كون انفها ينسد بسرعة فما إن تشم رائحة أي بهار حتى تبدأ في العطس ، لم تكن تجد أي غضاضة في هذا ، كانت تعطس وتكاد روحها تزهق ومع ذلك كانت تتحمل وتستمر ، لكن هذا سبب مشكلة لصاحب المطعم الذي اخبرها ان مشاكله مع وزارة الصحة لا تنتهي وانه لا تنقصه مشكلة اخرى في عاملة تنقل العدوى للزبائن ، عبثا حاولت تقنعه ان الامر لا يعدو كونه حساسية عادية وانها لاتعطس في قلب الطعام بالضبط لان تعاملها معه ليس مباشرا لانها مجرد مساعدة لكن الرجل لم يقتنع وهكذا فقدت وظيفتها الاولى .
والحقيقة ان والدها كان معارضا منذ البداية ان تعمل في هذا الطراز من المهن الذي لا يليق بها ، لكنه بمرور الوقت وتحت ضغط المصاريف بدأ يرتخي هو الآخر ، تماما كالغربال العبقري الذي كانت تحكي عنه امها نقلا عن جدتها ، كلنا نشبه الغرابيل هكذا فكرت، مليئين بالثقوب التي تمر عبرها الذكريات الدقيقة الناعمة، ولا يتبق لنا سوى الحجارة والطين ، ونرتخي بمرور الوقت نرتخي حتى نصبح غير صالحين سوى للالقاء في القمامة مثلها الآن .
فكرت في ان تتعلم الحاسوب وتعمل في مجاله لكنها اكتشفت ان الجمهورية باكملها تفكر ذات التفكير وان السوق قد اختنق بعددهم ، حتى ان خريجي تخصصات الحاسوب انفسهم لم يعودوا يجدون لانفسهم مكانا سوى بصعوبة من فرط الزحام .
لم يحنقها سوى النقود التي دفعتها في تلك الدورات اللعينة ، لانها أخدتها من والدها الذي كان يسألها كل يوم باهتمام :
-  "ها ، ما الأخبار؟"
ولما وجد ان الاخبار لا تتغير، أصابه الاحباط ولم يعد يسأل ، كم يوجعها أنها صارت شوكة في حلق الرجل الذي وهبها الحياة ، كانت تسمعه وهو يدير دفة الحديث بعيدا كلما سأل أحد الأقارب عن أخبارها ، الأخبار اسوأ مما يمكن أن يتصور أحد.
عملت بعدها فترة في محل بقالة متطور نوعا ، لكن المشكلة ان صاحب المحل كان يعتبرها ضمن الاشياء التي تباع وتشتري تماما كالصابون والشاي والسكر ،وحاولت هي بشتى الطرق السلمية ان تقنعه انها ليست من هذا الطراز ، في النهاية اضطرت - وبعد ان وضعت راتبها في جيبها- ان تقنعه بطريقة اقوى اكثر فاعلية رنت على وجهه وتركته محمرا وبالطبع لم تعد للعمل ثانية هناك وإلا لتحولت إلى لحم مفروم في ثلاجة المحل.
آخر وظيفة لها كانت في محل للاتصالات ، تحملت الاستغلال المريع لساعات العمل الطويلة مقابل راتب لا يوازيها ، وتحملت سخافة الفتى الذي يعمل في معرض السيارات المجاور ويرى ان من حقه ان يصادق كل فتيات المحلات القريبة ، تحملت كل هذا لكن صاحب العمل لم يتحمل انخفاض الايراد فاتهمها بالسرقة ، حاولت ان توضح له ان السبب هو انتشار وسائل الاتصال الاخرى وان الاقبال قد قل على مثل تلك الاماكن لكن الرجل اصر على طردها واستخدم واحدة اخرى ، وقد مرت عليه بعدها بفترة فوجدته مغلقا تمهيدا لتحويله لنشاط آخر.
بدأ ينتابها اليأس والغيظ والحنق، هذا عالم سيء يستحق الضرب بالاحذية، يستحق النسف، وصارت تهلل كلما سمعت عن ارهابيين في نشرات الاخبار حتى لو كانت التفجيرات في كوريا الجنوبية!!
كله عالم لا يستحق، وهذا هو التصرف المناسب لاي شخص قلق على مستقبل البشرية، هذه البشرية لا يجب ان يكون لها مستقبل على الاطلاق !
إن أفضل مستقبل متوقع لها هو أن يبيع الناس بعضهم على العربات بالكيلو أو يعود معظمهم عبيدا كما كانوا من قبل.
ثم تعود لتفكر ، فاشلة ، هي فاشلة بل ما تعنيه الكلمة ، فاشلة كزوجة ، فاشلة كابنة ، كأم ، وكامرأة عاملة ، العيب ليس في العالم بل فيها هي من يجب أن تنتحر كي يتخلص العالم من بؤسها المريع .
كان هذا قبل ان تظهر سوسو في حياتها ، ان سوسو فتاة رائعة بارعة ، لمِ لم تصادقها من قبل بدلا من صديقاتها الحمقاوات اللاتي لا يعرفن سوى الشكوى وان يحسدنها على ابسط شيء تملكه حتى يسقط منها في بالوعة الحياة وتفقده .
ان سوسو وهذا بالمناسبة اسمها كما هو مدون بالبطاقة وليس تدليلا ، تعرف كيف تجعل اصدقائها سعداء ، كيف تساعدهم في ايجاد عمل يدر ارباحا خيالية ، كيف............؟ أنت لا تعرف سوسو بالمناسبة ،أليس كذلك ؟ لابد وأن تعرفها أولا كي تعرف ما يمكن أن تفعله!!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي