الفصل الأول
كانت صغيرة نائمة بفراشها بعد أن حدثت والدها الذى سيعود غدا ، فقد أجرى عملية دقيقة بالقلب منذ عدة أيام و حان وقت العودة لأحضان الوطن من جديد .
شعرت بحركة غير إعتيادية حولها ، حركة أجفلت غفلتها الهادئة ، فاقت من نومها علي لون أسود منتشر في أنحاء الغرفة ، الجميع يرتدى السواد ، ذلك اللون الحزين الذى يتخذه الناس عنوانا للفقد .. لم تكن بحاجة للاستفسار عن ماذا يحدث .. فقد أيقنت الان أن الحبيب فارق ، و أن القريب سيأتى ليلقى على مسامعها ذاك الحنان الزائف الذى سوف ينتهى بإنتهاء مراسم العزاء ..
فاقت من ذكريات ذاك اليوم المشؤوم عندما توقفت سيارة الاجرة التى تستقلها أمام بيتها فمدت يدها فى حقيبتها وأتت ببعض الاوراق النقدية وأعطتها للسائق ثم ترجلت و دلفت الى العمارة التى تقطنها مع أخيها و زوجته و أبنائهما ..
صعدت السلالم العالية بهدوء حتى وجدت إحدى الشقق السكنية تفتح بقوة أفزعتها و صوت عالى يصرخ
:- إيه اللى أخرك كل دة يا هانم
وضعت " ليلـة " يدها على صدرها بفزع و لكنها سرعان ما هدأت عندما تبينت من هوية المتحدث فهتفت
:- يخربيت شكلك يا شيخة فجعتينى ، حرام عليكى هتجيبيلى جلطة .
قهقهت مريم عاليا و قالت و هى تجذب ليلـة للدخول معها لشقتها
:- المفروض تكونى إتعودتى يا لولى .. تعالى بقى اقعدى معايا شوية ، مفيش حد هنا ماما و بابا نزلوا .
سحبت الأخرى يدها و وقفت معترضة
:- مش هينفع دلوقتى يا مريم ، انا متأخرة فى الشغل انهاردة و عايزة أدخل أخلص اللى ورايا قبل أبيه محمود ما يجى من الشغل ، و مش عايزة أعمل مشكلة مع طنط سحر على الفاضى و انتى عارفة إنها بتتلكك .
تنهدت مريم بضيق و ربعت يديها أمام صدرها و قالت بإمتعاض
:- و الله يا بنتى أنا مش عارفة إنتى إيه اللى مسكتك على معاملتها ليكى دى .. يعنى تيجى من شغلك تروقى البيت و تعملى الأكل و هى قاعدة برنسيسة ما بتعملش حاجة ، ليه يعنى ؟!
تطلعت لها ليلـة بحزن و ردت
:- و بعدين يا مريم ؟ مش كل مرة نفس الكلام دة ! انتى عارفة أنا مستحملة بالعافية أصلا و بعدى بمزاجى و مش عايزة أعمل مشاكل ، علشان دة بيت بابا الله يرحمه يعنى فى الاول و فى الآخر دة بيتى محدش يقدر يطلعنى منه مهما حصل .. بس بمشى أمورى علشان مش عايزة وجع قلب .
شعرت مريم بضيق صديقتها فإقتربت منها و لكزتها بيدها و قالت
:- خلاص متزعليش .. أنا و الله مش قصدى أزعلك إنتى عارفة أنا بحبك أد إيه و متضايقة من اللى بيحصل فيكى .
إبتسمت ليلـة بألم و أردفت
:- و أنا بيحصل فيا إيه يعنى ، دة العادى و الحمد لله أنا أحسن من غيرى كتير ، على الأقل أبيه محمود بيحبنى و حنين و يوسف و لو على طنط سحر مش مهم لأجل الورد يتسقى العليق ..
ثم نظرت لرفيقتها و تصنعت القوة و المرح بآن واحد قائلة
:- أخرتينى منك لله ، هسمع موشح أد كدة دلوقتى
ألقت كلماتها و هرولت الى أعلى فصاحت الأخرى
:- شوية و هطلعلك .
:- ماشى هستناكى .
ردت و دلفت الى الشقة مسرعة تبحث بعينيها عن زوجة أخيها فلم تجدها ، ربما تكون نائمة .. زفرت براحة فهى ليس لديها إستعداد للدخول بأى مشاحنات الآن .
:- لولـــــــــــى
إنتبهت للصغير الذى أتى إليها مسرعا عندما لمحها .. فتلاشى ضيقها سريعها و إنحنت تتلقفه بين يديها بحب ثم حملته و تحركت به ببطء و جلست على أحد المقاعد المتراصة بالصالة و أخذت تقبل الصغير و تلاعبه ..
:- قلب لولـى ، وحشتنى أوى يا چو .
تحدث الصغير بمشاكسة و هو ينظر ليديها الفارغة و قال
:- وحشتك حاف كدة ، من غير شيكولاتة و لا شيبسى و لا أى حاجة !
:- اه يا مصلحنجى يعنى انت بتدلعنى علشان الحاجات اللى بجيبهالك بس ؟
قالتها ليلـة بصدمة و هى تطالع الصغير بأعين متسعة ، ليسرع الآخر بمراوغة
:- عيب يا لولى دة انتى حبيبتى ، أنا بس عارف إن ذوقك حلو و عارفة الحاجات اللى بحبها علشان كدة ببقى مستنى الشيكولاتات اللى بتجيبهالى .
ضحكت ليلـة على الصغير المشاكس و مدت يدها لحقيبتها و أخرجت كيس مملوء بالشيكولاتة و الحلويات و أعطتها له ، ابتسم لها بفرحة عارمة كأن لا أحد يجلب له شيئا من هذا و صاح و هو ينظر بداخل الكيس و يتفحص محتواه
:- الله عليكى يا لولى .. أحلى حاجة فيكى إنك مش بتثبتى على حاجة واحدة ، يعنى كل مرة بتجيبيلى حاجات مختلفة عن اللى قبلها علشان كدة مش بزهق أبدا ..
ضحكت ليلـة عاليا و هى تعبث بشعر الصغير الناعم و تحتضنه بحب صادق حتى إستمعت الى ذلك الصوت التى تكره مواجهته ، رغم أنها لا تبغضها أبدا لكنها لا تحب تصرفاتها معها ، تحكماتها بها ، دوما ما تشعرها أنها أقل من الجميع ، أنها عبء زائد على عائلتهم الصغيرة .
:- أخيرا جيتى ، كل دة تأخير ؟
أنزلت ليلة الصغير من على رجلها و نهضت متجهة الى غرفتها و هى تقول بهدوء
:- معلش صاحب الشغل أخرنى .
قالت سحر و هى تسير ببطء لتجلس بجانب الصغير ..
:- ما أنا قولت بلاش الشغل دة و إنتى اللى صممتى ..
زفرت ليلـة بضيق و لم ترد فهى تعلم جيدا ان النقاش سينتهى بمشكلة كبرى نهايتها ان تترك العمل ، و هذا مالا تريده مطلقا ، فهذا العمل بمثابة طوق النجاة لها من تلك المشاحنات الدائمة بينهم .
بعد قليل خرجت ليلـة ترتدى ملابس بيتية و تغطى خصلاتها الكستنائية بغطاء صغير ثم إتجهت الى المطبخ لتنجز وجبة سريعة قبل أن يأتى أخيها من العمل ..
وجدت سحر قد قررت مسبقا ما تريده اليوم على الغداء فأخرجت لها قطع من صدور الدجاج و مكرونة و أشياء أخرى لم تنتبه لها ، فأول ما جاء بعقلها الأكلة المشهورة و المحببة للجميع "مكرونة و فراخ بانيه " و لا بأس أن نشوى صدور الدجاج كى ننجز فى الوقت .
شرعت فى البدء حتى وجدت سحر أمامها و كأنها علمت ما تفكر به فقررت قطع جميع الطرق اليها فقالت
:- إعملى مكرونة بالبشاميل ، و الفراخ دى إقليها إنتى عارفة يوسف و حنين بيحبوها مقلية .
لم تتطلع لها الأخرى و قالت و هى تتحرك هنا و هناك لتحضير ما ستحتاجه لطهى الطعام
:- بس إنتى مش بتاكلى مكرونة بشاميل .
إبتسمت سحر بسخرية و ردت
:- اه ما انتى هتعمليلى طاجن رز معمر فى الفرن .
كتمت ليلـة غيظها و لكنها لم تهتم بما قالت و قررت تنفيذ ما جاب بخاطرها و لن تتنازل عنه مكرونة بالصلصة الحمراء و دجاج مشوى و قالت
:- معلش دة مش وقت تحقيق أحلام .. مفيش وقت للى بتقوليه دة ، أنا هعمل مكرونة بالصلصة و بانيه مشوى ، و وقت تانى اكون جاية بدرى و أعملك اللى إنتى عايزاه حاضر .
هتفت سحر عاليا
:- لا ما انتى مش هتأكلينا على مزاجك و ..
قطع حديثها صوت الباب فإتجهت لتفتحه و هى تتمتم بغيظ حتى وجدته زوجها فإبتسمت بمكر فهى فرصتها الآن ..
دخل محمود بهدوءه المعتاد فجرى اليه الصغير يحتضنه بحب ثم القى بصره على زوجته التى تقف عند الباب و على وجهها ملامح متجهمة ، فمال عليها و طبع قبلة على جبينها و منحها إبتسامة لطيفة كى تتخلى عن تلك التكشيرة ، و سرعان ما ابتسمت و أمسكت بيده و قالت بدلال و هى تتجه الى غرفتهم الخاصة
:- تعالى غير هدومك و ريح شوية .
أغلقت الباب خلفهم و همت بمساعدته فى تبديل ملابسه ، فسألها كعادة اى زوج أصيل
:- فى غدا ايه انهاردة ؟ أنا واقع من الجوع .
تحدثت بخفوت و هى تعبث بأزرار قميصه
:- و الله أنا كنت ناوية أعملك مكرونة بشاميل و البانيه اللى بتحبه ، و رز معمر كمان
سال لعابه على سيرة تلك الأكلات التى يحبها جميعا و رسمت بسمة سعيدة بلهاء على وجهه و لكنها قطعت عليه أحلامه حين قالت
:- بس أختك جت متأخر إنهاردة من الشغل و ملحقتش تعمل أكل و قالت هتعمل مكرونة عادية و بانيه مشوى ..
و ها قد عادت ملامحه الهادئة مجددا ، ربما إستحسن الأكل الذى ستعده أخته لكنها قررت طرق الحديد و هو ساخن فأردفت
:- الشغل دة هيأثر عليها و علينا إحنا كمان ، إنت يعنى هتعمل ايه بشغلها ؟ بصراحة الجيران بدأت تتكلم و يقولوا انك مش قادر على مصاريفها علشان كدة وافقت تشغلها ، و الله أعلم بقى مش يمكن هى اللى قالت الكلام دة ، هى بردو لسة صغيرة و ممكن يجى فى دماغها ألف حاجة و الف واحد ممكن يلعب فى دماغها .
بدا شاردا بما تقوله زوجته ، و بعد تفكير طويل قرر التحدث مع أخته بشأن عملها الذى لا يعلم عنه شئ سوى أنها فقط تعمل !
أنهت ليلـة الطعام أخيرا و لم تعر إنتباها لتلك التى التقطت أخاها لتبث السم بأذنه ، رغم أنها تعلم و لكنها تتجاهل و كم هى بارعة فى ذلك .
دخلت اليها حنين إبنة أخيها التى تصغرها بعام واحد فقط نظرا لفارق السن الكبير بينها و بين أخيها من أبيها .
قبلتها حنين بوجنتها و قالت و هى تتفحص الأوانى الموضوعة على الموقد و تشم الرائحة المنبعثة منها بفم متسع من الإبتسام
:- الله على روايحك يا لولى .. إيه الجمال دة .
إبتسمت لها ليلة و قالت
:- لا و لسة لما تدوقى كمان ، يا بنتى أنا أكلى لا يعلى عليه أساسا أومال إنتى مفكرة أمك بتدبسنى فيه ليه علشان هى مبتعرفش تطبخ .
قهقت حنين عاليا ثم وضعت يدها على فمها لتكتم ضحكاتها قائلة
:- وطى صوتك .. لو سمعتك هتجرى ورانا بعصاية المكنسة .
أكملت ليلـة ساخرة
:- لا يا حبيبتى هى هتجرى وراكى انتى .. انا محدش يقدر يجرى ورايا ، و بعدين هى عارفة أصلا ان اكلى احلى منها فمش هتتكلم .
:- بس بس علشان جاية .
غمغمت بها حنين عندما رأت أمها قادمة اليهم ، و أخبرتهم بتجهيز الغداء .. فأومأت لها حنين سريعا و هى تجلب بعض الأطباق لتضع بها الطعام و هى تكتم ضحكاتها بصعوبة ، إنصرفت سحر بعجرفتها المعتادة لتنفجر الفتاتان و تعلو ضحكاتهم و هم يضعون الطعام بالأطباق .
التف الجميع حول المائدة و منذ أن بدأ أخوها بالحديث فهمت ما يرمى اليه !
:- إنتى بتتأخرى فى الشغل ليه يا ليلة ؟
قالها و هو يتذوق ما أمامه فأجابته بهدوء دون حتى أن ترفع عينيها عن طعامها
:- مش بتأخر ، دى أول مرة بس إنهاردة علشان فيه شغل جديد فى المكتبة و كنت لازم أعمل جرد
رفعت عينيها الى زوجة أخيها التى تتابع ما يحدث بلا مبالاة و كأنها ليس لها يد بما يحدث ثم أردفت
:- و بعدين ما أنا كل يوم بروح الشغل متأخر ، مش هيجرى حاجة لو إتأخرت شوية فى الرجوع .
فهم أخيها ما ترمى إليه فهو يعمل كّم المسؤولية التى تتحمله ، و لكنه يتغافل !
لا يريد أن يقحم نفسه فى علاقتهم سويا حتى لا تزيد المشكلات بينهم ، و عندما وصل الى هذه النقطة قرر إنهاء الحوار التى سعت زوجته اليه حتى تمر الأيام بينهم فى سلام .
تحدث أخيرا قائلا بتحفز و هو يضع المزيد من الطعام بفمه
:- ابقى إصحى بدرى شوية و روحى شغلك بدرى علشان متتأخريش تانى .
إبتسمت ليلة بسخرية و كأنها تريد أن تخبره أنها بذلك عليها ألا تنام مطلقا لتسد ما تتركه زوجته من فراغ !
رمقتها سحر بنظرة ماكرة أدركتها ليلة سريعا و لكنها تغاضت عنها و أكملت طعامها فى صمت قطعه الصغير عندما أشاد بطعم أكلها و قال
:- أكلك حلو أوى يا ليلة أنا كدة هبقى قلبوظة خالص
ضحكت ليلة على براءة طفولته و كم تمنت ان تظل تلك البراءة طويلا .
إنتهى الجميع و قامت ليلة و حنين بتنظيف الطاولة و جلى الأطباق و بعد أن تنتهى تدخل الى غرفتها و تقرأ وردها اليومى ثم تذهب الى فراشها و تخلد للنوم ،كما تفعل يوميا كروتين ممل لا يتغير به شيئا
و فاتنة تهرول بالطريق الخالى تماما من البشر و خاصة فى وقت القيلولة هذا ، شعرها الغجرى منثور خلفها سابحا فى بحره الأسود ، يحثها على الإسراع حتى لا تقع فريسه لذلك الذئب البشرى الذى من الواضح أنه لا يعلم هويتها .
شعرت بحركة غير إعتيادية حولها ، حركة أجفلت غفلتها الهادئة ، فاقت من نومها علي لون أسود منتشر في أنحاء الغرفة ، الجميع يرتدى السواد ، ذلك اللون الحزين الذى يتخذه الناس عنوانا للفقد .. لم تكن بحاجة للاستفسار عن ماذا يحدث .. فقد أيقنت الان أن الحبيب فارق ، و أن القريب سيأتى ليلقى على مسامعها ذاك الحنان الزائف الذى سوف ينتهى بإنتهاء مراسم العزاء ..
فاقت من ذكريات ذاك اليوم المشؤوم عندما توقفت سيارة الاجرة التى تستقلها أمام بيتها فمدت يدها فى حقيبتها وأتت ببعض الاوراق النقدية وأعطتها للسائق ثم ترجلت و دلفت الى العمارة التى تقطنها مع أخيها و زوجته و أبنائهما ..
صعدت السلالم العالية بهدوء حتى وجدت إحدى الشقق السكنية تفتح بقوة أفزعتها و صوت عالى يصرخ
:- إيه اللى أخرك كل دة يا هانم
وضعت " ليلـة " يدها على صدرها بفزع و لكنها سرعان ما هدأت عندما تبينت من هوية المتحدث فهتفت
:- يخربيت شكلك يا شيخة فجعتينى ، حرام عليكى هتجيبيلى جلطة .
قهقهت مريم عاليا و قالت و هى تجذب ليلـة للدخول معها لشقتها
:- المفروض تكونى إتعودتى يا لولى .. تعالى بقى اقعدى معايا شوية ، مفيش حد هنا ماما و بابا نزلوا .
سحبت الأخرى يدها و وقفت معترضة
:- مش هينفع دلوقتى يا مريم ، انا متأخرة فى الشغل انهاردة و عايزة أدخل أخلص اللى ورايا قبل أبيه محمود ما يجى من الشغل ، و مش عايزة أعمل مشكلة مع طنط سحر على الفاضى و انتى عارفة إنها بتتلكك .
تنهدت مريم بضيق و ربعت يديها أمام صدرها و قالت بإمتعاض
:- و الله يا بنتى أنا مش عارفة إنتى إيه اللى مسكتك على معاملتها ليكى دى .. يعنى تيجى من شغلك تروقى البيت و تعملى الأكل و هى قاعدة برنسيسة ما بتعملش حاجة ، ليه يعنى ؟!
تطلعت لها ليلـة بحزن و ردت
:- و بعدين يا مريم ؟ مش كل مرة نفس الكلام دة ! انتى عارفة أنا مستحملة بالعافية أصلا و بعدى بمزاجى و مش عايزة أعمل مشاكل ، علشان دة بيت بابا الله يرحمه يعنى فى الاول و فى الآخر دة بيتى محدش يقدر يطلعنى منه مهما حصل .. بس بمشى أمورى علشان مش عايزة وجع قلب .
شعرت مريم بضيق صديقتها فإقتربت منها و لكزتها بيدها و قالت
:- خلاص متزعليش .. أنا و الله مش قصدى أزعلك إنتى عارفة أنا بحبك أد إيه و متضايقة من اللى بيحصل فيكى .
إبتسمت ليلـة بألم و أردفت
:- و أنا بيحصل فيا إيه يعنى ، دة العادى و الحمد لله أنا أحسن من غيرى كتير ، على الأقل أبيه محمود بيحبنى و حنين و يوسف و لو على طنط سحر مش مهم لأجل الورد يتسقى العليق ..
ثم نظرت لرفيقتها و تصنعت القوة و المرح بآن واحد قائلة
:- أخرتينى منك لله ، هسمع موشح أد كدة دلوقتى
ألقت كلماتها و هرولت الى أعلى فصاحت الأخرى
:- شوية و هطلعلك .
:- ماشى هستناكى .
ردت و دلفت الى الشقة مسرعة تبحث بعينيها عن زوجة أخيها فلم تجدها ، ربما تكون نائمة .. زفرت براحة فهى ليس لديها إستعداد للدخول بأى مشاحنات الآن .
:- لولـــــــــــى
إنتبهت للصغير الذى أتى إليها مسرعا عندما لمحها .. فتلاشى ضيقها سريعها و إنحنت تتلقفه بين يديها بحب ثم حملته و تحركت به ببطء و جلست على أحد المقاعد المتراصة بالصالة و أخذت تقبل الصغير و تلاعبه ..
:- قلب لولـى ، وحشتنى أوى يا چو .
تحدث الصغير بمشاكسة و هو ينظر ليديها الفارغة و قال
:- وحشتك حاف كدة ، من غير شيكولاتة و لا شيبسى و لا أى حاجة !
:- اه يا مصلحنجى يعنى انت بتدلعنى علشان الحاجات اللى بجيبهالك بس ؟
قالتها ليلـة بصدمة و هى تطالع الصغير بأعين متسعة ، ليسرع الآخر بمراوغة
:- عيب يا لولى دة انتى حبيبتى ، أنا بس عارف إن ذوقك حلو و عارفة الحاجات اللى بحبها علشان كدة ببقى مستنى الشيكولاتات اللى بتجيبهالى .
ضحكت ليلـة على الصغير المشاكس و مدت يدها لحقيبتها و أخرجت كيس مملوء بالشيكولاتة و الحلويات و أعطتها له ، ابتسم لها بفرحة عارمة كأن لا أحد يجلب له شيئا من هذا و صاح و هو ينظر بداخل الكيس و يتفحص محتواه
:- الله عليكى يا لولى .. أحلى حاجة فيكى إنك مش بتثبتى على حاجة واحدة ، يعنى كل مرة بتجيبيلى حاجات مختلفة عن اللى قبلها علشان كدة مش بزهق أبدا ..
ضحكت ليلـة عاليا و هى تعبث بشعر الصغير الناعم و تحتضنه بحب صادق حتى إستمعت الى ذلك الصوت التى تكره مواجهته ، رغم أنها لا تبغضها أبدا لكنها لا تحب تصرفاتها معها ، تحكماتها بها ، دوما ما تشعرها أنها أقل من الجميع ، أنها عبء زائد على عائلتهم الصغيرة .
:- أخيرا جيتى ، كل دة تأخير ؟
أنزلت ليلة الصغير من على رجلها و نهضت متجهة الى غرفتها و هى تقول بهدوء
:- معلش صاحب الشغل أخرنى .
قالت سحر و هى تسير ببطء لتجلس بجانب الصغير ..
:- ما أنا قولت بلاش الشغل دة و إنتى اللى صممتى ..
زفرت ليلـة بضيق و لم ترد فهى تعلم جيدا ان النقاش سينتهى بمشكلة كبرى نهايتها ان تترك العمل ، و هذا مالا تريده مطلقا ، فهذا العمل بمثابة طوق النجاة لها من تلك المشاحنات الدائمة بينهم .
بعد قليل خرجت ليلـة ترتدى ملابس بيتية و تغطى خصلاتها الكستنائية بغطاء صغير ثم إتجهت الى المطبخ لتنجز وجبة سريعة قبل أن يأتى أخيها من العمل ..
وجدت سحر قد قررت مسبقا ما تريده اليوم على الغداء فأخرجت لها قطع من صدور الدجاج و مكرونة و أشياء أخرى لم تنتبه لها ، فأول ما جاء بعقلها الأكلة المشهورة و المحببة للجميع "مكرونة و فراخ بانيه " و لا بأس أن نشوى صدور الدجاج كى ننجز فى الوقت .
شرعت فى البدء حتى وجدت سحر أمامها و كأنها علمت ما تفكر به فقررت قطع جميع الطرق اليها فقالت
:- إعملى مكرونة بالبشاميل ، و الفراخ دى إقليها إنتى عارفة يوسف و حنين بيحبوها مقلية .
لم تتطلع لها الأخرى و قالت و هى تتحرك هنا و هناك لتحضير ما ستحتاجه لطهى الطعام
:- بس إنتى مش بتاكلى مكرونة بشاميل .
إبتسمت سحر بسخرية و ردت
:- اه ما انتى هتعمليلى طاجن رز معمر فى الفرن .
كتمت ليلـة غيظها و لكنها لم تهتم بما قالت و قررت تنفيذ ما جاب بخاطرها و لن تتنازل عنه مكرونة بالصلصة الحمراء و دجاج مشوى و قالت
:- معلش دة مش وقت تحقيق أحلام .. مفيش وقت للى بتقوليه دة ، أنا هعمل مكرونة بالصلصة و بانيه مشوى ، و وقت تانى اكون جاية بدرى و أعملك اللى إنتى عايزاه حاضر .
هتفت سحر عاليا
:- لا ما انتى مش هتأكلينا على مزاجك و ..
قطع حديثها صوت الباب فإتجهت لتفتحه و هى تتمتم بغيظ حتى وجدته زوجها فإبتسمت بمكر فهى فرصتها الآن ..
دخل محمود بهدوءه المعتاد فجرى اليه الصغير يحتضنه بحب ثم القى بصره على زوجته التى تقف عند الباب و على وجهها ملامح متجهمة ، فمال عليها و طبع قبلة على جبينها و منحها إبتسامة لطيفة كى تتخلى عن تلك التكشيرة ، و سرعان ما ابتسمت و أمسكت بيده و قالت بدلال و هى تتجه الى غرفتهم الخاصة
:- تعالى غير هدومك و ريح شوية .
أغلقت الباب خلفهم و همت بمساعدته فى تبديل ملابسه ، فسألها كعادة اى زوج أصيل
:- فى غدا ايه انهاردة ؟ أنا واقع من الجوع .
تحدثت بخفوت و هى تعبث بأزرار قميصه
:- و الله أنا كنت ناوية أعملك مكرونة بشاميل و البانيه اللى بتحبه ، و رز معمر كمان
سال لعابه على سيرة تلك الأكلات التى يحبها جميعا و رسمت بسمة سعيدة بلهاء على وجهه و لكنها قطعت عليه أحلامه حين قالت
:- بس أختك جت متأخر إنهاردة من الشغل و ملحقتش تعمل أكل و قالت هتعمل مكرونة عادية و بانيه مشوى ..
و ها قد عادت ملامحه الهادئة مجددا ، ربما إستحسن الأكل الذى ستعده أخته لكنها قررت طرق الحديد و هو ساخن فأردفت
:- الشغل دة هيأثر عليها و علينا إحنا كمان ، إنت يعنى هتعمل ايه بشغلها ؟ بصراحة الجيران بدأت تتكلم و يقولوا انك مش قادر على مصاريفها علشان كدة وافقت تشغلها ، و الله أعلم بقى مش يمكن هى اللى قالت الكلام دة ، هى بردو لسة صغيرة و ممكن يجى فى دماغها ألف حاجة و الف واحد ممكن يلعب فى دماغها .
بدا شاردا بما تقوله زوجته ، و بعد تفكير طويل قرر التحدث مع أخته بشأن عملها الذى لا يعلم عنه شئ سوى أنها فقط تعمل !
أنهت ليلـة الطعام أخيرا و لم تعر إنتباها لتلك التى التقطت أخاها لتبث السم بأذنه ، رغم أنها تعلم و لكنها تتجاهل و كم هى بارعة فى ذلك .
دخلت اليها حنين إبنة أخيها التى تصغرها بعام واحد فقط نظرا لفارق السن الكبير بينها و بين أخيها من أبيها .
قبلتها حنين بوجنتها و قالت و هى تتفحص الأوانى الموضوعة على الموقد و تشم الرائحة المنبعثة منها بفم متسع من الإبتسام
:- الله على روايحك يا لولى .. إيه الجمال دة .
إبتسمت لها ليلة و قالت
:- لا و لسة لما تدوقى كمان ، يا بنتى أنا أكلى لا يعلى عليه أساسا أومال إنتى مفكرة أمك بتدبسنى فيه ليه علشان هى مبتعرفش تطبخ .
قهقت حنين عاليا ثم وضعت يدها على فمها لتكتم ضحكاتها قائلة
:- وطى صوتك .. لو سمعتك هتجرى ورانا بعصاية المكنسة .
أكملت ليلـة ساخرة
:- لا يا حبيبتى هى هتجرى وراكى انتى .. انا محدش يقدر يجرى ورايا ، و بعدين هى عارفة أصلا ان اكلى احلى منها فمش هتتكلم .
:- بس بس علشان جاية .
غمغمت بها حنين عندما رأت أمها قادمة اليهم ، و أخبرتهم بتجهيز الغداء .. فأومأت لها حنين سريعا و هى تجلب بعض الأطباق لتضع بها الطعام و هى تكتم ضحكاتها بصعوبة ، إنصرفت سحر بعجرفتها المعتادة لتنفجر الفتاتان و تعلو ضحكاتهم و هم يضعون الطعام بالأطباق .
التف الجميع حول المائدة و منذ أن بدأ أخوها بالحديث فهمت ما يرمى اليه !
:- إنتى بتتأخرى فى الشغل ليه يا ليلة ؟
قالها و هو يتذوق ما أمامه فأجابته بهدوء دون حتى أن ترفع عينيها عن طعامها
:- مش بتأخر ، دى أول مرة بس إنهاردة علشان فيه شغل جديد فى المكتبة و كنت لازم أعمل جرد
رفعت عينيها الى زوجة أخيها التى تتابع ما يحدث بلا مبالاة و كأنها ليس لها يد بما يحدث ثم أردفت
:- و بعدين ما أنا كل يوم بروح الشغل متأخر ، مش هيجرى حاجة لو إتأخرت شوية فى الرجوع .
فهم أخيها ما ترمى إليه فهو يعمل كّم المسؤولية التى تتحمله ، و لكنه يتغافل !
لا يريد أن يقحم نفسه فى علاقتهم سويا حتى لا تزيد المشكلات بينهم ، و عندما وصل الى هذه النقطة قرر إنهاء الحوار التى سعت زوجته اليه حتى تمر الأيام بينهم فى سلام .
تحدث أخيرا قائلا بتحفز و هو يضع المزيد من الطعام بفمه
:- ابقى إصحى بدرى شوية و روحى شغلك بدرى علشان متتأخريش تانى .
إبتسمت ليلة بسخرية و كأنها تريد أن تخبره أنها بذلك عليها ألا تنام مطلقا لتسد ما تتركه زوجته من فراغ !
رمقتها سحر بنظرة ماكرة أدركتها ليلة سريعا و لكنها تغاضت عنها و أكملت طعامها فى صمت قطعه الصغير عندما أشاد بطعم أكلها و قال
:- أكلك حلو أوى يا ليلة أنا كدة هبقى قلبوظة خالص
ضحكت ليلة على براءة طفولته و كم تمنت ان تظل تلك البراءة طويلا .
إنتهى الجميع و قامت ليلة و حنين بتنظيف الطاولة و جلى الأطباق و بعد أن تنتهى تدخل الى غرفتها و تقرأ وردها اليومى ثم تذهب الى فراشها و تخلد للنوم ،كما تفعل يوميا كروتين ممل لا يتغير به شيئا
و فاتنة تهرول بالطريق الخالى تماما من البشر و خاصة فى وقت القيلولة هذا ، شعرها الغجرى منثور خلفها سابحا فى بحره الأسود ، يحثها على الإسراع حتى لا تقع فريسه لذلك الذئب البشرى الذى من الواضح أنه لا يعلم هويتها .