الفصل التاسع والأربعون

كان "ماسيمو" واقفا بالرواق بالمشفى منتظرا خروج الطبيب ليطمئنه على "أستريد" شاعرا بضيق في صدره و زيادة خفقات قلبه ارتياعا عليها، لا يعلم أي لعنة قادتها لفعل ذلك، أتقبل على الانتحار من صورة بُعثت إليها؟، أإلى ذلك الحد فقدت عقلها من فكرة خيانته لها التب لم تحدث بالأساس، ذلك الوغد المسمى ب"مارتن" يجعله يدفع ثمن ما اكترفته هي بنفسها وجعلها تقبل على إنهاء حياتها، حرك وجهه تجاه باب الغرفة الذي فتح وخرج الطبيب بعدها ليتحرك محوه بخطوات أشبه للركض وهو يتساءل بملاكح واجلة معبرة عن قلقه الذي يتآكل بقلبه:

- طمئني أيها الطبيب، هل أصبحت بخير ؟

تنهد الطبيب ببعض الإرهاق الجلي عليه ثم أجابه بطرؤقة عملية قائلا:

- حمد للرب لقد أضحت بخير، لقد قمنا بإجراء غسيل معوي لها، من الجيد أنك جلبتها قبل مرور أربع ساعات على تناولها لشريط المهدئ، وإلا كان حينها الدواء الذي تناولته توغل في جهازها الهضمي وقام بأضرار وخيمة، ومن الممكن أن تضطرنا الحالة حينها أن نستأصل جزءً من المعدة التي كانت ستضررؤ للغاية حينها

تنفس "ماسيمو" الصعداء بعدما أخبره الطبيب بذلك وحمد ربه على قدومه قبلما تتأذى بفعل ذلك العقار الذي تناولته، ثم تكلم بتساؤل:

- هل في مقدوري العودة بها اليوم إلي البيت ؟

ظهرت الكثير من أمارات الفض جلية على تعبيرات الطبيب والذي تبعه قوله بهدوء:

- يفضل أن تظل تحت المتابعة على الأقل الاثنين وسابعين ساعة القادمة هنا في المشفى

زفر "ماسيمو" ببعض الضيق من بقائها بالمشفى الثلاثة أيام القادمة، ولكن ليس بيده حيلة، ثم سأله بتلهف:

- هل باستطاعتي أن ادخل إليها لأطمئن عليها ؟

هز الطبيب رأسه له بالإيجاب وهو متحفز للمغادرة وقال:

- أحل تستطيع، لا يوجد أية مشكلة في الأمر

¤¤¤¤¤¤

بعد مرور الثلاثة أيام والذي لم يحاول "ماسيمو" خلالهم أن يتحدث ل"أستريد" نهائيا، فعلى الرغم من خوفه الجم عليها عندما وجد جسدها هامدا بين يديه، ولكنه لن يمرر تلك الفعلة كمرور الكرام، لن يتوانى عن معاقبتها على تفكيرها في إفناؤها حياتها وحرمانه منها مدى الحياة، فهو كلما يتخيل إذا لم يكن عاد للبيت في ذلك الوقت ما الذي كان قد حدث يؤلمه قلبه كثيرا ولأول وهلة يشعر برغبة في البكاء لخوفه من فقده لامرأة

"أستريد" لم تعد بالنسبة إليه كأي امرأة، فهي أضحت كل شيء له بحياته، أصبحت حياته لها معنى بجانبها ومعها، لم يتسنى له تجربة مشاعر الحب العميقة والدافئة سوى معها هي، لم يشعر بمسئولية تجاه أخرى غيرها، هو لا يراها زوجته وحبيبته فقط، فهو يشعر في كثير من الأحيان أنها ابنته، فارق السن بينهما وتلك البراءة التي عليها هي يجعلاه يراها ابنته الصغيرة التي تحتاج لاحتوائه وحنانه طوال الوقت

لقد أصبح يخشى عليها حتى من نفسه، يخشى أن يجرح قلبها بكلمة أو بفعلة تلقائية، ويحزنها كما فعل من قبل، منذ قرأ بدفترها تفكيرها الذي تطرق لفكرة الانتحار وهو يتحسس على كلماته التي يقولها معها لكي لا تفهمها بشكل خاطئ، ليأتي ابن خالتها ذلك ويضع بقلبها شكوك واهية نحوها بدليل بغيض لم يرتكبه وهي معه وعشقها متوغل بقلبه، لا يدري أصغر سنها هو من دفعها لفعلة هوجاء كتلك؟ أم فقدت عقلها من رؤيتها لأخرى معه؟

ولكن ما يعلمه هو حقا أن ما فعلته نابع من عشقها له ومن شعورها بإن ما عايشاه معا وما أغدق عليها به من مشاعر وكلمات حانية لم تكن سوى كدبة، شعورها بفقد الأمان والراحة اللذين شعرت بهما وهي معه وبين أحضانه حتما هو ما قادها لإنهاء حياتها، ليتها ترى كم العشق الذي يكنه لها في قلبها، لم تكن لتقدم على فعلة كتلك كانت ستجعله حزين الباقي من حياته أجمع

جمع "ماسيمو" أشيائها في حقيبة واقترب منها وهو يقول بوجوم دون النظر بعينيها لكي لا يضعف ويحتضنها:

- هيا

آلمها قلبها كثيرا لتلك المعاملة الجافة منه، ورغم رؤيتها لقلقه عليها البادي عليه كثيرا منذ أخبرته بأخذها لذلك الدواء حتى الآن ولكنها كانت تتمنى أن يطمئنها، ويخبرها من جديد بصدقه معها وأن يبرر مرة أخرى ما رأته، تعلم أنها لم تكن تسمح له بالتبرير أو سماعه حتى.

تعلم أن الشك يتآكل بقلبها للغاية كنذ رأت الصورة الأولى، وما جعلها تفقد عقلها تلك الصور الأخرى والفيديو البشع التي أرسلوا لها والتي لم تستطع التحكم بانفعالاتها وقتها، تشعر بالندم لإقبالها على الانتحار، تشعر برغبة في البكاء لحرمانها من رؤيته مرة أخرى، هي حقا تعشقه ولم تؤثر تلك الصور على عشقها له وإنقاصه ولو لذرة حتى.

تقسم هي أنه إذا خانها حقا وأظهر ندمه واعتذر لها ستسامحه على الفور، فهي فكرت خلال تلك الأيام التي قضتها بالمشفى بمفردها بعيدا عنه ووجدت انها لن تستطيع الابتعاد عنه، ولا تتخيل أن يبتعد هو عنها بعدما أصبح السبب الأوحد في رغبتها في البقاء على قيد الحياة، ما يجب عليها أن تفعل ما فعلته.

يجب أن تحكم "أستريد" عقلها قليلا، يجب أن يتحدثا مجددا ويحلان ذلك الخلاف بينهما، ستعطي له فرصة أخرى من أجل قلبها الذي أُنهك الأيام الفائتة من ابتعادهما

أومأت هي له بهدوء وساعدها هو في النهوض، اقشعر بدنها للمسته وودت لو دفعت بجسدها في حضنه، ولكن بعض الخزي من فعلتها ممزوج ببعض الارتياب من تبدله معها، وبعض الكبرياء أيضا بداخلها يمنعها من فعله، بينما هو كان يختلس النظرات بطرف عينيه عليها متمنيا أن تنتهي تلك الأيام العصيبة والذي لم يعد يتحملها ويعودا من جديد معا وتعود علاقتهما كما كانت قبل أيام

¤¤¤¤¤¤

دلف كل من "ماسيمو" و"أستريد" معا الفيلا لينتبها وهما يسيران بجانب بعضهما ممسكا راغب بيدها لصوت "نيا" التي تهبط الدرج متوجهة نحوهما قائلا بتلهف:

- أستريد، حمدا للرب على سلامتك عزيزتي

ابتسمت لها "أستريد" ابتسامة صغيرة بها بعض الوهن وأردفت بنبرة خفيضة:

- شكرا بك

وجهت "نيا" نظرها تجاه "ماسيمو" وأخبرته بود وهي تمد يدها لتمسك بذراع "أستريد":

- اتركها لي ماسيمو، وأنا سأصعد بها إلى غرفتكما

أومأ لها "ماسيمو" برأسه بالموافقة وترك يد الأخرى وتبادلا النظرات لثانية قبلما تتحرك مع "نيا"، أوقف عن المغادرة صوت والده الذي خاطبه بلهجة ثابتة وهو يسير باتجاه مكتبه قائلا:

- أريدك ماسيمو، تعال إلي المكتب لنتحدث

تبعه "ماسيمو" وهو يشعر بالكثير من الحنق الذي يتمكن منه كلما يطالب والده بالتحدث إليه، لمعرفته بتلتحقيقات والاستجوابات التي يتبدأ من قبله، زفر "ماسيمو" وهو يجلس على المقعد بجانب الأريكة الحالس عليها والده، والذي تكلم فور جلوس ابنه متطرقا مباشرة فيما يريده لأجله:

- ما الذي حدث إذا أريد أنا أفهم ما الذي يدور من حولي ؟

قلب "ماسيمو" عينيه قبل أن ينظر له بتعببرات ضائقة وأجابه بمراوغة بصوت يعتليه الجمود:

- لا يوجد شيء أبي، أستريد مرضت قليلا فقط

رمقه "نوح" بنظرة مكذبة وأردف بطريقة ساخرة مستفسرا عالما الإجابة مسبقا:

- مرضت ؟، أم حاولت الإنتحار وفشلت ؟

طرق "ماسيمو" نظره لأسفل بدون رد زامما شفتيه محاولا التحكم بهياج أعصابه الذي يشعر به، سائما من تدخل والده فيما لا يعنيه ورغبته الدائمة في معرفة خصوصياته وأموره الشخصية، وما جعله يكز على اسنانه هو تساؤل والده بصوته البارد المتشبع بالتعجرف:

- ما الذي جعلها تحاول الإنتحار ماسيمو ؟

رفع "ماسيمو" نظره له وجاوبه بنفاذ صبر بدون التطرق في تفاصيل ما حدث بينهما:

- حدث خلاف بسيط بيننا

ضاق "نوح" ذرعا من مراوغة ابنه وعدم قول إجابة مباشرة يفهم من خلالها ما حدث والذي تساوره الشكوك حول أمر ورثها، وأن هذا هو المتسبب في حدوث مشكلة بينهما أدت لمحاولتها في الانتحار، ليقول بلهجة آمرة وهو على نفس الشاكلة:

- ماسيمو، أرجو ألا تستخف بذكائي وأخبرني بشيء استطيع أن أصدقه، لا يوجد خلاف بسيط بين اثنين متزوجين يدفع الزوجة للإنتحار

جمد "ماسيمو" أنظاره عليه وهو يشعر بغليان دمائه، ليرد عليه بجدية شديدة رافضا التحدث بشيء:

- أبي، أنا لست رائق البال لاتحدث الحين، بالإضافة إلى انني لست حاببا أن اتحدث في الموضوع نفسه مع أحد

حدق "نوح" به بجمود جدي وهتف بتصميم لنبرة مغلولة:

- وانا أريد لن أفهم ما الذي يحدث من وراء ظهري ماسيمو.

نفخ "ماسيمو" في سأم ونفاذ صبر واعتلى وجهه كدرا بالغ ثم صاح ببعض العصبية التي يحاول كبتها:

- ما يحدث من وراء ظهرك شيء خاص بي أنا وزوجتي، وليس لزاما علي أن ابلغك به، لانه يخصني أنا وهي فقط

حدجه "نوح" بنظرة يندلع منها شرارات الغضب وحدثه بنبرة مغتاظة وهو يضغط على الكلمات بطريقة أوضحت نقمه:

- انت ترى ذلك ؟

أظلمت نظرات "ماسيمو" المسددة إليه وأردف في تجهم مقتضب:

- أنا لست رآيا عير ذلك أبي

نهض بعدها "ماسيمو" عن مقعده وأغلق زرار سترته ثم قال ببرود عكس تلك الثورة المندلعة داخله متابعا:

- آسف أبي ولكنني على عاتقي أعمالا كثيرة متراكمة على عاتقي، ومضطر للمغادرة

بقت أنظار "نوح" عليه حتى خرج من الغرفة، لتتحول نظرات الآخر للعدائية تحاه تلك الفتاة التي استطاعت تملك ابنه الذي لم تستطع واحدة من قبل أن تجعله يتهافت عليه كما يرى في نظرات الآخر لها، لم يكن يعلم أن خلف ذلك الكيان الهادئ المسالم خبث دفين لم يستطع هو ملاحظته، ولكن وعلى ما يبدو نسخة من والدتها باستثناء أن والدتها يستطاع بمنتهى السهولة فهمها ولكن تلك الفتاة لم يلاحظ عليها بتاتا أي طباع تدل على كونها مشابهة لوالدتها وهذا ما يظهر حنكتها ومكرها البالغين والتي عن طريقهمها صدق براءتها الظاهرة عليها، والآن وبعد ما رآه على ابنه يستطيع أن بمنتهى السهولة تخمين كم المصائب التي ستأتي عن طريقها والتي يجب أن يحترز منها ويتهيأ لها

يُتبع ...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي