الفصل الحادي والخمسون

كانت "أستريد" واقفة تجفف خصلاتها المبتلة أمام المرآة بعدما انهت استحمامها تحت أنظاره التي تعكسها خلفية المرآة والذي اعتلى وجهه القليل من الضيق لقصها لشعرها الذي كان يعشق طوله، انتبهت لنهوضه عن الفراش وقدومه نحوها لتضع المنشفة جنبا وكادت تلتف له، لتجده منعها عن ذلك لاحتضانه لها من الخلف وقرب وجهه من شعرها المبتلة قليلا بعد، واستنشقه مطولا متنعما برائحته المنعشة، ثم اتكأ بذقنه فوق أحد كتفيها وهو يتنهد ثم قال بصوت خفيض لائما إياها:

- لمَ قصصته أستريد ؟، انا كنت أحبه كثيرا وهو طويل

حمحمت هي بربكة مما هي مقبلة على قوله، وجاوبته بنبرة يعتليها الشعور بالذنب تجاه نفسها أولا وبعدها تجاهه:

- لهذا السبب قمت بقصه

زوى "ماسيمو" ما بين حاجبية بغرابة وأدارها إليه، لترى هي التساؤلات تندلع من وجهه، لتتكلم هي بزفرة مرهقة قليلا موضحة:

- عندما ارسل لي الصور الأخرى، ورأيتك خائن وكاذب أكثر من ذي قبل، انهرت للغاية وأصبحت أشعر ان كل ما عايشنا مع بعضنا البعض محرد أكذوبة، وانك لا تحبني مثلما تقول، لقد فقدت أعصايس وبكيت للغاية وعندما كنت أبكي تذكرت كلامك عن شعري وكيف كنا تحبه وتحب طوله، لم أشعر بنفسه وانا أمسك المقص وقمت بقصه وانا لا أشعر بفداحة ما أفعله، وعندما استفيقت لما فعلته ظللت أبكي عليه، لانني كنت أحبه أيضا

لمح "ماسيمو" تلك الدموع التي لمعت بعينيها، لذا أراد أن يضفي جانب مرح بعض الشيء على كلماته وفي نفس الوقت يبلغها المعنى الضمني المتواري خلف مرحه، ليقول ملامح مرتخية وصوت يتخلله القليل من المزاح بنبرة هاكمة:

- وهل انت كلما نتشاجر معا ستخرجي عصبيتك وغلك في اي شيء بك ؟، المرة الماضية قمت بقص شعرك، وتناولتي شريط المهدئ كله، ماذا عن المرة القادمة ؟، ستقطعين شرايينك ام ماذا ؟

نظرت هي لأسفل بخزي وحرج مما اكترفته بنفسها وأردفت معقبة بطيف حزن:

- لا أريد ان نتشاجر مرة أخرى

على الرغم من ندمها البادي عليها للغاية، ولكنه لن يمرر ما حدث مرور الكرام ودون أن يشعرها بفداحة ما ارتكبته، عمل على إبقاء عينيه عليها وهو يخبرها بالآتي بلهجة جدية للغاية:

- أستريد هذه اول وآخر مرة تفعلي شيء في نفسك، فانا ما زلت أشعر بالخضة ذاتها بداخل قلبي، واشعر انه يؤلمني من كثرة الخوف الذي شعرت به حينما قلتي لي انك تناولتي شريط المهدئ واغمى عليكي على فورها، كل ما يأتي في ذهني انك من الممكن أن يكون قد حدث لك شيء حينها ولم أحضر وقتها واعود باكرا في ذلك الوقت اشعر بخنقة قاتلة

تنفست "استريد" بعمق قبلما تخبره بأسف وتبرير لموقفها مما حدث:

- أنا آسفة، لكنني لم أكن قادرة على ان اتحمل فكرةان لا تحبني حقا وتخونني هكذا بمنتهى السهولة

لم يرِد "ماسيمو" أن يطيل بمعاتبتها، يكفي ذلك القدر عليها خاصة أنهما لتوهما عادا معا من جديد، شغل تفكيره أمر تصديقها له ليتساءل باكتراث بعد برهة من الصمت قضاها في تفقد تعبيراتها الشجية:

- وماذا الحين، مصدقة انني لم اخنكِ ؟، ام ما زال هناك شك يداخلك حيال الأمر ؟

نطقت هي دون تفكير بنبرة صادقة تحمل شيئا من الكسرة:

- صدقتك ماسيمو، بعدما رأيت الصورة التي بعثت لك انت أيضا.

يعلم هو أن تلك الصورة تركت أثرا بالغ الوطأة بقلبها ولولا رغبته في نفض تلك الهواجس المتعلقة بخيانته لها -التي لم تحدث بالطبع- عن رأسها ما كان أعلمها بشأن تلك الصورة على الإطلاق، أراد أن يسترعى انتباهها للحديث حول أمرا آخرا وهاما أيضا بالنسبة إليه وبصدد حديثهما ليقول بجدية تحمل الكثير من الضيق:

- كان لزاما علي ان اتملم معك منذ بدغية زواجنا واشرح لك طبيعة حياتي وميف كانت تسير قبل ان نتزوح، على الأقل لم تكونِ للتفاجئي بتلك القذارة

هزت هي رأسها بخفة بالنفي واستطردت بتوضيح لما شعرت به عند رؤيتها لتلك الصور:

- ماسيمو انا لم اتفاجئ، انا أعلم انك كنت على علاقة بنساء قبلي، أنا شككت أنك فغلت ذلك ونحن مع بعضنا خصوصا ان الرسالة التي بعثت رفقة الصورة الأولى تلك، كان مضمونها ان زوجك مع تلك المرى قبل أن يأتي إليك.

استرعى اهتمام "ماسيمو" أمر معرفتها لعلاقاته المتعددة بالنساء، حرك رأسه بتساؤل ثم أردف مستفسرا حول ما قالته للتو:

- وانت من أين لك علم بانني كنت على علاقة بنساء قبلك .

تنهدت هي  بضيق من تذكرها لما حدث ذلك اليوم الذي علمت به بوجود علاقات محرمة تجمعه مع النساء، وأخبرته بعد زفير ثقيل بملامح عابسة قليلا:

- عندما كنت آتيا من الخارج وكنت متناول المشروبات الكحولية وقلت انك لست قادرا على لمس واحدة أخرى غيري منذ ان تزوجنا

استشعر "ماسيمو" الضيق الذي اعترى وجهها والذي علم سببه فقد تذكر ما الذي حدث بينهما ذلك اليوم أو بالأحرى ما الذي اكترفه هو بها، لم تفتر ابتسامتها وهو يخبرها بمرح محاولا انتشالها من الحزن الذي بدأ في التسلل لقلبها:

- بغض النظر عن انك كنت تركزين في ما أقوله وهذا دليل قاطع على انني كنت شاغلا تفكيرك منذا اول زواجنا لكنك كنت تكابرين، لكن عموما هذا ان كان يدل على شيء آخر فهو يدل على برائتي

زمت هي  شفتيها بحرج فهي إن كانت فكرت في معنى تلك العبارة التي قالها يومها، ما كان حدث كل ذلك الشجار بينهما، فمعنى كلماته وقتها لا يدل فحسب على علاقاته النسائية، ولكن أيضا يدل على عدم استطاعته التقرب لأخرى غيرها، وهذا كان قبلما يحبها فماذا عن بعدها، كيف شكت بصدق حبه لها بالأساس؟، وهو لم تشعر بحب أحدا لها -باستثناء والدها- غيره، قاطع سيل أفكارها ومعاتبتها لنفسها قوله بأسف:

- لا تحزني مني أستريد

حملقت هي به بتعجب من اعتذاره فهي التي ينبغي عليها أن تعتذر وليس هو، ورددت بهدوء وهي شاعرة بالذنب تجاه كل ما حدث والتي هي اللي لم تحكم عقلها به:

- انت لم تفعل في أي شيء، على النقيض تماما، انا من اهنتك واحزنتك ماسيمو

احتوى هو وجنتها بكفه لتميل بوجهها لاصقة وجنتها ببطن يده أكثر وهي تنظر له بانتباه وهو يقول بخزي:

- القذارة التي كنت أفعلها وكنت أعيش بداخلها هي السبب في كل الذي حدث، لا تحزني ارجوك مني ومن انك رأيتني في تلك المناظر الغير لائقة

هبطت يد "ماسيمو" لكتفها يمسده بحنان، بينما هي استطردت معلقة في قليل من التبرم:

- أنا تقريبا كلما اتذكر تلك الصور اشعر باحتراق دمائي في عروقي، وأشعر باختناق بالغ في صدري، لكن كل الذي يهمني مع ذلك اننا رجعنا مع بعض مرة أخرى، انا كنت أشعر انني أضبحت وحيدة مجددا بدونك ماسيمو، لا اريد أن نبتعد عن بعضنا مرة ثانية، أنا أحبك بلغاية ماسيمو.

أردفت هي بعباراتها الأخيرة وهي مطوقة عنقه بذراعيها ثم وقفت على أطراف أقدامها لتصل قليلا لطوله ودفعت بجسدها لتعانقه بعدما انتهت، لف ذراعيه حولها بقوة وتكلم بهمس في أذنها مطمئنا إياها:

- قلت لك قبل ذلك مرات عديدة انني بعمرى أن أتركك تعودي بمفردك، انا معك ولن اتركك ولن اسمح ان تتركيني انت ايضا

¤¤¤¤¤¤

استمعت "نيا" لصوت طرقتين على باب غرفتها وهي واقفة أمام المرآة تهندم ملابسها استعدادا للذهاب، لتهتف بنبرة صوت مرتفعة نسبيا سامحة للطارق بالدلوف:

- ادخل

رأت الدالف من خلفية المرآة والذي كان انعكاس والدها "نوح"، ابتسمت له دون أن تستدير كتابعة ما تفعله، بادلها ابتسامتها بابتسامة صغيرة وأردف بتحية الصباح وهو متوجه نحوها:

- صباح الخير يا حبيبتي

استدارت له "نيا" بعدما انتهت وردت عليه التحية وهي محافظة على ابتسامتها:

- صباح النور يا أبي

وضع "نوح" يديه بجيبي بنطاله وهو واقفا بسماقة جسده يتابع تحركاتها المفعمة بالنشاط كالعادة، وتساءل بهدوء متوجسا قاصدا سؤاله:

- ستنزلي لتتناولي معنا طعام الفطور ؟

لم تلاحظ "نيا" نظراته المتفقدة لها وأجابته بنبرة صوت عادية وهي تلملم أشيائها بداخل حقيبتها:

- سأتناول طعام الفطور في الشركة

يشعر "نوح" بعدم الارتياح تجاه عدم تناولها الفطور وذهابها باكرا كل يوم وهذا ما جلبه للتحدث معها ليحاول أن يستشف أسبابها في تبدا حالها الفترة الأخيرة والملحوظ عليها، وتساءل بتريث بعد همهمة دامت لجزء من الثانية:

- وهل كل يوم ستتناولي فطورك في الشركة!

لم تلاحظ هي ذلك الضيق المعتري ملامحه ولا محاولته في فهم ما الذي يجعلها تبكر في ذهابها كل صباح، واحتسبته سؤالا عاديا وعلقت بهدوء:

- وماذا في ذلك !، انا فقط لا أخب ان اتأخر عن العمل

رمقها "نوح" بنظرة تحمل التشكيك فيما تقوله، فشعوره يخبره أنه يوجد سببا آخر غير ما تدعيه، وخاطبها بلهجة جادة بتعبيرات وجه مبهمة لا يُفهم من خلالها شيء كالعادة:

- لن تطير الدنيا إذا تناولتؤ فجورك قبل ان تذهبي، ثم أن ماسيمو ذاته يفطر هنا قبلما يذهب إلى العمل.

توقفت "نيل" عما تفعله والتفتت له وعقبت بعقلانية عكس ما يعتريها من قلق من تحدثه حول تناولها طعام الإفطار قبل ذهابها وهو لم يتحدث معها بشيء من ذلك القبيل من قبل:

- أنا حضوري أهم من حضور ماسيمو، ماسيمو بإمكانه متابعة سريان العمل من البيت لكنني لا ينفع مع عملي ذلك،  وانا أحب أن أحضر في مواعيدي، لا أحبذ ان اتأخر، لكي لا يفعل أحد الموظفين المثل ويتكاسل في عمله، وتكن حجته ان نيا ابنة مالك الشركة تأتي متأخرة ويفعل هو مثلي.

سحب هو نفسا وزفره على عجالة زبداخله لم يقتنع اقتناع تام بما قالته ومازال يشعر بوجود خطب بها، ولكنه لم يرِد أن يزيد في المماطلة في الحديث لكي لا يلفت نظرها لكونه يحقق معها لسبب ذهابها بوقت باكر هكذا كل يوم وأنه لا يأبه بتناولها الفطور بها كما يظهر، وأردف في رضوخ ظاهري وهو متوجه نحو باب غرفتها للمغادرة ضاغطا على كلماته الأخيرة لكي ينبهها أن ملاحظ تأخرها بالخارج:

- حسنا نيا، افعلي ما يحلو لك وتستريحي له، لكن أرحو أن لا يكون هناك تأخير في العودة مثل الأيام السابقة

ابتلعت "نيا" بشيء من الوجل وأجابته على فور بنبرة كافحت لخروجها منتظمة:

- حسنا يا أبي

لم ترتَح هي نهائيل لقدومه واستشعرت وجود شك بداخلها بها ولكنها حاولت نفض تلك الهواجس عن رأسها لكي لا تفسد يومها خاصة أنها ذاهبة ل "فين" وستقضي اليوم رفقته وهي لا تريد أن تتعامل كالأيام الماضية معه وتشعره بعدم رغبتها في البقاء معه والاستمرار في تلك الزيجة.

¤¤¤¤¤¤

التواجد رفقة الذكريات التي تمر واحدة تلو الأخرى بذهننا تاركة آثارها التي لا تمحى، خاصة تلك التي اكترفنا فيها ابشع الذنوب وأشنع الجرائم، تؤرق تفكيرنا وتنغص علينا حياتنا وتعكر صفو ذهننا، ما لم يكن يُخيل له يوما أن يساعد في قتل شقيقه، صغيره الذي نشأ وترعرع وكبر بين يديه وأمام مرمى بصره، كيف مرت الأيام ونزعت من قلبه حبه، كيف تبخرت مشاعر الأخوة بداخله وتبدلت بكره لم يكن يتخيل بينه وبين نفسه أن يكنه له وهو يكبر أمام عينيه ويصبح شابا يافعا يفتخر به وبتفوقه وبنضوجه العقلي الذي لطالما كان سابقا سنه

هل هو مذنب بحقه، هل كان مذنبا في مطالبته بحقه في ميراث والده، والسرال الأفهم والذي يشغل بتله إلى الآن هل ما يحارب لأجل الحصول عليه  لاحتياجه البالغ لتلك الأموال بالسابق وإرضاءً لنزعة التملك والغرور بداخله حاليا هو حقا حقه كما ادعى لسنوات طوال، ولكن نعم هو حقه، نصيبه بميراث والده الذي حرمه منه وكان ينبغي على "بكر" أن يعطيه له، وهو من لم يفعل، إذا هو المخطيء فيما آلت إليه أخوتهما وفي كل ما حدث بعدها، لو كان اعطى له ما طالبه به ذلك اليوم لكان الآن معه، ومن يعلم لربما كانا بأحسن حال وعادت أخوتهما كالسابق ولكن رفض "بكر" القاطع حينها لم يولد بداخله سوى التصميم على أخذ ما يريده مهما كلفه الأمر

ها هو جالس بشرفة غرفته الذي لا يحب المكوث بها إلا وقت نومه لشعوره بالوحدة دون زوجته الراحلة الذي اكتشف انه ليس لحياته معنى وفائدة دونه، والمؤسف انه لم يشعر بذلك وقتما كانت رفقته ولم يتسنى له إخبارها بكم يعشقها ولا بضياعه الذي يشعر به بلاها، لم يخبرها يوما بأي شيء مما يشعر به بعدما ابتعدت حيث لا يمكن الرجوع من جديد، وكعادته يضيع جميع الفرص التي لا تواتيه مرتين من بين يديه، كما ضيع على نفسه وجود أخيه معه الآن، لقد عاداه، خانه، وساعد بقتله، ما الذي لم يفعله معه، ما الذنب الذي لم يكترفه بحقه، لو كانت زوجته معه لم ترك تلك العاهرة تقتل أخيه على علم منه وسامحا بذلك دون الدفاع عنه، لم يطن ليقبل على خيانته حتى

ولكن هو من أجبره على فعل ذلك، إن كان بداخله شعور بالذنب تجاهه، سريعا ما يزول عندما يتذكر مجيئه إليه لأكثر من مرة بعدما ضاع منه كل شيء وتدمرت شركته وقاربت على الإفلاس، كيف عساه ينسي تلك المرة التي أتي لها إليه وترجاه مليا أن يعطيه حقه بأموال أبيه وقام هو بطرده

■■■

وقف "نوح" قبالته بتعبيرات وجه مشدودة، وصاح به بحدة مخبرا إياه:

- مايكل أنا أريد حقي في ميراث أبي

نفخ "مايكل" في سأم من تكراره لتلك الإسطوانة كلما يأتي إليه، رد عليه بصوت هادئ محاولا كبت انفعاله:

ألم ننتهي نحن من تلك النغمة القديمة يا نوح !، ألم تسأن انت ؟، كل مرة تأتي إلي وتقول الكلام ذاته، ورده يكون نفسه ولا يوجد لدي غيره، لا يوجد لك حقوق عندي يا نوح.

احتدمت ملامح "نوح" بغضب بالغ وصاح به بصوت هادر ومزيد من العصبيه معقبا:

- لا مايكل، لي، لي حقوق عندك، والدنا هو من حرمني منها وانت عالم بذلك، ومن المفترض ان تكون اعطيتني تلك الأموال بعد موته، لكن انت الذي لم تفعل، انت اناني وطماع ولا تخب غير نفسك وطمعت في حقي لنفسك

رمقه "مايكل" بنظرة مستنكرة لكل ما يقوله ولتصديقه لكلماته الواهية الذي يقنع نفسه بها وبإنه استولى على حقه، تنهد بنفاذ صبر ثم علق عليه بغير تساهل بنبرة صوت خانقة:

- والدنا لم يترك أي ورث يا نوح، كل شيء كان باسمي أنا، تعب وعناء سنوات، انت قسمت الأموال في الماضي كيفما أردت وأخذت ما يزيد عن حقك، لمَ آتيا الحين وناظرا في أموالي ؟

كز "نوح" على اسنانه بغضب يتآكل بعروقه، حاول كبح جماح غضبه، واتجه لوسيلة أخرى يصل عن طريقها لأمواله كما يدعي، دنا منه وحاول رسم علامات حزن على ملامحه وهو يقول بنبرة مستعطفة:

- شركتي سقطت للغاية في السوق يا مايكل وأنا احتاج إلى أموال لأعيد تشييدها ورفعتها

جمد "مايكل" نظراته عليه الخالية من أي ذرة تعاطف معه، وعرض عليه بجمود قائلا:

- بإمكاني ان أسلفك المبلغ الذي تريده

استشاط الآخر واحمرت عينيه من كثرة انفعاله من رد الآخر عليه ودمدم باستجان بالغ:

- تسلفني حقي، أموالي !

زم "مايكل" شفتيه وهو يتنهد محاولا كظم غضبه وأردف مستنكرا بصوت ضاجر:

- مرة أخرى يا نوح !، مجددا تقل لي حقك !

هدر "نوح" به بانفعال متزايد وهو يلوح بيده في الهواء وقد علت نبرته على الآخير:

- ثاني وثالث وعاشر حتى تعطيني أموالي

انتفض "مايكل" صارخا بوجهه فقد فشل تلك المرة في الحفاظ على ثباته وضبط انفعالاته، مرددا بهياج:

- وانت ليس لك أي أموال عندي، ماذا ألا تفهم ذلك ايها الغبي ؟

تهاوت صفعة قوية من يد "نوح" على وجهه، تحرك على إثرها وجه "مايكل" للجانب، ليعود بنظره إليه وقد امتلأت عينيه بالغضب الممزوج بالدموع، فتلك لم تكن المرة الأولى التي يأتي له بها بيته ويهينه أو يتطاول عليه، شعر بإهانة عارمة كون زوجته "صوفيا" على مقربة منهما ورأت كل ما نطق من صراخ لا يحتمل نهاية بتلك الصفعة، تهدج صدره بأنفاسٍ متلاحقة عبرت عن اختناقه، رفع ذراعه وأشار له بيده تجاه الباب وصاح بحدة طاردا الآخر:

- اخرج من هنا يا نوح

سدد "نوح" له نظرة مغلولة، تحمل الكثير من الوعيد، ثم نطق بكره طغى على صوته وصرحت به بقوة تقسيمات وجهه:

- انا مغادر يا مايكل، لكن اريدك ان تعرف انني لن اترك حقي، وسأظل آتي إلى أن أخصل عليه مهما فعلت ومهما حدث، تذكر هذا دائما

■■■

أغمض "نوح" عينيه وعاد برأسه للخلف متكئا بها على ظهر الكرسي خلفه، حتى وإن كان مخطئا في حقه، فهو من اضطره لذلك، لم يترك له خيارا آخر، هو من اشترى عداوته، لم يكن ليفعل أيا مما فعله لو أعطى له أمواله الذي طالب بها مرار وتكرارا، لم يكن حتى ليجعل ابنه يتزوج بابنته لكي يأخذ عن طريقها أو بالأحرى منها حقه، الذي نهبه "مايكل" كما يقنع نفسه بذلك

استمر على وضعيته موصد العينين، وكأنه لا يرغب بفتحهما لكي لا يظهر أمامه صورة أخيه الذي قتل بدم بارد، وهو وإن اقنع نفسه لآلاف السنوات أنه بريء من دمه كونه لم يشارك في قتله، سيظل مشارك به بصمته وعدم ردعه لتلك الشيطانة عن جريمتها التي ارتكبتها دون الشعور بأدنى ذنب يذكر

يُتبع ...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي