الفصل الثانى
و فاتنة تهرول بالطريق الخالى تماما من البشر و خاصة فى وقت القيلولة هذا ، شعرها الغجرى منثور خلفها سابحا فى بحره الأسود ، يحثها على الإسراع حتى لا تقع فريسه لذلك الذئب البشرى الذى من الواضح أنه لا يعلم هويتها .
مرسوم الهلع على ملامحها الطفولية رغم عينيها القوية التى تأبى الخضوع ، متمسكة بأصالتها و قدرتها على الوصول بالوقت المناسب .
و يحسب لها أنها حتى فى محاولاتها للفرار منه ، إتخذت الطريق الأقرب الى مزرعتهم حيث يقبع أخيها الأكبر .
أسرعت و أسرعت محافظة على إتزانها حتى لا تسقط كالفريسة السهلة لهذا الوغد .
حانت منها التفاتة سريعة لترى المسافة الفاصلة بينها و بينه فوجدته يتربص بها بأعين ماكرة ، لتصطدم فجأة بحائط بشرى ، فزعت عندما شعرت بإرتطامها و نظرت له بخوف و تمتمت بصوت متقطع
:- يونس ..
شبعت عينيها بالراحة و تنهد قلبها بأمان و أطلقت لروحها العنان لتسقط بين يديه مانحة لنفسها بعض السكون بعد مشقة باتت طويلا ..
إرتعب قلبه لرؤياها هكذا ، شكلها الفوضوى أثار بعقله فوضى لا سبيل لإخمادها ، تلقفها بين يديه بصدمة لا يعلم كيف و متى وصلت الى هنا بتلك الهيئة المزرية .
أفاق سريعا ينظر حوله بتيه كيف سيحملها الى البيت بهذا الحال ؟
و ماذا إذا رآهم أحد فلن يسلمون من القيل و القال !
و هى الفاتنة بأعينه ، جمالها و طفولتها .. عفويتها و عنفانها ، قلبها الذى لم تمسه لوعة عشق و لم تكوى بنار حب .. جميعها بكر .
فحملها سريعا بين يديه متغاضا عن ثوران قلبه الذى تمرد على قربها معلنا عشقه للمرة الألف ، لكنه كالعادة يخرسه بالتجاهل .
إتجه الى المكتب الموجود بداخل المزرعة الخاصة بعائلة مهران ، ضرب الباب بقدمه و دخل مسرعا يضعها برفق على الأريكة الصغيرة المستندة على أحد الجدران .
أخذ يتفحص ملامحها سامحا لعينيه أن تروى عطشها و لو قليلا .. و ما زاده القرب إلا حرمانا !
شدد على شعره و هو يفكر ماذا يفعل ليوصلها الى البيت أولا دون أن يراها أحد من أهل القرية و بعدها يعرف سبب ما وصلت اليه ..
و لم يأت بباله سوى يحيي أخيها الأكبر و ابن عمه الذى ينتظره بالفعل بالشركة التى لا تبعد كثيرا عن مكان تواجده ، أخرج هاتفه من جيب سترته ثم أجرى عليه إتصالا فأتاه صوت الآخر
:- بقالى ساعة مستنيك يا يونس ، إيه اللى أخرك كدة ؟
حمحم يونس محاولا إخفاء توتره لكنه فشل فى ذلك فقال
:- معلش يا يحيي تيجى تاخدنى بالعربية من هنا ، أنا عند المزرعة .
:- فى إيه عندك يا يونس ؟
سأله يحيى محاولا أن يستشف ما وراءه لكن لم يريحه الآخر و رد بنبرة راجية لم يعدها به الآخر
:- لما تيجى يا يحيى ، بس متتأخرش .
أسرع يحيى و هو يستقل سيارته و يتحرك بها فهو يعلم أبن عمه جيدا يبدو انه يخفى شيئا و لا يريد البوح به عبر الهاتف ..
خرج يونس من المكتب تاركا إياها على حالتها و أخذ يجوب بالخارج ذهابا و إيابا ماسحا شعره بكفه يحاول وضع حد لأفكار مرعبة دبت برأسه ، أخفهم وطأة أن أحد قد أصابه مكروه من العائلة فقرر التأكد من الأمر ، أخرج هاتفه ثانية و إتصل بأمه و بعد سلامات و تحيات تأكد أن الأمر يبدو على ما يرام فحاول ان يجعل أمه لا تشك بشئ فسألها
:- ما فيش يا أما أنا كنت بس بسألك لو عايزة حاجة من الأرض و أنا جاى ؟
جاءها صوته بالكثير من الدعوات بالصحة و راحة البال .
لمح سيارة تقترب فتأكد أنه يحيي و أغلق الهاتف مع والدته ثم وقف مكانه منتظرا هبوط الأخر من السيارة بأعين حائرة غاضبة .
هبط يحيى بطلته المهيبة من السيارة و حينما إقترب منه تأكد من ظنونه ، وقف صامتا يطالعه بنظرات غامضة تحثه على البوح .
حاول يونس ان يستجمع شتات نفسه و أخذ يغمغم و لا يعرف ماذا يقول فزفر حانقا ثم قرر أخيرا أن ينهى إرتباكه فتوجه مباشرة الى المكتب حيث توجد هى ، تحرك تحت نظرات يحيى المتعجبة و فتح الباب مشيرا له ان يدخل ، تحرك الآخر فى صمت و دلف الى المكتب فألجمته الصدمة ، بينما ظل يونس بالخارج حتى لا يفكر يحيي بأنه إستحل حرمته خاصة و هى بتلك الحالة .
كانت أعينه كالصقر تراقب المكان جيدا حتى لا يسمح لأحد بالدخول أو الإقتراب منهم ، و لكنه غفل عن زوج من العيون الماكرة التى لازالت تترقب ما يحدث منتهزة أى فرصة للإنقضاض على فريسته ، لكنه لا يعلم أن تلك الغزالة تخص عائلة مهران فقط .
************
إقترب منها يحيي بملامح مذعورة يضرب وجنتيها بخفة محاولا إفاقتها دون جدوى ، بحث بأعينه سريعا فوجد زجاجة من المياه موضوعة على المكتب ، فنهض و إلتقطعا سريعا ثم فتحها و نثر منها على وجهها ، و قد أراد الله أخيرا أن يريح قلبه من هلعه عليها فبدأت أهدابها بالرفرفة ببطء و سرعان ما إنتفضت بذعر عندما تذكرت ذلك الوغد الذى كان يلاحقها ، و لكنها إستكانت ثانية عندما رأت أخيها الأكبر بجوارها و ما لبثت حتى إرتمت بين أحضانه و تخلت عن قناع القوة التى تلبسته و هى تقاوم ذلك الذئب و أطلقت لدموعها العنان .
شدد يحيي من إحتضانها بقلب مخلوع على مدللته الصغيرة و ربت على شعرها بحنو قائلا
:- ششش ، إهدى أنا جمبك .
تركها قليلا تخرج شحنتها المكبوتة من البكاء حتى هدأت رويدا رويدا ، فأخرجها من حضنه و هو يمسد على ذراعها كى تهدأ و سألها
:- هديتى و بقيتى زينة
أومأت له بهدوء فأردف
:- عايزة أعرف إيه اللى حصل بالظبط ؟
تناولت زجاجة الماء و إرتشفت منها قليلا ثم وضعتها بجوارها ثانية و بدأت تحكى ما حدث و هى تفرك يديها بتوتر
:- أنا كنت زهقانة من قاعدة البيت و إستأذنت أمى إنى أجيلك المزرعة أهو أغير جو و نرجع سوا .. و أنا فى الطريق سمعت واحد بيعاكسنى ، مردتش عليه و الله يا يحيي ، بس هو ماسكتش فضل ماشى ورايا و إنت عارف ان الوقت دة الناس بتبقى مريحة فى بيوتها و قليل اللى بيبقى برا البيت .. بس كان معاه هشام ابن الشيخ عبد الله و حاول كتير يمنعه بس هو مسمعش كلامه و ضربه .
صمتت قليلا و هى تلتقط أنفاسها فشعرت و هى تحكى أنها تعيش الموقف للمرة الثانية ، إستجمعت قواها تحت أعين يحيي الجامدة و أردفت
:- أنا التفت على صوت الضرب كان بيضرب فى صاحبه خوفت لقيته مرة واحدة بيقرب منى فجريت بس هو شدنى من الطرحة و إتخلعت فى إيده و وقعت على الأرض .
أبيضت عروق يحيي و هى تسرد ما حدث معها بالتفصيل محاولا الا يظهر شيئا مما يعتريه من الداخل حتى يترك لها المساحة الكافية للبوح عما حدث كاملا دون إغفال أى تفاصيل .
:- قعد يضحك بطريقة غريبة و أنا مرعوبة حاول يقرب منى بس أنا أخدت حبة تراب من الأرض و رميتهم فى وشه و إستغليت إنه مش شايف حاجة و طلعت أجرى لحد ما إتخبطت فى يونس و محستش بحاجة بعد كدة .
تنهدت بألم و هى تنظر ملامح يحيي المتجهمة بينما قطع صمتهم هذا دخول يونس العاصف الذى إستمع لكل حرف قالته بقلب محترق و غضب أثار بداخله وحوش دوما ما يحاول إخمادها .
لم ينظر لها و لكنه طالع يحيي بقوة و وضع مفاتيح السيارة الذى أعطاها له الاخر عند وصوله على المكتب و قال
:- أنا ماشى يا يحيي ، المفاتيح عندك .
إتجه ليخرج حتى أوقفه يحيي بنبرة صارمة
:- رايح فين يا يونس ؟ إستنى إحنا هنروح سوا .
لم يستدر له الأخر و تحدث بنبرة حاول إخفاء غضبها
:- أنا مش مروح .
نهص يحيي من مجلسه بجوار أخته و تحرك نحو يونس بخطوات واثقة و قال بكلمات ذات مغزى
:- مش محتاج أفهمك إنى مش عايز حد يعرف باللى حصل ، دى سمعة بنت و مش أى بنت .. دى نوارة مهران ، و إنت عارف بلدنا مفيهاش أكتر من اللت و العجن ، و الحاجة اللى قد كدة هيكبروها و يعملوها حكاية ، يبقى نعقل و نتصرف بهدوء .
كاد أن يهتف يونس غاضبا لكنه تمالك نفسه و ألقى نظرة عليها فوجدها تبكى بصمت و هى تضع يدها على فمها لتخفى شهقاتها ، فأنخلع قلبه على حالها فهتف غاضبا
:- مش هسيبه يا يحيي ، و رحمة أبويا ما هسيبه .
ثم أسرع الى الخارج تاركا يحيي ينظر فى أثره بوجوم فهو يعلم يونس جيدا رغم هدوءه الا إنه فى غضبه يكاد يحرق مدينة بأكلمها .
مسح على لحيته محاولا إستجماع هدوءه و إقترب من نوارة يساعدها على النهوض ، ثم أخذها تحت ذراعه متوجها بها الى السيارة و سلك طريقه الى بيتهم " بيت عائلة مهران "
**********
دخلت ليلـة الى المكتبة التى تعمل بها مسرعة بعد أن تأخرت كعادتها بتحضير الفطور لأخوها قبل أن يذهب الى عمله ،
وجدت صاحب المكتبة ذلك الرجل الذى تعدى عمره الخمسون عاماً يطالعها بتفحص كعادته و تتغاضى هى عن نظراته كعادتها أيضا ، ليس لديها أدنى إستعداد أن تتخلى عن عملها الذى هو بمثابة جرعة يومية للحياة ، تمنح نفسها الفرصة كى تتنفس بعيدا عن البيت و المشاحنات بداخله .
وضعت حقيبتها على المنضدة الصغيرة و همت تنظف المكان على عجل و هى تقول
:- أنا أسفة يا أستاذ راضى على التأخير .
عدل من نضارته الطبية ليتفحصها جيدا بنظراته الجانبية المختلسة و هو يقول
:- ما دة العادى بتاعك ، من يوم ما اشتغلتى هنا و إنتى بتيجى متأخر و أنا علشان راجل كلى نظر مردتش أخصم التأخير دة من مرتبك .
أكملت عملها و هى تزيح التراب الى الخارج و ردت
:- كلك ذوق يا أستاذ راضى ، و أوعد حضرتك إن شاء الله إنى اظبط مواعيدى .
رمقها بمكر و قال
:- لما نشوف .
بعد وقت طويل رحل راضى لإنهاء بعض الأعمال بالخارج فتنهدت براحة فكم يشكل هذا الرجل عبئا ثقيلا على قلبها ، تهللت أساريرها عندما وجدت صديقتها مريم تدلف حادثة ضجة كعادتها
:- صباح العسل يا عسل ، شكل سيد قشطة مش هنا و هنقضيها سوا .
ضحكت ليلـة عاليا و هى تطالع صديقتها و ردت
:- يخربيت تشبيهاتك يا شيخة .
جلست مريم براحة أمام صديقتها و هى تخرج بعض الطعام من حقيبتها
:- بصى أنا جيبت سندوتشات علشان نفطر مع بعض .
نظرت لها ليلـة بحاجب مرفوع
:- فطار إيه يا بنتى الساعة داخلة على اتنين .
رسمت الحزن على ملامحها و قالت
:- ما انتى عارفة ماما و بابا بينزلوا الشغل بدرى و بصحى مش بلاقيهم ، و مش بعرف أكل لوحدى .
لان قلب ليلـة و تناولت الطعام من يد مريم و هى تقول بمرح
:- سيبك يا مريومة تعاليلى انتى بس و ناكل مع بعض على طول و بعدين ما تشدى حيلك كدة و توافقى على العريس اللى متقدملك دة و أهو تلاقى حد ياكل معاكى .
رمقتها مريم بأعين متسعة و هى تقول
:- يعنى علشان أكل مع حد ارمى نفسى مع واحد معرفش عنه حاجة .. يا شيخة شالله عنى ما طفحت .
ضحكت ليلـة و إبتلعت ما بفمها من طعام و أردفت
:- يا بنتى ما تشوفيه هتخسرى ايه ؟ مش يمكن ترتاحيله و يطلع كويس فعلا !
قضمت من الطعام الذى بيدها بغل و ردت
:- لا يا ختى هخسر كتير ، هخسر طاقتى اللى هطلعها عليه و أنا بطفشه إن شاء الله .
تركت ليلـة ما بيدها على الطاولة أمامها و نظرت لصديقتها و سألتها
:- شكلك لسة عندك أمل فى مراد ، مش كدة ؟
إبتلعت مريم ريقها و نظرت أمامها بألم
:- و هو فين مراد ؟ ما هو سافر حتى من غير ما يعرف إنى بحبه ، من غير حتى ما يسلم عليا و يقولى إنه هيسافر ، و لا كأنى فارقة معاه .
ربتت ليلـة على يدها برفق و قالت
:- مراد بيتعامل معاكى زى أخته و إنتى عارفة كدة بس تاعبة قلبك على الفاضى ، إدى لنفسك فرصة يا مريم متقفليش على نفسك و تعيشيها فى وهم .
أومأت لها مريم و أكملوا تناول طعامهم و هم يتناوبون الأحاديث فيما بينهم ..
مرسوم الهلع على ملامحها الطفولية رغم عينيها القوية التى تأبى الخضوع ، متمسكة بأصالتها و قدرتها على الوصول بالوقت المناسب .
و يحسب لها أنها حتى فى محاولاتها للفرار منه ، إتخذت الطريق الأقرب الى مزرعتهم حيث يقبع أخيها الأكبر .
أسرعت و أسرعت محافظة على إتزانها حتى لا تسقط كالفريسة السهلة لهذا الوغد .
حانت منها التفاتة سريعة لترى المسافة الفاصلة بينها و بينه فوجدته يتربص بها بأعين ماكرة ، لتصطدم فجأة بحائط بشرى ، فزعت عندما شعرت بإرتطامها و نظرت له بخوف و تمتمت بصوت متقطع
:- يونس ..
شبعت عينيها بالراحة و تنهد قلبها بأمان و أطلقت لروحها العنان لتسقط بين يديه مانحة لنفسها بعض السكون بعد مشقة باتت طويلا ..
إرتعب قلبه لرؤياها هكذا ، شكلها الفوضوى أثار بعقله فوضى لا سبيل لإخمادها ، تلقفها بين يديه بصدمة لا يعلم كيف و متى وصلت الى هنا بتلك الهيئة المزرية .
أفاق سريعا ينظر حوله بتيه كيف سيحملها الى البيت بهذا الحال ؟
و ماذا إذا رآهم أحد فلن يسلمون من القيل و القال !
و هى الفاتنة بأعينه ، جمالها و طفولتها .. عفويتها و عنفانها ، قلبها الذى لم تمسه لوعة عشق و لم تكوى بنار حب .. جميعها بكر .
فحملها سريعا بين يديه متغاضا عن ثوران قلبه الذى تمرد على قربها معلنا عشقه للمرة الألف ، لكنه كالعادة يخرسه بالتجاهل .
إتجه الى المكتب الموجود بداخل المزرعة الخاصة بعائلة مهران ، ضرب الباب بقدمه و دخل مسرعا يضعها برفق على الأريكة الصغيرة المستندة على أحد الجدران .
أخذ يتفحص ملامحها سامحا لعينيه أن تروى عطشها و لو قليلا .. و ما زاده القرب إلا حرمانا !
شدد على شعره و هو يفكر ماذا يفعل ليوصلها الى البيت أولا دون أن يراها أحد من أهل القرية و بعدها يعرف سبب ما وصلت اليه ..
و لم يأت بباله سوى يحيي أخيها الأكبر و ابن عمه الذى ينتظره بالفعل بالشركة التى لا تبعد كثيرا عن مكان تواجده ، أخرج هاتفه من جيب سترته ثم أجرى عليه إتصالا فأتاه صوت الآخر
:- بقالى ساعة مستنيك يا يونس ، إيه اللى أخرك كدة ؟
حمحم يونس محاولا إخفاء توتره لكنه فشل فى ذلك فقال
:- معلش يا يحيي تيجى تاخدنى بالعربية من هنا ، أنا عند المزرعة .
:- فى إيه عندك يا يونس ؟
سأله يحيى محاولا أن يستشف ما وراءه لكن لم يريحه الآخر و رد بنبرة راجية لم يعدها به الآخر
:- لما تيجى يا يحيى ، بس متتأخرش .
أسرع يحيى و هو يستقل سيارته و يتحرك بها فهو يعلم أبن عمه جيدا يبدو انه يخفى شيئا و لا يريد البوح به عبر الهاتف ..
خرج يونس من المكتب تاركا إياها على حالتها و أخذ يجوب بالخارج ذهابا و إيابا ماسحا شعره بكفه يحاول وضع حد لأفكار مرعبة دبت برأسه ، أخفهم وطأة أن أحد قد أصابه مكروه من العائلة فقرر التأكد من الأمر ، أخرج هاتفه ثانية و إتصل بأمه و بعد سلامات و تحيات تأكد أن الأمر يبدو على ما يرام فحاول ان يجعل أمه لا تشك بشئ فسألها
:- ما فيش يا أما أنا كنت بس بسألك لو عايزة حاجة من الأرض و أنا جاى ؟
جاءها صوته بالكثير من الدعوات بالصحة و راحة البال .
لمح سيارة تقترب فتأكد أنه يحيي و أغلق الهاتف مع والدته ثم وقف مكانه منتظرا هبوط الأخر من السيارة بأعين حائرة غاضبة .
هبط يحيى بطلته المهيبة من السيارة و حينما إقترب منه تأكد من ظنونه ، وقف صامتا يطالعه بنظرات غامضة تحثه على البوح .
حاول يونس ان يستجمع شتات نفسه و أخذ يغمغم و لا يعرف ماذا يقول فزفر حانقا ثم قرر أخيرا أن ينهى إرتباكه فتوجه مباشرة الى المكتب حيث توجد هى ، تحرك تحت نظرات يحيى المتعجبة و فتح الباب مشيرا له ان يدخل ، تحرك الآخر فى صمت و دلف الى المكتب فألجمته الصدمة ، بينما ظل يونس بالخارج حتى لا يفكر يحيي بأنه إستحل حرمته خاصة و هى بتلك الحالة .
كانت أعينه كالصقر تراقب المكان جيدا حتى لا يسمح لأحد بالدخول أو الإقتراب منهم ، و لكنه غفل عن زوج من العيون الماكرة التى لازالت تترقب ما يحدث منتهزة أى فرصة للإنقضاض على فريسته ، لكنه لا يعلم أن تلك الغزالة تخص عائلة مهران فقط .
************
إقترب منها يحيي بملامح مذعورة يضرب وجنتيها بخفة محاولا إفاقتها دون جدوى ، بحث بأعينه سريعا فوجد زجاجة من المياه موضوعة على المكتب ، فنهض و إلتقطعا سريعا ثم فتحها و نثر منها على وجهها ، و قد أراد الله أخيرا أن يريح قلبه من هلعه عليها فبدأت أهدابها بالرفرفة ببطء و سرعان ما إنتفضت بذعر عندما تذكرت ذلك الوغد الذى كان يلاحقها ، و لكنها إستكانت ثانية عندما رأت أخيها الأكبر بجوارها و ما لبثت حتى إرتمت بين أحضانه و تخلت عن قناع القوة التى تلبسته و هى تقاوم ذلك الذئب و أطلقت لدموعها العنان .
شدد يحيي من إحتضانها بقلب مخلوع على مدللته الصغيرة و ربت على شعرها بحنو قائلا
:- ششش ، إهدى أنا جمبك .
تركها قليلا تخرج شحنتها المكبوتة من البكاء حتى هدأت رويدا رويدا ، فأخرجها من حضنه و هو يمسد على ذراعها كى تهدأ و سألها
:- هديتى و بقيتى زينة
أومأت له بهدوء فأردف
:- عايزة أعرف إيه اللى حصل بالظبط ؟
تناولت زجاجة الماء و إرتشفت منها قليلا ثم وضعتها بجوارها ثانية و بدأت تحكى ما حدث و هى تفرك يديها بتوتر
:- أنا كنت زهقانة من قاعدة البيت و إستأذنت أمى إنى أجيلك المزرعة أهو أغير جو و نرجع سوا .. و أنا فى الطريق سمعت واحد بيعاكسنى ، مردتش عليه و الله يا يحيي ، بس هو ماسكتش فضل ماشى ورايا و إنت عارف ان الوقت دة الناس بتبقى مريحة فى بيوتها و قليل اللى بيبقى برا البيت .. بس كان معاه هشام ابن الشيخ عبد الله و حاول كتير يمنعه بس هو مسمعش كلامه و ضربه .
صمتت قليلا و هى تلتقط أنفاسها فشعرت و هى تحكى أنها تعيش الموقف للمرة الثانية ، إستجمعت قواها تحت أعين يحيي الجامدة و أردفت
:- أنا التفت على صوت الضرب كان بيضرب فى صاحبه خوفت لقيته مرة واحدة بيقرب منى فجريت بس هو شدنى من الطرحة و إتخلعت فى إيده و وقعت على الأرض .
أبيضت عروق يحيي و هى تسرد ما حدث معها بالتفصيل محاولا الا يظهر شيئا مما يعتريه من الداخل حتى يترك لها المساحة الكافية للبوح عما حدث كاملا دون إغفال أى تفاصيل .
:- قعد يضحك بطريقة غريبة و أنا مرعوبة حاول يقرب منى بس أنا أخدت حبة تراب من الأرض و رميتهم فى وشه و إستغليت إنه مش شايف حاجة و طلعت أجرى لحد ما إتخبطت فى يونس و محستش بحاجة بعد كدة .
تنهدت بألم و هى تنظر ملامح يحيي المتجهمة بينما قطع صمتهم هذا دخول يونس العاصف الذى إستمع لكل حرف قالته بقلب محترق و غضب أثار بداخله وحوش دوما ما يحاول إخمادها .
لم ينظر لها و لكنه طالع يحيي بقوة و وضع مفاتيح السيارة الذى أعطاها له الاخر عند وصوله على المكتب و قال
:- أنا ماشى يا يحيي ، المفاتيح عندك .
إتجه ليخرج حتى أوقفه يحيي بنبرة صارمة
:- رايح فين يا يونس ؟ إستنى إحنا هنروح سوا .
لم يستدر له الأخر و تحدث بنبرة حاول إخفاء غضبها
:- أنا مش مروح .
نهص يحيي من مجلسه بجوار أخته و تحرك نحو يونس بخطوات واثقة و قال بكلمات ذات مغزى
:- مش محتاج أفهمك إنى مش عايز حد يعرف باللى حصل ، دى سمعة بنت و مش أى بنت .. دى نوارة مهران ، و إنت عارف بلدنا مفيهاش أكتر من اللت و العجن ، و الحاجة اللى قد كدة هيكبروها و يعملوها حكاية ، يبقى نعقل و نتصرف بهدوء .
كاد أن يهتف يونس غاضبا لكنه تمالك نفسه و ألقى نظرة عليها فوجدها تبكى بصمت و هى تضع يدها على فمها لتخفى شهقاتها ، فأنخلع قلبه على حالها فهتف غاضبا
:- مش هسيبه يا يحيي ، و رحمة أبويا ما هسيبه .
ثم أسرع الى الخارج تاركا يحيي ينظر فى أثره بوجوم فهو يعلم يونس جيدا رغم هدوءه الا إنه فى غضبه يكاد يحرق مدينة بأكلمها .
مسح على لحيته محاولا إستجماع هدوءه و إقترب من نوارة يساعدها على النهوض ، ثم أخذها تحت ذراعه متوجها بها الى السيارة و سلك طريقه الى بيتهم " بيت عائلة مهران "
**********
دخلت ليلـة الى المكتبة التى تعمل بها مسرعة بعد أن تأخرت كعادتها بتحضير الفطور لأخوها قبل أن يذهب الى عمله ،
وجدت صاحب المكتبة ذلك الرجل الذى تعدى عمره الخمسون عاماً يطالعها بتفحص كعادته و تتغاضى هى عن نظراته كعادتها أيضا ، ليس لديها أدنى إستعداد أن تتخلى عن عملها الذى هو بمثابة جرعة يومية للحياة ، تمنح نفسها الفرصة كى تتنفس بعيدا عن البيت و المشاحنات بداخله .
وضعت حقيبتها على المنضدة الصغيرة و همت تنظف المكان على عجل و هى تقول
:- أنا أسفة يا أستاذ راضى على التأخير .
عدل من نضارته الطبية ليتفحصها جيدا بنظراته الجانبية المختلسة و هو يقول
:- ما دة العادى بتاعك ، من يوم ما اشتغلتى هنا و إنتى بتيجى متأخر و أنا علشان راجل كلى نظر مردتش أخصم التأخير دة من مرتبك .
أكملت عملها و هى تزيح التراب الى الخارج و ردت
:- كلك ذوق يا أستاذ راضى ، و أوعد حضرتك إن شاء الله إنى اظبط مواعيدى .
رمقها بمكر و قال
:- لما نشوف .
بعد وقت طويل رحل راضى لإنهاء بعض الأعمال بالخارج فتنهدت براحة فكم يشكل هذا الرجل عبئا ثقيلا على قلبها ، تهللت أساريرها عندما وجدت صديقتها مريم تدلف حادثة ضجة كعادتها
:- صباح العسل يا عسل ، شكل سيد قشطة مش هنا و هنقضيها سوا .
ضحكت ليلـة عاليا و هى تطالع صديقتها و ردت
:- يخربيت تشبيهاتك يا شيخة .
جلست مريم براحة أمام صديقتها و هى تخرج بعض الطعام من حقيبتها
:- بصى أنا جيبت سندوتشات علشان نفطر مع بعض .
نظرت لها ليلـة بحاجب مرفوع
:- فطار إيه يا بنتى الساعة داخلة على اتنين .
رسمت الحزن على ملامحها و قالت
:- ما انتى عارفة ماما و بابا بينزلوا الشغل بدرى و بصحى مش بلاقيهم ، و مش بعرف أكل لوحدى .
لان قلب ليلـة و تناولت الطعام من يد مريم و هى تقول بمرح
:- سيبك يا مريومة تعاليلى انتى بس و ناكل مع بعض على طول و بعدين ما تشدى حيلك كدة و توافقى على العريس اللى متقدملك دة و أهو تلاقى حد ياكل معاكى .
رمقتها مريم بأعين متسعة و هى تقول
:- يعنى علشان أكل مع حد ارمى نفسى مع واحد معرفش عنه حاجة .. يا شيخة شالله عنى ما طفحت .
ضحكت ليلـة و إبتلعت ما بفمها من طعام و أردفت
:- يا بنتى ما تشوفيه هتخسرى ايه ؟ مش يمكن ترتاحيله و يطلع كويس فعلا !
قضمت من الطعام الذى بيدها بغل و ردت
:- لا يا ختى هخسر كتير ، هخسر طاقتى اللى هطلعها عليه و أنا بطفشه إن شاء الله .
تركت ليلـة ما بيدها على الطاولة أمامها و نظرت لصديقتها و سألتها
:- شكلك لسة عندك أمل فى مراد ، مش كدة ؟
إبتلعت مريم ريقها و نظرت أمامها بألم
:- و هو فين مراد ؟ ما هو سافر حتى من غير ما يعرف إنى بحبه ، من غير حتى ما يسلم عليا و يقولى إنه هيسافر ، و لا كأنى فارقة معاه .
ربتت ليلـة على يدها برفق و قالت
:- مراد بيتعامل معاكى زى أخته و إنتى عارفة كدة بس تاعبة قلبك على الفاضى ، إدى لنفسك فرصة يا مريم متقفليش على نفسك و تعيشيها فى وهم .
أومأت لها مريم و أكملوا تناول طعامهم و هم يتناوبون الأحاديث فيما بينهم ..