الفصل الثالث

فى منزل كبير يحاوطه الكثير من الأشجار متوسطة الطول شديدة الكثافة ، صمم على طراز قديم رغم أنه لا يخلو من مظاهر البهجة و السرور ، غلفته المحبة و المشاعر الصادقة فكان دافئا حميميا بأهله .

هبط يحيي من سيارته و بيده أخته تحتمى به فهو مصدر قوتها دائما .

أوقفها عن باب البيت و نظر لها بقوة قائلا

:- إجمدى يا نوارة ، معايزش أشوفك مكسورة كدة .. و هو ايه اللى حصل يعنى ؟ لمسك هو و لا أذاكى حتى ؟

حركت رأسها نافية فأردف

:- يبقى نحمد ربنا إنها جت على أد كدة ، و مش معنى كدة إنى هسيب حقك ، و غلاوتك عندى لأعرفه مقامه كويس .

أومأت له نوارة و تسلحت بالقوة و هتفت

:- أنا عايزة أكله بأسنانى ، هو إستغل إنى وحدى ، و أنا هستغل عزوتى و سندى و أفش غلى فيه .

ضحك يحيي على مدللته و شاكسها

:- و إنتى فكرك يونس هيسيبه لحد ماتخدى تارك منيه ؟! ربك يسترها .

أبتسمت نوارة و دلفت معه الى داخل المنزل و عندما لم تجد أحد بالداخل و الجميع مشغولون بالمطبخ فهرولت الى أعلى لتغير ثيابها الممزقة و ترمى بما حدث عرض الحائط ، فحقها سيأتى لا محالة ..

"و كيف تضيع الحقوق و خلفها أسود لا تقبل الخضوع "

عاد يحيي أدراجه الى الخارج و أخرج هاتفه ليتحدث الى يونس و لكن دون رد .

**********

يسير ضاربا الأرض بقدميه كمن يتشاجر معها ، لكنه يحاول إخماد نيران تأججت بداخله ، معركته الصامته مع قلبه ، حيرته بين نار الغضب و الغيرة و نور القرب منها .. فكم كان قربها جميلاً .

لكن سرعان ما تذكر هيئتها المبعثرة ، خوف بات ضيفا ثقيلا بعينيها ، إرتجافة يديها حين تشبثت به ، فأرتفع صراخ قلبه طالبا للإنتقام ..

إتجه الى منزل الشيخ عبد الرحمن و طرق علي الباب ثم إبتعد ليقف جانبا كنوع من الأدب ، ففتح الشيخ العجوز الباب و قابله بإبتسامة ودودة رغم تعجبه من زيارته ..

حاول يونس ان يستجمع هدوءه و بادله إبتسامته و قال

:- هشام موجود يا شيخنا ؟

أجاب الشيخ بحزن على ولده

:- موجود يا ولدى بس متخرشم ، ولد الحرام ضربه و مخلاش فى وشه حتة سليمة .

إرتبك يونس قليلا فلو قص لهم هشام ما حدث فبالتأكيد ستعلم القرية بأكملها و هذا ما لن يسمح به أبدا .

لم يجاريه بالحديث فسأله

:- طيب معلش أنا عايزه فى كلمتين .

كاد الشيخ أن يرفض لسوء حال إبنه لكنه وجد هشام يطل من خلفه الذى هبط بعد أن أخبرته أمه بوجود يونس بالخارج ..

:- أدخل إنت يا بوى أنا هشوف البشمندس عايز ايه ؟

دلف الشيخ عبد الرحمن الى المنزل و أغلق هشام الباب و إقترب من يونس الذى يتفحص ملامحه المتورمة و الكدمات المنثورة على جوانبه

:- من غير لف و دوران كتير ، إسمه بالكامل و عنوانه ؟

نظر الى يونس الذى ملامحه لا تنذر بالخير أبدا و قال

:- مش من هنا و الله يا يونس ، دة حازم السيوفى من القاهرة و ميعرفهاش و ..

قاطعه يونس بحدة

:- حتى لو ميعرفهاش أنا هخليه عبرة و يفكر الف مرة قبل ما يبص حتى على بنات الناس ، ودينى لأسففه تراب مصر كلها .

حاول الآخر تهدأته قائلا

:- يا يونس صدجنى دة ولد ناس تجيلة جوى و محدش هيسيبك تلمس منيه شعره .

إبتسم يونس بسخرية و هو يستدير ليغادر

:- يبقى إنت لسة متعرفش مين هو يونس مهران ..

:- عارف ، عارف كويس إنت مين .. إنتو ناس عتخاف ربنا و تتجيه و حافظة لكتابه ، لكن هما بيدوسوا على الخلج و بدم بارد كمان .

كاد يونس أن يتحرك غير عابئا بكلامه و لكنه تذكر شئ فسأله

:- حد يعرف اللى حصل ؟

نفى هشام برأسه و رد

:- لا ، عارفين إن أنا و صاحبى إتعاركنا بسبب مشادات فى الكلام بس إكدة .

أومأ له يونس بشئ من الإمتنان ثم مضى من أمامه .

أخرج هاتفه ليتصل بصديقه و ابن عمه لجلب له المزيد من التفاصيل عن ذلك الوغد ، فوجد العديد من المكالمات الفائتة من يحيي ، كاد أن يتغافل عنها حتى فوجئ بالهاتف ينير بيده بإسمه مجددا ، فما كان منه سوى أن يرد .. فجاءه صوته غاضبا

:- كل دة علشان ترد عليا ؟ إنت فين يا بنى آدم إنت ؟

رد عليه يونس بهدوء

:- جاى على البيت .

:- مستنيك ، متتأخرش .

أغلق الهاتف و أجبره القلب على التحرك فبات كأنه أمر واجب النفاذ ..

وصل الى صومعه خشبية على هيئة كوخ صغير ، ملاذه الآمن للهدوء و الراحة .. فتح الباب ببطء و أخذ يطالع المكان بشئ من الحنين .. حنين للماضى .. و لها !

إقترب من الصندوق المغلق و أخرج ميدالية مفاتيحه ثم جثى أمامه و فتحه ..

مد يده و أخذ صورة ثم إعتدل و إبتعد قليلا وإرتمى بجسده على الوسائد المفروشة أرضا ..

لامس الصورة بأنامله بشوق و توهان

:- كن الماضى بيعيد نفسه تانى ، نفس اللى حصلك زمان حصل معاها .. و اللى عملته معاكى ربنا قعدهولى فى أختى و سخر لها اللى يحميها و يوصلها فى الوقت المناسب .. تفتكرى حكايتنا بتتعاد تانى ؟ و لا الدنيا ليها حسابات تانية ؟!

قطع تفكيره صوت هاتفه فأخرجه من جيبه و تطلع اليه ليجده ابن عمه المتهور ، فإستقام من جلسته و أعاد الصورة التى بيده مجددا الى الصندوق و أغلقه عليه كحال قلبه المغلف بأصفاد عشقها المغلقة ..

خرج من كوخه الخاص و تحرك الى الحديقة ليجده بإنتظاره .

وقف أمامه بشموخه المعهود و سأله

:- عملت إيه ؟

دث يونس يديه بجيبى بنطاله و رد بقوة

:- عرفت هو مين ، و فى ظرف ساعة هتكون عندى كل معلوماته ..

تابع يحيي و نظراته لا تبشر بالخير

:- طبعا جريت قولت لبدر علشان يجيبلك المعلومات .. بس يارب متكونش غبى و قولتله كمان على اللى حصل ؟

نفى يونس برأسه و هو يقول

:- عيب دة أنا تربيتك .

إبتسامة خائنة كادت أن تشق ثغره لكنه وأدها سريعا ، و ربت على كتف يونس و قال

:- لما بدر يكلمك إبقى بلغنى .

أومأ له يونس و سؤال بات مترددا بطرحه تحت نظرات يحيي الغامضة و لكنه سأله

:- نوارة عاملة إيه دلوقتى ؟

تنهد يحيي بقوة و رد

:- الحمد لله ، المهم محدش يعرف باللى حصل و لا حتى أمك يا يونس .. فاهم ..

:- فاهم

جذبه يحيي من يده و قال

:- يلا ندخل زمانهم حضروا العشا ..

كاد يونس ان يعترض ولكن أوقفته نظرة من الآخر ليردف بمزاح

:- أقسم بالله بخاف منك أكتر ما كنت بخاف من أبويا الله يرحمه ..

إبتسم يحيي حتى ظهرت غمازته التى زادته جاذبية و غمغم بهدوء

:- حلو يا ولد عمى .. من خاف سلم ..

:- اه طلما قلبت صعيدى يبقى إسترها علينا يارب ..

و ظلوا هكذا حتى دخلوا الى البيت ليجدوا مائدة الطعام قد وضعت ..

**************
يجلس بشغف يتابع عمله على حاسوبه الخاص فهو مولع بالبرمجيات و البرامج و اى شئ له علاقة بالحاسوب ، و مهارته تلك هيأته للتعيين بكبرى الشركات المتخصصة فى ذلك المجال ..
أخذ ينفث سيجارته بقوة و هو يتطلع الى الحاسوب أمامه حتى جاءه إتصال فرد دون أن ينظر بالهاتف حتى تحدث الآخر
:- جبتلك كل المعلومات اللى طلبتها يا هندسة ، بس يارب يطمر ..
دث بدر السيجارة بين شفتيه و أخذ نفسا عميقا و أخرجه ببطء و قال
:- إخلص .. هات اللى عندك .
ليجيبه الآخر
:- حازم السيوفى .. ابن أحمد السيوفى صاحب شركات الحديد و الصلب ، عيل فالت و مغرق أبوه فى مشاكله بس كالعادة بيطلع منها زى الشعرة من العجين ، مبلط فى كلية تجارة بقاله سنتين فى سنة رابعة ، نسوانجى درجة أولى ليه أخين و أخت .. طارق السيوفى و دة فلاتى أنيل منه بس شاطر فى شغله ، مراد بقى يا سيدى فالته العيلة دكتور محترم و غيرهم خالص .. و إيلين السيوفى البيتيفوراية بتاعت العيلة ..
إستمع له بدر بتركيز و دث السيجارة بالمطفأة أمامه و قال
:- إنت قولتلى أخوه الكبير إسمه إيه ؟
:- طارق السيوفى ..
تحدث بدر بشرود و الماضى يجوب بعقله
:- معقول يكون هو !
ليقطع صديقه شكه قائلا
:- ايوة هو .. و لو مش متأكد أنا ممكن أسألك حسام أخويا هو اللى كان جايبلنا المعلومات بتاعته .. و نصيحتى بردو مش هتتغير عن خمس سنين فاتوا بلاش عيلة السيوفى علشان مبيرحموش ، لا و كمان حازم دة نن عين أمه يعنى مش هتسمح لحد يأذيه ..
رد بدر بجدية
:- صدقنى أنا معرفش أبعاد الموضوع و لا أعرف حتى هو هبب إيه ، بس من طريقة يونس شكله عمل حاجة كبيرة و يونس مش ناوى على خير أبدا ..
أسند ظهره الى الخلف و هو يقول
:- واضح إنه ديله نجس شبه أخوه .. بس ياترى أذيتهم طالت مين المرة دى ؟
شعر خالد بتوهان صديقه فقطعه قائلا
:- صدقنى يا بدر الناس دى محدش بيعرف ياخد معاها حق و لا باطل ، إتكلم مع ابن عمك تانى و لو الموضوع ما يستاهلش يبقى إبعدوا عنهم و إنتوا الكسبانين و الله ..
لم يرد بدر فأردف خالد
:- و بعدين يا عم إنت مش قولتلى هتجيلى ؟
:- هجيلك قريب ، هتلاقينى ناطط عندك فى القسم ..
:- ماشى لما أشوف .. هستناك
إنتهت المكالمة و أخذ بدر يفكر ثانية بالأمر .. هل الأمر يخص أحد من عائلته ، و هل يعلم يحيي بما ينويه يونس ..
أمسك هاتفه مجددا و أجرى إتصال على يحيي أخيه الأكبر ليرد الآخر
:- اللى يحدفك عليا بالليل كدة يبقى جايبلى مصيبة ..
ضحك بدر على يحيي و رد
:- وربنا إنت ظالمنى .. وحشتنى يا شق بلاش أسأل عليك ؟
أغلق يحيي الشرفة و عاد الى غرفته يرتمى بجسده على الفراش و قال
:- هعمل نفسى مصدقك ، رغم إنك كنت لسة مكلمنى الصبح ..
رد بدر بمشاكسة
:- بحبك يا جدع الله .. مش أخويا البكرى !
تحدث يحيي بسخرية
:- البكرى ! ما تجيب من الآخر ياض إنت عايز أنام ..
إستجمع بدر قوته و ألقى بسؤاله على أخيه
:- عايز أعرف حازم السيوفى عمل إيه ؟
إنتفض يحيي من نومته كمن لدغه عقرب الذكريات ، مجرد سماعه للإسم أشعل نار الإنتقام مجددا بداخله ، و هو الهادئ بطبعه محب للحياة و للجميع ، لكن تحوله هذا لا ينذر بالخير ابدا
:- إنت بتقول مين ؟ هو اللى يونس سألك عليه إسمه حازم السيوفى ؟
تردد بدر قليلا فهو لا يعلم أن يحيي ليس لديه علم بإسمه .. قطع شروده صوت يحيي الغاضب
:- رد عليا يا بدر ؟ و ليه علاقة بالزفت التانى و لا لأ
:- بصراحة يا يحيي حازم يبقى أخو طارق الصغير
قالها بدر بتلعثم ليستقيم يحيي من جلسته و يجوب غرفته بغضب .. حاول أن يهدأ قليلا حتى لا يشعر أحد ثم قال بفحيح مخيف تعجب له بدر
:- عيلة السيوفى قررت تحفر قبرها بإيديها ..
حاول بدر تهدئة أخيه فهو لم يراه بتلك الحالة من قبل
:- إهدى يا يحيي الحكاية أكيد متستاهلش .. الموضوع القديم قفلناه من زمان و إنتهى .. فهمنى بقى الزفت التانى دة عمل إيه ؟
تنهد يحيي بقوة و هو ينظر من خلف زجاج شرفته بشرود
:- الموضوع القديم عمرى ما نسيته و لا هنساه يا بدر .. ساعتها سكت علشان الأذية متطولش حد فيكو .. بس واضح إن سكوتى زمان كانت هتدفع تمنه أختك و مبقاش ينفع أسكت أكتر من كدة !
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي