الفصل الأول
تابعت منى تقليب صفحات مجلة أخر خبر، تلفتت منى حولها وتعجبت من هدوء صالة تحرير المجلة، اسندت منى ظهرها إلى مسند الكرسي الصغير الذي تجلس عليه، واصلت منى التقليب والتصفح السريع في عناوين المجلة حتى وصلت لصفحة عليها صورة كبيرة لأحد مذابح القاهرة للحيوانات، توقفت منى عن التقليب، أخذت نفس عميق واغمضت عينيها وهي تخرجه على مهل، فتحتهما ونظرت لاسمها (منى أبو زيد) مكتوب بخط فونت ستة عشر، ابتسمت وهي تتأمله وتحسس على الورقة وكأنها تستشعر ملمس اسمها عليه.
منى أبو زيد صحفية شابة، قادها القدر بعد طموحها إلى مجلة أخر خبر الشهرية، التحقت فيها منذ ثلاث سنوات تقريبًا، وافق الأستاذ رأفت مرزوق رئيس تحرير المجلة على تعينها كصحفية تحت التمرين لمدة ست شهور ليس لها الحق في المطالبة بأي حقوق مادية خلالهم، وافقت دون تردد وكأنها على ثقة من نجاحها.
أرسلها رأفت مرزوق للعمل تحت قيادة نهى مرجان التي تكبرها بخمس أعوام على الأقل وبخبرة تزيد عن سبع سنوات، عملت نهى بهذه المجلة منذ كانت طالبة في كلية الإعلام في الصف الثالث، وفي أسابيع قليلة اثبتت وجودها بمقالات وتحقيقات جريئة، جعلت كل الصحفيون الكبار ينسبونها إليها ويعلنون تبنيهم لها، نجاحها ضمن مكان لها مسبقًا قبل تخرجها، وزادت مكانتها وقيمتها وراتبها بعده.
لم تتوقف نهى مرجان عند هذا الحد، مدت يد العون لمصطفى داوود وسميحة عبد الله؛ زميليها المقربان بالكلية وتوسطتهم لهم لتعيينهم بالمجلة، وإكرامًا لها ورغم صغر سنها وافق رأفت مرزوق على تعيينهم تحت الاختبار لمدة ستة اشهر، لكن وبمجرد انتهاء الشهور الستة كادا أن يفصلا لولا تدخل نهى مرة أخرى وتوسطه لهما ليوافق رئيس التحرير على تعيينهم صحفيان بالمكافأة، والتي لم يحصلا عليها ولو لمرة واحدة.
توسمت نهى مرجان في منى أبو زيد النبوغ، احتضنتها وحاولت جاهدة مساعدتها في تحقيقتها الصحفة مستخدمة كل معارفها داخل الوسط الصحفي وخارجه لتتم منى أبو زيد تحقيقات جريئة قوية وصادقة، كان أخرهم تحقيق عن مذابح القاهرة وسلبيات تلك الأماكن، جمعت فيها منى أبو زيد معلوماتها من أكثر من مصدر، الجزارين وصبيانهم، الأطباء البيطرين العاملين بالمذابح، الجزارين أصحاب محلات بيع اللحوم الطازجة، والزبائن وتجاربهم الخاصة مع نوعيات اللحوم المختلفة.
نجحت منى أبو زيد كالعادة وفرحت لها نهى مرجان كما اعتادت، لكن يبقى مصطفى داوود وسميحة عبد الله غصة في حلقها المهني.
عادت منى تقرأ تحقيقها مرة بعد مرة، تطالع صورتها الصغيرة فوق اسمها، تبتسم بثقة، عاودت التقليب في صفحات المجلة، شد انتباهها اعلان من وزارة الداخلية يعلن عن فرصة للتقديم في وظيفة خفير في إحدى مراكز الشرطة في محافظة الجيزة.
تأملت منى الإعلان ولوجو وزارة الداخلية يتوسطه، رفعت عينيها بعيدًا عنه، ضيقت فتحة عينيها قليلًا وكأنها تركز لتصوب طلقة نحو هدف لا يرأه إلا هي، اغلقت المجلة، التقطت جقيبة يدها الصغيرة من فوق المكتب، فتحتها وتأكت من وجود الدفتر الملازم لها دائمًا وفي وسطه القلم الرصاص، سجلت عنوان المركز فيه، واعادته للحقيبة، وهمت لتنصرف لولا دخول سميحة عبد الله ونظراتها الحادة نحوها، عادت منى لتجلس بهدوء تراقب سميحة في حذر.
كعادة سميحة تقدمت سميحة وتوجهت نحو مكتب صغير في ركن صالة التحرير، ربما هو الأصغر في كل الموجودين، وضعت سلسلة مفاتيحها الذهبية على المكتب، وخلعت حقيبة يدها من على كتفها وقبل أن تضعها هي الاخرى على المكتب تفحصته ونادت بصوت مرتفع على فرج العامل المسئول عن نظافة صالة التحرير وهو من يتولى عرفيًا اعداد المشروبات للمحررين الشبان والمبتدئين والتي غالبًا ما تزدحم بهم صالة التحرير في كل وقت على مدار اليوم تقريبًا، كما أنه أخذ على عاتقه شراء الأطعمة مهما كان نوعها أو صنفها أو هيئتها للصحفيين الشباب؛ بالطبع بعد أخذ عمولة بسيطة لا تزيد عن خمس جنيهات ولا تقل عن جنيهين عن كل طلب يطلبه أي من صحفيين المجلة.
تعين في المجلة في نفس الشهر الذي تعين فيه رئيس تحريرها، وسبق مدير التحرير الحالي الأستاذ شهاب البغدادلي في التعيين بسنة وثلاث شهور بالتمام والكمال، عاصر كل مديرين ورؤساء الأقسام المختلفة في المجلة كصحفيين مبتدئين في المجلة، عمل بعضهم بالقطعة والبعض الأخر بالتعاقد السنوي أو بنظام المكافأة، لكنهم جميعًا يكنون له كل حب وأحترام، فهو وإن كان عامل في المجلة وهم صحفيين إلا أنهم وكلهم وجميعهم لا يستطيعون أن ينكروا فضل عم فرج عليهم.
فجميعهم تناولوا من يده مشروبات اعدها بنفسه لهم ولم يحاسبوا ويدفعوا ثمنها لضيق ذات اليد، لم يتأفف يومًا أو يمنع أحد من أن يطلب ما يريد من شاي أو قهوة حتى لو تراكمت عليه الديون، نعم يقيد فرج كل مليم على زبائنه لكنه لا يطلب منهم حتى يدفعوا عن طيب خاطر بعد ذلك، لقد أصبح فرج أيقونة المجلة والمالك الضمني لصالة التحرير.
لكن ما يعيبه حقًا ليس ضعف سمعه والذي كان حادًا فيما قبل لكن سوء مظهره وأهماله لهندامه رغم أن الكثير من الصحفيين والذين أصبحوا نجوم مجتمع الآن ومنهم من يقدم برامج على قنوات فضائية أو محطات إذاعية يمنحوه الكثير من الهبات على هيئة ملابس أنيقة بل أنهم أحيانًا يعطوه قمصانًا من ماركات عالمية مشهورة وغالية، لكنه بين وبين نفسه يرفض لبسها ومبرره وإن لم يكن وجيهًا بدرجة كافية إلا أنه منطقي ولو بدرجة ما؛ فهو إن لبس هذه القمصان الغالية والبناطيل ذات الماركات العالمية لابد أنه سيخسر زبائنه من الصحفيين (القرديحي) وهم غالبية العاملين في هذه الصالة على الأقل في بداية حياتهم.
لكن أين تذهب هذه القطع الفاخرة من الملابس المختلفة الألوان والأذواق، سؤال لن يجيب عليه إلا صحفي شاب اشتهر وسط زملائه بالاناقة المبالغة رغم رقة حالته الصحفية، سنتعرف عليه فيما بعد وعن قريب، ستتعرف عليه وحدك عزيزي أو عزيزتي القارئة عندما تجد يتحرك بخفة ورشاقة في أروقة المجلة حاملًا في يده ملف كبير مملوء بأوراق كتابه الاول وباكورة انتاجه الذي سيغير العالم وينسف النظريات القديمة في الاقتصاد والاجتماع والفلسفة وربما في الدين أيضًا مرورا على اقبية التاريخ وسردايب الجغرافيا.. لكن دعك من كل هذا..
ولنعد لسميحة عبد الله الواقفة خلف مكتبها بعد ان القت سلسلة مفاتيحها الذهبية على المكتب ورفضت أن تضع حقيبتها الجلدية من ماركة (شانيل) على مكتب مترب معفر بهذا الشكل، عاودت النداء على عم فرج، لكنها تعلم جيدًا أنه لن يسمعها بسبب ضعف سمعه، لكنها مصرة ومصممة على النداء عليه لتقول ما تريد ايصاله لمن حولها في الصالة، وبما أن الآن لا يوجد سوى منى أبو زيد والتي ظهرت من العدم في هذه المجلة لتكبر وتنمو فجأة وتتصدر صورتها واسمها تحقيقاتها في فترة وجيزة وقياسية مما يثير اشمئزاز وحنق وغضب وغيظ سميحة والتي تعمل في هذه المجلة منذ سنوات طوال بعد أن توسطت لها نهى مرجان زميلة الدراسة وحملات والدها الإعلانية، ورغم أن سميحة لم تكتب حرف واحد في المجلة ولا شاركت في صياغة خبر في يوم ما ولا اضافت ولو حرف واحد في مقال ما طوال مدة عملها في المجلة إلا إنها وبالرغم من كل ذلك تم تثبيتها في المجلة كصحفية، منصب يسعى له شباب كثير وشبات كثيرات ليحصلوا على فرصة مثل هذه، ومن أجلها يبذلون مجهود وسنوات طويلة من العمل والكفاح والعرق.
طالعت سميحة اليوم العدد الجديد من المجلة، ولمحت اسم هذه المزغودة المدعوة منى أبو زيد، كما أنها رأت صورتها وهي تبتسم تلك الابتسامة التي تثير حنق سميحة وتصفها دائمًا بالابتسامة الصفراء، نظرت سميحة نحوها وهي تتأفف وتنظر لها من قمة رأسها إلى اخمص قدميها واعادت النداء على فرج للمرة الأخيرة، ثم اردفت وهي تبعد نظرها عن الزميلة الوحيدة الموجودة في صالة تجرير المجلة:
مش عارفة الناس دي عارفة تعيش إزاي في الوساخة دي..
ثم نظرت لمنى مرة أخرى ومسحت بسبابتها سطح المكتب ورفعته أمام عينيها وقالت وهي تشير لمنى:
بصي يا أختي.. شوفي كمية التراب اللي على المكتب قد إيه.. أنا لو حطيت شنطتي الشانيل عليها هتتوسخ وكمان أكمام بلوزتي الكريستين ديور ممكن تترب وانا البلوزة دي غالية عليا قوي..
صمتت لبرهة تنتظر رد فعل من منى التي ثبتت نظرها في عينين سميحة ولم ينم وجهها بأي ردة فعل، اكملت سميحة كلامها:
مش قصدي إن البلوزة غالية يعني تمنها غالي.. بالعكس دي مش غالية خالص يعني تمنها مش جايب كام ألف جنيه.. عادية يعني.. بس غالية عليا علشان بابي جيبهالي معاه من إيطاليا في رحلته الاخيرة..
لم تتحرك منى قيد أنملة ولم يتغير تعبير وجهها الجامد وكأنه بلا احساس وهي تنظر في عيني سميحة مباشرة التي اكملت حديثها قائلة:
عم حامد ده راجل مهمل ومش شايف شغله كويس.. والله ده لو شغال عندي أو عند بابي في شركة الاستيراد والتصدير بتاعته أو في شركة المقاولات أو حتى في مصنع الأغذية أو الملابس بتاعه أكيد كان رفده من زمان أو حتى نقله لمصنع السيراميك علشان يبعده عن القاهرة عقابًا له.. أنا بابا حنين قوي عليا بس في الشغل معندوش رحمة.. انتي ما بترديش عليا ليه يا منى وبصالي كده ليه؟
ابتسمت منى أبو زيد وأشارت لسميحة بيدها أن أستمري، فعقدت سميحة حاجبيها مستفهمة عن معنى اشارة منى، بدرت ضحكة قصيرة شبه خافتة من منى وقالت بعدها:
أصل أنتِ لسه ما تكلمتيش عن الجزمة الديجافو.. ولا البنطلون الدافنشي، وطبعا لازم تكلميني عن عربيتك الأودي اللي مش عجباكي لما بتقرنيها بالمبورجيني بتاعت اخوكي.
تصدقي بالله يا موني أنا فعلا زهقت من العربية الأودي دي ولازم أخلي بابا يشتريلي حاجه جديدة.. تفتكري أجيب إيه؟
هاتي حنظور.
هو في نوع عربيات اسمه كده؟ ده بيتصنع فين؟
ضحكت منى ضحكة أطول هذه المرة وقالت وهي تنظر للمجلة الموضوعة على مكتبها:
ما تسيبك من موضوع العربية والفساتين والحفلات والسفريات والليلة دي وخشي في الموضوع على طول يا سمسمة.
ادركت سميحة أن هذه السمجة لن تتمكن من اثارتها حاولت أن توضح لها الفرق المادي الواضح بينهما، لكن هذه الخدعة لم تنطل على منى رغم نجاحها مع أكثر من زميلة وزميل من قبل، ولكنها وبكل وضوح ووقاحة تدعوها للنزال في معركة تعرف سميحة جيدًا أنها ستخسرها لكنها لن تمانع ابدًا من خوضها بكل قوة وشراسة، وضعت سميحة حقيبتها على الكرسي خلف المكتب وتوجهت نحو المكتب الجالسة خلفه منى والتقطت بأطراف أصابعها عدد المجلة، تعرف بالتحديد أين يقع تحقيق تلك الغبية المتفاخرة بكلمات تسطهرها على ورقة بيضاء ثم ترسلها فيوافق عليها مدير التحرير لتعيش وكأنها بطلة أسطورية.
قلبت صفحات المجلة بسرعة حتى وصلت لصفحة سبع وعشرين، حملت نظراتها لصورة منى ضيق وحقد يكاد يحرق أوراق المجلة، قالت وهي تشير على أي سطر في التحقيق:
بصي هنا.. الجملة دي تحسي إنها مقحمة في الموضوع.. يعني ملهاش أي ستين لازمة أصلًا..
وإيه كمان؟
والأسلوب...
ماله الأسلوب يا ميحة قلبي؟
مفكك كده ومش مترابط وما لوش علاقة بموضوع التحقيق.
القت سميحة نظرة سريعة على التحقيق، قرأت العنوان وطالعت الصور المرفقة بالتحقيق وقالت:
ثم إن الموضوع نفسه سخيف ومش مهم ومحدش هيهتم يقرأ عن اللي بيحصل في السلخانات يعني.. هيكون بيحصل فيها إيه مثير.. بصراحة الموضوع كله وحش وعك في عك.
تنفست منى الصعداء واخرجت زفيرًا قويًا ووقفت، اخذت عدد المجلة من يد سميحة، ابتسمت في راحة وقالت:
الحمد لله.. كده انتي خلصتي الشحنة بتاعتي بدري بدري.. فيها للشهر الجاي على بال ما انزل تحقيق جديد ويضايقك ويعصبك فتبدأي تكلميني عن الشبشب أبو عشروميت جنيه.. وعن الشراب الشيفون أبو شنتروميت جنيه.. وعن الرقم الفلكي اللي بابي اشتري بيه فيللا في باريس.. وبعدين تقولي نفس الكلمتين..
كلمتين ايه دول؟
بصي هنا.. الجملة دي تحسي إنها مقحمة في الموضوع.. يعني ملهاش أي ستين لازمة أصلًا.. والأسلوب مفكك كده ومش مترابط وما لوش علاقة بموضوع التحقيق.. ثم إن الموضوع نفسه سخيف ومش مهم ومحدش هيهتم يقرأ عنه.. حفظتهم من كتر ما بسمعهم كل شهر.. انا بس عندي سؤال واحد محير عقل البشرية اللي في المجلة هنا.
سؤال إيه ده؟
انتِ لا عمرك كتبتي مقال ولا خبر ولا تحقيق ولا حتى أنشودة أطفال.. اتعينتي إزاي بس؟!
انا نفسي سألت نفسي السؤال ده.. ما لقيتش غير رد واحد...
أيوه إيه هو.
توجهت سميحة نحو مكتبها في ركن الصالة، التقطت حقيبتها من على الكرسي، فتحتها واخرجت منديل ورقي منها، قالت وهي تمسح سطح المكتب:
أنتِ عارفة إن اللي عيني الدكتور شهدي مشهور رئيس مجلس الإدارة السابق للمؤسسة اللي المجلة تبعها...
عارفة المعلومة دي كويس.. إيه اللي يخلي رئيس مجلس إدارة مؤسسة بتصدر عنها أربع جرايد أسبوعية وواحدة يومية ومجلتين نصف شهرية ومجلتين شهرية ده غير الدوريات و.. و.. إيه اللي يخلي رئيس مجلس إدارة مؤسسة ضخمة زي دي يعين واحدة ما كتبتش ولا حتى اسمها في ورقة بيضا؟
لأنه يا هانم عارف أمكنياتي كويس.
عارف منين.. ها.. منين.. حد يفهمني.
باباي اللي قاله وعرفه...
قاطعتها منى والتي أخيرًا فهمت ما حدث.
بابي اللي قاله! أنا كده فهمت.
انهت سميحة ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الله الشتري مسح سطح مكتبها، تأملت المنديل الورقي الابيض فلم تجد به أي تغيير، لكنها ألقته في سلة مهملات قريبة منها، تتبعت رأسها منى وهي تخرج من صالة التحرير، تاكدت من خروجها، صرخت داخلها: "فاشلة.. أنا فاشلة.. وهي رخمة وغلسة وبنت ستين..".
توقف مصطفى أمام مبنى المجلة، خلع نظارته الشمسية السوداء وعلقها في قميصه، شمر كم قميصه الزهري وأمسك بحزمة من الأوراق المضغوطة في ملف بلاستيكي مغلق باحكام، تأكد من لمعان حذائه الأسود، عاود النظر على اللوحة الكبيرة المعلقة على المبنى؛ (مجلة أخر خبر مجلة شهرية تصدر عن مؤسسة الخبر للصحافة والدعاية)، ابتسم وهو يصعد على درجات مدخل المجلة، كانت خطواته أشبه بقفزات قصيرة مرحة، تلاعب شعره الأسود الناعم مع قفزاته على الدرج وكأنه أمواج بحر هادر.
قبل أن يدخل من الباب الرئيسي تقابل مع منى أبو وزيد، تأمل جسدها الممشوق، ظهرها المفرود وكأنه خرج من تحت مكواة ثقيلة فردته، صدرها الصغير الناهد، يشعر تجاه هذه الشابة بشيء لا يجد له تفسير، أحيانًا يعتقد أنه يحبها، ويهيم عشقًا بها، وأوقات أخرى يظن انها تنظر نحوه باستهتار، لا أحد يملء عينيها، مغرورة، تجعله دائم العصبية عندما يلمح نظرات التكبر في عينيها، يتحول حبه الجارف لها لكراهية حانقة عليها.
علقت منى حقيبة يدها في كتفها، لمحت مصطفى يقترب من الباب الرئيسي للمجلة، تحب فيه أناقته وتعتبره أكثر شباب المجلة اناقة، ورغم أنه من طبقة متوسطة، توفى والده وهو صبي صغير وتولت أمه تربيته وتعليمه إلا إنه يصر على أن يرتدي قمصان وبناطيل غالية الثمن، وماركات معروفة ومشهورة، تعجبت كثيرًا كيف لشاب مثل مصطفى شراء مثل هذه الملابس الغالية، لم تجد إجابة ولن تجدها مادمت لا تعرف العلاقة الخفية بين مصطفى داود وفرج، لكنها لا هي ولا أي أحد من الزملاء في المجلة أو حتى اصدقائه من خارج نطاق العمل لاحظ أن الأحذية التي يرتديها مصطفى داوود لا تتناسب مع فخامة القمصان والبناطيل التي يرتديها.
اتسعت ابتسامتها عندما رأت مصطفى، أشارت له محيية، توقف مصطفى وابتسامة عريضة تزين وجهه، اقترب بخطوات وئيدة نحو منى، مد يده مصافحًا، تلامست الأيدي وارتعد قلب مصطفى بقشعريرة خفيفة، وعانت عينيه من زغللة بسيطة، سحبت منى يدها بهدوء وفتحت حقيبة يدها، اخرجت العدد الاخير من المجلة، فتحتها على صفحات تحقيقها، وضعته أمام عيني مصطفى، تبدل حال مصطفى في أقل من لحظة، طارت الابتسامة من على وجهه، انتفض قلبه من الغيظ، اشتعلت عينيه بنار الغضب.
ماذا تقصد هذه القصيرة المكيرة من عرض تحقيقها عليه؟ هل تريد أن تعايره لأنه لم يُكتب اسمه ولو بالحروف الأولى على مقال أو خبر أو تحقيق في هذه المجلة رغم أنه سبقها بأربع أو خمس سنوات على الاقل، نظرت منى لمصطفى متعجبة مندهشة من تحول حاله المفاجئ، لماذا لا يشاركها فرحتها بناجحها؟! كل ما كانت تريده منه كلمة تشجيع أو عبارة استحسان، أو نظرة فخر تلمع في عينه، فهي ليست زميلة في العمل بل جارته في السكن، تقطن في نفس الحي، بل في نفس المنطقة، يفصل بين بيتها وبيته شارعان لا أكثر، وسمعت عنه الكثير قبل أن تلتحق بكلية إعلام.
منى أبو زيد صحفية شابة، قادها القدر بعد طموحها إلى مجلة أخر خبر الشهرية، التحقت فيها منذ ثلاث سنوات تقريبًا، وافق الأستاذ رأفت مرزوق رئيس تحرير المجلة على تعينها كصحفية تحت التمرين لمدة ست شهور ليس لها الحق في المطالبة بأي حقوق مادية خلالهم، وافقت دون تردد وكأنها على ثقة من نجاحها.
أرسلها رأفت مرزوق للعمل تحت قيادة نهى مرجان التي تكبرها بخمس أعوام على الأقل وبخبرة تزيد عن سبع سنوات، عملت نهى بهذه المجلة منذ كانت طالبة في كلية الإعلام في الصف الثالث، وفي أسابيع قليلة اثبتت وجودها بمقالات وتحقيقات جريئة، جعلت كل الصحفيون الكبار ينسبونها إليها ويعلنون تبنيهم لها، نجاحها ضمن مكان لها مسبقًا قبل تخرجها، وزادت مكانتها وقيمتها وراتبها بعده.
لم تتوقف نهى مرجان عند هذا الحد، مدت يد العون لمصطفى داوود وسميحة عبد الله؛ زميليها المقربان بالكلية وتوسطتهم لهم لتعيينهم بالمجلة، وإكرامًا لها ورغم صغر سنها وافق رأفت مرزوق على تعيينهم تحت الاختبار لمدة ستة اشهر، لكن وبمجرد انتهاء الشهور الستة كادا أن يفصلا لولا تدخل نهى مرة أخرى وتوسطه لهما ليوافق رئيس التحرير على تعيينهم صحفيان بالمكافأة، والتي لم يحصلا عليها ولو لمرة واحدة.
توسمت نهى مرجان في منى أبو زيد النبوغ، احتضنتها وحاولت جاهدة مساعدتها في تحقيقتها الصحفة مستخدمة كل معارفها داخل الوسط الصحفي وخارجه لتتم منى أبو زيد تحقيقات جريئة قوية وصادقة، كان أخرهم تحقيق عن مذابح القاهرة وسلبيات تلك الأماكن، جمعت فيها منى أبو زيد معلوماتها من أكثر من مصدر، الجزارين وصبيانهم، الأطباء البيطرين العاملين بالمذابح، الجزارين أصحاب محلات بيع اللحوم الطازجة، والزبائن وتجاربهم الخاصة مع نوعيات اللحوم المختلفة.
نجحت منى أبو زيد كالعادة وفرحت لها نهى مرجان كما اعتادت، لكن يبقى مصطفى داوود وسميحة عبد الله غصة في حلقها المهني.
عادت منى تقرأ تحقيقها مرة بعد مرة، تطالع صورتها الصغيرة فوق اسمها، تبتسم بثقة، عاودت التقليب في صفحات المجلة، شد انتباهها اعلان من وزارة الداخلية يعلن عن فرصة للتقديم في وظيفة خفير في إحدى مراكز الشرطة في محافظة الجيزة.
تأملت منى الإعلان ولوجو وزارة الداخلية يتوسطه، رفعت عينيها بعيدًا عنه، ضيقت فتحة عينيها قليلًا وكأنها تركز لتصوب طلقة نحو هدف لا يرأه إلا هي، اغلقت المجلة، التقطت جقيبة يدها الصغيرة من فوق المكتب، فتحتها وتأكت من وجود الدفتر الملازم لها دائمًا وفي وسطه القلم الرصاص، سجلت عنوان المركز فيه، واعادته للحقيبة، وهمت لتنصرف لولا دخول سميحة عبد الله ونظراتها الحادة نحوها، عادت منى لتجلس بهدوء تراقب سميحة في حذر.
كعادة سميحة تقدمت سميحة وتوجهت نحو مكتب صغير في ركن صالة التحرير، ربما هو الأصغر في كل الموجودين، وضعت سلسلة مفاتيحها الذهبية على المكتب، وخلعت حقيبة يدها من على كتفها وقبل أن تضعها هي الاخرى على المكتب تفحصته ونادت بصوت مرتفع على فرج العامل المسئول عن نظافة صالة التحرير وهو من يتولى عرفيًا اعداد المشروبات للمحررين الشبان والمبتدئين والتي غالبًا ما تزدحم بهم صالة التحرير في كل وقت على مدار اليوم تقريبًا، كما أنه أخذ على عاتقه شراء الأطعمة مهما كان نوعها أو صنفها أو هيئتها للصحفيين الشباب؛ بالطبع بعد أخذ عمولة بسيطة لا تزيد عن خمس جنيهات ولا تقل عن جنيهين عن كل طلب يطلبه أي من صحفيين المجلة.
تعين في المجلة في نفس الشهر الذي تعين فيه رئيس تحريرها، وسبق مدير التحرير الحالي الأستاذ شهاب البغدادلي في التعيين بسنة وثلاث شهور بالتمام والكمال، عاصر كل مديرين ورؤساء الأقسام المختلفة في المجلة كصحفيين مبتدئين في المجلة، عمل بعضهم بالقطعة والبعض الأخر بالتعاقد السنوي أو بنظام المكافأة، لكنهم جميعًا يكنون له كل حب وأحترام، فهو وإن كان عامل في المجلة وهم صحفيين إلا أنهم وكلهم وجميعهم لا يستطيعون أن ينكروا فضل عم فرج عليهم.
فجميعهم تناولوا من يده مشروبات اعدها بنفسه لهم ولم يحاسبوا ويدفعوا ثمنها لضيق ذات اليد، لم يتأفف يومًا أو يمنع أحد من أن يطلب ما يريد من شاي أو قهوة حتى لو تراكمت عليه الديون، نعم يقيد فرج كل مليم على زبائنه لكنه لا يطلب منهم حتى يدفعوا عن طيب خاطر بعد ذلك، لقد أصبح فرج أيقونة المجلة والمالك الضمني لصالة التحرير.
لكن ما يعيبه حقًا ليس ضعف سمعه والذي كان حادًا فيما قبل لكن سوء مظهره وأهماله لهندامه رغم أن الكثير من الصحفيين والذين أصبحوا نجوم مجتمع الآن ومنهم من يقدم برامج على قنوات فضائية أو محطات إذاعية يمنحوه الكثير من الهبات على هيئة ملابس أنيقة بل أنهم أحيانًا يعطوه قمصانًا من ماركات عالمية مشهورة وغالية، لكنه بين وبين نفسه يرفض لبسها ومبرره وإن لم يكن وجيهًا بدرجة كافية إلا أنه منطقي ولو بدرجة ما؛ فهو إن لبس هذه القمصان الغالية والبناطيل ذات الماركات العالمية لابد أنه سيخسر زبائنه من الصحفيين (القرديحي) وهم غالبية العاملين في هذه الصالة على الأقل في بداية حياتهم.
لكن أين تذهب هذه القطع الفاخرة من الملابس المختلفة الألوان والأذواق، سؤال لن يجيب عليه إلا صحفي شاب اشتهر وسط زملائه بالاناقة المبالغة رغم رقة حالته الصحفية، سنتعرف عليه فيما بعد وعن قريب، ستتعرف عليه وحدك عزيزي أو عزيزتي القارئة عندما تجد يتحرك بخفة ورشاقة في أروقة المجلة حاملًا في يده ملف كبير مملوء بأوراق كتابه الاول وباكورة انتاجه الذي سيغير العالم وينسف النظريات القديمة في الاقتصاد والاجتماع والفلسفة وربما في الدين أيضًا مرورا على اقبية التاريخ وسردايب الجغرافيا.. لكن دعك من كل هذا..
ولنعد لسميحة عبد الله الواقفة خلف مكتبها بعد ان القت سلسلة مفاتيحها الذهبية على المكتب ورفضت أن تضع حقيبتها الجلدية من ماركة (شانيل) على مكتب مترب معفر بهذا الشكل، عاودت النداء على عم فرج، لكنها تعلم جيدًا أنه لن يسمعها بسبب ضعف سمعه، لكنها مصرة ومصممة على النداء عليه لتقول ما تريد ايصاله لمن حولها في الصالة، وبما أن الآن لا يوجد سوى منى أبو زيد والتي ظهرت من العدم في هذه المجلة لتكبر وتنمو فجأة وتتصدر صورتها واسمها تحقيقاتها في فترة وجيزة وقياسية مما يثير اشمئزاز وحنق وغضب وغيظ سميحة والتي تعمل في هذه المجلة منذ سنوات طوال بعد أن توسطت لها نهى مرجان زميلة الدراسة وحملات والدها الإعلانية، ورغم أن سميحة لم تكتب حرف واحد في المجلة ولا شاركت في صياغة خبر في يوم ما ولا اضافت ولو حرف واحد في مقال ما طوال مدة عملها في المجلة إلا إنها وبالرغم من كل ذلك تم تثبيتها في المجلة كصحفية، منصب يسعى له شباب كثير وشبات كثيرات ليحصلوا على فرصة مثل هذه، ومن أجلها يبذلون مجهود وسنوات طويلة من العمل والكفاح والعرق.
طالعت سميحة اليوم العدد الجديد من المجلة، ولمحت اسم هذه المزغودة المدعوة منى أبو زيد، كما أنها رأت صورتها وهي تبتسم تلك الابتسامة التي تثير حنق سميحة وتصفها دائمًا بالابتسامة الصفراء، نظرت سميحة نحوها وهي تتأفف وتنظر لها من قمة رأسها إلى اخمص قدميها واعادت النداء على فرج للمرة الأخيرة، ثم اردفت وهي تبعد نظرها عن الزميلة الوحيدة الموجودة في صالة تجرير المجلة:
مش عارفة الناس دي عارفة تعيش إزاي في الوساخة دي..
ثم نظرت لمنى مرة أخرى ومسحت بسبابتها سطح المكتب ورفعته أمام عينيها وقالت وهي تشير لمنى:
بصي يا أختي.. شوفي كمية التراب اللي على المكتب قد إيه.. أنا لو حطيت شنطتي الشانيل عليها هتتوسخ وكمان أكمام بلوزتي الكريستين ديور ممكن تترب وانا البلوزة دي غالية عليا قوي..
صمتت لبرهة تنتظر رد فعل من منى التي ثبتت نظرها في عينين سميحة ولم ينم وجهها بأي ردة فعل، اكملت سميحة كلامها:
مش قصدي إن البلوزة غالية يعني تمنها غالي.. بالعكس دي مش غالية خالص يعني تمنها مش جايب كام ألف جنيه.. عادية يعني.. بس غالية عليا علشان بابي جيبهالي معاه من إيطاليا في رحلته الاخيرة..
لم تتحرك منى قيد أنملة ولم يتغير تعبير وجهها الجامد وكأنه بلا احساس وهي تنظر في عيني سميحة مباشرة التي اكملت حديثها قائلة:
عم حامد ده راجل مهمل ومش شايف شغله كويس.. والله ده لو شغال عندي أو عند بابي في شركة الاستيراد والتصدير بتاعته أو في شركة المقاولات أو حتى في مصنع الأغذية أو الملابس بتاعه أكيد كان رفده من زمان أو حتى نقله لمصنع السيراميك علشان يبعده عن القاهرة عقابًا له.. أنا بابا حنين قوي عليا بس في الشغل معندوش رحمة.. انتي ما بترديش عليا ليه يا منى وبصالي كده ليه؟
ابتسمت منى أبو زيد وأشارت لسميحة بيدها أن أستمري، فعقدت سميحة حاجبيها مستفهمة عن معنى اشارة منى، بدرت ضحكة قصيرة شبه خافتة من منى وقالت بعدها:
أصل أنتِ لسه ما تكلمتيش عن الجزمة الديجافو.. ولا البنطلون الدافنشي، وطبعا لازم تكلميني عن عربيتك الأودي اللي مش عجباكي لما بتقرنيها بالمبورجيني بتاعت اخوكي.
تصدقي بالله يا موني أنا فعلا زهقت من العربية الأودي دي ولازم أخلي بابا يشتريلي حاجه جديدة.. تفتكري أجيب إيه؟
هاتي حنظور.
هو في نوع عربيات اسمه كده؟ ده بيتصنع فين؟
ضحكت منى ضحكة أطول هذه المرة وقالت وهي تنظر للمجلة الموضوعة على مكتبها:
ما تسيبك من موضوع العربية والفساتين والحفلات والسفريات والليلة دي وخشي في الموضوع على طول يا سمسمة.
ادركت سميحة أن هذه السمجة لن تتمكن من اثارتها حاولت أن توضح لها الفرق المادي الواضح بينهما، لكن هذه الخدعة لم تنطل على منى رغم نجاحها مع أكثر من زميلة وزميل من قبل، ولكنها وبكل وضوح ووقاحة تدعوها للنزال في معركة تعرف سميحة جيدًا أنها ستخسرها لكنها لن تمانع ابدًا من خوضها بكل قوة وشراسة، وضعت سميحة حقيبتها على الكرسي خلف المكتب وتوجهت نحو المكتب الجالسة خلفه منى والتقطت بأطراف أصابعها عدد المجلة، تعرف بالتحديد أين يقع تحقيق تلك الغبية المتفاخرة بكلمات تسطهرها على ورقة بيضاء ثم ترسلها فيوافق عليها مدير التحرير لتعيش وكأنها بطلة أسطورية.
قلبت صفحات المجلة بسرعة حتى وصلت لصفحة سبع وعشرين، حملت نظراتها لصورة منى ضيق وحقد يكاد يحرق أوراق المجلة، قالت وهي تشير على أي سطر في التحقيق:
بصي هنا.. الجملة دي تحسي إنها مقحمة في الموضوع.. يعني ملهاش أي ستين لازمة أصلًا..
وإيه كمان؟
والأسلوب...
ماله الأسلوب يا ميحة قلبي؟
مفكك كده ومش مترابط وما لوش علاقة بموضوع التحقيق.
القت سميحة نظرة سريعة على التحقيق، قرأت العنوان وطالعت الصور المرفقة بالتحقيق وقالت:
ثم إن الموضوع نفسه سخيف ومش مهم ومحدش هيهتم يقرأ عن اللي بيحصل في السلخانات يعني.. هيكون بيحصل فيها إيه مثير.. بصراحة الموضوع كله وحش وعك في عك.
تنفست منى الصعداء واخرجت زفيرًا قويًا ووقفت، اخذت عدد المجلة من يد سميحة، ابتسمت في راحة وقالت:
الحمد لله.. كده انتي خلصتي الشحنة بتاعتي بدري بدري.. فيها للشهر الجاي على بال ما انزل تحقيق جديد ويضايقك ويعصبك فتبدأي تكلميني عن الشبشب أبو عشروميت جنيه.. وعن الشراب الشيفون أبو شنتروميت جنيه.. وعن الرقم الفلكي اللي بابي اشتري بيه فيللا في باريس.. وبعدين تقولي نفس الكلمتين..
كلمتين ايه دول؟
بصي هنا.. الجملة دي تحسي إنها مقحمة في الموضوع.. يعني ملهاش أي ستين لازمة أصلًا.. والأسلوب مفكك كده ومش مترابط وما لوش علاقة بموضوع التحقيق.. ثم إن الموضوع نفسه سخيف ومش مهم ومحدش هيهتم يقرأ عنه.. حفظتهم من كتر ما بسمعهم كل شهر.. انا بس عندي سؤال واحد محير عقل البشرية اللي في المجلة هنا.
سؤال إيه ده؟
انتِ لا عمرك كتبتي مقال ولا خبر ولا تحقيق ولا حتى أنشودة أطفال.. اتعينتي إزاي بس؟!
انا نفسي سألت نفسي السؤال ده.. ما لقيتش غير رد واحد...
أيوه إيه هو.
توجهت سميحة نحو مكتبها في ركن الصالة، التقطت حقيبتها من على الكرسي، فتحتها واخرجت منديل ورقي منها، قالت وهي تمسح سطح المكتب:
أنتِ عارفة إن اللي عيني الدكتور شهدي مشهور رئيس مجلس الإدارة السابق للمؤسسة اللي المجلة تبعها...
عارفة المعلومة دي كويس.. إيه اللي يخلي رئيس مجلس إدارة مؤسسة بتصدر عنها أربع جرايد أسبوعية وواحدة يومية ومجلتين نصف شهرية ومجلتين شهرية ده غير الدوريات و.. و.. إيه اللي يخلي رئيس مجلس إدارة مؤسسة ضخمة زي دي يعين واحدة ما كتبتش ولا حتى اسمها في ورقة بيضا؟
لأنه يا هانم عارف أمكنياتي كويس.
عارف منين.. ها.. منين.. حد يفهمني.
باباي اللي قاله وعرفه...
قاطعتها منى والتي أخيرًا فهمت ما حدث.
بابي اللي قاله! أنا كده فهمت.
انهت سميحة ابنة رجل الأعمال المشهور عبد الله الشتري مسح سطح مكتبها، تأملت المنديل الورقي الابيض فلم تجد به أي تغيير، لكنها ألقته في سلة مهملات قريبة منها، تتبعت رأسها منى وهي تخرج من صالة التحرير، تاكدت من خروجها، صرخت داخلها: "فاشلة.. أنا فاشلة.. وهي رخمة وغلسة وبنت ستين..".
توقف مصطفى أمام مبنى المجلة، خلع نظارته الشمسية السوداء وعلقها في قميصه، شمر كم قميصه الزهري وأمسك بحزمة من الأوراق المضغوطة في ملف بلاستيكي مغلق باحكام، تأكد من لمعان حذائه الأسود، عاود النظر على اللوحة الكبيرة المعلقة على المبنى؛ (مجلة أخر خبر مجلة شهرية تصدر عن مؤسسة الخبر للصحافة والدعاية)، ابتسم وهو يصعد على درجات مدخل المجلة، كانت خطواته أشبه بقفزات قصيرة مرحة، تلاعب شعره الأسود الناعم مع قفزاته على الدرج وكأنه أمواج بحر هادر.
قبل أن يدخل من الباب الرئيسي تقابل مع منى أبو وزيد، تأمل جسدها الممشوق، ظهرها المفرود وكأنه خرج من تحت مكواة ثقيلة فردته، صدرها الصغير الناهد، يشعر تجاه هذه الشابة بشيء لا يجد له تفسير، أحيانًا يعتقد أنه يحبها، ويهيم عشقًا بها، وأوقات أخرى يظن انها تنظر نحوه باستهتار، لا أحد يملء عينيها، مغرورة، تجعله دائم العصبية عندما يلمح نظرات التكبر في عينيها، يتحول حبه الجارف لها لكراهية حانقة عليها.
علقت منى حقيبة يدها في كتفها، لمحت مصطفى يقترب من الباب الرئيسي للمجلة، تحب فيه أناقته وتعتبره أكثر شباب المجلة اناقة، ورغم أنه من طبقة متوسطة، توفى والده وهو صبي صغير وتولت أمه تربيته وتعليمه إلا إنه يصر على أن يرتدي قمصان وبناطيل غالية الثمن، وماركات معروفة ومشهورة، تعجبت كثيرًا كيف لشاب مثل مصطفى شراء مثل هذه الملابس الغالية، لم تجد إجابة ولن تجدها مادمت لا تعرف العلاقة الخفية بين مصطفى داود وفرج، لكنها لا هي ولا أي أحد من الزملاء في المجلة أو حتى اصدقائه من خارج نطاق العمل لاحظ أن الأحذية التي يرتديها مصطفى داوود لا تتناسب مع فخامة القمصان والبناطيل التي يرتديها.
اتسعت ابتسامتها عندما رأت مصطفى، أشارت له محيية، توقف مصطفى وابتسامة عريضة تزين وجهه، اقترب بخطوات وئيدة نحو منى، مد يده مصافحًا، تلامست الأيدي وارتعد قلب مصطفى بقشعريرة خفيفة، وعانت عينيه من زغللة بسيطة، سحبت منى يدها بهدوء وفتحت حقيبة يدها، اخرجت العدد الاخير من المجلة، فتحتها على صفحات تحقيقها، وضعته أمام عيني مصطفى، تبدل حال مصطفى في أقل من لحظة، طارت الابتسامة من على وجهه، انتفض قلبه من الغيظ، اشتعلت عينيه بنار الغضب.
ماذا تقصد هذه القصيرة المكيرة من عرض تحقيقها عليه؟ هل تريد أن تعايره لأنه لم يُكتب اسمه ولو بالحروف الأولى على مقال أو خبر أو تحقيق في هذه المجلة رغم أنه سبقها بأربع أو خمس سنوات على الاقل، نظرت منى لمصطفى متعجبة مندهشة من تحول حاله المفاجئ، لماذا لا يشاركها فرحتها بناجحها؟! كل ما كانت تريده منه كلمة تشجيع أو عبارة استحسان، أو نظرة فخر تلمع في عينه، فهي ليست زميلة في العمل بل جارته في السكن، تقطن في نفس الحي، بل في نفس المنطقة، يفصل بين بيتها وبيته شارعان لا أكثر، وسمعت عنه الكثير قبل أن تلتحق بكلية إعلام.