الفصل الاول
.
كانت تقف بجوار الفراش النائم عليه والدها الحنون الذي أُصيب مؤخرًا بسرطان الدم، ومع مرور الأيام تدهورت حالته الصحية، فتدهورت حالتها النفسية معه، وهي ترى الشيب يغزوه ويضعفهُ رويدًا رويدًا، إلى أن نام الوالدُ لا حول له ولا قوة، يُنازع مع الآلآم وها هي إبنته الوحيدة تبكي قهرًا على حالتهُ المُزرية وما وصل إليه وما رأى من عذاب...
ازدادت دموعها انهمارًا كالأنهار حين ألقى الطبيب جُملته عليها دفعة واحدة دون تخفيف لحدتها:
- ربنا يُلطف بيه، إحنا عملنا كُل اللي نقدر عليه بس إرادة ربنا فوق كُل شئ.
تجمدت ملامحها برعبٍ، وأصبحت ترتجف بشدة حينما قالت بصدمة وصوتا باكياِ:
- يعني إيه؟ أبويا هيموت..؟؟
تراجع الطبيب للخلف عدة خطوات قائلًا بنبرة جادة:
الأعمار بإيد ربنا، إدعيله وبس..
غادر الطبيب الغرفة على ذلك، فانحنت "مرح" بكامل جسدها فوق والدها تبكي بمرارة، فهمس والدها بصوت خافت جدا بالكاد سمعته مرح:
- فخر..
رفعت مرح بصرها إليه بدهشة، في حين انحنى فخر قليلًا عليه حتى يستطيع الإنصات إليه وهو يقول بهدوء:
- نعم يا عم شاكر، قولي عاوز إيه..؟
أخذت أنفاسه تتسارع وهو يُجاهد في نطق الكلمات، حتى تفوه بصوت مُرهق:
بنتي، أمانة في رقبتك، حافظ عليها من الناس.. و من نجيب..
أنهى جملته وأطلق زفيرًا قويا حتى إن مرح انتفضت في مكانها وأطلقت صرخة عالية بقلبٍ وجل وأعصابٍ متوترة، ماذا حدث فجأة لوالدها الذي أخذ يرتجف بشدة وصوت أنفاسه التي ارتفعت وأخذت تخرج منه بصعوبة بالغة....؟
ما كان من فخر إلا أن ركض ذاهبا إلى الطبيب، ليأتي الطبيب مسرعا بعد ذلك قائلًا بعصبية:
برا لو سمحتوا
اتجه فخر إلى مرح وجذبها نحوه، ثم خرج بها وسط بكاؤها المتواصل، في حين قام الطبيب بعمل صدمات كهربائية بسرعة شديدة إلا إنه لم يستجب لتلك الصدمات فقد أطلق الجهاز صفيرًا عاليًا مُعلنا توقف القلب.. !!
تركه الطبيب مبتعدًا، وراحت الممرضة ترفع الملاءة فوق وجهه وقد رحل "شاكر" لعالم آخر مؤكد سيكون أرحم به من ذاك العالم القاسِ...
تلقت مرح الصدمة الجلية، حين أخبرها الطبيب بوفاة والدها الحبيب والمسكين الذي عانى أشد المُعاناه في الآونة الأخيرة..
راحت تلطم فوق وجهها بهستيرية وفاضت عيناها بالدموع حسرةً وألما على والدها الذي كان كل ما تبقى لها.. وها هو يتركها وحيدة بين الحياة ومتاهتها..!
أخذ فخر يُهدئها حيث أمسك بها داخل ذراعيه محاولا بث الأمان بداخلها علها تهدأ أو تصمت دموعها، ولكن كيف تهدأ وتصمت وقد رحل جزءًا منها؟!! جزءًا من قلبها ودمهُ هو دمها، من رباها وعَلمها ما لا أحد يستطع تعليمه لها، والدها! وحسرتاه على خُسارته..
كانت في حالة يُرثى لها، تكاد تذرف العبرات دمًا من شدة حُزنها، ولم تختلف حالة فخر عن حالتها فكان "شاكر" والده الروحي..
ذهب فخر إلى الطبيب ليطلب منه حُقنة مُهدئة لتلك الباكية بقهر وهستيرية، حتى يستطيع إخراج التصاريح اللازمة لدفن والدها..
وبالفعل بعد مرور بضعة دقائق كانت مرح في عالم آخر، وراح فخر يسعى في إخراج تصاريح الدفن والغُسل من المشفى، أخذ ذلك عدة ساعات منه حتى دُفن شاكر وعاد فخر حزينا مجددًا إلى المستشفى ليبقى بجانبها في ذاك الموقف العصيب..
وصل إلى الغرفة الموجودة بها، ولج إلى الداخل مُتجها إليها وراح يجلس إلى جوارها في حين كانت مرح لازالت نائمة في ملكوت آخر والحزن واضحًا جليًا على ملامح وجهها البسيطة والعبرات عالقة فوق أهدابها الكثيفة، تنهد فخر بثقل وهو يتأملها بحزن شديد، فقد أصبحت وحيدة ولم يكن لديها سواه، وأبدا لن يتخلى عنها حتى وإن كان سيفتح عليه أبوابا من جهنم!! هي حبيبته بل وأصبحت أمانة مُعلقة بعنقه فكيف يتركها؟!! .. عليه أن يبقى صامدًا أمام الحرب التي ستُقام..
أخذت ترمش بجفنيها وهي تأن بصوتٍ خافت جدًا:
- بابا..
انحدرت دمعة ساخنة من عينها مُجرد إن رمشت بها، بينما همس فخر بهدوء:
-إهدي يا مرح، أنا جنبك.
كررت الكلمة بدموع منهمرة ونبرة ذبيحة:
-بابا.. بابا يا فخر
فخر قائلًا بهدوء حزين:
- الله يرحمه يا مرح، مافيش بإيدينا حاجة، ده أمر ربنا.
اعتدلت جالسة عازمة على الوقوف وهي تهتف بألم:
- بابا فين أنا لازم أشوفه قبل الدفن..
لحق بها قبل إن تنهض وقال بهدوء حازم:
عم شاكر اتدفن خلاص يا مرح، إنتِ كنتِ في حالة مش طبيعية وكان لازم تاخدي مُهدئ عشان أعرف أتصرف، إستهدي بالله دا أمر ربنا
أبعدته عنها وراحت تقول بغضب ونبرة حملت في طياتها الآلآم:
- إنت إزاي تعمل كده، إزاي تدفن أبويا من غير ما أحضر الدفنة؟!!
زفر فخر بقوة، وقد انفعل قائلًا وهو يمسح على رأسه:
- بقولك كنتِ في حالة مش طبيعية!.. ياريت تهدي يا مرح، أنا عملت كده عشان متتعبيش نفسيا أكتر من كده!
عادت تبكي بنحيب وهي تدفن وجهها بين راحتي يديها في قهر، فيما تردد بحسرة:
- يا حبيبي يا بابا، سبتني لوحدي ومشيت هعمل إيه من غيرك دلوقتي، يارتني كنت أنا اللي مُت.
اقترب فخر منها قائلًا بصرامة:
- سابك ليا أنا يا مرح، إنتِ هتبتدي تخرفي ولا إيه؟
مرح من بين دموعها:
- وإنت هتعمل إيه، إنت ناسي نجيب بيه يا فخر بيه، إنت نسيت رفضه إنك تتجوزني؟!
زمجر فخر بضيق وأردف:
- فخر بيه؟!! جرى إيه يا مرح ما تتعدلي معايا كده وركزي! .. نجيب مالوش حُكم عليا، أنا هكتب عليكِ يا مرح والليلة هتكوني مراتي.
توسعت بؤبؤي عينيها وهي تطالعه بصدمة، ثم سألته بإرتباك:
- إزاي..؟ طب ونجيب بيه ووالدتك.؟ وهنعيش فين؟
فخر بتنهيدة قوية:
- سبيني أتصرف ومتسأليش في حاجة، المهم دلوقتي هنخرج علي المأذون وهنكتب
لم يتلقَ منها إجابة، فقال بتصميم: تمام يا مرح. ؟
حركت رأسها مترددة، ليقول فخر باطمئنان:
- ثقي فيا يا مرح، متخافيش طول ما إنتِ معايا ماشي؟
أومأت برأسها موافقة إياه رغم الرعب الذي يحتل قلبها مما ينتظر بعد هذه اللحظة، كيف سيكون رد فعل نجيب الذي أهانها هي ووالدها طوال سنينٍ مرت؟ ولم يكتفِ مازال مُستمر ومما أزاد الأمر سوءًا الآن هو زواجها من فخر الذي أحبها ولم يهتم بأنها إبنة البواب الخاص بالقصر الذي يقطن فيه مع أمه وزوجها، هكذا تحرك قلبه تجاه مرح إبنة البواب ماذا عليه أن يفعل؟..
ذهب وأخبر والدته فلم تتقبل الأمر في بدايته، ولكنها اضطُرت لأن توافق حين وجدت إبنها مُصر كُل الإصرار، وأما عن زوجها فقد رفض رفضًا قاطعًا وقام بتهديده أكثر من مرة حيث أنه سيطرده خارج القصر ولم يكن لفخر مكان آخر ليعش به..
.........................
تم عقد القران وأصبحت مَرح زوجته رسميًا على سنة الله والرسول! ، لقد نال مُراده وحقق وصية والدها الراحل، ولكن ماذا عن زوج أمه ذا الجبروت والتكبر؟ كيف سيواجهه الآن بعد تحذيراته القاسية المُتتالية؟؟ ..
لا يعرف ولم يهتم فليكن ما يكن هكذا قال فخر الذي توجه داخل القصر بصحبتها ويده تقبض على كف يدها بشدة..
وما إن دخل بها حتى ركضت إليه والدته القلقة في لهفة مُتسائلة:
إيه يا فخر يابني كنت فين كُل ده..؟
وما لبثت أن نظرت إلى يده القابضة على يد مرح، فاتسعت عيناها في صدمة، تخشى تفسير ما فهمته الآن، هل ضرب بكلام نجيب عرض الحائط وتزوج من مرح رغما عنه..؟
كادت تسأله إلا أن قاطعها صوت نجيب الصارم وهو يتجه نحوهم والشرر يتطاير من عينيه الحمراوتين وكأنهما تحولتا لجمرتين من نار اثر غضبه الجلي..
نظر فخر إليه في تحدٍ سافر وقد رفع رأسه عاليًا بشموخ مُنتظرًا حديثه لتبدأ المعركة..
نجيب وقد تجمدت قسماته:
البت دي بتعمل إيه في بيتي؟ ومالك مكلبش في إيديها كده ليه..؟
فألقى فخر قنبلته قائلًا بثبات تام:
مرح مراتي على سنة الله ورسوله، ومن اللحظة دي هي في حمايتي، وأنا على أتم إستعداد للدفاع عنها وإنت مش هتقدر تمنعني من حاجة أنا إخترتها بإرادتي، ولا إنت نسيت إنك أساسا مالكش حُكم عليا..؟؟
أظلمت عيناه بوحشية، بينما أخذ يصر على أسنانه بشدة حتى إن عروق عُنقه برزت من فرط عصبيته..
أخذ يقترب منه حتى وقف قبالته وقد رفع سبابته أمام وجهه هاتفًا بصوته الغليظ:
إنت بتتحداني يا فخر.. ؟؟!
فخر وقد هز رأسه بثبات وتحدِ سافر، ليزداد نجيب شراسة حيث قال بعينين متوهجتين نارِ:
يبقى تطلع برا، براااااا بيتي إنت والحثالة اللي معاك دي حالا.
وحينئذٍ تدخلت والدته السيدة " أحلام " قائلة بوجل شديد والصدمة تعتلي ملامح وجهها الباكِ:
- إنت بتقول إيه يا نجيب..؟؟ بتقول إيه إنت إتجننت؟؟
وكان رده عليها صفعة قوية دوى صوتها في المكان، يليها صوته المُرعب:
- إنتِ تخرسي خالص ومتتكلميش، أنا أقول وأعمل اللي أنا عاوزه!!
لم يتحمل فخر إهانة والدته فتقدم منه وقد ضغط على أسنانه هاتفا بصوت غاضب:
- ورب الكعبة لأردلك كُل إهانة أهانتها لأمي أضعاف مُضاعفة، واللي خلقني وخلقك لأدفعك التمن غالي أوي.
ثم تراجع للخلف جاذبا زوجته بيده عازما على الخروج من هذا القصر للأبد، فصرخت أحلام وهي تركض خلفه مُرددة بانكسار وقلب مُعذب:
- فخر، لا متمشيش يا فخر، عشان خاطري يا فخر..
التفت إليها وراح يُعانقها قائلًا باطمئنان:
- ماتقلقيش عليا يا أمي، هكلمك وهبلغك بأخباري، بس إنتِ خلي بالك من نفسك، على عيني أسيبك معاه بس للضرورة أحكام يا أم فخر.
أنهى كلامه معها وخرج سريعا قبل أن تنفلت منه أعصابه ويقتل ذلك الهمجي ذا الوجه الشيطاني والذي لا يعرف للرحمة طريق
وقفت تتحسر على ذهاب إبنها الأكبر من القصر، ثم راحت تنظر إلى زوجها بكراهية ظاهرة بوضوح داخل عينيها، ولم يهتم نجيب بتلك النظرات حيث أولّاها ظهره واتجه ناحية مُكتبه الخاص والذي يجلس فيه دائمًا، بينما تحركت أحلام نحو الدرج لتصعد إلى غرفتها وسط بكاؤها المرير، وقفت تنظر من خلف زجاج النافذة وهي تحدث ذاتها بقهر:
- حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا نجيب، حسبي الله..
هاجت الذكريات أمام عينيها الحزينتين وهي تتذكر لحظة زواجها من نجيب رغمًا عنها حيث كان والدها من أكبر رجال الأعمال والمستثمرين في مصر، وكان نجيب إبن شريكه في أحد شركاته ولذا زوجها له بعد وفاة زوجها الأول والذي أنجبت منه " فخر الدين " إبنها الذي ذاق معها المُر والظلم منه، ثم يشاء الله وتنجب من نجيب أربعة أبناء رغم كرهها الشديد له ولكن للقدر أحكام وهكذا أنجبت منه أربعة ليكونوا إخوة لفخر يكفيه ظلما و وحدة فليكونوا سندًا له في الدنيا وهذا ما سعت لأجل تحقيقه وقد تحقق ما سعت له حيث أن علاقة فخر بإخوته قوية رغم محاولات نجيب الدائمة في إبعاده عنهم..
.......................
كانت تسير بجواره تبكي بصمت، بقهر، بعذاب، تبكي بلا توقف ماذا فعلت بنفسها؟، تزوجت ويا ليتها لم تفعل، ليتها لم تطع قلبها المسكين الذي أحب فخر الدين بقوة.. وها هي تائهة معه في بحر لا قرار له..
انتشلها من صمتها الحزين حين همس لها بغضب:
- مرح، كفاية.. كفاية بُكى أنا تعبت.
نظرت له من بين دموعها وقالت:
- وأنا كمان تعبت وإتمرمط يا فخر، يارتني ما بصيت لفوق ولا حبيتك، ساعتها ماكنش أبويا تعب من الحزن والإهانة ولا جوز أمك طردك في الشارع، كل ده بسببي يا فخر.
هزها بعنف فجأة، فقد نفد صبره وهو يقول :
- مرح! ... أنا مش متحمل أي حاجة، ينفع تخرسي دلوقتي؟!!!!
ازدادت بكاء مع هزه العنيف لها، وطأطأت رأسها في حزن شديد، مرت دقائق فحسب، فتنهد آخذا نفسا عميقا ثم لانت ملامحه، ليرفع أنامله ماسحا دموعها برفق وأخبرها:
- مرح، أنا آسف بس إنتِ شايفة اللي أنا فيه، أنتِ مالكيش ذنب في حاجة، بيكِ أو من غيرك نجيب بيكرهني، اللي عاوزه منك دلوقتي تساعديني عشان نعدي المحنة دي مع بعض.. ماشي؟
هزت رأسها بضعفٍ موافقة إياه، في حين ابتسم فخر رغمًا عنه وقال في محاولة منه لتخفيف حزنها:
- وبعدين إنتِ عروسة يا مرح، عاوزك تنسي ومايهمكيش أي حاجة، أنا معاكِ يا حبيبتي.
أومأت مُجددًا ببطء، ثم قالت وهي تنظر إلى عُمق عينيه:
- كان نفسي في فستان وطرحة، وكان نفسي في فرح، وكان نفسي أبويا يحضر جوازي، كان نفسي أبقى مبسوطة عشان بتجوزك يا فخر.
واصل فخر بجدية وبنبرة واعدة:
- هعوضك يا مرح، أوعدك هعوضك عن كُل اللي حصل.
وافقته قائلة بخفوت:
إحنا دلوقتي هنعيش في شقتنا بتاعة بابا لحد ما ربنا يفرجها، موافق..؟
أومأ موافقًا ثم التقط كف يدها بين راحة يده وسارا معا ليبدأ الإثنان حياتهما الزوجية، آملًا فخر في حياة هادئة فقط..
فخر..، فخر.. يا فخر!
انتبه فخر وعاد من شروده وذكرياته الأليمة على صوت هتاف زوجته مرح، في حين قال بعد إن التفت لها بكامل جسده مُتسائلًا بتنهيدة عميقة: خير يا مرح، في إيه؟
رمقته بنظرة ثاقبة، بينما تقول بحنق:
- إنت لسه بتسأل في إيه يا فخر؟ أنا بقالي أكتر من نص ساعه بكلمك وإنت في ملكوت تاني.. !
منحها ابتسامة هادئة مُحببة إليها، ثم قال برفق:
- ماتزعليش، المهم كُنتِ عاوزاني في إيه؟
مرح متنهدة بهدوء وبابتسامة صافية قالت:
- إيه رأيك في فُستاني؟
تأملها فخر من أسفل قدميها حتى أعلاها بإعجابٍ واضح في نظراته المتفحصة لها، ومن ثم أخبرها غامزًا:
- تحفة يا حبيبي، بس الروج اللي إنتِ حطاه ده يتمسح حالا يا مرح.
زوت مرح ما بين حاجبيها في ضيق وقالت:
- على فكرة بقي إحنا في فرح، وكمان فرح أخوك مش أي فرح يا فخر، وكُل الناس بتعمل كدا في المناسبات!
تجاهل فخر حديثها، وقال وهو يخرج من الشرفة بصيغة آمرة:
- مش هعيد كلامي مرتين يا مرح، قلت يتمسح يعني يتمسح.
كاد ليخرج من الغرفة إلا أنها أوقفته حين ركضت إليه مُسرعة قائلة في لهفة:
- طب إستنى، إستنى يا فخر.
التفت لها قائلًا باقتضاب:
- إيه؟
عدلت من ياقة قميصه وهندمت سُترته السمراء وهي تتأمل ملامح وجهه المُحببة إليها مرورا بلحيته الكثيفة وشاربه العريض وهيئته الشامخة تلك بنظراتٍ هائمة تضخُ عِشقًا..
إلى أن قال بنفاد صبر:
- خلاص يا مرح، سرحتي في إيه دلوقتي؟؟ مش كنتِ لسه زعلانة عشان أنا بسرح؟
ضحكت مرح بخفوت قائلة:
- يا حبيبي بحب أبص لك دايمًا، ملامحك بتديني القوة.
رفع أحد حاجبيه مُرددا بمزاح:
- إيه ناقص تقولي فيا شعر كمان يا مرح، للدرجة دي يعني جميل؟
قهقهت ضاحكة، ثم أخبرته بصدق من بين ضحكاتها الرقيقة:
- أجمل راجل في الدنيا.
حاوط وجهها بين كفيه وراح يطبع قبلة هادئة فوق جبهتها، وراح يبتعد عنها، ثم همس وهو يفتح باب الغرفة:
- خلصي لبسك وحصليني، ثم تابع مُحذرًا:
- وإوعي تنسي تمسحي الروج! ..
خرج من الغرفة تاركا إياها تضحك بخجل، بينما اصطدم فخر بشقيقته الصغرى التي كانت تمشي بسرعة شديدة وشعرها يتطاير من حولها، بينما رائحة عطرها النفاذ تفوح منها، وكانت تمسك فستانها الزهري ذو الحمالات الرفيعة بكلتا يديها مما جعل فخر يتسمر مكانه بصدمة من أفعال شقيقته الطائشة المُدللة..
مي بصوت إنثوي وهي تعدل من خصلات شعرها:
- إيه يا فخر مُش تفتح!
احتدت ملامح فخر وراح يقترب منها ممسكا بذراعها بقبضة يده.. قائلًا بصوت جهوري:
- إيه القرف اللي عملاه في نفسك دا..؟ إمشي غيري بسرعة وإمسحي المهرجان اللي في وشك دا!!
دبت مي بقدمها الأرض بغضب طفولي، ثم هتفت بعدم رضا:
- وإيه يعني يا فخر ده إحنا في فرح، متبقاش خنيق كده يا أخي.
هتف بها:
- مي، إسمعي الكلام يا إما والله ما إنتِ خارجة من القصر ولا هتحضري حتي فرح أخوكِ!
- وإنت مالك إن شاء الله؟؟
قالها "نجيب" وهو يتجه نحوه بعينين حداتين مُخيفتين تحملين كُره واضح، وما إن وقف قبالته، حتى صاح بشراسة:
- إنت تحكم مراتك بس، إنما ولادي لا يا إبن أحلام وإلا إنت عارف هعمل معاك إيه كويس.. !
تحولت ملامح فخر للشراسة أيضًا، وبدا التحدِ جليًا بعينيه،فيما يهتف باحتدام:
- ماتقدرش تعمل حاجة، ولو تقدر وريني!
تخضبت عيناه بحمرة الغضب المخيفة، إلى متى سيظل يتحداه ولا يخشاه؟!
نجيب الشناوي ذو الجبروت الذي لم يقف أمامه أحد على الإطلاق، يأتي فخر الدين ويقف أمامه بكُل ثبات وقوة دون ذرة خوف واحدة.. !!
كانت تقف بجوار الفراش النائم عليه والدها الحنون الذي أُصيب مؤخرًا بسرطان الدم، ومع مرور الأيام تدهورت حالته الصحية، فتدهورت حالتها النفسية معه، وهي ترى الشيب يغزوه ويضعفهُ رويدًا رويدًا، إلى أن نام الوالدُ لا حول له ولا قوة، يُنازع مع الآلآم وها هي إبنته الوحيدة تبكي قهرًا على حالتهُ المُزرية وما وصل إليه وما رأى من عذاب...
ازدادت دموعها انهمارًا كالأنهار حين ألقى الطبيب جُملته عليها دفعة واحدة دون تخفيف لحدتها:
- ربنا يُلطف بيه، إحنا عملنا كُل اللي نقدر عليه بس إرادة ربنا فوق كُل شئ.
تجمدت ملامحها برعبٍ، وأصبحت ترتجف بشدة حينما قالت بصدمة وصوتا باكياِ:
- يعني إيه؟ أبويا هيموت..؟؟
تراجع الطبيب للخلف عدة خطوات قائلًا بنبرة جادة:
الأعمار بإيد ربنا، إدعيله وبس..
غادر الطبيب الغرفة على ذلك، فانحنت "مرح" بكامل جسدها فوق والدها تبكي بمرارة، فهمس والدها بصوت خافت جدا بالكاد سمعته مرح:
- فخر..
رفعت مرح بصرها إليه بدهشة، في حين انحنى فخر قليلًا عليه حتى يستطيع الإنصات إليه وهو يقول بهدوء:
- نعم يا عم شاكر، قولي عاوز إيه..؟
أخذت أنفاسه تتسارع وهو يُجاهد في نطق الكلمات، حتى تفوه بصوت مُرهق:
بنتي، أمانة في رقبتك، حافظ عليها من الناس.. و من نجيب..
أنهى جملته وأطلق زفيرًا قويا حتى إن مرح انتفضت في مكانها وأطلقت صرخة عالية بقلبٍ وجل وأعصابٍ متوترة، ماذا حدث فجأة لوالدها الذي أخذ يرتجف بشدة وصوت أنفاسه التي ارتفعت وأخذت تخرج منه بصعوبة بالغة....؟
ما كان من فخر إلا أن ركض ذاهبا إلى الطبيب، ليأتي الطبيب مسرعا بعد ذلك قائلًا بعصبية:
برا لو سمحتوا
اتجه فخر إلى مرح وجذبها نحوه، ثم خرج بها وسط بكاؤها المتواصل، في حين قام الطبيب بعمل صدمات كهربائية بسرعة شديدة إلا إنه لم يستجب لتلك الصدمات فقد أطلق الجهاز صفيرًا عاليًا مُعلنا توقف القلب.. !!
تركه الطبيب مبتعدًا، وراحت الممرضة ترفع الملاءة فوق وجهه وقد رحل "شاكر" لعالم آخر مؤكد سيكون أرحم به من ذاك العالم القاسِ...
تلقت مرح الصدمة الجلية، حين أخبرها الطبيب بوفاة والدها الحبيب والمسكين الذي عانى أشد المُعاناه في الآونة الأخيرة..
راحت تلطم فوق وجهها بهستيرية وفاضت عيناها بالدموع حسرةً وألما على والدها الذي كان كل ما تبقى لها.. وها هو يتركها وحيدة بين الحياة ومتاهتها..!
أخذ فخر يُهدئها حيث أمسك بها داخل ذراعيه محاولا بث الأمان بداخلها علها تهدأ أو تصمت دموعها، ولكن كيف تهدأ وتصمت وقد رحل جزءًا منها؟!! جزءًا من قلبها ودمهُ هو دمها، من رباها وعَلمها ما لا أحد يستطع تعليمه لها، والدها! وحسرتاه على خُسارته..
كانت في حالة يُرثى لها، تكاد تذرف العبرات دمًا من شدة حُزنها، ولم تختلف حالة فخر عن حالتها فكان "شاكر" والده الروحي..
ذهب فخر إلى الطبيب ليطلب منه حُقنة مُهدئة لتلك الباكية بقهر وهستيرية، حتى يستطيع إخراج التصاريح اللازمة لدفن والدها..
وبالفعل بعد مرور بضعة دقائق كانت مرح في عالم آخر، وراح فخر يسعى في إخراج تصاريح الدفن والغُسل من المشفى، أخذ ذلك عدة ساعات منه حتى دُفن شاكر وعاد فخر حزينا مجددًا إلى المستشفى ليبقى بجانبها في ذاك الموقف العصيب..
وصل إلى الغرفة الموجودة بها، ولج إلى الداخل مُتجها إليها وراح يجلس إلى جوارها في حين كانت مرح لازالت نائمة في ملكوت آخر والحزن واضحًا جليًا على ملامح وجهها البسيطة والعبرات عالقة فوق أهدابها الكثيفة، تنهد فخر بثقل وهو يتأملها بحزن شديد، فقد أصبحت وحيدة ولم يكن لديها سواه، وأبدا لن يتخلى عنها حتى وإن كان سيفتح عليه أبوابا من جهنم!! هي حبيبته بل وأصبحت أمانة مُعلقة بعنقه فكيف يتركها؟!! .. عليه أن يبقى صامدًا أمام الحرب التي ستُقام..
أخذت ترمش بجفنيها وهي تأن بصوتٍ خافت جدًا:
- بابا..
انحدرت دمعة ساخنة من عينها مُجرد إن رمشت بها، بينما همس فخر بهدوء:
-إهدي يا مرح، أنا جنبك.
كررت الكلمة بدموع منهمرة ونبرة ذبيحة:
-بابا.. بابا يا فخر
فخر قائلًا بهدوء حزين:
- الله يرحمه يا مرح، مافيش بإيدينا حاجة، ده أمر ربنا.
اعتدلت جالسة عازمة على الوقوف وهي تهتف بألم:
- بابا فين أنا لازم أشوفه قبل الدفن..
لحق بها قبل إن تنهض وقال بهدوء حازم:
عم شاكر اتدفن خلاص يا مرح، إنتِ كنتِ في حالة مش طبيعية وكان لازم تاخدي مُهدئ عشان أعرف أتصرف، إستهدي بالله دا أمر ربنا
أبعدته عنها وراحت تقول بغضب ونبرة حملت في طياتها الآلآم:
- إنت إزاي تعمل كده، إزاي تدفن أبويا من غير ما أحضر الدفنة؟!!
زفر فخر بقوة، وقد انفعل قائلًا وهو يمسح على رأسه:
- بقولك كنتِ في حالة مش طبيعية!.. ياريت تهدي يا مرح، أنا عملت كده عشان متتعبيش نفسيا أكتر من كده!
عادت تبكي بنحيب وهي تدفن وجهها بين راحتي يديها في قهر، فيما تردد بحسرة:
- يا حبيبي يا بابا، سبتني لوحدي ومشيت هعمل إيه من غيرك دلوقتي، يارتني كنت أنا اللي مُت.
اقترب فخر منها قائلًا بصرامة:
- سابك ليا أنا يا مرح، إنتِ هتبتدي تخرفي ولا إيه؟
مرح من بين دموعها:
- وإنت هتعمل إيه، إنت ناسي نجيب بيه يا فخر بيه، إنت نسيت رفضه إنك تتجوزني؟!
زمجر فخر بضيق وأردف:
- فخر بيه؟!! جرى إيه يا مرح ما تتعدلي معايا كده وركزي! .. نجيب مالوش حُكم عليا، أنا هكتب عليكِ يا مرح والليلة هتكوني مراتي.
توسعت بؤبؤي عينيها وهي تطالعه بصدمة، ثم سألته بإرتباك:
- إزاي..؟ طب ونجيب بيه ووالدتك.؟ وهنعيش فين؟
فخر بتنهيدة قوية:
- سبيني أتصرف ومتسأليش في حاجة، المهم دلوقتي هنخرج علي المأذون وهنكتب
لم يتلقَ منها إجابة، فقال بتصميم: تمام يا مرح. ؟
حركت رأسها مترددة، ليقول فخر باطمئنان:
- ثقي فيا يا مرح، متخافيش طول ما إنتِ معايا ماشي؟
أومأت برأسها موافقة إياه رغم الرعب الذي يحتل قلبها مما ينتظر بعد هذه اللحظة، كيف سيكون رد فعل نجيب الذي أهانها هي ووالدها طوال سنينٍ مرت؟ ولم يكتفِ مازال مُستمر ومما أزاد الأمر سوءًا الآن هو زواجها من فخر الذي أحبها ولم يهتم بأنها إبنة البواب الخاص بالقصر الذي يقطن فيه مع أمه وزوجها، هكذا تحرك قلبه تجاه مرح إبنة البواب ماذا عليه أن يفعل؟..
ذهب وأخبر والدته فلم تتقبل الأمر في بدايته، ولكنها اضطُرت لأن توافق حين وجدت إبنها مُصر كُل الإصرار، وأما عن زوجها فقد رفض رفضًا قاطعًا وقام بتهديده أكثر من مرة حيث أنه سيطرده خارج القصر ولم يكن لفخر مكان آخر ليعش به..
.........................
تم عقد القران وأصبحت مَرح زوجته رسميًا على سنة الله والرسول! ، لقد نال مُراده وحقق وصية والدها الراحل، ولكن ماذا عن زوج أمه ذا الجبروت والتكبر؟ كيف سيواجهه الآن بعد تحذيراته القاسية المُتتالية؟؟ ..
لا يعرف ولم يهتم فليكن ما يكن هكذا قال فخر الذي توجه داخل القصر بصحبتها ويده تقبض على كف يدها بشدة..
وما إن دخل بها حتى ركضت إليه والدته القلقة في لهفة مُتسائلة:
إيه يا فخر يابني كنت فين كُل ده..؟
وما لبثت أن نظرت إلى يده القابضة على يد مرح، فاتسعت عيناها في صدمة، تخشى تفسير ما فهمته الآن، هل ضرب بكلام نجيب عرض الحائط وتزوج من مرح رغما عنه..؟
كادت تسأله إلا أن قاطعها صوت نجيب الصارم وهو يتجه نحوهم والشرر يتطاير من عينيه الحمراوتين وكأنهما تحولتا لجمرتين من نار اثر غضبه الجلي..
نظر فخر إليه في تحدٍ سافر وقد رفع رأسه عاليًا بشموخ مُنتظرًا حديثه لتبدأ المعركة..
نجيب وقد تجمدت قسماته:
البت دي بتعمل إيه في بيتي؟ ومالك مكلبش في إيديها كده ليه..؟
فألقى فخر قنبلته قائلًا بثبات تام:
مرح مراتي على سنة الله ورسوله، ومن اللحظة دي هي في حمايتي، وأنا على أتم إستعداد للدفاع عنها وإنت مش هتقدر تمنعني من حاجة أنا إخترتها بإرادتي، ولا إنت نسيت إنك أساسا مالكش حُكم عليا..؟؟
أظلمت عيناه بوحشية، بينما أخذ يصر على أسنانه بشدة حتى إن عروق عُنقه برزت من فرط عصبيته..
أخذ يقترب منه حتى وقف قبالته وقد رفع سبابته أمام وجهه هاتفًا بصوته الغليظ:
إنت بتتحداني يا فخر.. ؟؟!
فخر وقد هز رأسه بثبات وتحدِ سافر، ليزداد نجيب شراسة حيث قال بعينين متوهجتين نارِ:
يبقى تطلع برا، براااااا بيتي إنت والحثالة اللي معاك دي حالا.
وحينئذٍ تدخلت والدته السيدة " أحلام " قائلة بوجل شديد والصدمة تعتلي ملامح وجهها الباكِ:
- إنت بتقول إيه يا نجيب..؟؟ بتقول إيه إنت إتجننت؟؟
وكان رده عليها صفعة قوية دوى صوتها في المكان، يليها صوته المُرعب:
- إنتِ تخرسي خالص ومتتكلميش، أنا أقول وأعمل اللي أنا عاوزه!!
لم يتحمل فخر إهانة والدته فتقدم منه وقد ضغط على أسنانه هاتفا بصوت غاضب:
- ورب الكعبة لأردلك كُل إهانة أهانتها لأمي أضعاف مُضاعفة، واللي خلقني وخلقك لأدفعك التمن غالي أوي.
ثم تراجع للخلف جاذبا زوجته بيده عازما على الخروج من هذا القصر للأبد، فصرخت أحلام وهي تركض خلفه مُرددة بانكسار وقلب مُعذب:
- فخر، لا متمشيش يا فخر، عشان خاطري يا فخر..
التفت إليها وراح يُعانقها قائلًا باطمئنان:
- ماتقلقيش عليا يا أمي، هكلمك وهبلغك بأخباري، بس إنتِ خلي بالك من نفسك، على عيني أسيبك معاه بس للضرورة أحكام يا أم فخر.
أنهى كلامه معها وخرج سريعا قبل أن تنفلت منه أعصابه ويقتل ذلك الهمجي ذا الوجه الشيطاني والذي لا يعرف للرحمة طريق
وقفت تتحسر على ذهاب إبنها الأكبر من القصر، ثم راحت تنظر إلى زوجها بكراهية ظاهرة بوضوح داخل عينيها، ولم يهتم نجيب بتلك النظرات حيث أولّاها ظهره واتجه ناحية مُكتبه الخاص والذي يجلس فيه دائمًا، بينما تحركت أحلام نحو الدرج لتصعد إلى غرفتها وسط بكاؤها المرير، وقفت تنظر من خلف زجاج النافذة وهي تحدث ذاتها بقهر:
- حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا نجيب، حسبي الله..
هاجت الذكريات أمام عينيها الحزينتين وهي تتذكر لحظة زواجها من نجيب رغمًا عنها حيث كان والدها من أكبر رجال الأعمال والمستثمرين في مصر، وكان نجيب إبن شريكه في أحد شركاته ولذا زوجها له بعد وفاة زوجها الأول والذي أنجبت منه " فخر الدين " إبنها الذي ذاق معها المُر والظلم منه، ثم يشاء الله وتنجب من نجيب أربعة أبناء رغم كرهها الشديد له ولكن للقدر أحكام وهكذا أنجبت منه أربعة ليكونوا إخوة لفخر يكفيه ظلما و وحدة فليكونوا سندًا له في الدنيا وهذا ما سعت لأجل تحقيقه وقد تحقق ما سعت له حيث أن علاقة فخر بإخوته قوية رغم محاولات نجيب الدائمة في إبعاده عنهم..
.......................
كانت تسير بجواره تبكي بصمت، بقهر، بعذاب، تبكي بلا توقف ماذا فعلت بنفسها؟، تزوجت ويا ليتها لم تفعل، ليتها لم تطع قلبها المسكين الذي أحب فخر الدين بقوة.. وها هي تائهة معه في بحر لا قرار له..
انتشلها من صمتها الحزين حين همس لها بغضب:
- مرح، كفاية.. كفاية بُكى أنا تعبت.
نظرت له من بين دموعها وقالت:
- وأنا كمان تعبت وإتمرمط يا فخر، يارتني ما بصيت لفوق ولا حبيتك، ساعتها ماكنش أبويا تعب من الحزن والإهانة ولا جوز أمك طردك في الشارع، كل ده بسببي يا فخر.
هزها بعنف فجأة، فقد نفد صبره وهو يقول :
- مرح! ... أنا مش متحمل أي حاجة، ينفع تخرسي دلوقتي؟!!!!
ازدادت بكاء مع هزه العنيف لها، وطأطأت رأسها في حزن شديد، مرت دقائق فحسب، فتنهد آخذا نفسا عميقا ثم لانت ملامحه، ليرفع أنامله ماسحا دموعها برفق وأخبرها:
- مرح، أنا آسف بس إنتِ شايفة اللي أنا فيه، أنتِ مالكيش ذنب في حاجة، بيكِ أو من غيرك نجيب بيكرهني، اللي عاوزه منك دلوقتي تساعديني عشان نعدي المحنة دي مع بعض.. ماشي؟
هزت رأسها بضعفٍ موافقة إياه، في حين ابتسم فخر رغمًا عنه وقال في محاولة منه لتخفيف حزنها:
- وبعدين إنتِ عروسة يا مرح، عاوزك تنسي ومايهمكيش أي حاجة، أنا معاكِ يا حبيبتي.
أومأت مُجددًا ببطء، ثم قالت وهي تنظر إلى عُمق عينيه:
- كان نفسي في فستان وطرحة، وكان نفسي في فرح، وكان نفسي أبويا يحضر جوازي، كان نفسي أبقى مبسوطة عشان بتجوزك يا فخر.
واصل فخر بجدية وبنبرة واعدة:
- هعوضك يا مرح، أوعدك هعوضك عن كُل اللي حصل.
وافقته قائلة بخفوت:
إحنا دلوقتي هنعيش في شقتنا بتاعة بابا لحد ما ربنا يفرجها، موافق..؟
أومأ موافقًا ثم التقط كف يدها بين راحة يده وسارا معا ليبدأ الإثنان حياتهما الزوجية، آملًا فخر في حياة هادئة فقط..
فخر..، فخر.. يا فخر!
انتبه فخر وعاد من شروده وذكرياته الأليمة على صوت هتاف زوجته مرح، في حين قال بعد إن التفت لها بكامل جسده مُتسائلًا بتنهيدة عميقة: خير يا مرح، في إيه؟
رمقته بنظرة ثاقبة، بينما تقول بحنق:
- إنت لسه بتسأل في إيه يا فخر؟ أنا بقالي أكتر من نص ساعه بكلمك وإنت في ملكوت تاني.. !
منحها ابتسامة هادئة مُحببة إليها، ثم قال برفق:
- ماتزعليش، المهم كُنتِ عاوزاني في إيه؟
مرح متنهدة بهدوء وبابتسامة صافية قالت:
- إيه رأيك في فُستاني؟
تأملها فخر من أسفل قدميها حتى أعلاها بإعجابٍ واضح في نظراته المتفحصة لها، ومن ثم أخبرها غامزًا:
- تحفة يا حبيبي، بس الروج اللي إنتِ حطاه ده يتمسح حالا يا مرح.
زوت مرح ما بين حاجبيها في ضيق وقالت:
- على فكرة بقي إحنا في فرح، وكمان فرح أخوك مش أي فرح يا فخر، وكُل الناس بتعمل كدا في المناسبات!
تجاهل فخر حديثها، وقال وهو يخرج من الشرفة بصيغة آمرة:
- مش هعيد كلامي مرتين يا مرح، قلت يتمسح يعني يتمسح.
كاد ليخرج من الغرفة إلا أنها أوقفته حين ركضت إليه مُسرعة قائلة في لهفة:
- طب إستنى، إستنى يا فخر.
التفت لها قائلًا باقتضاب:
- إيه؟
عدلت من ياقة قميصه وهندمت سُترته السمراء وهي تتأمل ملامح وجهه المُحببة إليها مرورا بلحيته الكثيفة وشاربه العريض وهيئته الشامخة تلك بنظراتٍ هائمة تضخُ عِشقًا..
إلى أن قال بنفاد صبر:
- خلاص يا مرح، سرحتي في إيه دلوقتي؟؟ مش كنتِ لسه زعلانة عشان أنا بسرح؟
ضحكت مرح بخفوت قائلة:
- يا حبيبي بحب أبص لك دايمًا، ملامحك بتديني القوة.
رفع أحد حاجبيه مُرددا بمزاح:
- إيه ناقص تقولي فيا شعر كمان يا مرح، للدرجة دي يعني جميل؟
قهقهت ضاحكة، ثم أخبرته بصدق من بين ضحكاتها الرقيقة:
- أجمل راجل في الدنيا.
حاوط وجهها بين كفيه وراح يطبع قبلة هادئة فوق جبهتها، وراح يبتعد عنها، ثم همس وهو يفتح باب الغرفة:
- خلصي لبسك وحصليني، ثم تابع مُحذرًا:
- وإوعي تنسي تمسحي الروج! ..
خرج من الغرفة تاركا إياها تضحك بخجل، بينما اصطدم فخر بشقيقته الصغرى التي كانت تمشي بسرعة شديدة وشعرها يتطاير من حولها، بينما رائحة عطرها النفاذ تفوح منها، وكانت تمسك فستانها الزهري ذو الحمالات الرفيعة بكلتا يديها مما جعل فخر يتسمر مكانه بصدمة من أفعال شقيقته الطائشة المُدللة..
مي بصوت إنثوي وهي تعدل من خصلات شعرها:
- إيه يا فخر مُش تفتح!
احتدت ملامح فخر وراح يقترب منها ممسكا بذراعها بقبضة يده.. قائلًا بصوت جهوري:
- إيه القرف اللي عملاه في نفسك دا..؟ إمشي غيري بسرعة وإمسحي المهرجان اللي في وشك دا!!
دبت مي بقدمها الأرض بغضب طفولي، ثم هتفت بعدم رضا:
- وإيه يعني يا فخر ده إحنا في فرح، متبقاش خنيق كده يا أخي.
هتف بها:
- مي، إسمعي الكلام يا إما والله ما إنتِ خارجة من القصر ولا هتحضري حتي فرح أخوكِ!
- وإنت مالك إن شاء الله؟؟
قالها "نجيب" وهو يتجه نحوه بعينين حداتين مُخيفتين تحملين كُره واضح، وما إن وقف قبالته، حتى صاح بشراسة:
- إنت تحكم مراتك بس، إنما ولادي لا يا إبن أحلام وإلا إنت عارف هعمل معاك إيه كويس.. !
تحولت ملامح فخر للشراسة أيضًا، وبدا التحدِ جليًا بعينيه،فيما يهتف باحتدام:
- ماتقدرش تعمل حاجة، ولو تقدر وريني!
تخضبت عيناه بحمرة الغضب المخيفة، إلى متى سيظل يتحداه ولا يخشاه؟!
نجيب الشناوي ذو الجبروت الذي لم يقف أمامه أحد على الإطلاق، يأتي فخر الدين ويقف أمامه بكُل ثبات وقوة دون ذرة خوف واحدة.. !!