الفصل الثاني
لكن منى أصبحت زميله له في نفس الكلية وإن كان يسبقها بصفوف وسنوات، تابعت نجاحاته المزعومة في الصحافة وافتخرت به كونه أحد ابناء حيها ومنطقتها أصبح صحفي ذو مكانة، وبعد سنوات التحقت للعمل معه بنفس المجلة، اكتشفت أنه لم يكتب حرف واحد على صفحات المجلة ولا حتى في ملحق مخصص للأطفال، لكنه يُعدُ كتاب سيغير مجرى التاريخ، سيعيد صياغة البشرية من أول وجديد، سيمنح لهذا الجيل والأجيال القادمة فرصة لم يحظى بها أجيال سابقة للعيش بنظرياته التي لن تدخله التاريخ فقط لكنه سيصبح هو التاريخ ذاته، نظريات ستدرس في كل مراحل التعليم، ستجعل من نظرية النسبية لأينشتاين مجرد نكتة سخيفه.
***
هاهي أوراق كتابه المنتظر تهتز في يده، ازاح عدد المجلة من أمام وجهه، نظر لها في عينيها مباشرة محاولًا رسم ابتسامة سخرية أو عدم اكتراث بما كتبت لكنه فشل بكل تأكيد.
في بلكون شقتهما المطلة على النيل جلست شويكار تحتسي قهوة الصباح، اشعلت سيجارة ونستون بطعم التوت البري ونظرت لصفحة النيل اللامعة ببريق شمس أبريل الدافئة، تحول النيل كنهر من فضة يجري بين ضفتين من الزبرجد، تعشق شويكار هذا المنظر الذي يخلب عقلها، منذ سنوات طوال تعيش في هذه الشقة في حي جاردن سيتي، اشتراها شوكت زوجها الضابط السابق بعدما باع كل ما ورثه عن أبيه وأمه في بلدته بإحدى قرى محافظة البحيرة، ليحقق لشويكار زوجته ومحبوبته طلبها بأن تعيش في شقة على النيل في جاردن سيتي كما تمنت منذ طفولتها.
خلع شوكت نظارته القراءة وطبق الجريدة ووضعها على المنضدة أمامه، لاحظ منفضة السجائر أمام شويكار زوجته، بها أربعة اعقاب سجائر وها هو الخامسة سوف يلحق بهم قريبًا، خمس سجائر منذ استيقاظ شويكار فيما لا يزيد عن ساعتين فقط، رقم قياسي لا يتناسب مع عمرها الذي اقترب من الستين ولا مع رغبتها المعلنة في الاقلاع عن التدخين، لكنها تراجعت عن هذه الرغبة منذ تلقيها خبر استشهاد ابنها رامي في إحدى الهجمات البربرية على كمائن الشرطة، لم تتوقع يوم ما أن تدفن ولدها وبكريها في التراب، لم يطل مشهد مثل هذا على نافذة خيالها قط، لكن الواقع كثيرًا ما يكون أكثر إلامًا من الخيال، يعتقد الكثير أن الخيال يجمح بعيد عن حقيقة الواقع، لا يدرون أن الخيال مجرد محاولة لتجميل دمامة الواقع، وأن الخيال مجرد وسيلة لتحلية مرارة الحياة.
لم تكن صدمة فقد ابنه البكري سهلة على شوكت، هو الرجل العسكري الذي خدم في الجيش المصري لسنوات، وذاق معنى الحرب وويلاتها، استشهد من زملائه في حرب تحرير الكويت أكثر من زميل، وجُرِحَ منهم العديد، دخل الحرب بقلب لا يعرف الخوف، تمنى الموت ولكنه لم ينله، انتهت الحرب وعادت الحياة لطبيعتها، لكن بقت ندبة كبيرة في نفسه كلما تذكر زملائه الذين ماتوا في أرض النفط الحارة.
تعرف على شويكار في لقاء بالصدفة في نادي الجزيرة، لم يكن يوما ما عضو بهذا النادي العريق، ورغم اسمه الذي يوحي بانتمائه لطبقة إجتماعية راقية إلا إنه في الواقع ابن رجل ريفي يمتلك عدة أفدنة في محافظة البحيرة، لم يهبه الله من الذرية إلا هذا الشوكت، تربى وترعرع في كنف أبيه وعاش عيشة أغنياء الأرياف.
تحولت حياته تمامًا منذ رؤيته لشويكار، فتنته بعيونها الخضراء، شعرها الأشقر المنسدل على كتفين من المرمر، عنق اسطواني شهي يغريك على تقبيله، وصدر ناهد كمدفعين هاون، جميلة هي في عينه وفي عيون كل من رآها، تنافس عليها الكثير وظفر هو بها بعد أن وافق على بيع كل ميراثه من أبوه وأمه ليستقر ويعيش بالقاهرة وتنقطع صلته بالبحيرة تمامًا، لكن موت رامي كسر شيء داخله، شيء اعتقد أنه امتلكه، فقد سعادته وبهجة الحياة، لم تعد شويكار بجمالها ورقتها وثقافتها المختلفة عن ثقافته قادرة على أن تجعله كالسابق، كان يشعر في حضرتها بأنه فراشه ترفرف في حديقة غناء من الزهور، فعينيها زهرتان، وشفتيها زهرتهان مختلفتان اللون والطعم والرائحة، وكل ما فيها زهر وجوري وأقحوان يعطي لحياته معنى وروح، ولكنها هي نفسها فقدت روحها بعد موت رامي، فكيف لها أن تعطي لحياة شوكت أي معنى أو ترمي عليها بأي ظل.
انتبهت شويكار على صوت شوكت وهو يعاتبها لائمًا برقة:
- كل دي سجاير على الصبح يا شوشو.. مش كتير يا حبيبتي؟!
- لا كتير ولا حاجه يا شوكت.. ما قولت ليش هنعمل إيه في موضوع نبيل؟
عاد طيف رامي يحوم حولهما مع ذكر اسم أخيه، نبيل الذي لم يكن يشعران بوجوده، حضور وكاريزمة رامي طغت عليه، حتى أن نبيل لم يكن شيء مرئي بالنسبة لمحيط عائلته، لم يكن في منطقة ظل شويكار وشوكت لكنه كان في المنطقة العمياء لا يرونه ولا يشعران به على الاطلاق.
نبيل الابن الثاني لشوكت وشويكار، حملت فيه أمه بعد مولدها لرامي بخمس سنوات تقريبًا، عضو جديد أنضم للعائلة ولكن بقى رامي هو ابنهما الوحيد، لا يعرف أحد لهذا الشعور مبرر أو تفسير، حتى ثديها رفض أن يطعمه وجف قبل أن يمتلء ويروي الصغير، انصب اهتمام شويكار على رامي، اولته كل العناية والاهتمام، ربما لأنه يشبهها كثيرًا، عيونه خضراء كحقل برسيم حجازي، وشعره ناعم أشقر يهوشه الهواء ويعيد ترتيبه في نفس الوقت، حبه للفروسية ورثه عن جده لأمه عصمت البندقداري باشا، أحد رموز الملكية البائدة في مصر والامتداد التركي الأصيل لأسرة تنمتمي دمائها للأناضول وتعيش وتتنفس في وادي النيل، صوته الفخم يذكرها بجدها نعمان باشا البندقداري، أحد جنرلات الجيش المصري في عهد الملك فؤاد الأول، عاشت طفولتها في قصره في المنيل، تتذكر جيدًا صوته الرخيم القوي الذي يمكن أن يتسلل ليحتل قلبك أو يهدر فيزلزل الأرض من تحتك ويهدمك.
كل شيء في رامي يذكرها بفرد من أفراد عائلتها، عينيه تذكرها بآنا تفيدة هانم، جبهته تذكرها بخالها، حتى أصابع يديه الطويلة تذكرها بعمتها إلهام هانم عازفة البيانو في أكبر دور الاوبرا في أوروبا.
رامي كان تجسيد حي لكل ما هو تركي، لكل ما هو جميل من أيامها، على عكس نبيل الفاقد للنبل من وجهة نظرها، فأصابعه قصيرة مستطيلة كأصابع الفلاحين، لا فرق بين أصابعه وأصابع عبد الهادي الجنايني في سرايا نعمان باش البندقداري، حتى أنها لا تشبه أصابع أبيه شوكت، رغم من اصوله الريفية إلا إن نبيل لا يشبهه كثيرًا، شعره أسود فاحم، لا هو أشقر مثلها ولا كستنائي مثل أبيه، وعيونه لا تمت بالخضرة بصلة ولا هي بنية مثل عين شوكت، لكنها سوداء كحيلة يسكنها حزن ممزوج بقلق.
شعر نبيل بغربة مبكرة في بيت أبيه، شعر بنوع من التمييز، حاول جاهدًا وكثيرًا كسب رضا أمه، لكنها كانت على قناعة تامة بأن رامي يكفي ولا حاجه للمزيد، لم يجد من ينصره في هذا البيت، فأبيه مشغول في عمله ما بين تدريبات ومناورات ومشاريع، أو في تخطيط واجتماعات مع كبار قادة القوات المسلحة، وفي الاجازات القصيرة التي ينالها، يكون في غاية الشوق لحديقته المسماه شويكار، ينهل من رحيق ازهارها وينعم بأريج وردها وينعم بالنظر لجمال اغصانها.
ولان رامي باشا الكبير البندقداري كان حكمدار شرطة يحكم مديرية باكملها فلابد ان يكون رامي الثاني هو الاخر مدير أمن لمحافظة، وبناء عليه سيبدأ رامي الطريق من أوله، طالب في كلية شرطة وهذا أمر مضمون، فأبيه لواء قوات مسلحة والكل يشهد له بالشجاعة والنزاهة، ومعارف أمه واقاربها كفيلين بقبوله بالكلية وهو يضع ساق على ساق، ثم ضابط شرطة؛ الطريق العملي الحقيقي ليكون رامي بندقداري جديد، وبعد ست شهور بالتمام اضاف نجمة للنجمة الموجود بالفعل على كتفه لصبح ملازم أول (قد الدنيا)، أربع سنوات واضاف الثالثة وأصبح نقيب وتميز عن اقرانه بفوزه بجميع بطولات الداخلية في الفروسية، وفوزه ببطولة الجمهورية لأكثر من مرة، وحصوله على البطولة الأفريقية قبل استشهاده بعامين، والميدالية البرونزية في الأولمبياد في نفس العام الذي غدرت به يد الإرهاب الأثمة.
عاش بطل ومات بطل وترك لنبيل أرث من الحب لا يعرف أحد كيف يعطيه له، ادرك نبيل منذ البداية اختلافه عن رامي أخيه، وعرف وتأكد بما لا يسمح لوجود الشك أن طريقه الوحيد ليتمكن من التواجد في هذا البيت كعضو فعال هو أن يكون صورة من رامي، صحيح هو لا يشبهه جسديًا ولا في ملامح وتقاطيع الوجه، لكنه يمكنه وبسهولة أن يفعل ما يفعله، تدرب هو الاخر على الفروسية وركوب الخيل، اتقن هذه الرياضة وشعر فجأة أنه يحبها بعد ارتباطه بالخيل وحبه الجارف لها، اتقن العزف على الجيتار وهو شيء لم يكن رامي يفعله، لكن شويكار لم تهتم كثيرًا بهذا رغم أن عائلتها فنية، ربما لو كانت إلهام هانم عمتها موجودة إلى الآن لسعدت بنبيل وشجعته، ورغم كل هذا اشتهر نبيل بين اقرانه بأنه (دودة قرأة) محبًا لكن صنوف الثقافة، يقرأ في كل المجالات وإن كان أكثر ما يستهويه هو التاريخ والفلسفة، لم يتوقف نبيل عند هذا الحد، فأراد ان يكسب أرض جديدة لم تطأها قدم رامي أخيه فكتب أول رواياته وهو في الصف الثاني الثانوي، ونشرتها دار نشر صغيرة ولكنها –الرواية- لم تحقق نجاح كبير، لا أحد يعرف هلى هي سيئة لهذه الدرجة أم أن دار النشر لم تعطيها حقها في الدعاية وفي التوزيع، واستكمالًا لتحقيق الرضا من جهة أمه قرر دخول كلية الشرطة هو الآخر، فلربما يكون مدير أمن لمحافظة وهكذا يصبح ليها ما تفتخر به.
كل ما كان يريده نبيل هو أن يجد لنفسه مكان حتى ولو صغير في قلب أمه شويكار، هو حقًا لا يريد أن ينافس رامي في حبها له، ولا يسعى للانتصار عليه في أي مجال من المجالات، كل ما يتمناه أن تشعر بوجوده ويرى في عينيها ولو لمرة واحدة نظرة رضا عنه.
مات رامي وبقى نبيل، وفجأة ودون مقدمات أصبح عليه تلبية كل ما كانت تنتظره هي من رامي، عليه أن يتوقف عن القراءة والتركيز على الفروسية، حصل رامي على الميدالية البرونزية في الأولمبياد وكان يخطط للحصول على الذهبية الدورة القادمة، لم يمهله الحظ الوقت الكافي لذلك لكن على نبيل تحقيق هذا، كان من المفترض أن يتزوج رامي بعد شهور من فوزه بالميدالية الذهبية لكن القدر لم يمهله، وعلى نبيل أن يستكمل هذا الطريق أيضًا، بحثا له عن عروس مناسبة من وجهم نظريهما وبالأحرى من وجهة نظر امه شويكار.
كما عليه أن يتميز في عمله كضابط شرطة ليحصل على ترقية استثنائية تمكنه فيما بعد لتحقيق حلمها ويصبح مدير أمن لمحافظة ستسعى أن تختارها هي له.
تحولت حياة نبيل لجحيم حقيقي، فهو الآن مجرد ألة تنفذ رغباتها وطلباتها، كل شيء ستكلفه به سيكون عليه تلبيته وبسرعة وفي وقت قياسي ليعوض ما فقدوه من وقت وما نزفوه من مشاعر على موت رامي.
هو لن يمانع من تلبية طلباتهما في العمل، سيسعى ويسعى حتى يتميز بين اقرانه ويسبقهم في الترقيات والحصول على التقارير الممتازة التي تؤهله لتحقيق حلم أمه، كما انه لا يمانع من المنافسة على كل بطولات العالم في الفروسية فهو حقًا يحب الخيول ويعشق الحياة معهم، وإن كان لا يهتم كثيرًا بالبطولات، يكفيه أن يشعر بالود والحب المتبادل في عين فرسه وهي ترمي بعنقها الطويل على كتفه وتحتضنه في حنان حقيقي يعوضه عن ما فقده في حياته، لكن لا يهم فهو سينافس وسيحصل على كل الميداليات والكئوس والدروع في هذه الرياضة.
لكنه لا يستطيع مهما حدث ان يكون مجرد فحل يلقح امرأة من سلالة خاصة اختارتها شويكار هانم بعناية وبرعاية شوكت بك، فكل شيء فيه مباح لهما يفعلا به ما يشاءون، يصبح مدير أمن أو وزير داخلية، يصبح بطل أوليمبي أو عالمي، يتفرغ لعمله تمامًا او للرياضة، كل هذه أمور تبدو له مقبولة ومعقولة، لكن أن يكون مجرد ملقح لأنثى تختارها هي على مزاجها فهذا شيء لا يمكنه تقبله.
صحيح أنه كثيرًا ما يتحايل على طلباتها، طلبت منه التوقف عن القراءة والكتابة واوهمها بالموافقة والانصياع لهذا، لكنها لا تعلم باجتمعاته السرية مع ابنه خالته الصحفية نهى مرجان، ترشح له الكتب فينكب عليها يقرأها، ويسجل ملاحظاته ومراجعاته في دفتر خصصه لذلك، ثم يناقشها فيما قرأ، ومع كل نقاش تطلب منه أن يكتب مقال عن الكتاب يقيمه فيه أو مقال يفند الأفكار الموجودة في الكتاب سواء كان يتفق معها أو يختلف، لم يتوقف عن القراءة والكتابة ولن يتوقف ولا يعرف لماذا طلبت منه مثل هذا الطلب مادام لم يقصر فيما تتمناه في الفروسية والعمل.
لم يرد شوكت على سؤال زوجته، تنهد تهيدة حارة وهو يهوي بالجريدة أمام وجهه محركًا الهواء، اطفأت شويكار السيجارة واعادت عليه السؤال بصيغة أكثر وضوحًا ومباشرةً:
- عملت إيه في موضوع نبيل يا شوكت؟
لم يجد شوكت بد من إجابتها:
- هعمل إيه بس يا شوشو.. أنتِ مختارة ناس مش أي حد يناسبهم.
- ليه بقا إن شاء الله؟! هو احنا شوية واللا إيه.. أنا شويكار البندقداري بنت الحسب والنسب.. وجدي كان في يوم الصدر الاعظم للسلطنة العثمانية.. وباباياه كان...
قاطعها شوكت محاولا توضيح أنه يعرف تاريخ عائلتها الممتد من هضبة الاناضول مرورا بالهلال الخصيب وصولًا إلى وادي النيل، وربما لو درست عائلتها بعمق أكثر لعرفت أن جذورها وصلت للمغرب العربي، لكن ما لا تدركه شويكار أن الزمن قد تغير، وأن الحسب والنسب الآن لرصيدك في البنوك، ولمشاريعك وروؤس أموالك، وهم في هذه الحالة ليس ذو حيثية مطلقًا لمن وقع عليها اختيارها.
- يا حبيبتي بشويش شويه.. انا عارف قيمة عيلتك وماكانتهم في تاريخ المنطقة العربية كلها.. ماشي يا ستي؟
- ماشي.. ها وبعدين؟
- انت طالبة مني اجوز ابني لبنت رأفت الجميل...
قاطعته شويكار محتدة:
- ويطلع مين رأفت الجميل يعني؟! ويجي إيه رأفت الجميل في أقل واحد من عيلتي؟! ها.. فهمني.. ثم إن رأفت ده مش كان لواء زيك في الجيش وكان بيخدم معاك في نفس المنطقة؟
- اه كان لواء زيي وبيخدم معايا في نفس المنطقة.. بس هو فين دلوقتي وأنا فين!
- هو فين يعني اسم الله؟ عنده أسطول عربيات نقل؟ عادي.. طيارة خاصة؟ مش مهم.. مشارك على أكبر مصنع اسمنت في الشرق الأوسط؟ طز ولا حاجه برضو.. فيلل وقصور في أوروبا كلها.. طزين برضو.. هو عارف هيناسب مين؟
- مين؟
- شويكار البندقداري هانم.
كاد شوكت أن يقول لها طز بعد أن يخرج صوت عالي من انفه نتيجة لسحب مفاجئ للهواء، لكنه أثر السلامة، تحسب شويكار الحياة دائمًا بطريقتها وبما يروق لها، تضع ماضيها وتاريخ عائلتها في كفة معتقدة أنها الأرجح في كل الحالات، متناسة ومتجاهلة أن هذا التاريخ يعتبرها البعض وسمة عار، وأنهم ومن على شكالتهم مكروهين من فئات كثيرة في المجتمع يعتبرونهم لصوص ومتطفلين، لكن هناك شيء أخر لم يعمل له شوكت نفسه حساب، في الواقع هما شيئين؛ الأول هل سيوافق رأفت الجميل على هذه الزيجة أو بمعنى أدق هل ستوافق ابنته الوحيدة على هذه الزيجة؟ وهو من هو، فهو من أغنى عشر رجالات في مصر وربما كان أولهم وأكثرهم ثروة، علاقاته عنكوبتيه لا داخل القطر فقط لكن على المستوى العالم، تحوم حوله كثير من الاشاعات أنه كون هذه الثروة والامبراطورية الاقتصادية من تجارة السلاح، ومن العمولات التي كان ومن المحتمل مازال يحصلها من دول أفريقية ولاتينية كثيرة، نعم رأفت صديق قديم له، جمعهما الزي العسكري لسنين وسنين، وجمعتهما غرفة الصناعة لسنوات كثيرة لكن الفرق شاسع بينهما، كالفرق بين السماء والأرض، تشابها في أشياء كثيرة، فقد هو الاخر ابنه الوحيد لكن هذه المرة في جريمة قتل بعد اختلاف وخلاف بينه وبين منظمة البعض يصفها إنها إجرامية وأخرون يصفونها أنها إرهابية والضحية كانت فلذة كبده.
لم يتبقى له إلا ابنة وحيدة يسعى لتلبية كل طلباتها، لم تشتغل معه في تجاراته ولا في صناعاته وقررت بمحض ارادتها أن تخوض في طريق الفن، ارسلها بناء على طلبها للتعلم في أكبر الاكادميات في إيطاليا، تميزت هناك في الرسم الزيتي وابدعت فيه، عادت لمصر فأسس لها أكبر مرسم في منطقة الحسين، كلفه الملايين لكنه لا يعبء بهذا يكفيه أن يرى ابتسامتها وفرحتها عندما تنتهي من لوحة جديدة أو كلما افتتحت معرض جديد، وعندما تفوز لوحة من لوحاتها بجائزة سواء كانت محلية أو اقليمية أو دولية يقيم احتفالات تدوم لأيام ويدفع ملايين ليتم تغطية الخبر على مستوى الصحافة والإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي حتى صارت ياسمين ابنته نجمه من نجوم المجتمع تفوق شهرتها بعض نجوم التمثيل والغناء.
لكن هناك امر ثاني مهم يجب أن تهتمه به.
***
هاهي أوراق كتابه المنتظر تهتز في يده، ازاح عدد المجلة من أمام وجهه، نظر لها في عينيها مباشرة محاولًا رسم ابتسامة سخرية أو عدم اكتراث بما كتبت لكنه فشل بكل تأكيد.
في بلكون شقتهما المطلة على النيل جلست شويكار تحتسي قهوة الصباح، اشعلت سيجارة ونستون بطعم التوت البري ونظرت لصفحة النيل اللامعة ببريق شمس أبريل الدافئة، تحول النيل كنهر من فضة يجري بين ضفتين من الزبرجد، تعشق شويكار هذا المنظر الذي يخلب عقلها، منذ سنوات طوال تعيش في هذه الشقة في حي جاردن سيتي، اشتراها شوكت زوجها الضابط السابق بعدما باع كل ما ورثه عن أبيه وأمه في بلدته بإحدى قرى محافظة البحيرة، ليحقق لشويكار زوجته ومحبوبته طلبها بأن تعيش في شقة على النيل في جاردن سيتي كما تمنت منذ طفولتها.
خلع شوكت نظارته القراءة وطبق الجريدة ووضعها على المنضدة أمامه، لاحظ منفضة السجائر أمام شويكار زوجته، بها أربعة اعقاب سجائر وها هو الخامسة سوف يلحق بهم قريبًا، خمس سجائر منذ استيقاظ شويكار فيما لا يزيد عن ساعتين فقط، رقم قياسي لا يتناسب مع عمرها الذي اقترب من الستين ولا مع رغبتها المعلنة في الاقلاع عن التدخين، لكنها تراجعت عن هذه الرغبة منذ تلقيها خبر استشهاد ابنها رامي في إحدى الهجمات البربرية على كمائن الشرطة، لم تتوقع يوم ما أن تدفن ولدها وبكريها في التراب، لم يطل مشهد مثل هذا على نافذة خيالها قط، لكن الواقع كثيرًا ما يكون أكثر إلامًا من الخيال، يعتقد الكثير أن الخيال يجمح بعيد عن حقيقة الواقع، لا يدرون أن الخيال مجرد محاولة لتجميل دمامة الواقع، وأن الخيال مجرد وسيلة لتحلية مرارة الحياة.
لم تكن صدمة فقد ابنه البكري سهلة على شوكت، هو الرجل العسكري الذي خدم في الجيش المصري لسنوات، وذاق معنى الحرب وويلاتها، استشهد من زملائه في حرب تحرير الكويت أكثر من زميل، وجُرِحَ منهم العديد، دخل الحرب بقلب لا يعرف الخوف، تمنى الموت ولكنه لم ينله، انتهت الحرب وعادت الحياة لطبيعتها، لكن بقت ندبة كبيرة في نفسه كلما تذكر زملائه الذين ماتوا في أرض النفط الحارة.
تعرف على شويكار في لقاء بالصدفة في نادي الجزيرة، لم يكن يوما ما عضو بهذا النادي العريق، ورغم اسمه الذي يوحي بانتمائه لطبقة إجتماعية راقية إلا إنه في الواقع ابن رجل ريفي يمتلك عدة أفدنة في محافظة البحيرة، لم يهبه الله من الذرية إلا هذا الشوكت، تربى وترعرع في كنف أبيه وعاش عيشة أغنياء الأرياف.
تحولت حياته تمامًا منذ رؤيته لشويكار، فتنته بعيونها الخضراء، شعرها الأشقر المنسدل على كتفين من المرمر، عنق اسطواني شهي يغريك على تقبيله، وصدر ناهد كمدفعين هاون، جميلة هي في عينه وفي عيون كل من رآها، تنافس عليها الكثير وظفر هو بها بعد أن وافق على بيع كل ميراثه من أبوه وأمه ليستقر ويعيش بالقاهرة وتنقطع صلته بالبحيرة تمامًا، لكن موت رامي كسر شيء داخله، شيء اعتقد أنه امتلكه، فقد سعادته وبهجة الحياة، لم تعد شويكار بجمالها ورقتها وثقافتها المختلفة عن ثقافته قادرة على أن تجعله كالسابق، كان يشعر في حضرتها بأنه فراشه ترفرف في حديقة غناء من الزهور، فعينيها زهرتان، وشفتيها زهرتهان مختلفتان اللون والطعم والرائحة، وكل ما فيها زهر وجوري وأقحوان يعطي لحياته معنى وروح، ولكنها هي نفسها فقدت روحها بعد موت رامي، فكيف لها أن تعطي لحياة شوكت أي معنى أو ترمي عليها بأي ظل.
انتبهت شويكار على صوت شوكت وهو يعاتبها لائمًا برقة:
- كل دي سجاير على الصبح يا شوشو.. مش كتير يا حبيبتي؟!
- لا كتير ولا حاجه يا شوكت.. ما قولت ليش هنعمل إيه في موضوع نبيل؟
عاد طيف رامي يحوم حولهما مع ذكر اسم أخيه، نبيل الذي لم يكن يشعران بوجوده، حضور وكاريزمة رامي طغت عليه، حتى أن نبيل لم يكن شيء مرئي بالنسبة لمحيط عائلته، لم يكن في منطقة ظل شويكار وشوكت لكنه كان في المنطقة العمياء لا يرونه ولا يشعران به على الاطلاق.
نبيل الابن الثاني لشوكت وشويكار، حملت فيه أمه بعد مولدها لرامي بخمس سنوات تقريبًا، عضو جديد أنضم للعائلة ولكن بقى رامي هو ابنهما الوحيد، لا يعرف أحد لهذا الشعور مبرر أو تفسير، حتى ثديها رفض أن يطعمه وجف قبل أن يمتلء ويروي الصغير، انصب اهتمام شويكار على رامي، اولته كل العناية والاهتمام، ربما لأنه يشبهها كثيرًا، عيونه خضراء كحقل برسيم حجازي، وشعره ناعم أشقر يهوشه الهواء ويعيد ترتيبه في نفس الوقت، حبه للفروسية ورثه عن جده لأمه عصمت البندقداري باشا، أحد رموز الملكية البائدة في مصر والامتداد التركي الأصيل لأسرة تنمتمي دمائها للأناضول وتعيش وتتنفس في وادي النيل، صوته الفخم يذكرها بجدها نعمان باشا البندقداري، أحد جنرلات الجيش المصري في عهد الملك فؤاد الأول، عاشت طفولتها في قصره في المنيل، تتذكر جيدًا صوته الرخيم القوي الذي يمكن أن يتسلل ليحتل قلبك أو يهدر فيزلزل الأرض من تحتك ويهدمك.
كل شيء في رامي يذكرها بفرد من أفراد عائلتها، عينيه تذكرها بآنا تفيدة هانم، جبهته تذكرها بخالها، حتى أصابع يديه الطويلة تذكرها بعمتها إلهام هانم عازفة البيانو في أكبر دور الاوبرا في أوروبا.
رامي كان تجسيد حي لكل ما هو تركي، لكل ما هو جميل من أيامها، على عكس نبيل الفاقد للنبل من وجهة نظرها، فأصابعه قصيرة مستطيلة كأصابع الفلاحين، لا فرق بين أصابعه وأصابع عبد الهادي الجنايني في سرايا نعمان باش البندقداري، حتى أنها لا تشبه أصابع أبيه شوكت، رغم من اصوله الريفية إلا إن نبيل لا يشبهه كثيرًا، شعره أسود فاحم، لا هو أشقر مثلها ولا كستنائي مثل أبيه، وعيونه لا تمت بالخضرة بصلة ولا هي بنية مثل عين شوكت، لكنها سوداء كحيلة يسكنها حزن ممزوج بقلق.
شعر نبيل بغربة مبكرة في بيت أبيه، شعر بنوع من التمييز، حاول جاهدًا وكثيرًا كسب رضا أمه، لكنها كانت على قناعة تامة بأن رامي يكفي ولا حاجه للمزيد، لم يجد من ينصره في هذا البيت، فأبيه مشغول في عمله ما بين تدريبات ومناورات ومشاريع، أو في تخطيط واجتماعات مع كبار قادة القوات المسلحة، وفي الاجازات القصيرة التي ينالها، يكون في غاية الشوق لحديقته المسماه شويكار، ينهل من رحيق ازهارها وينعم بأريج وردها وينعم بالنظر لجمال اغصانها.
ولان رامي باشا الكبير البندقداري كان حكمدار شرطة يحكم مديرية باكملها فلابد ان يكون رامي الثاني هو الاخر مدير أمن لمحافظة، وبناء عليه سيبدأ رامي الطريق من أوله، طالب في كلية شرطة وهذا أمر مضمون، فأبيه لواء قوات مسلحة والكل يشهد له بالشجاعة والنزاهة، ومعارف أمه واقاربها كفيلين بقبوله بالكلية وهو يضع ساق على ساق، ثم ضابط شرطة؛ الطريق العملي الحقيقي ليكون رامي بندقداري جديد، وبعد ست شهور بالتمام اضاف نجمة للنجمة الموجود بالفعل على كتفه لصبح ملازم أول (قد الدنيا)، أربع سنوات واضاف الثالثة وأصبح نقيب وتميز عن اقرانه بفوزه بجميع بطولات الداخلية في الفروسية، وفوزه ببطولة الجمهورية لأكثر من مرة، وحصوله على البطولة الأفريقية قبل استشهاده بعامين، والميدالية البرونزية في الأولمبياد في نفس العام الذي غدرت به يد الإرهاب الأثمة.
عاش بطل ومات بطل وترك لنبيل أرث من الحب لا يعرف أحد كيف يعطيه له، ادرك نبيل منذ البداية اختلافه عن رامي أخيه، وعرف وتأكد بما لا يسمح لوجود الشك أن طريقه الوحيد ليتمكن من التواجد في هذا البيت كعضو فعال هو أن يكون صورة من رامي، صحيح هو لا يشبهه جسديًا ولا في ملامح وتقاطيع الوجه، لكنه يمكنه وبسهولة أن يفعل ما يفعله، تدرب هو الاخر على الفروسية وركوب الخيل، اتقن هذه الرياضة وشعر فجأة أنه يحبها بعد ارتباطه بالخيل وحبه الجارف لها، اتقن العزف على الجيتار وهو شيء لم يكن رامي يفعله، لكن شويكار لم تهتم كثيرًا بهذا رغم أن عائلتها فنية، ربما لو كانت إلهام هانم عمتها موجودة إلى الآن لسعدت بنبيل وشجعته، ورغم كل هذا اشتهر نبيل بين اقرانه بأنه (دودة قرأة) محبًا لكن صنوف الثقافة، يقرأ في كل المجالات وإن كان أكثر ما يستهويه هو التاريخ والفلسفة، لم يتوقف نبيل عند هذا الحد، فأراد ان يكسب أرض جديدة لم تطأها قدم رامي أخيه فكتب أول رواياته وهو في الصف الثاني الثانوي، ونشرتها دار نشر صغيرة ولكنها –الرواية- لم تحقق نجاح كبير، لا أحد يعرف هلى هي سيئة لهذه الدرجة أم أن دار النشر لم تعطيها حقها في الدعاية وفي التوزيع، واستكمالًا لتحقيق الرضا من جهة أمه قرر دخول كلية الشرطة هو الآخر، فلربما يكون مدير أمن لمحافظة وهكذا يصبح ليها ما تفتخر به.
كل ما كان يريده نبيل هو أن يجد لنفسه مكان حتى ولو صغير في قلب أمه شويكار، هو حقًا لا يريد أن ينافس رامي في حبها له، ولا يسعى للانتصار عليه في أي مجال من المجالات، كل ما يتمناه أن تشعر بوجوده ويرى في عينيها ولو لمرة واحدة نظرة رضا عنه.
مات رامي وبقى نبيل، وفجأة ودون مقدمات أصبح عليه تلبية كل ما كانت تنتظره هي من رامي، عليه أن يتوقف عن القراءة والتركيز على الفروسية، حصل رامي على الميدالية البرونزية في الأولمبياد وكان يخطط للحصول على الذهبية الدورة القادمة، لم يمهله الحظ الوقت الكافي لذلك لكن على نبيل تحقيق هذا، كان من المفترض أن يتزوج رامي بعد شهور من فوزه بالميدالية الذهبية لكن القدر لم يمهله، وعلى نبيل أن يستكمل هذا الطريق أيضًا، بحثا له عن عروس مناسبة من وجهم نظريهما وبالأحرى من وجهة نظر امه شويكار.
كما عليه أن يتميز في عمله كضابط شرطة ليحصل على ترقية استثنائية تمكنه فيما بعد لتحقيق حلمها ويصبح مدير أمن لمحافظة ستسعى أن تختارها هي له.
تحولت حياة نبيل لجحيم حقيقي، فهو الآن مجرد ألة تنفذ رغباتها وطلباتها، كل شيء ستكلفه به سيكون عليه تلبيته وبسرعة وفي وقت قياسي ليعوض ما فقدوه من وقت وما نزفوه من مشاعر على موت رامي.
هو لن يمانع من تلبية طلباتهما في العمل، سيسعى ويسعى حتى يتميز بين اقرانه ويسبقهم في الترقيات والحصول على التقارير الممتازة التي تؤهله لتحقيق حلم أمه، كما انه لا يمانع من المنافسة على كل بطولات العالم في الفروسية فهو حقًا يحب الخيول ويعشق الحياة معهم، وإن كان لا يهتم كثيرًا بالبطولات، يكفيه أن يشعر بالود والحب المتبادل في عين فرسه وهي ترمي بعنقها الطويل على كتفه وتحتضنه في حنان حقيقي يعوضه عن ما فقده في حياته، لكن لا يهم فهو سينافس وسيحصل على كل الميداليات والكئوس والدروع في هذه الرياضة.
لكنه لا يستطيع مهما حدث ان يكون مجرد فحل يلقح امرأة من سلالة خاصة اختارتها شويكار هانم بعناية وبرعاية شوكت بك، فكل شيء فيه مباح لهما يفعلا به ما يشاءون، يصبح مدير أمن أو وزير داخلية، يصبح بطل أوليمبي أو عالمي، يتفرغ لعمله تمامًا او للرياضة، كل هذه أمور تبدو له مقبولة ومعقولة، لكن أن يكون مجرد ملقح لأنثى تختارها هي على مزاجها فهذا شيء لا يمكنه تقبله.
صحيح أنه كثيرًا ما يتحايل على طلباتها، طلبت منه التوقف عن القراءة والكتابة واوهمها بالموافقة والانصياع لهذا، لكنها لا تعلم باجتمعاته السرية مع ابنه خالته الصحفية نهى مرجان، ترشح له الكتب فينكب عليها يقرأها، ويسجل ملاحظاته ومراجعاته في دفتر خصصه لذلك، ثم يناقشها فيما قرأ، ومع كل نقاش تطلب منه أن يكتب مقال عن الكتاب يقيمه فيه أو مقال يفند الأفكار الموجودة في الكتاب سواء كان يتفق معها أو يختلف، لم يتوقف عن القراءة والكتابة ولن يتوقف ولا يعرف لماذا طلبت منه مثل هذا الطلب مادام لم يقصر فيما تتمناه في الفروسية والعمل.
لم يرد شوكت على سؤال زوجته، تنهد تهيدة حارة وهو يهوي بالجريدة أمام وجهه محركًا الهواء، اطفأت شويكار السيجارة واعادت عليه السؤال بصيغة أكثر وضوحًا ومباشرةً:
- عملت إيه في موضوع نبيل يا شوكت؟
لم يجد شوكت بد من إجابتها:
- هعمل إيه بس يا شوشو.. أنتِ مختارة ناس مش أي حد يناسبهم.
- ليه بقا إن شاء الله؟! هو احنا شوية واللا إيه.. أنا شويكار البندقداري بنت الحسب والنسب.. وجدي كان في يوم الصدر الاعظم للسلطنة العثمانية.. وباباياه كان...
قاطعها شوكت محاولا توضيح أنه يعرف تاريخ عائلتها الممتد من هضبة الاناضول مرورا بالهلال الخصيب وصولًا إلى وادي النيل، وربما لو درست عائلتها بعمق أكثر لعرفت أن جذورها وصلت للمغرب العربي، لكن ما لا تدركه شويكار أن الزمن قد تغير، وأن الحسب والنسب الآن لرصيدك في البنوك، ولمشاريعك وروؤس أموالك، وهم في هذه الحالة ليس ذو حيثية مطلقًا لمن وقع عليها اختيارها.
- يا حبيبتي بشويش شويه.. انا عارف قيمة عيلتك وماكانتهم في تاريخ المنطقة العربية كلها.. ماشي يا ستي؟
- ماشي.. ها وبعدين؟
- انت طالبة مني اجوز ابني لبنت رأفت الجميل...
قاطعته شويكار محتدة:
- ويطلع مين رأفت الجميل يعني؟! ويجي إيه رأفت الجميل في أقل واحد من عيلتي؟! ها.. فهمني.. ثم إن رأفت ده مش كان لواء زيك في الجيش وكان بيخدم معاك في نفس المنطقة؟
- اه كان لواء زيي وبيخدم معايا في نفس المنطقة.. بس هو فين دلوقتي وأنا فين!
- هو فين يعني اسم الله؟ عنده أسطول عربيات نقل؟ عادي.. طيارة خاصة؟ مش مهم.. مشارك على أكبر مصنع اسمنت في الشرق الأوسط؟ طز ولا حاجه برضو.. فيلل وقصور في أوروبا كلها.. طزين برضو.. هو عارف هيناسب مين؟
- مين؟
- شويكار البندقداري هانم.
كاد شوكت أن يقول لها طز بعد أن يخرج صوت عالي من انفه نتيجة لسحب مفاجئ للهواء، لكنه أثر السلامة، تحسب شويكار الحياة دائمًا بطريقتها وبما يروق لها، تضع ماضيها وتاريخ عائلتها في كفة معتقدة أنها الأرجح في كل الحالات، متناسة ومتجاهلة أن هذا التاريخ يعتبرها البعض وسمة عار، وأنهم ومن على شكالتهم مكروهين من فئات كثيرة في المجتمع يعتبرونهم لصوص ومتطفلين، لكن هناك شيء أخر لم يعمل له شوكت نفسه حساب، في الواقع هما شيئين؛ الأول هل سيوافق رأفت الجميل على هذه الزيجة أو بمعنى أدق هل ستوافق ابنته الوحيدة على هذه الزيجة؟ وهو من هو، فهو من أغنى عشر رجالات في مصر وربما كان أولهم وأكثرهم ثروة، علاقاته عنكوبتيه لا داخل القطر فقط لكن على المستوى العالم، تحوم حوله كثير من الاشاعات أنه كون هذه الثروة والامبراطورية الاقتصادية من تجارة السلاح، ومن العمولات التي كان ومن المحتمل مازال يحصلها من دول أفريقية ولاتينية كثيرة، نعم رأفت صديق قديم له، جمعهما الزي العسكري لسنين وسنين، وجمعتهما غرفة الصناعة لسنوات كثيرة لكن الفرق شاسع بينهما، كالفرق بين السماء والأرض، تشابها في أشياء كثيرة، فقد هو الاخر ابنه الوحيد لكن هذه المرة في جريمة قتل بعد اختلاف وخلاف بينه وبين منظمة البعض يصفها إنها إجرامية وأخرون يصفونها أنها إرهابية والضحية كانت فلذة كبده.
لم يتبقى له إلا ابنة وحيدة يسعى لتلبية كل طلباتها، لم تشتغل معه في تجاراته ولا في صناعاته وقررت بمحض ارادتها أن تخوض في طريق الفن، ارسلها بناء على طلبها للتعلم في أكبر الاكادميات في إيطاليا، تميزت هناك في الرسم الزيتي وابدعت فيه، عادت لمصر فأسس لها أكبر مرسم في منطقة الحسين، كلفه الملايين لكنه لا يعبء بهذا يكفيه أن يرى ابتسامتها وفرحتها عندما تنتهي من لوحة جديدة أو كلما افتتحت معرض جديد، وعندما تفوز لوحة من لوحاتها بجائزة سواء كانت محلية أو اقليمية أو دولية يقيم احتفالات تدوم لأيام ويدفع ملايين ليتم تغطية الخبر على مستوى الصحافة والإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي حتى صارت ياسمين ابنته نجمه من نجوم المجتمع تفوق شهرتها بعض نجوم التمثيل والغناء.
لكن هناك امر ثاني مهم يجب أن تهتمه به.