الفصل الثالث

والأمر الثاني الذي يؤرق شوكت هو هل سيوافق نبيل على هذه الزيجة؟ سؤال لم يهتم به كثيرا ولم يحمل له هم، فنبيل عليه أن يحقق ما يتمنيانه ويرجوانه، هو مجرد امتداد مشوه لرامي ويكفي أنهم تقبلا احتلاله لمكانه وإن كان لا بديل له.
زحام وضوضاء يعبئان المكان، الأضاة البيضاء تنيره رغم أن الوقت مازال نهارًا، تشعر ببرودة المكان حتى لو كت في شهر بؤنة، كل شيء هنا يتم بلا إحساس أو مشاعر، معظم المتواجدون هنا جناة ومجني عليهم، متهمون ومن وجهوا لهم التهمات، ومحامين ينتشرون في المكان، والقليل منالناس من حضر لهذا المكان لقضاء مصلحة لا يشتكي فيها احد، لكن الكل متجهم عابس.
***
في مكتبه جلس النقيب نبيل يراجع بعض الأوراق، يفرزها ويضعها في كومتين، الاولى مكتملة والأخرى للإستيفاء، وضع سماعات هاتفه المحمول في أذنه مستمعًا لموسيقى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، ذوقه العام مختلف تمام الاختلاف ولا يتناسب مطلقًا مع وجوده في مركز شرطة في إحدى مراكز محافظة الجيزة، فكل العاملين في المركز من ضباط وأمناء شرطة وعساكر مع اختلاف رتبهم لن يستمعوا لمثل هذه الموسيقى، الوحيد الذي كان يشاركه هذا الذوق الفني كان ضابط عمل معه في يوم من الأيام عندما التحق للعمل بمصلحة الجوازات في بدايات حياته العملية.
انتهى من كومة الأوراق بعد تصنيفها، فتح درج مكتبه وأخرج رواية (الجاشنكير) رشحتها له نهى بنت خالته، تعلم حبه للتاريخ وخصوصًا للأسرة العلوية وما مرت من أحداث في هذه الفترة، وهذه الرواية تناقش بدايات هذه الأسرة وصراع مؤسسها ليكون دولته الجديدة ليحول أمة كاملة لعاملين تحت يده.
ورغم أن نهى تشبه والدته في الملامح كثيرًا، العيون الخضراء التي يشع منها الجمال، البشرة البيضاء المشرئبة بالحمرة وكأنها دم في طبق من القشطة، الشعر الأشقر الناعم الطويل، إلا إنها تختف تمام الاختلاف عن خالتها في الشخصية، فهي لا تذكر ولا تتفاخر مطلقًا أصولها التركية، على الرغم من أن القصر الذي تعيش فيه كل شيء يدل على هذه الأصول، ورثته أمه بعد أن سددت نصيب أخواتها فيه، حافظت على كل شبر وكل قطعة أثرية فيه.
إذا ما خطت قدماك القصر سيعود بك الزمان وبسرعة غريبة إلى القرن التاسع عشر، حينما كانت عائلتها تعتبر زبدة المجتمع الراقي، لوحات أصلية معلقة على الحوائط، قطع مختلفة من الأسلحة –سيوف وبنادق ومسدسات وطبنجات- كلها أصلية بعضها يعود للقرن الثامن عشر وربما للسابع عشر أيضًا، ثروة حقيقية تقدر بالملايين معلقة تزين جدران القصر، عدد كبير من الأبجورات كلها صنعت في إيطاليا على يد فنانين عظام، كل المرايا المعلقة في إنحاء المكان من بلجيكا، تنظر فيها فترى كل شيء صاف وكأنها جزء من الحقيقة لا انعكاس لها، الستائر من فرنسا، السجاد من إيران، الثريات من أشهر مصانع الكريستال في أوروبا، كل شيء هنا يشي بالفخامة والعراقة ومع ذلك تشعر بأن كل الموجودين هنا ينتمون لتراب هذه البلد وليس دخلاء عليها.
دفعت خالته شمس الكثير والكثير حتى يبقى هذا الكنز في حوزتها، لم تفعل هذا لتتفاخر به، على العكس كل ما كان يهمها أن تحافظ على هذا التاريخ وتأصله حتى يبقى للأجيال القادمة شاهد على عصر وفترة تاريخية مهمة في تاريخ هذا البلد العظيم الممتد.
كثيرًا ما عرض عليها مبالغ خيالية لشراء قطعة من هذه القطع الفنية، ترفض بشدة معتذرة بكل أدب، متعللة بأنها لا تملك حق التصرف في هذه الأشياء فهي ملك للشعب المصري كله وهي مجرد حارسة ومؤتمنة عليها، ومع ذلك لا تعترض شمس مطلقًا على أن يأتي لزيارة القصر ومشاهدة ما فيه من تحف طلاب التاريخ أو طلاب الفنون الجميلة، يتعاملون مع القصر وكأنه متحف مهيب، وهي لا تتوقف عن شرح كل شيء سواء تاريخ القطعة الفنية
أو تاريخ الفترة التي صُنعت فيه القطعة.
تأثرت نهى بهذه الاجواء، فنشأت على أنها مصرية خالصة وإن اختلفت ملامحها ولون بشرتها عن اللون المعتاد والملامح المشتركة غالبًا في الشعب المصري، لكن روحها مصرية خالصة، معتزة بمصريتها ولا ينازع فخر مصريتها إلا فخر انتمائها إلى أمة أكبر هم العرب والأمة الاكبر هو المجتمع الإسلامي ككل والذي بدوره جعلها تشعر بأنها جزء لا يتجزأ من الإنسانية كلها، تفوقت في دراستها وحصلت على مجموع كبير يؤهلها لدخول كلية من كليات القمة كما يطلقون عليها، رفضت كلية الطب كما رفض نبيل في نفس العام الالتحاق بكلية الصيدلة، وصممت وبكل حب ورغبة على الالتحاق بكلية الإعلام كما صمم هو على الالتحاق بكلية الشرطة عله يجد لنفسه مكان تحت شمس شويكار هانم.
نجحت نهى وتفوقت ليس في دراستها فقط لكنها ضمنت لها مكان في مجلة أخر خبر وهي مازالت طالبة في الجامعة، شجعتها شمس أمها على خوض التجربة تلو الأخرى حتى صار يشار لها بالبنان في عالم الصحافة، تتدارس مع أمها كل شيء يخصها أو يخص عملها، وكثيرًا ما حذرتها أمها من التعاون مع نبيل في الأشياء التي ترفضها شويكار كالقراءة والكتابة، لكنها طمئنت نفسها وطمئنت شمس أمها بأنها حذرة في هذا الأمر وتراهن على ذكاء نبيل ألا ينكشف أمره، ولهذا السبب وببساطة يمارس نبيل هواياته المحببة له بعيدًا عن أعين أمه، يستمع إلى الموسيقى التي يحبها من خلال سماعات الموبايل فيسمعها وحده فقط، عادة تأصلت داخله واصبحت تلازمه، وربما ما شجعه عليها هو أن لا مجال عمله ومكانه مناسب لسماع الموسيقى من اساسه أيًا كان نوعها، كما أنه لا يقرأ في البيت مطلقًا، يمارس هوايته تلك في مكتبه في العمل أو في الاستراحة الخاصة بضباط الشرطة التي يأوي إليها مرتين أو ثلاث على الأقل أسبوعيًا.
ترشح له نهى رواية أو كتاب، وتعطيه خريطة توزيع هذا الكتاب في المكتبات، وفي أقرب فرصة يشتريه ويشرع في قرأته، يدون ملاحظاته في دفتر بالقرب منه، وبعد أن ينتهي منه يناقش نهى فيه، يوضح لها بعض النقاط الغامضة عنها أو تنير له هي الطريق في أماكن بدت غير مفهومة بالنسبة له، وبعد انتهاء المناقشة تطلب منه كتابة مقال يخص هذا الكتاب ويعرضه عليها، وفي هدوء الليل سواء كان في نبوتجية أو في الاستراحة يمسك قلمه ويبدأ في تدوين مقاله، وما أن ينتهي من كتاباته يبدأ في مراجعته لأكثر من مرة وعلى فترات متباعدة، وعندما ينتهي من ذلك ويتأكد مما كتبه ويشعر بالراحة لما خطه قلمه يعطيه لنهى ليعاودا النقاش حول مقاله واسلوبه، تعطيه ملاحظتها ويناقشها هو مبررًا ما كتبه، وفي النهاية يتفقا على نقاط محددة معينة لابد من تعديلها في مقاله، وما أن ينجزها يعيد عرض المقال عليها، غالبًا ما تبدِ إعجابها بما كتبه، تطلب منه الاحتفاظ بمقالته، يوافق دون تردد، تضم مقاله الاخير لملف كبير تحتفظ بيه في مكتبها في مكتبة القصر يضم كل مقالاته.
وهاهو يقرأ رواية (الجاشنكير) التي تسرد أول سنتين من عصر محمد علي، وصراعه مع محمد بك الألفي وكيف انتصر الموت لمحمد علي المحظوظ، سحبته أحداث الرواية وأسلوبها السلس حتى قارب على أن ينهي نصفها تقريبًا عندما رن جرس تليفون مكتبه، اغلق الرواية بعد أن وضع ورقة كرتونية صغير كعلامة للصفحة التي توقف عندها، رفع سمع الهاتف، تلقى المكالمة ودون التعليمات في ورقة صغيرة، مسابقة جديدة لاختيار الخفراء الجدد تم الإعلان في الجرائد الرسمية وفي مجلة أخر خبر، كراسات التقديم ستكون في عهدة نبيل في الغد، وسيتولى تسليمها للراغبين في الالتحاق في هذه الوظيفة بنفسه ويساعده في العمل الأمين رجائي، عمل لم يقم منه قبل لكنه يبدو بسيط وسهل، سحب كراسات التقديم سيكون بعد الغد وما أن ينتهي منه سيحصل على راحة لمدة أربعة وعشرين ساعة وتسلم الكراسات سيكون بعد أسبوع من التقديم وسيتولى هو والأمين رجائي أيضًا استلامها وسينالا راحة استثنائية لمدة أربعة وعشرين ساعة أخرى بعد استلام الكراسات وتسليمها في مديرية الامن.
لا يحب نبيل الراحات كثيرًا تجعله في مواجهات خاسرة دائمًا مع أمه شويكار، ودائمًا ما يجد ظل رامي ملقى على وجهه في هذه المواجهات، هو لا يكره رامي ولا ينفر منه، على العكس يرأه بطل حقيقي، عاش بطل في الفروسية ومات كفارس نبيل فداء لوطنه، عاش كريمًا ومات شهيدًا، لكنه لا يستطيع أن يكون صورة طبق الأصل منه، حاول جاهدًا أن يفعل هذا ليرضي أمه لكنه لم يستطع ولن يستطيع مهما حاول، لكن ما باليد حيلة كما يقولون، عليه مواجهة قدره بكل شجاعة وحزم على أن يحاول أن يكسب ود وثقة أمه دون أن يخسر نفسه.
أوقف موسيقى بيتهوفن التي تصدح من هاتفه، اتصل على رجائي، يعلم أنه في المركز هو الآخر في الخدمة لمدة أربعة وعشرين ساعة، بدأت خدمتهما الأمس في تمام الساعة الثامنة مساءً وستنتهي في نفس الوقت اليوم، جاءه الرد سريعًا من رجائي، طلب منه أن يأتيه لمكتبه في الحال، ما أن أنتهت المكالمة حتى سمع بعد ثوان قليلة طرقات خفيفة على باب مكتبه، عرف بحدسه أنه الأمين رجائي، طلب منه أن يدخل.
دخل رجائي وقف أمام المكتب بقامته الطويلة وعضلاته المفتولة، دب بقدمه اليسرى أرضية غرفة المكتب ورفع يده لتحازي جبهته معطيًا النقيب نبيل التحية العسكرية، ابتسم له نبيل وطلب منه الجلوس، جلس رجائي على طرف الكرسي منتظرًا الأوامر من سيادة النقيب، قال نبيل بصوت هادئ:
-  سيادة المأمور أتصل بيا دلوقتي بلغني إن في تقديم جديد للغفرأ، وإنهم هيجوا يقدموا بعد بكرا، أنا وأنت هنسلمهم الكراريس ونستلمهم منهم بعد أسبوع.
-  تمام سيادتك يا أفندم.
قالها رجائي وابتسم ابتسامة خفيفة حاول جاهدًا اخفائها لكنه فشل، تعجب النقيب نبيل من هذه الابتسامة، سأل عن سببها، تردد رجائي قبل أن يتكلم حاول تخير كلماته وقال:
-  متيألي سيادتك أول مرة تعمل الشغلانة دي.
-  أه أول مرة..بس هي صعبة يعني علشان تبتسم كده؟!
-  العفو سيادتك.. ولو حتى صعبة مفيش شيء يصعب على معاليك.. الموضوع كله إن سيادتك هتقابل بشرية من نوع مختلف يمكن عمرك ما فكرت أو اعتقدت إنهم موجودين.
-  إزاي يعني؟
-  هتشوف بنفسك حضرتك.. كلها كام ساعة يعني والصورة تبقا واضحة قدام معاليك..
قطع صوت رنين هاتف نبيل كلام رجائي، اشار له نبيل أن ينتظره حتى ينهي مكالمته، علم من شاشة الهاتف أن المتصل أمه شويكار هانم، لابد أنها تريده في شيء هام لا يقبل التأجيل وعليه الرد في الحال وإلا ستغضب ويناله ما لا يحمد عقباه، ضغط على الشاشة وهو ينظر لها متخوفًا:
-  ألو.. مساء الخير يا مامي..
نجح رجائي هذه المرة في اخفاء ابتسامته واستطاع السيطرة على ضحكة كانت يمكن أن تنهتي بمشكلة وربما بتطبيق جزاء رادع عليه، ضابط برتبة نقيب يقول مامي؟! لقد لمت الشغلانة حقًا.
-  لا يا حبيبتي انا هخلص على الساعة تمانية بالليل.. حاضر هرجع على البيت على طول.. موضوع إيه اللي عاوزني فيه؟ طيب خلاص لما أرجع نتكلم ماشي.. باي يا قلبي.
انهى نبيل المكالمة ونظر لرجائي وسأله بتلقائية:
-  شايفك مستغرب لما قولت مامي.
حاول رجائي اخفاء سخريته وقال:
-  لا يا أفندم مش مستغرب بس الكلمة غريبة على وداني بس.. حضرتك عارف إني من عزبة قريبة من هنا.. ومحدش حدانا بيقول بابي ومامي.. إحنا بنقول أبه وأمه.. والمتمدنين يعني بيقولوا بابا وماما.. حتى دول بنقول عليهم ناس فينو يعني.
-  عادي يا رجائي.. بابي هي هي أبه هي هي بابا.. ومامي هي هي ماما هي هي أمه.. كله معنى واحد.. الاختلاف الحقيقي في الاحساس.. يعني يمكن اللي بيقول أمه وأبه حاسس بمعناهم أكتر من اللي بيقول مامي وبابي.. بس الحقيقة كمان أن لو قولت ماما دي يمكن تطردني من البيت..
انهى نبيل كلامه وضحك ضحكة عالية مقهقهًا، شاركه رجائي فيها، اشار نبيل لرجائي أن يستريح في جلسته أكثر، سأله بود:
-  الوالد والوالدة عايشين يا رجائي؟
-  أه يا باشا طيبين الحمد لله.
-  انا بسألك عايشين واللا لأ.. مش طيبين واللا لأ!
ضحك رجائي ضحكة مقتضبة هذه المرة ولم يشاركه فيها نبيل، قال موضحًا:
-  طيبين يا باشا بلغتنا يعني عايشين أه.. الحمد لله عايشين.
-  الحمد لله.. وانت بعد ما اتجوزت بتروح لهم وتزورهم.. مش كده؟
-  الحقيقة لأ يا باشا مش بزورهم خالص.
-  ليه يا ابني كده.. ده حتى حرام.. بر الوالدين مطلوب وكمان صلة الأرحام.
ابتسم رجائي وهو يرد على النقيب نبيل:
-  يا باشا هزورهم ليه وانا اصلا عايش معاهم؟!
-  عايش معاهم! حتى بعد جوازك عايش معاهم! طب ليه؟
اسند رجائي ظهره وقال:
-  دي حكاية طويلة معاليك.. إن شاء الله أحكيها لسيادتك واحنا بنسلم كراريس الغفرا بعد بكرا.. قصة جميلة هتعجب حضرتك.. سيادتك بتكتب مش كده؟
ارتبك نبيل من سؤال الأمين رجائي، سأله مستفهمًا عن قصده بسؤاله:
-  بكتب إيه مش فاهم؟
-  قصص يعني أو حكاوي وكده.. اصل الغفير اللي في الاستراحة حكالي أكتر من مرة إنه شاف سيادتك بتكتب.. هو كان متهيأله إن سيادتك بتذاكر.. في الأول أنا كمان كنت فاكر كده.. قولت يمكن الباشا بيحضر ماجستير والا حاجه زي كده.. بس عرفت إن سيادتك مش مقدم في أي كلية يعني علشان تاخد الماجستير.. فقولت في بالي يبقا الباشا بيألف قصص.. مش سيادتك بتألف قصص برضو؟
-  مش بالظبط يا رجائي.. بس بتسأل السؤال ده ليه؟
-  لإنِ لما هاحكي لسياداتك قصتي هتلاقيها تنفع تتكتب.. أه والله زي ما بقولك كده.
شرد ذهن نبيل بعيدًا، هل يمكن أن يكتب رواية في يوم ما؟ حاول وهو صغير ومر بالتجربة ومازالت نهى تحفتظ بنسخة من روايته في مكتبة القصر، ودائمًا ما تؤكد له أنه كاتب موهوب كل ما ينقصه هو صقل موهبته بقليل من الدراسة، كما إن قرأته ستفيده كثيرًا فهو يملك ناصية اللغة، خياله جامح يمكنه خوض تجارب أدبية لم يخوضها أحد من قبله، لكن الكتابة لم تعد حلم من أحلامه الآن، كل ما يريده هو ارضاء شويكار هانم والحصول على ميدالية في الأولمبياد رغم أن هذا أمر لا يهمه ولا يهتم به مطلقًا، لكن رغبة الهانم أوامر واجبة النفاذ.
عاود النظر لنبيل الصامت وسأله:
-  قولي يا رجائي بشرية إيه اللي هاقابلها يوم التقديم؟
تنحنح رجائي قبل أن يجيبه:
-  انواع واصناف واشكال مختلفة من البشر يا باشا.. واضح إن بعد بكرا يوم التقديم ده هيبقا يوم دولي لسيادتك.. هتقابل ناس عمرك ما فكرت إنك هتقابلهم في حياتك يا أفندم.. ويمكن نلاقي وقت احكي لحضرتك حكايتي وبرضو متهيألي حكايتي سيادتك هتلاقيها غريبة شويتين.. مش علشان حصلت وبتحصل في الأرياف يعني تبقى غريبة لكن لإنها فعلا غريبة وعجيبة شويه رغم إنها ممكن تكون بتحصل في القاهرة يعني عادي..
اؤمى نبيل برأسه موافقًا ومشجعًا لرجائي، لكن رجائي كان قد أنهى حديثه، فهز رأسه متأدبًا واستأذن للانصراف، اشار له نبيل بالموافقة على طلبه، وقف رجائي أمام مكتب نبيل ودب أرضية الغرفة مرة أخرى بقدمه اليسرى ورفع يده في محاذاة جبهته معطيًا التحية العسكرية للنقيب نبيل، توجه نحو الباب وانصرف.
وضع نبيل سماعات هاتفه المحمول في أذنه وأخرج رواية (الجاشنكير) من درج مكتبه وقرر العودة لممارسة ما يحب، القراءة وسماع الموسيقى، ولكن وقبل أن يبدء رن هاتفه المحمول، طالع الاسم على الشاشة، كانت نهى بنت خالته، ابتسم مبتهجًا، يسعد كثيرًا عندما يتحدث معها، هي ليست بنت خالة، هي أكثر من ذلك بكثير، هي أخته في الرضاعة، فبعد أن رفض ثدي شويكار أن يبل ريق صغيرها، حنت شمس أخت شويكار على وليد أختها واحتضنته وارضعته من لبنها، شارك نهى ابنتها في طعامها، ونشئت بينهما حياة جديدة، اصبحا كروح واحدة في جسدين، يستشعر عن بعد ما تمر به وما يخالجها من احاسيس وهي تبادله نفس الشعور.
دارت بينهما محادثة طويلة ناقشها فيما قرأه من رواية (الجاشنكير) واقترحت عليه أن يقرأ عدد المجلة الأخيرة فهي كتبت موضوع هام في بابها المكلفة به، سألها عن فحوى الموضوع الذي كتبته، ضحكت ضحكة قصيرة وأخبرته أن خالته شمس اكتشفت ساعة قديمة في قبو القصر، وبعد دراسة وابحاث عنها أغلب الظن أنها كانت لإحدى ملكات فرنسا واهدتها الملكة للخديوي إسماعيل، ومن ثم وهبها الخديوي إسماعيل أو ربما توفيق لجدنا الأكبر، ولسبب أو لأخر تم وضعها في قبو القصر، وهاهي خالته تكتشفها وتعيدها للحياة من جديد، كعادتها تمنح كل ما حولها من روحها وتهبهم معاني جديدة للحياة، وهذه الساعة ليست إلا مثال على ذلك، كتبت عنها نهى مقالة مطولة وما توصلت إليها دراستها هي و أمها عن هذه الساعة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي