31
وجب أن تتم الأمور بأقصى سرعة، لذا بعد تنفيذه للاغتيال، توجه الزبير مباشرة إلى مقر قائد الحرس عاصم في طرف القصر.
دخل على غرفة عاصم، وابتسم ابتسامة بريئة، وسأل: كيف حالك، أيها القائد العظيم؟
جلس عاصم خلف مكتبه، وحالما رأى الزبير نهض وتوجه إليه، وبادله الابتسام، وقال: أنا بخير، كيف أمور الزبير؟
ثم مد يده فصافحه الزبير، وهو يقول: أنا بخير، يا عاصم.
بعدها دعا عاصم الزبير للجلوس، فجلس أمام المكتب، بينما جلس عاصم خلف مكتبه.
"كيف حال أهلك؟" سأل الزبير ببرود وهدوء.
فرد عاصم: بأتم حال.
فقال الزبير بالبرود ذاته: الطقس اليوم جميل جدا، لكأنه يتحضر للتكريم العظيم.
ابتسم الزبير بينما ضحك عاصم.
لقد كان الزبير يتصرف كما لو أنه لتوه فقط ذبح حَمَلا صغيرا، أو حتى ذبابة حقيرة، وليس كما لو أنه قتل ملكا أسطوريا يحكم مملكة شاسعة! فهذا ما ميز الزبير، الثقة المطلقة بالنفس،
وقوة الأعصاب وهدوء القلب.
"ولكن للأسف، هنالك ما سينغص حفل التكريم" قال الزبير.
"ما هو؟" سأل عاصم بفضول وبسرعة.
فأجاب الزبير: للأسف الملك اعتذر عن حضور الحفل... لقد ذهبت إليه قبل قليل، فأخبرني أنه يعاني من وعكة صحية، وأنه لن يحضر التكريم،
وطلب مني أن أنوب عنه في التكريم ومنح المكرمين ما اتُّفِقَ عليه.
نهض عاصم فجأة، وقال خائفا على الملك: هل أصاب الملك مكروه؟! يجب أن أذهب فورا إليه.
فقال الزبير بهدوء قاتل هو يشير بيده لعاصم بأن يجلس: لا... لا... لا تخف، يا عاصم. الوعكة ليست بشديدة، لكن كما تعلم الملك مسن، ومثل هذه الوعكات التي قد يحتملها الشباب،
لا يمكن لرجل مسن أن يحتملها. وقد أرسلت حالما خرجت من عنده إلى أطبائه الخاصين ولا بد وأنهم الآن عنده.
فقال عاصم فورا: يجب أن أذهب إليه فورا.
"لا" قال الزبير، وأضاف بالهدوء ذاته: الملك أخبرني أنه لا يريد أن يزعجه أحد في غرفته؛ لأنه يريد أن يرتاح. وطلب مني ألا يدخل عليه أحد، بمن في ذلك جلالة الملكة وسمو الأميرة،
وأي أحد حتى أنا.
ثم أضاف بخبث: لقد أصررت على البقاء بجواره، وليذهب الحفل إلى الجحيم، لكنه رفض ذلك كليا وأخبرني أن الحفل يجب أن يتم!
هدأ عاصم قليلا بعد كلام الزبير، وصدقه في كل كلمة قالها؛ فالزبير بات منذ زمن بعيدا قريبا جدا من الملك كابنه الأمير تماما، وربما أكثر!
جلس عاصم، وبعدها قال الزبير بخبث أكبر: مهما بلغت حلاوة الحياة، لا بد وأن ينغصها شيء ما! نحن نعد لهذا الحفل منذ زمن، وأردناه أن يكون كاملا، والآن لن يحضره أهم شخص في المملكة،
وفي قلوبنا جميعا! أخاف أن يظن من سنكرمهم وبالأخص الأقوياء الثلاثة والقائد جاسما أن الملك – لسبب ما – تعمد عدم المجيء.
فقال عاصم ببراءة قد تصل حد السذاجة مطمئنا جليسه: لا... لا... لا أظن ذلك. فالكل يعرف أن جلالة الملك لا يفعل مثل هذه التصرفات، وحتى لو غضب أو استاء من أحدهم، فإنه يواجهه مباشرة،
ولا يلجأ لمثل هذه الأساليب الملتوية. كما أنه لم يحدث شيء بين والدي أو الأقوياء الثلاثة من جهة وجلالته من جهة، حتى يظن أحدهم أن الملك تعمد التغيب عن الحفل.
تنهد عاصم، ثم قال: وبإمكانك بعد الحفل، أن تقترح على جلالة الملك، أن يرسل رسالة لكل واحد منهم، يعلمهم فيها أسفه على عدم الحضور، ويبين فيها سبب ذلك.
فقال الزبير بقمة الخبث: ما أعظم فكرتك! كيف لم تخطر على بالي؟!
ثم أضاف: علي أن أذهب الآن للاستعداد للحفل... أراك قريبا.
تبادل الرجلان عبارات السلام، وغادر الزبير المكان. وامتنع عاصم عن الذهاب لحفل التكريم؛ لأن الملك سيظل بالقصر، وعاصم منوط به حماية الملك.
***
كان يوما صيفيا يمتاز بطقس معتدل رائع كأغلب أيام صيف المعتزة، إذ أشرقت الشمس في كبد السماء، لكنها لم تكن حارقة بأشعتها وإنما أضفت جوا جميلا مناسبا لأي احتفال. بدأ الحضور بالتوافد
على الساحة جنوبي قصر الضيغم لحضور حفل التكريم. وقد أسند الزبير مهمة تنظيم الحفل لداهية الكثبة. وكلما حضر أحد من الحضور، أرشده الداهية إلى مكان جلوسه المختار بعناية من قبل أن يبدأ
الحفل.
تكونت الساحة من مدرج مبني من حجارة بيضاء نقية ثمينة تسر الناظرين، بحيث يرتفع كل صف من صفوف المدرج عن الصف الذي أمامه، وقد امتاز المدرج بالضخامة وأنه يسع عددا هائلا من
الحضور. وأمامه وجدت منصة مرتفعة عن سطح الأرض مصنوعة هي الأخرى من الحجارة البيضاء ذاتها، وتطل على المدرج، ولكنها لم ترتفع كثيرا عن سطح الأرض وإنما بعلو معقول،
وقد فصل بينها وبين المدرج مسافة ليست بالقليلة ولا بالكبيرة. واحتوت المنصة كراسي حمراء كبيرة مصنوعة من القماش الفاخر، وعلا المنصة قوسان مطليان بالذهب الخالص.
وبعد أن وزع داهية الكثبة الحضور، جلس الأقوياء الثلاثة متجاورين وجلس على يمينهم مباشرة قيس وعلى يسارهم مباشرة سهيل، وخلفهم مباشرة جلس داهية الكثبة وعدد من شيوخ قبائل الكثبة.
وكانت الغالبية العظمى من الحضور في المدرج من كبار قادة الكثبة وأقوى فرسانها، إضافة لعدد من وجهاء الجيش والدولة.
أما المنصة فجلس على الكرسي الرئيس فيها الزبير، وعلى يمينه مباشرة جلس قائد الجيش جاسم، وخلف الزبير على يمينه ويساره وقف هلال والأقرط – على الترتيب-، وعلى مسافة قريبة على
يمينهما وقف بيدق، فهؤلاء ظِلُّ الزبير الذي لا يفارقه. وفي المنصة كذلك جلس كبار قادة الجيش إضافة لوزراء الدولة.
سأل جاسم الزبير متعجبا عن سبب غياب الملك، فكذب الزبير قائلا إن الملك يعاني من وعكة طفيفة، وانطلت الخدعة على جاسم.
وهكذا اكتمل الحضور، وزينوا المنصة والمدرج، حيث اتسم مشهدهما بالجمال والروعة والألق. وابتهج جميع الحضور بهذا الحفل الطيب.
تقدم أحد موظفي الدولة على المنصة، وقال بصوت عال في الحضور: والآن يلقي خطاب التكريم، الوزير الأول، فخامة الوزير الزبير.
عندها وقف الزبير من مقعده وتقدم إلى الأمام على المنصة. اتسم المشهد أمامه بالهيبة، وحتى خلفه كانت الهيبة أكبر بوجود قائد الجيش وكل هؤلاء الرجال من قادة الجيش والوزراء، لكن ذلك أبدا لم يؤثر في الزبير قيد أنملة.
وبدأ الزبير خطاب التكريم، إذ قال بصوت جهوري واثق قوي، بصوت عال صدح في كل أنحاء الساحة، وسمعه كل من في المدرج، بل وعدد ممن كانوا في أنحاء القصر القريبة: يا قوم، السلام عليكم.
فبدأ الحضور من خلف ومن أمامه يردون التحية عليه، فلما هدؤوا أكمل الزبير: حللتم أهلا، ووطئتم سهلا. أنتم اليوم ضيوف الملك قصي الذي يرحب بكم في بيته الذي هو بيتكم. أهلا بكم في هذه الجَمْعَةِ
المباركة، وهذا اليوم المبارك. وللأسف، كما عودتنا الحياة، كل شيء جميل لا بد وأن ينغصه ولو خدشا صغيرا. وللأسف، أصيب اليوم جلالة الملك بوعكة صحية بسيطة جدا، منعته من القدوم إلى الحفل، رغم توقه الشديد للقاء بأحبابه وأبنائه وإخوته، ورغم أنه يشعر بشرف عظيم، لأنه اليوم كان من المفترض أن يكرم بنفسه رجالا يتشرف أنهم جزء لا يتجزأ من مملكته. ولهذا، فإن الملك أرسل معي أشد
الاعتذار منكم جميعا لا سيما ممن سيكرمون اليوم. وإن الملك ليناشدكم أن تعذروه، وأن تتفهموا أن غيابه ليس بمقصود، وإنما هو اضطراري، وأنه سيعوضكم عن هذا الغياب بأمور لهي خير لكم فيما
بعد. وقد وكلني جلالة الملك أن أتكفل بمهمة التكريم نيابة عنه في هذا اليوم الجليل.
حزن جاسم والأقوياء الثلاثة وكثير من الحاضرين لغياب الملك؛ فوجوده - بحد ذاته – أهم من التكريم نفسه.
وفي أثناء كل هذا الخطاب حرك الزبير يديه بثقة بالغة، وبثقة بالغة قلب ناظريه بين الحضور.
سكت الزبير لمدة ثم أكمل: كما تعلمون فإن مملكتنا مباركة، وأجمل ممالك هذه البسيطة، وجزء من جنة الله على هذه الأرض. وقبل الحرب المقيتة، لطالما شهدت مملكتنا الرخاء والعدل والثراء، والأهم
المحبة بين أهلها بعضهم لبعض، وبين ملوكها وأهلها. ومن عادات البشر، أن أي شيء جميل وفريد ومميز، لا بد وأن يحسدوه، ولا بد وأن يسعوا لتدميره. وهذا ما دفع أعداءنا الضباع من المملكتين
المجاورتين إلى الغدر بمملكتنا واحتلالها. لقد عشنا أياما سوداء قاتمة بعد الحرب المقيتة، من ملكنا المعظم إلى أقل واحد فينا. كلنا عانينا وكلنا ذقنا الأمرين، واستمر الأمر سنين كثيرة جدا، وأعداؤنا
فرحون منتصرون ونحن حزينون مهزومون. ثم أتى يوم جميل بدأته أنا، ولا أزكي نفسي. ولم أكن وحدي، فلم أكن إلا حجر الأساس في ثورتنا المجيدة، التي أحاط بها وعلاها رجال عظماء أهمهم
جلالة الملك وابنه سمو الأمير، ورجال أشداء هم أنتم، يا من تشرفوننا اليوم بحضوركم الكريم.
عندها بدأ الجميع بالتصفيق الحار لكلام الزبير، والحماسة تتدفق في عروقهم التي امتلأت بالدماء لشدة قوة كلام الزبير وروعته، حتى إن كثيرا من الحضور في المدرج وقفوا وهم يصفقون له.
ثم أكمل الزبير: وأتت الثورة، وكانت شمسا ساطعة جميلة – كشمس يومنا المبارك هذا – وبددت ظلمة الليالي التي أسكننا فيها أعداؤنا. فانقلبت الأمور، وانقلب السحر على الساحر، وملأت حياتنا
سعادة ونصرا وعزة، وملأت حياة أعدائنا في مملكتي الغدر المجاورتين ذلا وهزيمة وعارا، ملأتها نكدا وسوادا لن يزولوا أبد الدهر. فقد عبثوا مع المملكة الخطأ، وعبثوا مع الرجال الخطأ...
وظل جاسم يومئ برأسه موافقا كلام الزبير.
ثم علّى الزبير نبرة صوته، وهو يقول: ولم يعرفوا أنه حتى الجن إذا عبثت مع رجال البقاء، فإنها ستدفع الثمن غاليا ولن يهدأ لها بال.
عندها جن جنون الحضور، ووقفوا جميعا بلا استثناء، حتى الأقوياء الثلاثة، والقائد جاسم، وجعل الجميع يصفقون بحرارة حتى كادت أيديهم تسيل منها الدماء، بل إن بعض الحضور بدأ بالتصفير،
فالحماسة والروعة والبلاغة في كلام الزبير، الخطيب الواثق المفوه لا مثيل لها.
وبعد مدة ليست بالقصيرة، هدأ القوم، وطفقوا يجلسون، فلما جلسوا وهدؤوا جميعا، أكمل الزبير: وقد ساهم بدور بارز - لولاه لما نجحت الثورة على الإطلاق – رجال عظماء. وربما انشغلنا قليلا
بعد تحرير البقاء وإعلان المملكة بأمور تنظيمية، أجلت تكريما يعد شيئا بسيطا جدا مقابل الجهود الجبارة التي أدوها إبان الثورة وقبلها وبعدها. اليوم نتشرف بحضور قائد الجيش والأقوياء الثلاثة بيننا.
هؤلاء الرجال العظام الذين لم تشهد البشرية مثيلا لقوتهم العظيمة في القتال وشدة بأسهم، ولا لوفائهم وصدقهم، ولا لعملهم وإخلاصهم. هؤلاء الذين لولاهم لماتت الثورة في رحم مخيلة من فكر بها
وخطط لها، لكن وجودهم بيننا هو من جعلها تبصر الحياة.
وأضاف الزبير وهو يشير بيده اليمنى بقوة، بصوت بطيء عال جدا واثق جدا لا تردد فيه: ولهذا كله، لا بد من تكريمهم.
وعندها زاد جاسم في تحريك رأسه تأييدا لكلام الزبير.
وأكمل الزبير وهو يشير بيده اليمنى بقوة أكبر، وبصوت أعلى وأكثر ثقة: واليوم سيلقون التكريم الذي يستحقونه.
وفجأة والزبير لم يكد ينطق الحرف الأخير، التف واستل خنجره الذهبي، وهجم بسرعة هائلة جنونية على القائد جاسم، وطعنه بخنجره في عنقه في الشريان السباتي، فبدأ الدم يفور غزيرا في كل مكان،
كأنه عين تنبجس من باطن الأرض وتفور نحو السماء لتملأ كل ما يحيط بها، حتى ملأ الدم الأحمر القاتم ذراعي الزبير ولباسه، وعنق جاسم ولباسه وما أحاط به من كراسي وطاولات. لكن الزبير
لم يتوقف وعاد وطعن جاسما في المكان ذاته ثلاث مرات. كانت سرعة الزبير في هذا كله جنونية جدا! أما جاسم فتعابير وجهه فتكاد لا يمكن وصفها، اتسعت عيناه أقصى اتساع، ولم يستطع في
هذه الفترة القصيرة استيعاب ما حدث، وأنه يتعرض لخيانة من أكبر الخيانات في التاريخ.
وفي هذه الأثناء، لم يكن الزبير اللاعب الوحيد الذي يتحرك في اللعبة. لقد شكلت العبارة الأخيرة التي قالها في الخطاب الإشارة المتفق عليها بينه وبين أعوانه للبدء بتنفيذ مخططهم. وحالما انتهى من قولها وبدئه بعملية قتل جاسم، نهض قيس وساعده أحد قادة الكثبة الذين وراءه، واستلوا خناجرهم وبدؤوا يطعنون صلاحا بقوة وعنف وأكثر من مرة، وفي الوقت نفسه وبتناغم وتناسق وتزامن لا مثيل لهم،
نهض سهيل وعاونه أحد قادة الكثبة من ورائه، وطفقوا يطعنون المعتصم بالطريقة نفسها، وبالتناغم والتناسق والتزامن عينهم نهض داهية الكثبة من وراء بهاء، وعاونه اثنان من قادة الكثبة الذين كانا
يجلسان على يمينه ويساره وأنشؤوا يطعنون بهاء بالطريقة نفسها. في اللحظة التي بدأ فيها الزبير يطعن جاسما، اندهش الأقوياء الثلاثة دهشة لم تمر عليهم قط – رغم شدة بأسهم وقوة أجسادهم وأفئدتهم –. وهكذا قُتِلَ الأقوياء الثلاثة بغتة، كان منظر الدماء الغزيرة وهو يسيل من أجسادهم مفزعا مرعبا. صحيح أن الأقوياء الثلاثة كانوا الأقوى جسديا على الإطلاق في البقاء، بل ربما في الممالك الثلاث،
صحيح أن قوتهم وشجاعتهم فاقت حتى تلك التي لدى الزبير ولدى أقوى فرسان البقاء كالمغيرة. لكن التاريخ لطالما علمنا أن الكثرة تغلب الشجاعة، وليست الكثرة وحدها ما يغلب الشجاعة، أليس الغدر
بغالبها كذلك؟!
وفي هذه الأثناء كلها انطلق بيدق وهلال والأقرط بعد أن استلوا خناجرهم، وطفقوا يقتلون قادة الجيش الجالسين على المنصة الواحد تلو الآخر، وحالما فرغ الزبير من قتل جاسم، انضم إليهم في اغتيال
قادة الجيش، وعاونهم عدد من قادة الجيش الذين هم أصلا من بدو الكثبة! معظم قادة الجيش الذين اغتيلوا هم من الكبار في العمر، الذين أوهنهم مَرُّ السنين، وجعلهم لقمة سائغة أمام الشباب الصارخ للزبير والنسور السوداء والقادة الموالين للزبير. وهكذا استمروا في اغتيالهم الواحد تلو الآخر، حتى انتهوا منهم جميعا، وعاون على قتلهم عنصر المفاجأة الذي وقف في صف الزبير ومن معه. وقد ركز الزبير عند التخطيط للمذبحة، على أن يكون قادة الجيش هم أول من يقتل على المنصة، وليس أقارب الملك والوزراء والحاشية، وذلك لأن القادة هم الأقوى جسديا بين هؤلاء جميعا، وإذا فرغوا منهم فستكون
مهمة الفضاء على الآخرين أسهل وأسرع بكثير. وهذا ما حدث، فحالما فرغ الزبير وفريقه من قتل قادة الجيش، بدؤوا بقتل أقارب الملك والوزراء – الذين اختارهم الزبير ذات يوم – وحاشية الملك.
حاول كثير من هؤلاء الهرب من قبضة الزبير ومن معه، حتى إن بعضهم حاول رمي نفسه من على المنصة إلى أرضية الساحة، إلا أن الزبير ومن معه اتسموا بالقوة والسرعة والحزم، وقتلوا
الجميع الواحد تلو الآخر.
وفي هذه الأثناء كلها، بدأت أغلبية الحضور على المدرج – والذين هم من بدو الكثبة – بقتل كل من حولهم ممن ليسوا منهم، حتى الذين استسلموا ولم يقاتلوا، لم تسلم حياتهم من أن تتذوق سيوف البدو
وخناجرهم.
وحالما أجهز الزبير ومن معه على المنصة على جميع من فيها، رمى الزبير سيفه وخنجره من فوق المنصة ليسقطا على أرضية الساحة، ثم ركض بسرعة، وبلياقة عالية ورشاقة لا توصف، وقفز
من على المنصة – رغم ارتفاعها عن الأرض - بقوة جبارة، حتى نزل على أرضية الساحة، فجلس لوهلة جلسة القرفصاء، لكنه سرعان ما أسند نفسه بكفه، ونهض وأمسك بسيفه وخنجره. وفي هذه
الأثناء، كان اثنان من أعداء الزبير يتجهان نحوه، ضرب أحدهما بسيفه يقصد رأس الزبير، فتفادى الزبير الضربة ثم جرح عنق غريمه بسيفه، ثم هاجمه الثاني بسيفه فصد الزبير الضربة بسيفه،
وتبادلا الضربات بسيوفهما مرة، قبل أن يطعنه الزبير بخنجره طعنة أجهزت عليه. وبعد أن قفز الزبير، قفز النسور السوداء بسرعة وقوة كبيرتين لكنهما لا تصلان لسرعة الزبير وقوته. وبدأ أعوانه على المنصة، يقفزون إلى أرضية الساحة. وهكذا انضم الزبير والنسور السوداء وموالوه ممن كانوا على المنصة إلى زملائهم المقاتلين في الساحة. وأخذ قيس وسهيل وداهية الكثبة والنسور السوداء وسائر
بدو الكثبة يقتلون من حولهم دون رحمة، بقوة وعنف، لكن أقوى من على ساحة الوغى كان الزبير وبفارق كبير عمن يليه. اتسم بالقوة والسرعة وشدة البأس. وما ميز المشهد أيضا، هو كيف كان الزبير
يحفز معاونيه بثقة وثبات؛ إذ جعل يخاطب من رآهم من مقاتليه ويحفزهم على القتال وقتل أعدائهم.
"حمدان، اقتل ذلك"
"يا هاني، لا ترحمهم"
"هيا، يا أسعد، أجهز عليهم جميعا"
هي من أمثلة العبارات الكثيرة، التي صرخ بها بأعلى صوته لتملأ جوف من خاطبهم بالحماسة التي اشتعلت كالنار في بدو الكثبة جميعا بسبب قائدهم.
وظل فريق الزبير يقتلون من في الساحة، فأجهزوا عليهم جميعا، في حين لم يخسروا سوى العدد اليسير من المقاتلين. ولما انتهوا ممن في الساحة، أمرهم الزبير صارخا بصوت عال جدا، وهو يلوح
بيده بحماس وثقة باتجاه باقي أرجاء القصر: هيا، يا قوم، توجهوا إلى باقي أنحاء القصر. لا تذروا أحدا منهم على قيد الحياة. إياكم أن تجعلوا للرحمة منزلا في قلوبكم.
انطلق البدو مسرعين بقوة يركضون بسرعة نحو سائر أنحاء القصر، وكلما اقترب أحدهم من الزبير، دفعه الأخير بقوة بالاتجاه الذي يركض نحوه، وهو يصرخ بعبارات مثل:
"هيا..."
"فلتحيا الكثبة"
"أروهم من هم البدو"
"اليوم نحن الغالبون"
ثم بدأ بدوره يركض بسرعة هائلة نحو أجزاء القصر الأخرى، وهو يمسك بسيفه باليد اليمنى وبخنجره الذهبي باليسرى.
وجاس بدو الكثبة خلال أجزاء القصر المترامية، وكانوا أكثرية، وقتلوا كل من رأوهم، لم يكتفوا بالحرس والجنود، فلم يسلم منهم النساء ولا كبار السن ولا حتى صغار السن، وذاق طعم أسلحتهم نساء
الملك والجواري والخدم والحاشية وأقارب الملك غير المقاتلين. وبدا المنظر كأنه موسم حصاد، ولكن ليس لزرع وإنما لأرواح بشر!
كان المنظر مرعبا مفزعا، حين انتشر القتل في كل مكان، هذا القصر الذي لطالما عرف الرخاء ورغد العيش، شهد في تلك اللحظات قتلا وذبحا، لم تشهدهما ساحات الحروب الكبرى في التاريخ. ذلك
القصر الذي غطي أغلبه بالرخام بنفسجي اللون، بدا في تلك اللحظات المرعبة كأنه مغطى بالرخام الأحمر القاتم!
وخلال كل هذا كانت الملكة رقية والأميرة هدى وعدد من وصيفاتهن في إحدى شرفات القصر الكثيرة. وفجأة رأوا المقاتلين يأتون من كل مكان. اجتاح الرعب والخوف قلبي الملكة والأميرة اللتين لم
تشهدا في حياتهما موقفا كهذا، وزادت هذه المشاعر عندما بدؤوا يرون المقاتلين يقتلون كل من أمامهم.
وطفقت الملكة والأميرة تركضان، والأم تصرخ على ابنتها: هدى، اهربي من هنا. انجي بحياتك، اختبئي في أي مكان. ولا تثقي بأي أحد.
اتجهت المرأتان بالاتجاه نفسه أولا، وبينما هما كذلك حاول أحد المقاتلين قتل الملكة، لكن أحد حراسها طعنه في ظهره من الخلف. في هذه الأثناء، كانت الملكة قد توقفت بينما استمرت الأميرة بالجري،
وفجأة وجدت كلتاهما نفسها دون الأخرى. أما الحارس الذي دافع عنهما، فسرعان ما قتله أحد مقاتلي الزبير، وفي هذه الأثناء ركضت الملكة بعيدا، واختبأت في إحدى غرف القصر، تحت السرير داخلها، وهي تدعو الله جهد دعائها وبأقصى إيمان ورجاء في حياتها بأن ينجيها – وأحباءَها- مما هي فيه. في تلك اللحظات خشيت على حياتها لكنها خشيت أكثر على حياة ابنتها، وأكثر وأكثر على حياة زوجها
الملك، وتساءلت إن حل به مكروه. كل هذا القلق الهائل الذي خالط الخوف العظيم بداخلها، جعل تلك اللحظات أسوأ لحظات حياتها.
وبينما هي مختئبة، سمعت صوتا جهوريا قويا واثقا يقول: هيا، قاتلوا بشدة... قاتلوا حتى اللحظة الأخيرة.
لقد ميزت ذلك الصوت جيدا، فهو صوت المنقذ الذي بعثه الله استجابة لدعائها، فهو صوت ابنها، وليس الحديث هنا عن الأمير ريان، وإنما عن ابنها الآخر: الزبير!
"لقد أتى الزبير البطل لإنقاذي، الآن سينقذنا جميعا، وينتقم لنا من أعدائنا كما فعل في الثورة" فكرت المرأة البسيطة بسذاجة.
خرجت مسرعة من أسفل السرير، وركضت بأقصى سرعة، وهي سرعة بسيطة؛ لأنها امرأة مسنة. خرجت من الغرفة مسرعة، فوجدت الزبير واقفا في باحة القصر، والدماء تملأ ثيابه وذراعيه،
وهو يمسك بسيفه وخنجره، ويتنفس بسرعة كبيرة وقوة عظيمة، وقد فتح منخريه وفمه على أقصى اتساعهما. ركضت نحوه، فتنبه لقدومها. كانت تلك اللحظات من أصعب لحظات عمره، صحيح
أن ما كان يفعله في تلك اللحظات اتسم بالقسوة وعدم الرحمة، لكن حتى أشد الناس وأقساهم، هم بالنهاية بشر ولديهم مشاعر. لقد اعتبرها أما له، ولطالما أحبها من كل قلبه.
حزن كثيرا عندما رآها، فاقتربت منه وأمسكت بذراعيها ذراعيه، والفزع يشع من وجهها، وقالت: ماذا يحدث، يا بني؟! من هؤلاء الذين يهاجموننا؟!
ثم أضافت، وهي تضغط بذراعيها على ذراعيه: احمني، يا بني.
الأمر اختلف عن قتل الزبير للملك؛ فهو استعد منذ زمن بعيد لاغتياله، ولم يكن هنالك مجال لأن يغتاله أحد آخر، وهذا ما فسر قسوته وخبثه وشماتته، وهو يقتل الملك رغم حبه له. لكنه تمنى من كل
قلبه أن لا يكون هو من سيقتل الملكة أو الأميرة هدى، فبإمكان أي أحد من مقاتليه أن ينجز المهمة. لكن الله وضعه في خيار صعب، وحانت لحظة الاختيار هل سيقتل أمه أم سيدعها؟! واختار الخيار
الأصعب.
بينما تضغط الملكة على ذراعي ابنها، ارتجف الزبير، وتلك المرة الوحيدة في حياته على الإطلاق التي يرتجف فيها وهو يقاتل، وبينما هو كذلك طعن الابن أمه بخنجره الذهبي ثم سحبه.
هاله حجم الصدمة على وجه أمه، فاحتله ألم عظيم، وقال: أنا آسف، يا أمي... لا بد من تضحيات، وهذه إحداها.
وبينما الأم تفارق الحياة، قالت: لماذا، يا بني؟! ماذا فعلنا لك؟!
أي كلماتها أقسى عليه، عتابها له الذي دل على صدمتها، أم مناداتها له ببني حتى بعد أن غدر بها وخانها؟! حتى هو نفسه لم يعرف الجواب!
أمسك أمه بيديه وجعلا ينزلان أرضا معا، واحتضنها وهي على الأرض وفارقت الحياة وهما على هذا الحال، وظل ممسكا بها وهو مطأطئ الرأس والحزن يجتاح قلبه.
وبعد أن مضى زمن، سمع الزبير صوتا يعرفه جيدا يقول: قم، أيها الزبير... لا وقت لمثل هذا.
ثم أحس بيد قيس على كتفه، وهو يحاول إيقاظه مما هو فيه.
نظر إلى قيس الذي أضاف: هيا، أيها الزبير... علينا أن نكمل ما نحن فيه، لا مجال للتراجع الآن.
اقتنع بكلام صديقه، ووضع جثمان أمه بهدوء على الأرض، ونهض واندفع مع مقاتليه يقتلون كل من يرونهم أمامهم.
وبعد أن فارقت الأميرة هدى أمها، هربت مبتعدة، إلى أن تلقفها واحد من مقاتلي الزبير، فطعنها بخنجره، وقتلت الأميرة التي عرف عنها شدة براءتها، والخوف والرعب بداخلها يفوقان ما كان بداخل أمها بأضعاف مضاعفة.
واستمر الزبير ومقاتلوه يجوسون خلال أرجاء القصر حتى اقتربوا من مقر قيادة الجيش الحرس الملكي في طرف القصر. وكان عاصم وأتباعه من حرس الملك قد علموا بعد مدة من بدء المجزرة، أن
هنالك خطبا ما يحدث في القصر، بعد أن سمعوا جلبة هنا وهناك، فطفقوا يقاتلون المهاجمين الذين لم يعرفوا من هم، وماذا يريدون.
منذ البداية أمر القائد عاصم، مقاتلي الحرس الملكي: اذهبوا جميعا وفورا، إلى غرفة الملك، حياته هي أولويتنا، وبعد ذلك سنحاول إيجاد الملكة والأميرة.
فشرعوا جميعا يتوجهون إلى هناك وهو مثلهم، وفي الطريق اصطدموا بمقاتلي الزبير الذين انتشروا بسرعة في أرجاء القصر جميعها، فتقاتل الطرفان وفي البداية كانت الغلبة لعاصم ومقاتليه، لكن بعد
مدة عندما كثر مقاتلو الزبير بدأت الكفة تميل ناحيتهم؛ فأحد أهم ركائز خطة الزبير هو الاعتماد على وجود كثرة من مقاتليه في حفل التكريم تتجاوز وبكثير كل المقاتلين الذين سيدافعون عن الملك في
القصر كاملا. وظل عاصم ومن معه يقاتلون مقاتلي الزبير، وبدؤوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، ولم يستطيعوا بلوغ غرفة الملك. وخرج عاصم إلى إحدى باحات القصر، ومعه عدد من مقاتليه، واشتبكوا مع عدد أكبر منهم بكثير من مقاتلي الزبير. وفي هذه الأثناء كان الزبير قد وصل إلى هذا المكان، فلم يتبق من المقاتلين سوى عاصم والقلة القليلة جدا التي معه.
اقترب الزبير ومعه قيس وسهيل والداهية، وعندما رأى عاصم الزبير، توقف عن القتال وأمر من معه من المقاتلين بالتوقف، وصرخ سائلا الزبير: ما الذي يحدث، أيها الزبير؟! ما الذي يجري؟!
كان مقاتلو الزبير قد أحاطوا عاصما ومقاتليه على شكل حلقة، شكل عاصم ومن معه مركزها.
وحتى في تلك اللحظات الأخيرة القاسية، لم يتيقن عاصم بخيانة الزبير، وظل الشك يساوره.
اقترب الزبير من عاصم، وهو يمسك سيفه وخنجره، حتى بات على مسافة قريبة منه، وبات عاصم يشتم رائحة أنفاس الزبير التي فاحت غضبا وكراهية وحقدا.
قال الزبير بثقة وهدوء: لا شيء... لم يحدث شيء... فقط قتلت الملك والملكة والأميرة ووالدك...
ثم أحكم قبضته على الخنجر، ووضع يده اليسرى على كتف عاصم، وابتسم ابتسامة صفراء قذرة، وقال: والآن سأقتلك.
فطعن عاصما بخنجره الذهبي ثلاث طعنات في أعلى بطنه، وفي الطعنة الثالثة غرس الخنجر عميقا في بطن عاصم، ولفه بداخله.
بدأ الدم يسيل غزيرا من بطن عاصم ثم سال من فمه ومنخريه. وكان منذ بداية ما أخبره الزبير به قد فتح عينيه على أقصى اتساع غير مصدق ما يسمع.
وهكذا غادر الحياة وهو ينظر إلى ابتسامة الزبير القذرة، وهو يتذكر كلام أبيه القائد جاسم ذات يوم، عندما أخبره ألا يثق بأحد حتى ابن الملك الأمير ريان. لطالما كرر جاسم له هذا الكلام، لكن الحيلة
انطلت على عاصم. تساءل كيف وثق بالزبير طيلة هذه السنوات؟! تساءل كيف كان الزبير آخر من يمكن أن يشك به، فقد اعتبره ابن الملك من لحمه ودمه، وفي لحظات كثيرة وثق به أكثر من الأمير
ريان نفسه؟!
ندم في تلك اللحظات ندما عظيما جللا، وتألم ألما عارما، ليس على موته، بل لأنه السبب في مقتل الملك والآخرين.
الشيء الوحيد الأقسى عند حدوث الخيانة، من كونها أتت من أحب الأحباء الذين لطالما استعددت أن تفديهم بأرواحك، هو أنك ظللت مغفلا طيلة الوقت وسمحت لهم بخداعك برضاك وبكل سهولة. هذا هو آخر ما فكر به قائد الحرس الملكي.
ومنذ قتل الزبير الملك الهارب مرورا بكل من أجهز عليهم وانتهاء بعاصم، امتازت طعناته بأنها قوية عنيفة جدا مليئة بالغل والحقد والغضب الذي بداخله. وقد طلى خنجره بالسم؛ لأنه لم يرد ولو احتمالا صغيرا، لأن يظل أعداؤه على قيد الحياة لا سيما الملك الهارب.
***
دخل على غرفة عاصم، وابتسم ابتسامة بريئة، وسأل: كيف حالك، أيها القائد العظيم؟
جلس عاصم خلف مكتبه، وحالما رأى الزبير نهض وتوجه إليه، وبادله الابتسام، وقال: أنا بخير، كيف أمور الزبير؟
ثم مد يده فصافحه الزبير، وهو يقول: أنا بخير، يا عاصم.
بعدها دعا عاصم الزبير للجلوس، فجلس أمام المكتب، بينما جلس عاصم خلف مكتبه.
"كيف حال أهلك؟" سأل الزبير ببرود وهدوء.
فرد عاصم: بأتم حال.
فقال الزبير بالبرود ذاته: الطقس اليوم جميل جدا، لكأنه يتحضر للتكريم العظيم.
ابتسم الزبير بينما ضحك عاصم.
لقد كان الزبير يتصرف كما لو أنه لتوه فقط ذبح حَمَلا صغيرا، أو حتى ذبابة حقيرة، وليس كما لو أنه قتل ملكا أسطوريا يحكم مملكة شاسعة! فهذا ما ميز الزبير، الثقة المطلقة بالنفس،
وقوة الأعصاب وهدوء القلب.
"ولكن للأسف، هنالك ما سينغص حفل التكريم" قال الزبير.
"ما هو؟" سأل عاصم بفضول وبسرعة.
فأجاب الزبير: للأسف الملك اعتذر عن حضور الحفل... لقد ذهبت إليه قبل قليل، فأخبرني أنه يعاني من وعكة صحية، وأنه لن يحضر التكريم،
وطلب مني أن أنوب عنه في التكريم ومنح المكرمين ما اتُّفِقَ عليه.
نهض عاصم فجأة، وقال خائفا على الملك: هل أصاب الملك مكروه؟! يجب أن أذهب فورا إليه.
فقال الزبير بهدوء قاتل هو يشير بيده لعاصم بأن يجلس: لا... لا... لا تخف، يا عاصم. الوعكة ليست بشديدة، لكن كما تعلم الملك مسن، ومثل هذه الوعكات التي قد يحتملها الشباب،
لا يمكن لرجل مسن أن يحتملها. وقد أرسلت حالما خرجت من عنده إلى أطبائه الخاصين ولا بد وأنهم الآن عنده.
فقال عاصم فورا: يجب أن أذهب إليه فورا.
"لا" قال الزبير، وأضاف بالهدوء ذاته: الملك أخبرني أنه لا يريد أن يزعجه أحد في غرفته؛ لأنه يريد أن يرتاح. وطلب مني ألا يدخل عليه أحد، بمن في ذلك جلالة الملكة وسمو الأميرة،
وأي أحد حتى أنا.
ثم أضاف بخبث: لقد أصررت على البقاء بجواره، وليذهب الحفل إلى الجحيم، لكنه رفض ذلك كليا وأخبرني أن الحفل يجب أن يتم!
هدأ عاصم قليلا بعد كلام الزبير، وصدقه في كل كلمة قالها؛ فالزبير بات منذ زمن بعيدا قريبا جدا من الملك كابنه الأمير تماما، وربما أكثر!
جلس عاصم، وبعدها قال الزبير بخبث أكبر: مهما بلغت حلاوة الحياة، لا بد وأن ينغصها شيء ما! نحن نعد لهذا الحفل منذ زمن، وأردناه أن يكون كاملا، والآن لن يحضره أهم شخص في المملكة،
وفي قلوبنا جميعا! أخاف أن يظن من سنكرمهم وبالأخص الأقوياء الثلاثة والقائد جاسما أن الملك – لسبب ما – تعمد عدم المجيء.
فقال عاصم ببراءة قد تصل حد السذاجة مطمئنا جليسه: لا... لا... لا أظن ذلك. فالكل يعرف أن جلالة الملك لا يفعل مثل هذه التصرفات، وحتى لو غضب أو استاء من أحدهم، فإنه يواجهه مباشرة،
ولا يلجأ لمثل هذه الأساليب الملتوية. كما أنه لم يحدث شيء بين والدي أو الأقوياء الثلاثة من جهة وجلالته من جهة، حتى يظن أحدهم أن الملك تعمد التغيب عن الحفل.
تنهد عاصم، ثم قال: وبإمكانك بعد الحفل، أن تقترح على جلالة الملك، أن يرسل رسالة لكل واحد منهم، يعلمهم فيها أسفه على عدم الحضور، ويبين فيها سبب ذلك.
فقال الزبير بقمة الخبث: ما أعظم فكرتك! كيف لم تخطر على بالي؟!
ثم أضاف: علي أن أذهب الآن للاستعداد للحفل... أراك قريبا.
تبادل الرجلان عبارات السلام، وغادر الزبير المكان. وامتنع عاصم عن الذهاب لحفل التكريم؛ لأن الملك سيظل بالقصر، وعاصم منوط به حماية الملك.
***
كان يوما صيفيا يمتاز بطقس معتدل رائع كأغلب أيام صيف المعتزة، إذ أشرقت الشمس في كبد السماء، لكنها لم تكن حارقة بأشعتها وإنما أضفت جوا جميلا مناسبا لأي احتفال. بدأ الحضور بالتوافد
على الساحة جنوبي قصر الضيغم لحضور حفل التكريم. وقد أسند الزبير مهمة تنظيم الحفل لداهية الكثبة. وكلما حضر أحد من الحضور، أرشده الداهية إلى مكان جلوسه المختار بعناية من قبل أن يبدأ
الحفل.
تكونت الساحة من مدرج مبني من حجارة بيضاء نقية ثمينة تسر الناظرين، بحيث يرتفع كل صف من صفوف المدرج عن الصف الذي أمامه، وقد امتاز المدرج بالضخامة وأنه يسع عددا هائلا من
الحضور. وأمامه وجدت منصة مرتفعة عن سطح الأرض مصنوعة هي الأخرى من الحجارة البيضاء ذاتها، وتطل على المدرج، ولكنها لم ترتفع كثيرا عن سطح الأرض وإنما بعلو معقول،
وقد فصل بينها وبين المدرج مسافة ليست بالقليلة ولا بالكبيرة. واحتوت المنصة كراسي حمراء كبيرة مصنوعة من القماش الفاخر، وعلا المنصة قوسان مطليان بالذهب الخالص.
وبعد أن وزع داهية الكثبة الحضور، جلس الأقوياء الثلاثة متجاورين وجلس على يمينهم مباشرة قيس وعلى يسارهم مباشرة سهيل، وخلفهم مباشرة جلس داهية الكثبة وعدد من شيوخ قبائل الكثبة.
وكانت الغالبية العظمى من الحضور في المدرج من كبار قادة الكثبة وأقوى فرسانها، إضافة لعدد من وجهاء الجيش والدولة.
أما المنصة فجلس على الكرسي الرئيس فيها الزبير، وعلى يمينه مباشرة جلس قائد الجيش جاسم، وخلف الزبير على يمينه ويساره وقف هلال والأقرط – على الترتيب-، وعلى مسافة قريبة على
يمينهما وقف بيدق، فهؤلاء ظِلُّ الزبير الذي لا يفارقه. وفي المنصة كذلك جلس كبار قادة الجيش إضافة لوزراء الدولة.
سأل جاسم الزبير متعجبا عن سبب غياب الملك، فكذب الزبير قائلا إن الملك يعاني من وعكة طفيفة، وانطلت الخدعة على جاسم.
وهكذا اكتمل الحضور، وزينوا المنصة والمدرج، حيث اتسم مشهدهما بالجمال والروعة والألق. وابتهج جميع الحضور بهذا الحفل الطيب.
تقدم أحد موظفي الدولة على المنصة، وقال بصوت عال في الحضور: والآن يلقي خطاب التكريم، الوزير الأول، فخامة الوزير الزبير.
عندها وقف الزبير من مقعده وتقدم إلى الأمام على المنصة. اتسم المشهد أمامه بالهيبة، وحتى خلفه كانت الهيبة أكبر بوجود قائد الجيش وكل هؤلاء الرجال من قادة الجيش والوزراء، لكن ذلك أبدا لم يؤثر في الزبير قيد أنملة.
وبدأ الزبير خطاب التكريم، إذ قال بصوت جهوري واثق قوي، بصوت عال صدح في كل أنحاء الساحة، وسمعه كل من في المدرج، بل وعدد ممن كانوا في أنحاء القصر القريبة: يا قوم، السلام عليكم.
فبدأ الحضور من خلف ومن أمامه يردون التحية عليه، فلما هدؤوا أكمل الزبير: حللتم أهلا، ووطئتم سهلا. أنتم اليوم ضيوف الملك قصي الذي يرحب بكم في بيته الذي هو بيتكم. أهلا بكم في هذه الجَمْعَةِ
المباركة، وهذا اليوم المبارك. وللأسف، كما عودتنا الحياة، كل شيء جميل لا بد وأن ينغصه ولو خدشا صغيرا. وللأسف، أصيب اليوم جلالة الملك بوعكة صحية بسيطة جدا، منعته من القدوم إلى الحفل، رغم توقه الشديد للقاء بأحبابه وأبنائه وإخوته، ورغم أنه يشعر بشرف عظيم، لأنه اليوم كان من المفترض أن يكرم بنفسه رجالا يتشرف أنهم جزء لا يتجزأ من مملكته. ولهذا، فإن الملك أرسل معي أشد
الاعتذار منكم جميعا لا سيما ممن سيكرمون اليوم. وإن الملك ليناشدكم أن تعذروه، وأن تتفهموا أن غيابه ليس بمقصود، وإنما هو اضطراري، وأنه سيعوضكم عن هذا الغياب بأمور لهي خير لكم فيما
بعد. وقد وكلني جلالة الملك أن أتكفل بمهمة التكريم نيابة عنه في هذا اليوم الجليل.
حزن جاسم والأقوياء الثلاثة وكثير من الحاضرين لغياب الملك؛ فوجوده - بحد ذاته – أهم من التكريم نفسه.
وفي أثناء كل هذا الخطاب حرك الزبير يديه بثقة بالغة، وبثقة بالغة قلب ناظريه بين الحضور.
سكت الزبير لمدة ثم أكمل: كما تعلمون فإن مملكتنا مباركة، وأجمل ممالك هذه البسيطة، وجزء من جنة الله على هذه الأرض. وقبل الحرب المقيتة، لطالما شهدت مملكتنا الرخاء والعدل والثراء، والأهم
المحبة بين أهلها بعضهم لبعض، وبين ملوكها وأهلها. ومن عادات البشر، أن أي شيء جميل وفريد ومميز، لا بد وأن يحسدوه، ولا بد وأن يسعوا لتدميره. وهذا ما دفع أعداءنا الضباع من المملكتين
المجاورتين إلى الغدر بمملكتنا واحتلالها. لقد عشنا أياما سوداء قاتمة بعد الحرب المقيتة، من ملكنا المعظم إلى أقل واحد فينا. كلنا عانينا وكلنا ذقنا الأمرين، واستمر الأمر سنين كثيرة جدا، وأعداؤنا
فرحون منتصرون ونحن حزينون مهزومون. ثم أتى يوم جميل بدأته أنا، ولا أزكي نفسي. ولم أكن وحدي، فلم أكن إلا حجر الأساس في ثورتنا المجيدة، التي أحاط بها وعلاها رجال عظماء أهمهم
جلالة الملك وابنه سمو الأمير، ورجال أشداء هم أنتم، يا من تشرفوننا اليوم بحضوركم الكريم.
عندها بدأ الجميع بالتصفيق الحار لكلام الزبير، والحماسة تتدفق في عروقهم التي امتلأت بالدماء لشدة قوة كلام الزبير وروعته، حتى إن كثيرا من الحضور في المدرج وقفوا وهم يصفقون له.
ثم أكمل الزبير: وأتت الثورة، وكانت شمسا ساطعة جميلة – كشمس يومنا المبارك هذا – وبددت ظلمة الليالي التي أسكننا فيها أعداؤنا. فانقلبت الأمور، وانقلب السحر على الساحر، وملأت حياتنا
سعادة ونصرا وعزة، وملأت حياة أعدائنا في مملكتي الغدر المجاورتين ذلا وهزيمة وعارا، ملأتها نكدا وسوادا لن يزولوا أبد الدهر. فقد عبثوا مع المملكة الخطأ، وعبثوا مع الرجال الخطأ...
وظل جاسم يومئ برأسه موافقا كلام الزبير.
ثم علّى الزبير نبرة صوته، وهو يقول: ولم يعرفوا أنه حتى الجن إذا عبثت مع رجال البقاء، فإنها ستدفع الثمن غاليا ولن يهدأ لها بال.
عندها جن جنون الحضور، ووقفوا جميعا بلا استثناء، حتى الأقوياء الثلاثة، والقائد جاسم، وجعل الجميع يصفقون بحرارة حتى كادت أيديهم تسيل منها الدماء، بل إن بعض الحضور بدأ بالتصفير،
فالحماسة والروعة والبلاغة في كلام الزبير، الخطيب الواثق المفوه لا مثيل لها.
وبعد مدة ليست بالقصيرة، هدأ القوم، وطفقوا يجلسون، فلما جلسوا وهدؤوا جميعا، أكمل الزبير: وقد ساهم بدور بارز - لولاه لما نجحت الثورة على الإطلاق – رجال عظماء. وربما انشغلنا قليلا
بعد تحرير البقاء وإعلان المملكة بأمور تنظيمية، أجلت تكريما يعد شيئا بسيطا جدا مقابل الجهود الجبارة التي أدوها إبان الثورة وقبلها وبعدها. اليوم نتشرف بحضور قائد الجيش والأقوياء الثلاثة بيننا.
هؤلاء الرجال العظام الذين لم تشهد البشرية مثيلا لقوتهم العظيمة في القتال وشدة بأسهم، ولا لوفائهم وصدقهم، ولا لعملهم وإخلاصهم. هؤلاء الذين لولاهم لماتت الثورة في رحم مخيلة من فكر بها
وخطط لها، لكن وجودهم بيننا هو من جعلها تبصر الحياة.
وأضاف الزبير وهو يشير بيده اليمنى بقوة، بصوت بطيء عال جدا واثق جدا لا تردد فيه: ولهذا كله، لا بد من تكريمهم.
وعندها زاد جاسم في تحريك رأسه تأييدا لكلام الزبير.
وأكمل الزبير وهو يشير بيده اليمنى بقوة أكبر، وبصوت أعلى وأكثر ثقة: واليوم سيلقون التكريم الذي يستحقونه.
وفجأة والزبير لم يكد ينطق الحرف الأخير، التف واستل خنجره الذهبي، وهجم بسرعة هائلة جنونية على القائد جاسم، وطعنه بخنجره في عنقه في الشريان السباتي، فبدأ الدم يفور غزيرا في كل مكان،
كأنه عين تنبجس من باطن الأرض وتفور نحو السماء لتملأ كل ما يحيط بها، حتى ملأ الدم الأحمر القاتم ذراعي الزبير ولباسه، وعنق جاسم ولباسه وما أحاط به من كراسي وطاولات. لكن الزبير
لم يتوقف وعاد وطعن جاسما في المكان ذاته ثلاث مرات. كانت سرعة الزبير في هذا كله جنونية جدا! أما جاسم فتعابير وجهه فتكاد لا يمكن وصفها، اتسعت عيناه أقصى اتساع، ولم يستطع في
هذه الفترة القصيرة استيعاب ما حدث، وأنه يتعرض لخيانة من أكبر الخيانات في التاريخ.
وفي هذه الأثناء، لم يكن الزبير اللاعب الوحيد الذي يتحرك في اللعبة. لقد شكلت العبارة الأخيرة التي قالها في الخطاب الإشارة المتفق عليها بينه وبين أعوانه للبدء بتنفيذ مخططهم. وحالما انتهى من قولها وبدئه بعملية قتل جاسم، نهض قيس وساعده أحد قادة الكثبة الذين وراءه، واستلوا خناجرهم وبدؤوا يطعنون صلاحا بقوة وعنف وأكثر من مرة، وفي الوقت نفسه وبتناغم وتناسق وتزامن لا مثيل لهم،
نهض سهيل وعاونه أحد قادة الكثبة من ورائه، وطفقوا يطعنون المعتصم بالطريقة نفسها، وبالتناغم والتناسق والتزامن عينهم نهض داهية الكثبة من وراء بهاء، وعاونه اثنان من قادة الكثبة الذين كانا
يجلسان على يمينه ويساره وأنشؤوا يطعنون بهاء بالطريقة نفسها. في اللحظة التي بدأ فيها الزبير يطعن جاسما، اندهش الأقوياء الثلاثة دهشة لم تمر عليهم قط – رغم شدة بأسهم وقوة أجسادهم وأفئدتهم –. وهكذا قُتِلَ الأقوياء الثلاثة بغتة، كان منظر الدماء الغزيرة وهو يسيل من أجسادهم مفزعا مرعبا. صحيح أن الأقوياء الثلاثة كانوا الأقوى جسديا على الإطلاق في البقاء، بل ربما في الممالك الثلاث،
صحيح أن قوتهم وشجاعتهم فاقت حتى تلك التي لدى الزبير ولدى أقوى فرسان البقاء كالمغيرة. لكن التاريخ لطالما علمنا أن الكثرة تغلب الشجاعة، وليست الكثرة وحدها ما يغلب الشجاعة، أليس الغدر
بغالبها كذلك؟!
وفي هذه الأثناء كلها انطلق بيدق وهلال والأقرط بعد أن استلوا خناجرهم، وطفقوا يقتلون قادة الجيش الجالسين على المنصة الواحد تلو الآخر، وحالما فرغ الزبير من قتل جاسم، انضم إليهم في اغتيال
قادة الجيش، وعاونهم عدد من قادة الجيش الذين هم أصلا من بدو الكثبة! معظم قادة الجيش الذين اغتيلوا هم من الكبار في العمر، الذين أوهنهم مَرُّ السنين، وجعلهم لقمة سائغة أمام الشباب الصارخ للزبير والنسور السوداء والقادة الموالين للزبير. وهكذا استمروا في اغتيالهم الواحد تلو الآخر، حتى انتهوا منهم جميعا، وعاون على قتلهم عنصر المفاجأة الذي وقف في صف الزبير ومن معه. وقد ركز الزبير عند التخطيط للمذبحة، على أن يكون قادة الجيش هم أول من يقتل على المنصة، وليس أقارب الملك والوزراء والحاشية، وذلك لأن القادة هم الأقوى جسديا بين هؤلاء جميعا، وإذا فرغوا منهم فستكون
مهمة الفضاء على الآخرين أسهل وأسرع بكثير. وهذا ما حدث، فحالما فرغ الزبير وفريقه من قتل قادة الجيش، بدؤوا بقتل أقارب الملك والوزراء – الذين اختارهم الزبير ذات يوم – وحاشية الملك.
حاول كثير من هؤلاء الهرب من قبضة الزبير ومن معه، حتى إن بعضهم حاول رمي نفسه من على المنصة إلى أرضية الساحة، إلا أن الزبير ومن معه اتسموا بالقوة والسرعة والحزم، وقتلوا
الجميع الواحد تلو الآخر.
وفي هذه الأثناء كلها، بدأت أغلبية الحضور على المدرج – والذين هم من بدو الكثبة – بقتل كل من حولهم ممن ليسوا منهم، حتى الذين استسلموا ولم يقاتلوا، لم تسلم حياتهم من أن تتذوق سيوف البدو
وخناجرهم.
وحالما أجهز الزبير ومن معه على المنصة على جميع من فيها، رمى الزبير سيفه وخنجره من فوق المنصة ليسقطا على أرضية الساحة، ثم ركض بسرعة، وبلياقة عالية ورشاقة لا توصف، وقفز
من على المنصة – رغم ارتفاعها عن الأرض - بقوة جبارة، حتى نزل على أرضية الساحة، فجلس لوهلة جلسة القرفصاء، لكنه سرعان ما أسند نفسه بكفه، ونهض وأمسك بسيفه وخنجره. وفي هذه
الأثناء، كان اثنان من أعداء الزبير يتجهان نحوه، ضرب أحدهما بسيفه يقصد رأس الزبير، فتفادى الزبير الضربة ثم جرح عنق غريمه بسيفه، ثم هاجمه الثاني بسيفه فصد الزبير الضربة بسيفه،
وتبادلا الضربات بسيوفهما مرة، قبل أن يطعنه الزبير بخنجره طعنة أجهزت عليه. وبعد أن قفز الزبير، قفز النسور السوداء بسرعة وقوة كبيرتين لكنهما لا تصلان لسرعة الزبير وقوته. وبدأ أعوانه على المنصة، يقفزون إلى أرضية الساحة. وهكذا انضم الزبير والنسور السوداء وموالوه ممن كانوا على المنصة إلى زملائهم المقاتلين في الساحة. وأخذ قيس وسهيل وداهية الكثبة والنسور السوداء وسائر
بدو الكثبة يقتلون من حولهم دون رحمة، بقوة وعنف، لكن أقوى من على ساحة الوغى كان الزبير وبفارق كبير عمن يليه. اتسم بالقوة والسرعة وشدة البأس. وما ميز المشهد أيضا، هو كيف كان الزبير
يحفز معاونيه بثقة وثبات؛ إذ جعل يخاطب من رآهم من مقاتليه ويحفزهم على القتال وقتل أعدائهم.
"حمدان، اقتل ذلك"
"يا هاني، لا ترحمهم"
"هيا، يا أسعد، أجهز عليهم جميعا"
هي من أمثلة العبارات الكثيرة، التي صرخ بها بأعلى صوته لتملأ جوف من خاطبهم بالحماسة التي اشتعلت كالنار في بدو الكثبة جميعا بسبب قائدهم.
وظل فريق الزبير يقتلون من في الساحة، فأجهزوا عليهم جميعا، في حين لم يخسروا سوى العدد اليسير من المقاتلين. ولما انتهوا ممن في الساحة، أمرهم الزبير صارخا بصوت عال جدا، وهو يلوح
بيده بحماس وثقة باتجاه باقي أرجاء القصر: هيا، يا قوم، توجهوا إلى باقي أنحاء القصر. لا تذروا أحدا منهم على قيد الحياة. إياكم أن تجعلوا للرحمة منزلا في قلوبكم.
انطلق البدو مسرعين بقوة يركضون بسرعة نحو سائر أنحاء القصر، وكلما اقترب أحدهم من الزبير، دفعه الأخير بقوة بالاتجاه الذي يركض نحوه، وهو يصرخ بعبارات مثل:
"هيا..."
"فلتحيا الكثبة"
"أروهم من هم البدو"
"اليوم نحن الغالبون"
ثم بدأ بدوره يركض بسرعة هائلة نحو أجزاء القصر الأخرى، وهو يمسك بسيفه باليد اليمنى وبخنجره الذهبي باليسرى.
وجاس بدو الكثبة خلال أجزاء القصر المترامية، وكانوا أكثرية، وقتلوا كل من رأوهم، لم يكتفوا بالحرس والجنود، فلم يسلم منهم النساء ولا كبار السن ولا حتى صغار السن، وذاق طعم أسلحتهم نساء
الملك والجواري والخدم والحاشية وأقارب الملك غير المقاتلين. وبدا المنظر كأنه موسم حصاد، ولكن ليس لزرع وإنما لأرواح بشر!
كان المنظر مرعبا مفزعا، حين انتشر القتل في كل مكان، هذا القصر الذي لطالما عرف الرخاء ورغد العيش، شهد في تلك اللحظات قتلا وذبحا، لم تشهدهما ساحات الحروب الكبرى في التاريخ. ذلك
القصر الذي غطي أغلبه بالرخام بنفسجي اللون، بدا في تلك اللحظات المرعبة كأنه مغطى بالرخام الأحمر القاتم!
وخلال كل هذا كانت الملكة رقية والأميرة هدى وعدد من وصيفاتهن في إحدى شرفات القصر الكثيرة. وفجأة رأوا المقاتلين يأتون من كل مكان. اجتاح الرعب والخوف قلبي الملكة والأميرة اللتين لم
تشهدا في حياتهما موقفا كهذا، وزادت هذه المشاعر عندما بدؤوا يرون المقاتلين يقتلون كل من أمامهم.
وطفقت الملكة والأميرة تركضان، والأم تصرخ على ابنتها: هدى، اهربي من هنا. انجي بحياتك، اختبئي في أي مكان. ولا تثقي بأي أحد.
اتجهت المرأتان بالاتجاه نفسه أولا، وبينما هما كذلك حاول أحد المقاتلين قتل الملكة، لكن أحد حراسها طعنه في ظهره من الخلف. في هذه الأثناء، كانت الملكة قد توقفت بينما استمرت الأميرة بالجري،
وفجأة وجدت كلتاهما نفسها دون الأخرى. أما الحارس الذي دافع عنهما، فسرعان ما قتله أحد مقاتلي الزبير، وفي هذه الأثناء ركضت الملكة بعيدا، واختبأت في إحدى غرف القصر، تحت السرير داخلها، وهي تدعو الله جهد دعائها وبأقصى إيمان ورجاء في حياتها بأن ينجيها – وأحباءَها- مما هي فيه. في تلك اللحظات خشيت على حياتها لكنها خشيت أكثر على حياة ابنتها، وأكثر وأكثر على حياة زوجها
الملك، وتساءلت إن حل به مكروه. كل هذا القلق الهائل الذي خالط الخوف العظيم بداخلها، جعل تلك اللحظات أسوأ لحظات حياتها.
وبينما هي مختئبة، سمعت صوتا جهوريا قويا واثقا يقول: هيا، قاتلوا بشدة... قاتلوا حتى اللحظة الأخيرة.
لقد ميزت ذلك الصوت جيدا، فهو صوت المنقذ الذي بعثه الله استجابة لدعائها، فهو صوت ابنها، وليس الحديث هنا عن الأمير ريان، وإنما عن ابنها الآخر: الزبير!
"لقد أتى الزبير البطل لإنقاذي، الآن سينقذنا جميعا، وينتقم لنا من أعدائنا كما فعل في الثورة" فكرت المرأة البسيطة بسذاجة.
خرجت مسرعة من أسفل السرير، وركضت بأقصى سرعة، وهي سرعة بسيطة؛ لأنها امرأة مسنة. خرجت من الغرفة مسرعة، فوجدت الزبير واقفا في باحة القصر، والدماء تملأ ثيابه وذراعيه،
وهو يمسك بسيفه وخنجره، ويتنفس بسرعة كبيرة وقوة عظيمة، وقد فتح منخريه وفمه على أقصى اتساعهما. ركضت نحوه، فتنبه لقدومها. كانت تلك اللحظات من أصعب لحظات عمره، صحيح
أن ما كان يفعله في تلك اللحظات اتسم بالقسوة وعدم الرحمة، لكن حتى أشد الناس وأقساهم، هم بالنهاية بشر ولديهم مشاعر. لقد اعتبرها أما له، ولطالما أحبها من كل قلبه.
حزن كثيرا عندما رآها، فاقتربت منه وأمسكت بذراعيها ذراعيه، والفزع يشع من وجهها، وقالت: ماذا يحدث، يا بني؟! من هؤلاء الذين يهاجموننا؟!
ثم أضافت، وهي تضغط بذراعيها على ذراعيه: احمني، يا بني.
الأمر اختلف عن قتل الزبير للملك؛ فهو استعد منذ زمن بعيد لاغتياله، ولم يكن هنالك مجال لأن يغتاله أحد آخر، وهذا ما فسر قسوته وخبثه وشماتته، وهو يقتل الملك رغم حبه له. لكنه تمنى من كل
قلبه أن لا يكون هو من سيقتل الملكة أو الأميرة هدى، فبإمكان أي أحد من مقاتليه أن ينجز المهمة. لكن الله وضعه في خيار صعب، وحانت لحظة الاختيار هل سيقتل أمه أم سيدعها؟! واختار الخيار
الأصعب.
بينما تضغط الملكة على ذراعي ابنها، ارتجف الزبير، وتلك المرة الوحيدة في حياته على الإطلاق التي يرتجف فيها وهو يقاتل، وبينما هو كذلك طعن الابن أمه بخنجره الذهبي ثم سحبه.
هاله حجم الصدمة على وجه أمه، فاحتله ألم عظيم، وقال: أنا آسف، يا أمي... لا بد من تضحيات، وهذه إحداها.
وبينما الأم تفارق الحياة، قالت: لماذا، يا بني؟! ماذا فعلنا لك؟!
أي كلماتها أقسى عليه، عتابها له الذي دل على صدمتها، أم مناداتها له ببني حتى بعد أن غدر بها وخانها؟! حتى هو نفسه لم يعرف الجواب!
أمسك أمه بيديه وجعلا ينزلان أرضا معا، واحتضنها وهي على الأرض وفارقت الحياة وهما على هذا الحال، وظل ممسكا بها وهو مطأطئ الرأس والحزن يجتاح قلبه.
وبعد أن مضى زمن، سمع الزبير صوتا يعرفه جيدا يقول: قم، أيها الزبير... لا وقت لمثل هذا.
ثم أحس بيد قيس على كتفه، وهو يحاول إيقاظه مما هو فيه.
نظر إلى قيس الذي أضاف: هيا، أيها الزبير... علينا أن نكمل ما نحن فيه، لا مجال للتراجع الآن.
اقتنع بكلام صديقه، ووضع جثمان أمه بهدوء على الأرض، ونهض واندفع مع مقاتليه يقتلون كل من يرونهم أمامهم.
وبعد أن فارقت الأميرة هدى أمها، هربت مبتعدة، إلى أن تلقفها واحد من مقاتلي الزبير، فطعنها بخنجره، وقتلت الأميرة التي عرف عنها شدة براءتها، والخوف والرعب بداخلها يفوقان ما كان بداخل أمها بأضعاف مضاعفة.
واستمر الزبير ومقاتلوه يجوسون خلال أرجاء القصر حتى اقتربوا من مقر قيادة الجيش الحرس الملكي في طرف القصر. وكان عاصم وأتباعه من حرس الملك قد علموا بعد مدة من بدء المجزرة، أن
هنالك خطبا ما يحدث في القصر، بعد أن سمعوا جلبة هنا وهناك، فطفقوا يقاتلون المهاجمين الذين لم يعرفوا من هم، وماذا يريدون.
منذ البداية أمر القائد عاصم، مقاتلي الحرس الملكي: اذهبوا جميعا وفورا، إلى غرفة الملك، حياته هي أولويتنا، وبعد ذلك سنحاول إيجاد الملكة والأميرة.
فشرعوا جميعا يتوجهون إلى هناك وهو مثلهم، وفي الطريق اصطدموا بمقاتلي الزبير الذين انتشروا بسرعة في أرجاء القصر جميعها، فتقاتل الطرفان وفي البداية كانت الغلبة لعاصم ومقاتليه، لكن بعد
مدة عندما كثر مقاتلو الزبير بدأت الكفة تميل ناحيتهم؛ فأحد أهم ركائز خطة الزبير هو الاعتماد على وجود كثرة من مقاتليه في حفل التكريم تتجاوز وبكثير كل المقاتلين الذين سيدافعون عن الملك في
القصر كاملا. وظل عاصم ومن معه يقاتلون مقاتلي الزبير، وبدؤوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، ولم يستطيعوا بلوغ غرفة الملك. وخرج عاصم إلى إحدى باحات القصر، ومعه عدد من مقاتليه، واشتبكوا مع عدد أكبر منهم بكثير من مقاتلي الزبير. وفي هذه الأثناء كان الزبير قد وصل إلى هذا المكان، فلم يتبق من المقاتلين سوى عاصم والقلة القليلة جدا التي معه.
اقترب الزبير ومعه قيس وسهيل والداهية، وعندما رأى عاصم الزبير، توقف عن القتال وأمر من معه من المقاتلين بالتوقف، وصرخ سائلا الزبير: ما الذي يحدث، أيها الزبير؟! ما الذي يجري؟!
كان مقاتلو الزبير قد أحاطوا عاصما ومقاتليه على شكل حلقة، شكل عاصم ومن معه مركزها.
وحتى في تلك اللحظات الأخيرة القاسية، لم يتيقن عاصم بخيانة الزبير، وظل الشك يساوره.
اقترب الزبير من عاصم، وهو يمسك سيفه وخنجره، حتى بات على مسافة قريبة منه، وبات عاصم يشتم رائحة أنفاس الزبير التي فاحت غضبا وكراهية وحقدا.
قال الزبير بثقة وهدوء: لا شيء... لم يحدث شيء... فقط قتلت الملك والملكة والأميرة ووالدك...
ثم أحكم قبضته على الخنجر، ووضع يده اليسرى على كتف عاصم، وابتسم ابتسامة صفراء قذرة، وقال: والآن سأقتلك.
فطعن عاصما بخنجره الذهبي ثلاث طعنات في أعلى بطنه، وفي الطعنة الثالثة غرس الخنجر عميقا في بطن عاصم، ولفه بداخله.
بدأ الدم يسيل غزيرا من بطن عاصم ثم سال من فمه ومنخريه. وكان منذ بداية ما أخبره الزبير به قد فتح عينيه على أقصى اتساع غير مصدق ما يسمع.
وهكذا غادر الحياة وهو ينظر إلى ابتسامة الزبير القذرة، وهو يتذكر كلام أبيه القائد جاسم ذات يوم، عندما أخبره ألا يثق بأحد حتى ابن الملك الأمير ريان. لطالما كرر جاسم له هذا الكلام، لكن الحيلة
انطلت على عاصم. تساءل كيف وثق بالزبير طيلة هذه السنوات؟! تساءل كيف كان الزبير آخر من يمكن أن يشك به، فقد اعتبره ابن الملك من لحمه ودمه، وفي لحظات كثيرة وثق به أكثر من الأمير
ريان نفسه؟!
ندم في تلك اللحظات ندما عظيما جللا، وتألم ألما عارما، ليس على موته، بل لأنه السبب في مقتل الملك والآخرين.
الشيء الوحيد الأقسى عند حدوث الخيانة، من كونها أتت من أحب الأحباء الذين لطالما استعددت أن تفديهم بأرواحك، هو أنك ظللت مغفلا طيلة الوقت وسمحت لهم بخداعك برضاك وبكل سهولة. هذا هو آخر ما فكر به قائد الحرس الملكي.
ومنذ قتل الزبير الملك الهارب مرورا بكل من أجهز عليهم وانتهاء بعاصم، امتازت طعناته بأنها قوية عنيفة جدا مليئة بالغل والحقد والغضب الذي بداخله. وقد طلى خنجره بالسم؛ لأنه لم يرد ولو احتمالا صغيرا، لأن يظل أعداؤه على قيد الحياة لا سيما الملك الهارب.
***