32
*العام 476
" لقد مللت من تكرار هذه المسألة معك، أهذا آخر كلامك، يا دريد؟" هذا ما قاله الزبير لأخيه دريد، في آخر مرة يصر فيها عليه بأن يسمح بتنفيذ خطته الضخمة لتحرير البقاء.
ولكن أخاه رفض من جديد ومن جديد ومن جديد، ومع الضغوط الهائلة من الجميع وأكثرهم صديقه قيس، ولا سيما ضغط عقله عليه، بات الزبير يعيش في ضائقة وبات سجين الصراع في عقله،
وتوجب فعل شيء للتخلص من هذا العذاب والصراع الداخليين.
وفي مساء أحد الأيام توجه الزبير إلى دار دريد، ودعاه إلى مأدبة عنده في عصر اليوم التالي، فوافق دريد.
وفي اليوم التالي أتى دريد لدار أخيه الذي استقبله بترحاب عارم.
وجلس الاثنان في غرفة الضيوف على الأبسطة المفروشة على الأرض، وتحادثا أحاديث عادية. ومنذ مقدم دريد علت علامات الحزن والكآبة وجه الزبير، فسأله دريد: ما الأمر، أيها الزبير؟!
أحس أنك غير سعيد!
ارتبك الزبير، ثم استجمع قواه وأجاب بحزم: لا عليك، يا دريد. لا يوجد أي خطب.
وبعد مدة جلب الخادم إناء كبيرا مليئا بالرز واللحم، فدعا الزبير أخاه للبدء بالأكل ففعل ثم تبعه في ذلك.
جعل الزبير ينظر إلى أخيه بحزن عميق؛ وكأنه يشاهده يضرب أو حتى يقتل من قبل أحدهم. وبدأ الزبير يأكل ببطء وكأنه يأكل رغما عنه. لم يفهم دريد ماذا يحدث لأخيه؛ لكنه تناسى الأمر؛
فلم يرد أن يزعج أخاه بالمزيد من الأسئلة عن حاله وسبب حزنه.
وحالما فرغ الاثنان من تناول الطعام أتى الخادم وأزال الإناء ونظف المكان، وفورا استأذن الزبير من أخيه ودخل إلى غرفته وأخرج قارورة صغيرة بها سائل، فشرب السائل بسرعة ثم عاد
إلى غرفة الضيوف ليجلس مع أخيه.
ذلك السائل لم يكن إلا مضادا للسم الذي دسه الزبير في المأدبة التي أكل منها هو والأهم أخوه! نعم، فالزبير تفكر وتفكر وتفكر في حل للمشكلة بينه وبين أخيه الذي ما فتئ يرفض تنفيذ خطته،
ولم يجد أفضل من قتل أخيه، لكن بالسم ودون أن يعلم أحد. كان ذلك شيئا قذرا! خلا من المروءة والشجاعة والشهامة، لا سيما أنه تجاه أخيه! امتلأ بالخيانة والغدر! امتلأ بكل ما يتناقض والرجولة
والمبادئ التي تعلمها الزبير بل وتشبع بها منذ نعومة أظفاره! نعم، لقد عرف الزبير كل ذلك، واعترف به لنفسه وبكل صراحة، لكن لم يوجد هنالك حل أنسب.
احتار الزبير بين خيارين، الأول أن ينقلب على أخيه، والثاني أن يقتله بالسم. وفي النهاية استبعد الخيار الأول؛ لأنه إذا ما انقلب على أخيه فسيجلب العار لنفسه ولجده وكل عائلته ولقبيلته،
وربما تنقسم القبائل – بما فيها قبيلة الأسد نفسها - بينه وبين أخيه. فأي رجل في التاريخ مهما أحبه من حوله، فلا بد من وجود أعداء وكارهين له حتى من أقرب المقربين له، والزبير ليس استثناء.
والأهم من هذا كله، أنه لم يرد أن يعلم أخوه - الأعز على قلبه - أن الزبير خانه وانقلب عليه، الأمر الذي من شأنه أن يفطر قلب الزبير.
لهذا كله اختار الزبير خيار السم، وتوجه إلى مدينة البسطاء شرقي الكثبة، وقد عرف فيها الزبير عددا من التجار الذي يبيعون - سرا وبالخفاء عن السلطة - أشياء ممنوعة من قبلها، كالسحر المزعوم
وكالخمور الممنوعة وكالسموم. واشترى من أحد تجارها سما ومضادا له.
وتحادث الأخوان الحديث الأخير ثم استأذن دريد من أخيه للمغادرة، فأذن له، وقف دريد واعتزم المغادرة وبينما هو يفعل ذلك، قال الزبير: انتظر، يا دريد.
فالتف دريد، ونظر ببراءة إلى أخيه، وتساءل: ماذا هنالك؟!
اقترب الزبير منه واحتضنه بقوة هائلة هي أقصى قوة استخدمها في حياته، ثم قال بمرارة: سامحني، يا دريد، سامحني على كل شيء.
استغرب دريد؛ فالزبير لم يؤذه طيلة عمره، وتساءل: علامَ؟!
فأجاب الزبير: على كل شيء حدث...
ارتبك الزبير وازدرد ريقه، ثم أكمل: وسيحدث.
فقال دريد كلاما قطّع قلب الزبير أكثر وأكثر: أيها الزبير، مهما فعلت بي، فأنا أسامحك في هذه الدنيا وفي الآخرة.
ثم التف ورحل، والزبير لم يصدق الكلمات التي سمعها، كانت أسوأ شيء، وعلى النقيض أفضل شيء يمكن أن يقوله دريد في الآن ذاته.
عاد الزبير إلى داره إلى غرفة المعيشة، وأرخى ظهره على الحائط وأسند قدميه إلى الأرض وضم فخذيه إلى جسده، ثم أسند يديه على ركبيته، وأرخى رأسه. أنشأ يحس بألم شديد، وأنه أسوأ من الضباع، بدأ يشعر بمرارة الذنب بسبب خيانته وغدره وقبح ما فعله! لكن الغاية العظيمة تبرر الوسيلة القذرة! وفي الحياة، إذا عَظُمَتِ الغاية كثيرا فلا بد من التضحيات، وهذه أولها: التضحية بأخيه! وما أضخمها
من تضحية!
ظل الزبير يتجرع عذاب الانتظار وهو جالس جِلسته تلك، وأفكاره تأكله من الداخل، وعقله يعذبه ويحرقه بنار حامية، إذا كان مسرحا لحرب بين لوم الأخلاق وتبريرات الواقعية. ومر زمن طويل جدا
لكأنه عشرات السنين، وأتى الليل ثم حل الصباح وطرق باب دار الزبير. عرف من هو الطارق قبل أن يراه أو يسمع صوته، وأغمض عينيه بعمق لأنه عرف أن أخاه غادر الحياة، وبسببه هو، أغمض عينيه ندما وتمنى لو أنه خسر كل شيء حتى حياته، مقابل ألا يرحل أغلى الناس على قلبه عن الحياة. ولكن كل شيء فات الآن، وبم ينفع الندم؟!
نهض وفتح الباب.
وجد سهيلا بحالة يرثى لها، والخوف والفزع يشعان منه.
"عمي الزبير، أرجوك تعال فورا إلى دارنا." قال سهيل وصوته يتقطع من تنفسه السريع.
وهنا بدأ التمثيل، فالزبير تظاهر أنه لا يعرف شيئا، وظل التمثيل مستمرا بافتعاله علامات الدهشة والتفاجؤ، واستمر التمثيل وهو يركض إلى دار أخيه، ويتظاهر بالخوف عندما شاهده لا يتنفس ولا يتحرك، ثم وهو يسرع لجلب الطبيب. كان المشهد – رغم طوله – ممثلا ببراعة من رجل عهد الناس عنه الصدق والجرأة وعدم الخوف من أحد. كله كان تمثيلا في تمثيل، باستثناء شيء واحد، هو
ما فعله الزبير عندما أعلن الطبيب موت أخيه، أو بالأحرى مقتل أخيه. عندما اتجه إلى جثمان أخيه، وركع على ركبتيه، وأمسك بيده، واحمر وجهه وجعل يبكي البكاء المر، ونزلت دموعه غزيرة، وجعل يقول وصوته يتهدج: لا ترحل، يا أخي، لا ترحل، يا دريد.
هذا الكلام الذي قيل بصوت عال سمعته زوجة دريد وسهيل، لكنهم لم يسمعوا الكلام الذي قيل بصوت أعلى بكثير والذي دار في خلد الزبير عندما فكر: "كيف فعلتُ ذلك؟! كيف قتلت أخي؟! تبا للبقاء ولي وللحرب ولأحلامي ولطموحاتي! تبا لي!... تبا لي!... ليت كل شيء يضيع فدى عودتك، يا دريد! ليت كل شيء يضيع!..."
ولكن بم ينفع الندم الآن، أيها الزبير؟!
***
*العام 484.
"لماذا فعل الزبير كل ما فعله؟! ولماذا تصرف بهذه الطريقة؟! وكيف سولت له نفسه فعل كل هذا؟!" هذه تساؤلات طرحها كل الناس الذين عاشوا في زمنه، وحيرتهم، فكيف صدرت هذه الأفعال عن رجل لم يعهدوا عنه طيلة حياته سوى المروءة والشهامة والرجولة!
بدأ جنون العظمة يصيب الزبير منذ صغره، وولد هذا الجنون صغيرا أولا، وقد بدأ بسبب تعظيم جد الزبير له، والذي لطالما رآه الزبير على أنه أعظم رجل في الكون. ولم يكن جده الوحيد، فكل من حول الزبير عظموه منذ صغره. ومع مرور الزمن، أَكْثَرَ أقربُ أصدقائه قيس من تعظيمه ومديحه. حتى أخوه بعد أن صار شيخا تعامل معه على أنه الأهم كما لو كان هو الشيخ الحقيقي. والكل لطالما
تعامل معه على أنه الأعظم والأسطورة. ثم فعل ما فعله بتحرير البقاء، والذي ظن الجميع – قبل ذلك – أنه مستحيل. ما أنجزه يحدث مرة كل ألف عام؛ فقد حرر مملكة ضخمة الاتساع بأكملها
منطلقا من العدم والسراب؛ فهو الفقير المستضعف الذي أتى مما تبقى من بادية قاحلة. وبعد هذا كله، أتى التعظيم من أشخاص عظماء في المجتمع فمن أعظم من أمين وسمية والمغيرة وحورية وأمين؟!
ثم أتى من أهالي الممالك الثلاث التي قاتلت في حربي تحرير البقاء، بل وحتى من أهالي الممالك الأخرى التي وصلتهم حكاية الزبير الأسطورية. والأهم من كل ما سبق، أن الملك قصيا –
الذي يفترض أنه أعظم رجل في المملكة كلها – عظم الزبير أيما تعظيم.
واستمر هذا كله من هؤلاء جميعا ولفترة طويلة، وتعاظم أكثر وأكثر مع مرور الزمن، وبزخم أكبر من المقربين من الزبير كقيس.
كل هذا جعله يعتقد أنه أعظم رجل في الممالك الثلاث بل في التاريخ كله، وحتى أعظم من جده الذي لطالما قدسه، وكان ذات يوم يراه الأعظم على الإطلاق.
جنون العظمة هذا اختلط بطموح ولد منذ ميلاد الزبير، وظل يزداد مع مرور الزمن ويكبر، كالنار بعد أن تشتعل في حقل واسع لا حدود له.
جنون العظمة والطموح هذان اختلطا بأمر ثالث، وهو شعوره بأنه يستحق التكريم على كل ما فعله إبان الثورة، وأنه هو الذي زرع؛ ولذا هو من يستحق أن يجني الثمار لا غيره كالملك الهارب.
هذه الأمور الثلاثة شكلت خلطة، خلطت بدورها عقل الزبير، وجعلته يقرر الانقلاب على الملك وفعل كل ما فعله.
وساعد على ذلك تشجيع قيس والداهية وكل من أخبرهم من أهل الكثبة له، عندما أسر لهم بخطة الانقلاب؛ فقد أيدوه وقالوا له إنهم معه حتى النهاية، حتى لو أودت الخطة إلى التهلكة والموت.
ولكن كيف فعل هذا وهو يحب الملك وكل من آذاهم أقصى محبة؟!
أجاب الزبير عن ذلك عندما حادث نفسه: "بما أنني قتلت أغلى الناس على قلبي، أخي دريدا، فلن أوفر أحدا أخر إذا وقف أمام طموحاتي لاحقا. الحياة لا بد فيها من التضحيات، والعظماء لا بد وأن يدوسوا على قلوبهم؛ لتحقيق أحلامهم العظيمات وقدرهم الذي قرره الله لهم!"
ولذا قبل ما يزيد على العام تقريبا من الانقلاب، طفق الزبير ومن معه يعدون - بتركيز وتروٍّ وصبر- لكل خطوة من خطوات الخطة من أصغرها وأتفهها إلى أكبرها.
وقد اختار الزبير موعد الاغتيال، في فترة يكون فيها الأمير ريان في البقاء، وليس مسافرا كعادته، كي يتمكن من اغتياله، لكن الرياح لم تأتِ بما تشتهيه سفينة الزبير، عندما رفض الملك قصي
وابنه الأمير قدوم الأخير لحفل التكريم.
"كيف أقنع الزبير حارسين من حراس الملك بخيانته؟!" والإجابة أن الزبير قبل عام تقريبا من اغتيال الملك، طلب من الأخير معروفا، وهو أن يعين ابني خال الزبير حارسين للأخير، فوافق الملك، دون أن يعلم أنهما يخططان مع الزبير لاغتياله.
***
"... وأخيرا أتى هذا اليوم العظيم، اليوم الذي يجزى فيه كل رجل بما يستحقه..." قال قيس بصوت جهوري عال وهو يخطب في الحضور.
وفي هذه الأثناء وقف الزبير وهو يعلو قيسا بدرجتين، وهو يرفع رأسه وينظر إلى السماء نحو القمة وهو يحدق بعينين حادتين قاسيتين، بينما علت التعابير القاسية وجهه، وهو يمط شفتيه الغليظتين للأمام.
وظل هكذا بينما أكمل قيس خطاب التتويج: اليوم الذي يجزى فيه أهل الكثبة على مجهوداتهم الجبارة وأفكارهم النيرة التي قادت إلى تحرير البقاء بأكملها، والأهم من كل هذا أن فخرهم وصاحب هذه
الأفكار وقائد هذه المجهودات، ابنهم وقائدهم الزبير يلقى اليوم الجائزة التي يستحقها. الزبير أعظم رجل في الأرض، وهو الأفضل لقيادة المملكة وهو الأفضل للناس، ويستحق أن يتوج ملكا تكريما لأفكاره
البراقة ومجهوداته الخارقة.
إن الملك المقتول كان ضعيفا، ولم يكن بوسعه الحفاظ على المملكة، وقد عجز لسنوات كثيرة جدا على فعل أي شيء لتحرير البقاء، ولولا الزبير ما فعل شيئا يذكر. من يريد أن يتحدث عن المنطق والعقل والحق، فليخبرني بأي منطق وأي عقل وأي حق يمنح رجل ضعيف لم يفعل شيئا كل شيء، في حين يحرم رجل جبار فعل كل شيء من كل شيء؟! الزبير هو الأحق، الزبير هو الأجدر.
كانت الكلمات تناسب بعذوبة، وتقطر منها البلاغة من فِي قيس، بينما رقصت قلوب الحضور طربا بكلماته، وهم يقفون أمام الزبير وقيس بينما يحيط بالزبير النسور السوداء كالعادة. ففي تلك الشرفة
من القصر المطلة على الهواء الطلق، والتي احتوت على درج علا أرضا منخفضة، حضر أهم أهل الكثبة الذين شاركوا في الانقلاب أثناء الحفل، وفي مقدمتهم سهيل.
وأكمل الرجل البليغ: ذلك الملك لم تكن عنده طموحات في التوسع في الممالك المحيطة أو في فرض ضرائب وجزى عليهم. وبذلك لم يكن بمقدوره أن يجلب المال للناس ولخزينة الدولة. على العكس
من القائد القوي الحكيم الشجاع الزبير.
دائما ما علمنا التاريخ أن الذين ينجزون الانقلابات يدعون أخطاء ونقاط ضعف فيمن سبقوهم، حتى لو لم تكن موجودة أو واقعية؛ وذلك لتبرير الانقلاب أمام الشعب.
سحب قيس شهيقا عميقا، والفرح يجتاحه، ثم أكمل: والآن أعلن تتويج الزبير ملكا على مملكة البقاء بأكملها. فليتفضل قائد قبائل الكثبة سهيل بتتويج عمه الملك الزبير.
عندها تقدم مقاتل يحمل مخدة حمراء مطرزة حوافها باللون الذهبي الساحر، ويعلوها تاج ذهبي يسحر الأبصار أكثر وأكثر ومرصع بالألماس الثمين النادر. تقدم سهيل وأخذ التاج ثم صعد الدرجات ببطء
وجلال، ثم اقترب من عمه ووضع التاج على رأسه، وهو يقول: أعلن عمي وسيدي ومولاي الزبير ملكا على البقاء بأكملها.
وعندها فارت الدماء في عروق الحاضرين من شدة الحماس، واجتاحت الفرحة قلوبهم وابتسموا جميعا، وتنافست ابتساماتهم في مدى اتساعها، وظهرت السعادة واضحة على محيا سهيل وقيس
والحاضرين، الذين بدؤوا يهتفون بصوت عال موحد: يحيا الزبير... تحيا الكثبة... يحيا الزبير... تحيا الكثبة...
وظلوا يكررون كل هذا.
ظل الزبير رافعا رأسه بالوضعية نفسها بكامل تفاصيلها، بينما علا التاج الساحر رأسه، وظل على حاله هذا بينما أحاط به الهتاف. وبعد مدة التف وتوجه إلى العرش الموجود في تلك الشرفة والمستند
إلى أحد حوائط القصر وجلس عليه. فوقف على يمينه هلال وعلى شماله الأقرط، وأمامه على بعد قليل وعلى الجهة اليمنى وقف بيدق. وقد أُسنِدَ رأس الضيغم إلى الكرسي، فأمسك به الزبير
وأسنده إلى الأرض وهو يجلس على العرش. ومنذ ذلك اليوم ظل الزبير يمسك رأس الضيغم في كل اجتماعاته الهامة.
وبعدها بدأ قيس ينزل علم مملكة البقاء القديم علم آل الضياغم المرفوع، المكون في معظمه من اللون البنفسجي، والذي احتوى رأس أسد أسود في جزء منه. ثم وضع علما جديدا لم يره أحد من قبل،
هو علم ملوك الكثبة، علم الملك الزبير وآله، وبدأ يرفع به، حتى بات يرفرف عاليا. تكون ذلك العلم في يساره من مثلث أحمر يرمز إلى لون لباس بدو الكثبة، وفي ذلك المثلث وجدت رسمة للخنجر الذهبي الثمين الخاص بالزبير، والذي كانت له مكانة عظيمة في قلبه، والذي قتل به معظم خصومه الهامين أثناء الانقلاب، هذا الخنجر الذي أوصله للمُلْكِ. وانطلق من رأس المثلث خط فصل بين اللونين الأبيض في الأعلى والأسود في الأسفل. أما اللون الأسود فرمز إلى لون لباس فرقة الزنوج التي رأسها الزبير بنفسه، وأما اللون الأبيض فرمز إلى لون مشترك بين لباس بدو الكثبة ولباس فرقة الزنوج. وأما فرقة الزنوج فمنذ ذلك اليوم بات لها علم خاص بها، احتوى رأس نسر أبيض اللون وأحاط به اللون الأسود.
لم يترك الزبير وأتباعه شيئا دون التحضير له في هذه المناسبة، حتى الأمور التي قد تبدو ثانوية بل ربما تافهة، كمكان حفل التتويج أو العلم الجديد، فقد أعدوا لها بإتقان ودقة ومنذ زمن بعيد، فهؤلاء البدو ليسوا على الإطلاق أناسا هينين بسطاء، كما اعتقد معظم الناس عنهم!
***
وبعد تنصيبه ملكا، سرعان ما أعلن الزبير في البقاء بأكملها عدة قرارات حاسمة وخطيرة. فقد أعلن أن كل من يقتل "خائنا" –وهنا قصد الموالين للملك الراحل وآل الضياغم – فإن له ألف درهم ذهبي.
وهذا مبلغ هائل في ذلك الزمان والمكان. وأي رجل يقتل أحد أفراد آل الضياغم فله ثلاثون آلف درهم ذهبي. وعمم على الجنود الموالين له قتل أي واحد يتمكنون منه من آل الضياغم. وأعلن
رفع راتب كل جندي من جنود الجيش ثلاثة أضعاف، حتى أولئك الذين لم يكونوا من الكثبة.
هذه مبالغ هائلة جدا في ذلك الزمان والمكان، لكن الزبير استعد للتضحية بكامل خزينة الدولة من أجل تحقيق طموحاته، وسيعوض كل هذه الخسائر لاحقا بطرائق خطط لها مسبقا.
أما القرار الأخطر والأكثر إذهالا، فهو أن أي رجل يقتل الأمير ريانا فله نصف خزينة الدولة! شكل هذا مبلغا ضخما جدا جدا، لكن قرار الزبير دل على ذكائه؛ لأن الأمير هو التهديد الوحيد – آنئذ –
لعرش الزبير.
وأعلن الزبير أن أي رجل يعصيه، فمصيره القتل فورا لا السجن. وأي قبيلة تنقلب عليه، فكل رجالها يقتلون وتسبى كل نسائها وأطفالها دون استثناء، ويفرض على مدينة القبيلة أو منطقتها تضييق
مالي وتجاري. وأي رجل يذكر الزبير بسوء، يسجن مدى الحياة!
هذه القرارات اتسمت بأنها جنونية، لكن كان لا بد منها. فانقلاب مثل الذي أنجزه، وبالطريقة التي أنجزه بها، خصوصا أنه ضد ملك أدمن الشعب عشقه، توجب القمع والعنف والقسوة للسيطرة على البلاد، ومنع القلاقل والفتن.
وقرر الزبير فرض ضرائب باهظة على الأغنياء في مملكته، ووضع فكرة قد ينفذها مستقبلا، وهي فرض جزية على المملكتين المجاورتين وإلا فإنه سيغزوهما، وكل هذا تعويض لما سينفقه من
خزائن الدولة على من يطيعونه.
صحيح أنه بقراراته هذه ضحى بكثير من الأموال، ولكن هذا لا ينفي أنه بحث عن المال أيضا كما بحث عن السلطة – ولو بدرجة أقل - . ولكنه اعتاد على حياة صعبة في عقر الصحاري، وسيسعد بعُشْرِ ما وجد لدى الملك الهارب وآله الذين اعتادوا أضعافا من الترف مقارنة بالزبير وعائلته. كما أن الزبير سيعوض لاحقا كل ما سيخسره من خزينة الدولة على تثبيت أركان حكمه، من خلال السيطرة
على أموال وممتلكات الملك الهارب وكل آله – وما أكثرهم – وسيبيع كل قصور الملك الهارب وآله - باستثناء قصر الضيغم -.
كما أعلن الزبير تعيين قيس نائبا للملك، وقائدا عاما للجيش، في حين كان الزبير القائد الأعلى للجيش.
وبعد ذلك، بات العامة يلقبون الزبير بالملك ذي الندب، بسبب الندب الذي في وجهه، وبات التكريم - الذي تم فيه تصفية خصوم الزبير - يعرف لديهم بالتكريم الأسود.
***
بدأت الانهيارات بالجيش، والانقلابات والانشقاقات، وسيطر القادة المنتمون لقبائل الكثبة أو الموالون الآخرون للزبير على الغالبية العظمى من الجيش، ولم يبق سوى قلة قليلة من القادة الموالين للملك
الهارب، والذين تم قتلهم أو التنكيل بهم، في حين فر بعضهم. وهكذا أضحت الغالبية العظمى من الجيش تدين بالولاء للزبير.
وقد فر عدد من القادة الموالين للملك الهارب والذين بقوا أحياء بحياتهم. وسرعان ما هرع عدد منهم باتجاه بحران؛ لإعلام الأمير ريان بما حدث، وتحذيره من شرور الزبير. ولما وصل أول واحد
منهم بحران ودخل قصر الأمير، طلب لقاءه على الفور لإعلامه بأمر جلل.
خرج الأمير ريان ومعه مستشاره وصديقه الأمير عماد للقاء القائد في إحدى شرفات القصر الواسعة، التي أطلت من بعيد على منظر البحر الرمادي الخلاب حيث عانقت زرقة مياه البحر الصافية
زرقة السماء الصافية. منظر خلاب، على العكس تماما مما حمله القائد للأمير ريان من أنباء.
وانتشر الحرس في المكان.
"أهلا، بك بيننا" قال الأمير ريان فورا.
نظر القائد بحزن عميق إلى الأرض، وظهر كما لو أنه طفل في الخامسة من عمره شاهد أمرا مفزعا لا يحتمله الأطفال، إذ ظهر الخوف والارتباك واضحين على محياه، رغم أن بنيته الجسدية
اتسمت بالقوة الهائلة، لا سيما مع عضلاته المفتولة وصدره المنفوخ من ضخم عضلاته، مما بين للأمير أن أمرا جللا بالفعل قد حدث.
صمت القائد؛ مما دفع الأمير ليحفزه على الكلام: ما بك؟! ماذا هنالك؟! ماذا حدث؟!
ظل القائد يحدق في الأرض، وبدأ عرقه يسيل بغزارة - من عظم عبء ما يحمله – عندما شرع قائلا: سيدي...
عاود الصمت.
فبدأ الشك يساور الأمير الذي قال: ما بك، يا رجل؟! أنت قائد عظيم في الجيش، فكيف ترتبك من أمر ما حدث؟! أيا يكن ما حدث، فإنه لن يكون هائلا لدرجة إفزاع رجل مثلك.
الأمير المسكين لم يكن يعرف ما الذي حدث، وأنه كفيل لإفزاع جيش هائل لا مجرد فرد ولو قائدا في الجيش.
"بلى هو كذلك" قال القائد، وأكمل: مولاي، أنا آسف لما سأقوله...
بدأ الارتباك يجتاح الأمير، بينما أكمل القائد: أنا آسف لأنني أنا من سينقل الأخبار إليك... لكن ذلك حفاظا على حياتك...
عندها تسارعت دقات قلب الأمير، وشك أن أمرا ما حدث في المعتزة، فحفز القائد بحزم: أخبرني بسرعة ما الذي حدث!
فقال الرجل: الزبير انقلب على جلالة الملك...
تسارعت أنفاس القائد، ثم أغمض عينيه وقال بسرعة أصعب ما نطق به في حياته: واغتاله واغتال الملكة والأميرة شقيقتك والقائد جاسما وابنه القائد عاصما.
فتح الأمير ريان عينيه على أقصى اتساعهما ولم يصدق ما سمعه، ووقف لمدة طويلة على هذا الحال، دون أن يرمش، في حين اجتاح شعور غريب من الفزع صدره.
أما الأمير عماد فقد فزع هو الآخر من هذا الخبر الهائل، أراد أن يهدئ من روع الأمير، لكنه خاف أن يفعل أي شيء من شأنه حينئذ أن يغضب الأمير، لذا التزم الصمت والهدوء.
ظل الأمير على حاله ذلك، لمدة، ولما طفق يستوعب ما سمعه، ركض بسرعة نحو القائد وأمسكه بقوة هائلة من خناقه، ورفع ثيابه للأعلى، وصرخ: ماذا تقول؟!... أنت كاذب... أنت كاذب... مستحيل...
مستحيل...
الإنكار، أحد أهم الوسائل التي يستخدمها كثير من البشر لاستيعاب الطامات الكبرى وهضمها، أليس كذلك؟! وهذا هو ما فعله الأمير في تلك اللحظات.
اندفع عماد بسرعة وقوة نحو الأمير، وهو يمسك بخناق القائد الذي حاول الإفلات من قبضته، وأحس كما لو أن الأمير سيقتله. أمسك عماد بالأمير، وهو يصرخ عليه: هدئ من روعك، يا مولاي...
ليس له ذنب... إنه معك وليس ضدك...
"ابتعد" صرخ الأمير على صديقه ومستشاره، ودفعه بقوة هائلة، ثم عاود الإمساك بخناق القائد.
فما كان من عماد إلا أن صرخ بقوة أكبر: إهدأ، يا ريان... ما بك؟! عليك أن تتمالك نفسك، وأن تتماسك في هذه الظروف!
لم يعتد عماد مناداة الامير باسمه دون "مولاي" أو "سيدي" على الأقل أمام الآخرين، لكن في تلك اللحظات العصيبة جدا، وجب أن يفعل ذلك ليوقظ الأمير مما هو فيه.
من جراءة عماد عليه، ترك الأمير القائد – الذي سرعان ما ذهب بعيدا – ووضع يديه على رأسه غير مصدق ما يحدث، وبينما تسارعت أنفاسه، ركع على الأرض على ركبتيه، وهو ما زال واضعا يديه على رأسه، ثم أجهش بالبكاء الشديد، وسال الدمع الغزير من الفارس القوي المغوار الذي لم يهب أشد المعارك والحروب، كأنه طفل صغير. كان الأمر مهينا، بكاء الأمير وولي العهد الذي لطالما حرص
على الظهور بمظهر القسوة والشدة وأحيانا الفظاظة أمام الآخرين. لكن كل ذلك له تفسير، فما حدث أسوأ بألف مرة من كل مما حدث في حياته مسبقا، حتى باغتيال أقاربه – وهو طفل صغير -
من قبل ملك ياقوتة، وما تبع ذلك من معاناة في جبال اليبس لسنوات طويلة، بعد حياة الترف والقصور.
وبينما هو يجهش في البكاء بمرارة، سارع عماد للنزول بجواره واحتضنه، ثم صرخ بالقائد وفي كل الحرس: ارحلوا فورا...
ثم صرخ بصوت أعلى: جميعا.
أنشؤوا يرحلون، وهم القائد بالرحيل، لكن قبل أن يغادر قال: مولاي، عليك أن تنجو بحياتك... والأفضل أن تغادر البقاء نهائيا...
أنصت عماد لتلك الكلمات بتمعن، وشرع يفكر في حل للمعضلة؛ فكلام القائد صحيح.
ورحل القائد وجميع الحرس، ولم يبق سوى الأمير المنهار، وصديقه العزيز يحتضنه، وحدهما، يحيط بهما بحر هادئ وسماء صامتة، وسط هذا الصراح والجنون.
بدأ عماد يحاول تهدئة الأمير، وهو يقول: اهدأ، يا ريان... سنجد حلا...
"أبي، يا عماد" تهدج صوت الأمير وهو يقول هذه الكلمات باكيا البكاء الغزير، وأكمل: أبي... أمي... أختي... كلهم رحلوا... كل شيء ضاع في لحظة واحدة!
"اهدأ، يا ريان" قال عماد، وأكمل: أنت أقوى رجل في البسيطة، وستتجاوز كل هذا... لقد تجاوزت ما هو أعظم منه بمراحل كثيرة...
قال عماد هذا، وهو يدرك جيدا، أن ما حدث مسبقا في حياة الأمير، لا يعادل حبة رمل واحدة في صحراء الألم التي سيعيشها الأخير بعد ما فعله الزبير.
الأمير في تلك اللحظات، رغم أن الألم هو أبرز ما اجتاح صدره، إلا أنه شعر بغضب عارم تجاه الزبير الذي خانه وأباه، وبشعور هائل من الذنب؛ لأنه وثق به، ورغم شدة ألم وحزنه على أهله،
قال: الوغد، كيف صدقناه؟!... كيف وثقنا به؟!... لا بد وأن يدفع الثمن...
فأمسك عماد بصديقه من كوعيه، ونظر إليه بحزم وقال بعينين ملؤهما الثقة: سننتقم منه، يا ريان... سيدفع هذا الحقير الثمن غاليا...
ثم أمسك بالأمير من كتفيه، وقال: عدني بذلك، يا ريان...
ثم صرخ: عدني بذلك...
قال الأمير الباكي، وهو يحكم إغلاق قبضته اليمنى غضبا وحنقا، وبرزت العروق في عنقه من شدة الغضب: أعدك بقتله... أعدك أنني لن أغادر الحياة قبل أن أقتله...
***
حمل عماد صديقه الأمير، وساعده للذهاب إلى غرفة نومه، وسرعان ما أخبر عماد زوجة ريان بكل ما حدث، فانهارت هي الأخرى من هول ما سمعت، وحزنت الحزن العظيم وبكت البكاء الشديد، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، فقد وجب عليها أن تقف بجانب زوجها، الذي انهار، واستلقى كطفل صغير ضعيف محطم في سريره، مكتفيا بالبكاء والحزن.
عرف عماد منذ اللحظة الأولى أنه يجب الرحيل بأسرع سرعة، قبل أن يفتك الوحش المفترس الزبير بالأمير وعائلته، إلا أنه آثر الصبر لعدة ساعات، حتى يتيح للأمير أن يستوعب –ولو قليلا- ما حدث. وبعد أن مر الوقت الذي قدره مناسبا، أتى عماد إلى غرفة نوم الأمير، حيث استلقى الأخير مكسورا على سريره.
فقال عماد: مولاي...
لم يرد الأمير، فصرخ عماد: ريان، أجبني.
كانت زوجة الأمير هنية تجلس بالغرفة، فلما رأت كل هذا، أجهشت بالبكاء حزنا وشفقة على زوجها، الرجل العظيم الجبار، الذي لطالما وقف كجبل صامد، ولم تظن يوما أنه سيأتي يوم تشفق فيه عليه!
أكمل عماد صراخه: اسمعني جيدا، يحب أن ترحل وزوجتك وأبناءك في أقرب فرصة، لا بد وأن الوغد الزبير في طريقه إليك.
عندها تناسى الأمير كل الحزن، فنهض من نومه، وقال بصوت خافت مرتجف: نعم... نعم، يجب أن أنجو بزوجتي وأبنائي.
فقال عماد: هيا، لنتوجه لجبال اليبس فورا.
الأمير كان رجلا ذكيا، بل ربما نابغة، ولم يكن رجلا هينا بسيطا ساذجا. من دلائل قوة المرء، وشدة بأسه، إدراكه لقوة أعدائه، واعترافه بها، وعدم إنكارها وخداع نفسه. وقد أدرك الأمير جيدا
مدى ذكاء الزبير وقوته، وعلم أنه توقع أن يتجه – أي ريان – إلى جبال اليبس، ولا بد وأنه أرسل قوة ضخمة بانتظاره هناك.
لهذا كله قال: لا... هو ينتظرنا هناك... يجب أن نرحل إلى مكان آخر.
فقال عماد: وأين سنذهب؟! هو في كل مكان في البقاء!
رد الأمير: سأذهب إلى مملكة القدماء، هذا أفضل خيار.
قال عماد: ولكن ماذا يضمن لك أن يقبل سلطانها استقبالك هناك؟
أجاب الأمير: لا شيء... إذا لم يقبل بذلك، فهذا يعني أن الله يريد لي الهزيمة... لكن أعتقد أنه لن يرفض ذلك. القدماء بعيدة جدا عن البقاء، وليس بينهما علاقة، ولا أعتقد أن ملكها سيحسب حسابا
لرضا الزبير من عدمه... والسلطان زاهي رجل ذو نخوة لا يرفض إجارة الم...
سكت ريان من صعوبة ما يريد قوله، إلا أنه استجمع قوته في تلك الظروف الصعبة، وقال: المستضعفين.
شعر بالذل لأنه وصف نفسه ب "المستضعف"، لكنه أدرك أن تلك هي الحقيقة.
نهض الأمير من استلقاءته، وبعد ساعات أبحرت سفينتان متوسطتا الحجم من بحران إلى مملكة القدماء. كان على السفينة الأولى الأمير وزوجته وابناه وابنته، وصديقه عماد مع عدد من حرس الأمير
والبحارة، أما السفينة الثانية فامتلأت بحرس الأمير إضافة إلى عدد من البحارة. واحتوت السفينتان على عدد من الخيول، إضافة لكل المال الذي امتلكه ريان في بحران، واصطحبه معه كاملا؛ فهو لم
يعرف إن كانت إقامته في القدماء ستطول أم تقصر.
استغرقت الرحلة ما يزيد على الثلاثة أشهر تقريبا، وكانت رحلة سوداء مليئة بالحزن والاكتئاب والألم. وُجد في أسفل السفينة حجرات للنوم، خصصت إحداها للأمير وأهله. وأخرى أصغر بكثير خصصت لصديقه عماد. وأمضى الأمير طوال هذه الفترة وقته في اكتئاب أسودَ مطبق. لم ينبس ببنت شفة طيلة الشهور الثلاثة إلا للضرورة القصوى، حتى ظنت زوجته هنية وعماد أنه فقد القدرة على النطق.
وأمضى طيلة الوقت إما نائما لساعات طويلة، أو مستلقيا في سريره يحدق في الحائط لساعات طويلة، أو يجلس فوق دكة السفينة على كرسي خشبي صغير ذي ثلاث سيقان صغيرة، يحدق في المشهد
نفسه، البحر الرمادي الهائل الاتساع الذي أحاط بهم من كل جانب وهو يعانق السماء الزرقاء، زرقة في زرقة في كل مكان حوله، وسواد في سواد في كل مكان داخله. خافت هنية وعماد كثيرا على
الأمير، وتحادثا سرا بوجوب إبقاء أنظارهما عليه، خشية أن يحدث له شيء، أو أن يؤذي نفسه، وفي كثير من الأحيان راودت هنية وعماد تخيلات بأن الأمير فجأة سيلقي بنفسه من على دكة السفينة
إلى البحر، حتى إنهما تحادثا بذلك سرا، هذا الأمر الذي لم يظن كلاهما أنه سيحدث يوما ما للأمير الفظ القاسي الشديد أمام المآسي!
***
بعد الرحلة السوداء الطويلة، وصلت السفينتان المملوءتان بالأحزان إلى شاطئ مدينة الزهرة البيضاء شمال البحر الرمادي، وهي عاصمة القدماء.
نزل الأمير ومن معه من السفينتين، وشاهدوا منظرا خلابا حيث تعانق جمال الطبيعة وصفرة رمال الشاطئ وزرقة البحر الرمادي والسماء، مع جمال العمران حيث بنيت المدينة كلها من الحجارة الزرقاء، في منظر خلاب لم يستمتع به الأمير ريان، ففيه ما فيه! ونزل الأمير في الميناء فشاهد كثيرا من الرجال والنساء يجيئون ويذهبون، والتجار يتنقلون في كل مكان في مشهد حيوي نادر، وعلى الشاطئ
وُجدت راية عملاقة هائلة الحجم لمملكة القدماء، وقد تلونت بالأزرق الداكن، ورُسم عليها زهرة بيضاء.
وانطلق الأمير من هناك نحو قصر السلطان زاهي. وحالما علم السلطان بمقدمه، سارع إلى استقباله بحفاوة في قصر الزهرة البيضاء.
كان القصر مبنيا كله باللون الأزرق الذي تفاوت في دكانة وفتاحة لونه من جزء إلى آخر، وامتلأ القصر بالزخارف والأعمدة زرقاء اللون، أما أرضية القصر قتكونت من بلاط ناعم أملس باهظ الثمن،
وكانت كل بلاطة مربعة الشكل هائلة الحجم ومرسوم على كل واحدة منه زهرة بيضاء جميلة المنظر.
وكان حراس السلطان يلبسون اللون الأزرق وتعلو ثيابهم رسمة الزهرة البيضاء.
أتى السلطان ومعه زوجته السلطانة باهرة، وكان السلطان متوسط الطول قوي البنية وبرزت عضلات صدره، وكان شعر رأسه أسود كثيف، وله شارب أسود كثيف، وكذلك غطى الشعر الأسود الكثيف
ذقنه. وكان عمره سبعة وأربعين عاما.
"أهلا بالأمير الحليف الحبيب، ريان" قال السلطان ليطمئن الأمير، ونجح في ذلك؛ إذ استبشر الأخير خيرا.
"أهلا بك" قال الأمير المكتئب، وهو مطأطئ رأسه في الأرض بذل.
فقال السلطان: رحم الله الملك، وعظم الله أجركم.
بدا الذهول واضحا على محيا الأمير وعماد ومن معهما، فقال السلطان: لا تستغرب، لي رجال في كل مكان، وبيننا الحمام الزاجل.
فأراد الأمير الحديث، لكنه أحس بحرج بالغ فالتزم الصمت، فقال السلطان: لا عليك، يا ريان... أنت وأهلك وكل من معك موضع ترحيب هنا... واعتبر هذا بلدك، وأننا أهلك...
ثم أضاف: أنا رجل يجير المَضِيم، ولا أرده، ولو دفعت حياتي ثمنا لذلك... تأكد من هذا جيدا... وذلك الوغد الخائن الزبير أشعل في صدري نارا تجاهه، وتجاه بشاعة ما فعله وما يحمله من شر في
قلبه الأسود، الذي غدر بالملك قصي، الذي لم يلق منه الزبير الغدار إلا كل محبة ووفاء.
خف حزن الأمير بسبب كلام السلطان، ولكن النار ظلت مشتعلة بداخله تجاه الزبير.
***
" لقد مللت من تكرار هذه المسألة معك، أهذا آخر كلامك، يا دريد؟" هذا ما قاله الزبير لأخيه دريد، في آخر مرة يصر فيها عليه بأن يسمح بتنفيذ خطته الضخمة لتحرير البقاء.
ولكن أخاه رفض من جديد ومن جديد ومن جديد، ومع الضغوط الهائلة من الجميع وأكثرهم صديقه قيس، ولا سيما ضغط عقله عليه، بات الزبير يعيش في ضائقة وبات سجين الصراع في عقله،
وتوجب فعل شيء للتخلص من هذا العذاب والصراع الداخليين.
وفي مساء أحد الأيام توجه الزبير إلى دار دريد، ودعاه إلى مأدبة عنده في عصر اليوم التالي، فوافق دريد.
وفي اليوم التالي أتى دريد لدار أخيه الذي استقبله بترحاب عارم.
وجلس الاثنان في غرفة الضيوف على الأبسطة المفروشة على الأرض، وتحادثا أحاديث عادية. ومنذ مقدم دريد علت علامات الحزن والكآبة وجه الزبير، فسأله دريد: ما الأمر، أيها الزبير؟!
أحس أنك غير سعيد!
ارتبك الزبير، ثم استجمع قواه وأجاب بحزم: لا عليك، يا دريد. لا يوجد أي خطب.
وبعد مدة جلب الخادم إناء كبيرا مليئا بالرز واللحم، فدعا الزبير أخاه للبدء بالأكل ففعل ثم تبعه في ذلك.
جعل الزبير ينظر إلى أخيه بحزن عميق؛ وكأنه يشاهده يضرب أو حتى يقتل من قبل أحدهم. وبدأ الزبير يأكل ببطء وكأنه يأكل رغما عنه. لم يفهم دريد ماذا يحدث لأخيه؛ لكنه تناسى الأمر؛
فلم يرد أن يزعج أخاه بالمزيد من الأسئلة عن حاله وسبب حزنه.
وحالما فرغ الاثنان من تناول الطعام أتى الخادم وأزال الإناء ونظف المكان، وفورا استأذن الزبير من أخيه ودخل إلى غرفته وأخرج قارورة صغيرة بها سائل، فشرب السائل بسرعة ثم عاد
إلى غرفة الضيوف ليجلس مع أخيه.
ذلك السائل لم يكن إلا مضادا للسم الذي دسه الزبير في المأدبة التي أكل منها هو والأهم أخوه! نعم، فالزبير تفكر وتفكر وتفكر في حل للمشكلة بينه وبين أخيه الذي ما فتئ يرفض تنفيذ خطته،
ولم يجد أفضل من قتل أخيه، لكن بالسم ودون أن يعلم أحد. كان ذلك شيئا قذرا! خلا من المروءة والشجاعة والشهامة، لا سيما أنه تجاه أخيه! امتلأ بالخيانة والغدر! امتلأ بكل ما يتناقض والرجولة
والمبادئ التي تعلمها الزبير بل وتشبع بها منذ نعومة أظفاره! نعم، لقد عرف الزبير كل ذلك، واعترف به لنفسه وبكل صراحة، لكن لم يوجد هنالك حل أنسب.
احتار الزبير بين خيارين، الأول أن ينقلب على أخيه، والثاني أن يقتله بالسم. وفي النهاية استبعد الخيار الأول؛ لأنه إذا ما انقلب على أخيه فسيجلب العار لنفسه ولجده وكل عائلته ولقبيلته،
وربما تنقسم القبائل – بما فيها قبيلة الأسد نفسها - بينه وبين أخيه. فأي رجل في التاريخ مهما أحبه من حوله، فلا بد من وجود أعداء وكارهين له حتى من أقرب المقربين له، والزبير ليس استثناء.
والأهم من هذا كله، أنه لم يرد أن يعلم أخوه - الأعز على قلبه - أن الزبير خانه وانقلب عليه، الأمر الذي من شأنه أن يفطر قلب الزبير.
لهذا كله اختار الزبير خيار السم، وتوجه إلى مدينة البسطاء شرقي الكثبة، وقد عرف فيها الزبير عددا من التجار الذي يبيعون - سرا وبالخفاء عن السلطة - أشياء ممنوعة من قبلها، كالسحر المزعوم
وكالخمور الممنوعة وكالسموم. واشترى من أحد تجارها سما ومضادا له.
وتحادث الأخوان الحديث الأخير ثم استأذن دريد من أخيه للمغادرة، فأذن له، وقف دريد واعتزم المغادرة وبينما هو يفعل ذلك، قال الزبير: انتظر، يا دريد.
فالتف دريد، ونظر ببراءة إلى أخيه، وتساءل: ماذا هنالك؟!
اقترب الزبير منه واحتضنه بقوة هائلة هي أقصى قوة استخدمها في حياته، ثم قال بمرارة: سامحني، يا دريد، سامحني على كل شيء.
استغرب دريد؛ فالزبير لم يؤذه طيلة عمره، وتساءل: علامَ؟!
فأجاب الزبير: على كل شيء حدث...
ارتبك الزبير وازدرد ريقه، ثم أكمل: وسيحدث.
فقال دريد كلاما قطّع قلب الزبير أكثر وأكثر: أيها الزبير، مهما فعلت بي، فأنا أسامحك في هذه الدنيا وفي الآخرة.
ثم التف ورحل، والزبير لم يصدق الكلمات التي سمعها، كانت أسوأ شيء، وعلى النقيض أفضل شيء يمكن أن يقوله دريد في الآن ذاته.
عاد الزبير إلى داره إلى غرفة المعيشة، وأرخى ظهره على الحائط وأسند قدميه إلى الأرض وضم فخذيه إلى جسده، ثم أسند يديه على ركبيته، وأرخى رأسه. أنشأ يحس بألم شديد، وأنه أسوأ من الضباع، بدأ يشعر بمرارة الذنب بسبب خيانته وغدره وقبح ما فعله! لكن الغاية العظيمة تبرر الوسيلة القذرة! وفي الحياة، إذا عَظُمَتِ الغاية كثيرا فلا بد من التضحيات، وهذه أولها: التضحية بأخيه! وما أضخمها
من تضحية!
ظل الزبير يتجرع عذاب الانتظار وهو جالس جِلسته تلك، وأفكاره تأكله من الداخل، وعقله يعذبه ويحرقه بنار حامية، إذا كان مسرحا لحرب بين لوم الأخلاق وتبريرات الواقعية. ومر زمن طويل جدا
لكأنه عشرات السنين، وأتى الليل ثم حل الصباح وطرق باب دار الزبير. عرف من هو الطارق قبل أن يراه أو يسمع صوته، وأغمض عينيه بعمق لأنه عرف أن أخاه غادر الحياة، وبسببه هو، أغمض عينيه ندما وتمنى لو أنه خسر كل شيء حتى حياته، مقابل ألا يرحل أغلى الناس على قلبه عن الحياة. ولكن كل شيء فات الآن، وبم ينفع الندم؟!
نهض وفتح الباب.
وجد سهيلا بحالة يرثى لها، والخوف والفزع يشعان منه.
"عمي الزبير، أرجوك تعال فورا إلى دارنا." قال سهيل وصوته يتقطع من تنفسه السريع.
وهنا بدأ التمثيل، فالزبير تظاهر أنه لا يعرف شيئا، وظل التمثيل مستمرا بافتعاله علامات الدهشة والتفاجؤ، واستمر التمثيل وهو يركض إلى دار أخيه، ويتظاهر بالخوف عندما شاهده لا يتنفس ولا يتحرك، ثم وهو يسرع لجلب الطبيب. كان المشهد – رغم طوله – ممثلا ببراعة من رجل عهد الناس عنه الصدق والجرأة وعدم الخوف من أحد. كله كان تمثيلا في تمثيل، باستثناء شيء واحد، هو
ما فعله الزبير عندما أعلن الطبيب موت أخيه، أو بالأحرى مقتل أخيه. عندما اتجه إلى جثمان أخيه، وركع على ركبتيه، وأمسك بيده، واحمر وجهه وجعل يبكي البكاء المر، ونزلت دموعه غزيرة، وجعل يقول وصوته يتهدج: لا ترحل، يا أخي، لا ترحل، يا دريد.
هذا الكلام الذي قيل بصوت عال سمعته زوجة دريد وسهيل، لكنهم لم يسمعوا الكلام الذي قيل بصوت أعلى بكثير والذي دار في خلد الزبير عندما فكر: "كيف فعلتُ ذلك؟! كيف قتلت أخي؟! تبا للبقاء ولي وللحرب ولأحلامي ولطموحاتي! تبا لي!... تبا لي!... ليت كل شيء يضيع فدى عودتك، يا دريد! ليت كل شيء يضيع!..."
ولكن بم ينفع الندم الآن، أيها الزبير؟!
***
*العام 484.
"لماذا فعل الزبير كل ما فعله؟! ولماذا تصرف بهذه الطريقة؟! وكيف سولت له نفسه فعل كل هذا؟!" هذه تساؤلات طرحها كل الناس الذين عاشوا في زمنه، وحيرتهم، فكيف صدرت هذه الأفعال عن رجل لم يعهدوا عنه طيلة حياته سوى المروءة والشهامة والرجولة!
بدأ جنون العظمة يصيب الزبير منذ صغره، وولد هذا الجنون صغيرا أولا، وقد بدأ بسبب تعظيم جد الزبير له، والذي لطالما رآه الزبير على أنه أعظم رجل في الكون. ولم يكن جده الوحيد، فكل من حول الزبير عظموه منذ صغره. ومع مرور الزمن، أَكْثَرَ أقربُ أصدقائه قيس من تعظيمه ومديحه. حتى أخوه بعد أن صار شيخا تعامل معه على أنه الأهم كما لو كان هو الشيخ الحقيقي. والكل لطالما
تعامل معه على أنه الأعظم والأسطورة. ثم فعل ما فعله بتحرير البقاء، والذي ظن الجميع – قبل ذلك – أنه مستحيل. ما أنجزه يحدث مرة كل ألف عام؛ فقد حرر مملكة ضخمة الاتساع بأكملها
منطلقا من العدم والسراب؛ فهو الفقير المستضعف الذي أتى مما تبقى من بادية قاحلة. وبعد هذا كله، أتى التعظيم من أشخاص عظماء في المجتمع فمن أعظم من أمين وسمية والمغيرة وحورية وأمين؟!
ثم أتى من أهالي الممالك الثلاث التي قاتلت في حربي تحرير البقاء، بل وحتى من أهالي الممالك الأخرى التي وصلتهم حكاية الزبير الأسطورية. والأهم من كل ما سبق، أن الملك قصيا –
الذي يفترض أنه أعظم رجل في المملكة كلها – عظم الزبير أيما تعظيم.
واستمر هذا كله من هؤلاء جميعا ولفترة طويلة، وتعاظم أكثر وأكثر مع مرور الزمن، وبزخم أكبر من المقربين من الزبير كقيس.
كل هذا جعله يعتقد أنه أعظم رجل في الممالك الثلاث بل في التاريخ كله، وحتى أعظم من جده الذي لطالما قدسه، وكان ذات يوم يراه الأعظم على الإطلاق.
جنون العظمة هذا اختلط بطموح ولد منذ ميلاد الزبير، وظل يزداد مع مرور الزمن ويكبر، كالنار بعد أن تشتعل في حقل واسع لا حدود له.
جنون العظمة والطموح هذان اختلطا بأمر ثالث، وهو شعوره بأنه يستحق التكريم على كل ما فعله إبان الثورة، وأنه هو الذي زرع؛ ولذا هو من يستحق أن يجني الثمار لا غيره كالملك الهارب.
هذه الأمور الثلاثة شكلت خلطة، خلطت بدورها عقل الزبير، وجعلته يقرر الانقلاب على الملك وفعل كل ما فعله.
وساعد على ذلك تشجيع قيس والداهية وكل من أخبرهم من أهل الكثبة له، عندما أسر لهم بخطة الانقلاب؛ فقد أيدوه وقالوا له إنهم معه حتى النهاية، حتى لو أودت الخطة إلى التهلكة والموت.
ولكن كيف فعل هذا وهو يحب الملك وكل من آذاهم أقصى محبة؟!
أجاب الزبير عن ذلك عندما حادث نفسه: "بما أنني قتلت أغلى الناس على قلبي، أخي دريدا، فلن أوفر أحدا أخر إذا وقف أمام طموحاتي لاحقا. الحياة لا بد فيها من التضحيات، والعظماء لا بد وأن يدوسوا على قلوبهم؛ لتحقيق أحلامهم العظيمات وقدرهم الذي قرره الله لهم!"
ولذا قبل ما يزيد على العام تقريبا من الانقلاب، طفق الزبير ومن معه يعدون - بتركيز وتروٍّ وصبر- لكل خطوة من خطوات الخطة من أصغرها وأتفهها إلى أكبرها.
وقد اختار الزبير موعد الاغتيال، في فترة يكون فيها الأمير ريان في البقاء، وليس مسافرا كعادته، كي يتمكن من اغتياله، لكن الرياح لم تأتِ بما تشتهيه سفينة الزبير، عندما رفض الملك قصي
وابنه الأمير قدوم الأخير لحفل التكريم.
"كيف أقنع الزبير حارسين من حراس الملك بخيانته؟!" والإجابة أن الزبير قبل عام تقريبا من اغتيال الملك، طلب من الأخير معروفا، وهو أن يعين ابني خال الزبير حارسين للأخير، فوافق الملك، دون أن يعلم أنهما يخططان مع الزبير لاغتياله.
***
"... وأخيرا أتى هذا اليوم العظيم، اليوم الذي يجزى فيه كل رجل بما يستحقه..." قال قيس بصوت جهوري عال وهو يخطب في الحضور.
وفي هذه الأثناء وقف الزبير وهو يعلو قيسا بدرجتين، وهو يرفع رأسه وينظر إلى السماء نحو القمة وهو يحدق بعينين حادتين قاسيتين، بينما علت التعابير القاسية وجهه، وهو يمط شفتيه الغليظتين للأمام.
وظل هكذا بينما أكمل قيس خطاب التتويج: اليوم الذي يجزى فيه أهل الكثبة على مجهوداتهم الجبارة وأفكارهم النيرة التي قادت إلى تحرير البقاء بأكملها، والأهم من كل هذا أن فخرهم وصاحب هذه
الأفكار وقائد هذه المجهودات، ابنهم وقائدهم الزبير يلقى اليوم الجائزة التي يستحقها. الزبير أعظم رجل في الأرض، وهو الأفضل لقيادة المملكة وهو الأفضل للناس، ويستحق أن يتوج ملكا تكريما لأفكاره
البراقة ومجهوداته الخارقة.
إن الملك المقتول كان ضعيفا، ولم يكن بوسعه الحفاظ على المملكة، وقد عجز لسنوات كثيرة جدا على فعل أي شيء لتحرير البقاء، ولولا الزبير ما فعل شيئا يذكر. من يريد أن يتحدث عن المنطق والعقل والحق، فليخبرني بأي منطق وأي عقل وأي حق يمنح رجل ضعيف لم يفعل شيئا كل شيء، في حين يحرم رجل جبار فعل كل شيء من كل شيء؟! الزبير هو الأحق، الزبير هو الأجدر.
كانت الكلمات تناسب بعذوبة، وتقطر منها البلاغة من فِي قيس، بينما رقصت قلوب الحضور طربا بكلماته، وهم يقفون أمام الزبير وقيس بينما يحيط بالزبير النسور السوداء كالعادة. ففي تلك الشرفة
من القصر المطلة على الهواء الطلق، والتي احتوت على درج علا أرضا منخفضة، حضر أهم أهل الكثبة الذين شاركوا في الانقلاب أثناء الحفل، وفي مقدمتهم سهيل.
وأكمل الرجل البليغ: ذلك الملك لم تكن عنده طموحات في التوسع في الممالك المحيطة أو في فرض ضرائب وجزى عليهم. وبذلك لم يكن بمقدوره أن يجلب المال للناس ولخزينة الدولة. على العكس
من القائد القوي الحكيم الشجاع الزبير.
دائما ما علمنا التاريخ أن الذين ينجزون الانقلابات يدعون أخطاء ونقاط ضعف فيمن سبقوهم، حتى لو لم تكن موجودة أو واقعية؛ وذلك لتبرير الانقلاب أمام الشعب.
سحب قيس شهيقا عميقا، والفرح يجتاحه، ثم أكمل: والآن أعلن تتويج الزبير ملكا على مملكة البقاء بأكملها. فليتفضل قائد قبائل الكثبة سهيل بتتويج عمه الملك الزبير.
عندها تقدم مقاتل يحمل مخدة حمراء مطرزة حوافها باللون الذهبي الساحر، ويعلوها تاج ذهبي يسحر الأبصار أكثر وأكثر ومرصع بالألماس الثمين النادر. تقدم سهيل وأخذ التاج ثم صعد الدرجات ببطء
وجلال، ثم اقترب من عمه ووضع التاج على رأسه، وهو يقول: أعلن عمي وسيدي ومولاي الزبير ملكا على البقاء بأكملها.
وعندها فارت الدماء في عروق الحاضرين من شدة الحماس، واجتاحت الفرحة قلوبهم وابتسموا جميعا، وتنافست ابتساماتهم في مدى اتساعها، وظهرت السعادة واضحة على محيا سهيل وقيس
والحاضرين، الذين بدؤوا يهتفون بصوت عال موحد: يحيا الزبير... تحيا الكثبة... يحيا الزبير... تحيا الكثبة...
وظلوا يكررون كل هذا.
ظل الزبير رافعا رأسه بالوضعية نفسها بكامل تفاصيلها، بينما علا التاج الساحر رأسه، وظل على حاله هذا بينما أحاط به الهتاف. وبعد مدة التف وتوجه إلى العرش الموجود في تلك الشرفة والمستند
إلى أحد حوائط القصر وجلس عليه. فوقف على يمينه هلال وعلى شماله الأقرط، وأمامه على بعد قليل وعلى الجهة اليمنى وقف بيدق. وقد أُسنِدَ رأس الضيغم إلى الكرسي، فأمسك به الزبير
وأسنده إلى الأرض وهو يجلس على العرش. ومنذ ذلك اليوم ظل الزبير يمسك رأس الضيغم في كل اجتماعاته الهامة.
وبعدها بدأ قيس ينزل علم مملكة البقاء القديم علم آل الضياغم المرفوع، المكون في معظمه من اللون البنفسجي، والذي احتوى رأس أسد أسود في جزء منه. ثم وضع علما جديدا لم يره أحد من قبل،
هو علم ملوك الكثبة، علم الملك الزبير وآله، وبدأ يرفع به، حتى بات يرفرف عاليا. تكون ذلك العلم في يساره من مثلث أحمر يرمز إلى لون لباس بدو الكثبة، وفي ذلك المثلث وجدت رسمة للخنجر الذهبي الثمين الخاص بالزبير، والذي كانت له مكانة عظيمة في قلبه، والذي قتل به معظم خصومه الهامين أثناء الانقلاب، هذا الخنجر الذي أوصله للمُلْكِ. وانطلق من رأس المثلث خط فصل بين اللونين الأبيض في الأعلى والأسود في الأسفل. أما اللون الأسود فرمز إلى لون لباس فرقة الزنوج التي رأسها الزبير بنفسه، وأما اللون الأبيض فرمز إلى لون مشترك بين لباس بدو الكثبة ولباس فرقة الزنوج. وأما فرقة الزنوج فمنذ ذلك اليوم بات لها علم خاص بها، احتوى رأس نسر أبيض اللون وأحاط به اللون الأسود.
لم يترك الزبير وأتباعه شيئا دون التحضير له في هذه المناسبة، حتى الأمور التي قد تبدو ثانوية بل ربما تافهة، كمكان حفل التتويج أو العلم الجديد، فقد أعدوا لها بإتقان ودقة ومنذ زمن بعيد، فهؤلاء البدو ليسوا على الإطلاق أناسا هينين بسطاء، كما اعتقد معظم الناس عنهم!
***
وبعد تنصيبه ملكا، سرعان ما أعلن الزبير في البقاء بأكملها عدة قرارات حاسمة وخطيرة. فقد أعلن أن كل من يقتل "خائنا" –وهنا قصد الموالين للملك الراحل وآل الضياغم – فإن له ألف درهم ذهبي.
وهذا مبلغ هائل في ذلك الزمان والمكان. وأي رجل يقتل أحد أفراد آل الضياغم فله ثلاثون آلف درهم ذهبي. وعمم على الجنود الموالين له قتل أي واحد يتمكنون منه من آل الضياغم. وأعلن
رفع راتب كل جندي من جنود الجيش ثلاثة أضعاف، حتى أولئك الذين لم يكونوا من الكثبة.
هذه مبالغ هائلة جدا في ذلك الزمان والمكان، لكن الزبير استعد للتضحية بكامل خزينة الدولة من أجل تحقيق طموحاته، وسيعوض كل هذه الخسائر لاحقا بطرائق خطط لها مسبقا.
أما القرار الأخطر والأكثر إذهالا، فهو أن أي رجل يقتل الأمير ريانا فله نصف خزينة الدولة! شكل هذا مبلغا ضخما جدا جدا، لكن قرار الزبير دل على ذكائه؛ لأن الأمير هو التهديد الوحيد – آنئذ –
لعرش الزبير.
وأعلن الزبير أن أي رجل يعصيه، فمصيره القتل فورا لا السجن. وأي قبيلة تنقلب عليه، فكل رجالها يقتلون وتسبى كل نسائها وأطفالها دون استثناء، ويفرض على مدينة القبيلة أو منطقتها تضييق
مالي وتجاري. وأي رجل يذكر الزبير بسوء، يسجن مدى الحياة!
هذه القرارات اتسمت بأنها جنونية، لكن كان لا بد منها. فانقلاب مثل الذي أنجزه، وبالطريقة التي أنجزه بها، خصوصا أنه ضد ملك أدمن الشعب عشقه، توجب القمع والعنف والقسوة للسيطرة على البلاد، ومنع القلاقل والفتن.
وقرر الزبير فرض ضرائب باهظة على الأغنياء في مملكته، ووضع فكرة قد ينفذها مستقبلا، وهي فرض جزية على المملكتين المجاورتين وإلا فإنه سيغزوهما، وكل هذا تعويض لما سينفقه من
خزائن الدولة على من يطيعونه.
صحيح أنه بقراراته هذه ضحى بكثير من الأموال، ولكن هذا لا ينفي أنه بحث عن المال أيضا كما بحث عن السلطة – ولو بدرجة أقل - . ولكنه اعتاد على حياة صعبة في عقر الصحاري، وسيسعد بعُشْرِ ما وجد لدى الملك الهارب وآله الذين اعتادوا أضعافا من الترف مقارنة بالزبير وعائلته. كما أن الزبير سيعوض لاحقا كل ما سيخسره من خزينة الدولة على تثبيت أركان حكمه، من خلال السيطرة
على أموال وممتلكات الملك الهارب وكل آله – وما أكثرهم – وسيبيع كل قصور الملك الهارب وآله - باستثناء قصر الضيغم -.
كما أعلن الزبير تعيين قيس نائبا للملك، وقائدا عاما للجيش، في حين كان الزبير القائد الأعلى للجيش.
وبعد ذلك، بات العامة يلقبون الزبير بالملك ذي الندب، بسبب الندب الذي في وجهه، وبات التكريم - الذي تم فيه تصفية خصوم الزبير - يعرف لديهم بالتكريم الأسود.
***
بدأت الانهيارات بالجيش، والانقلابات والانشقاقات، وسيطر القادة المنتمون لقبائل الكثبة أو الموالون الآخرون للزبير على الغالبية العظمى من الجيش، ولم يبق سوى قلة قليلة من القادة الموالين للملك
الهارب، والذين تم قتلهم أو التنكيل بهم، في حين فر بعضهم. وهكذا أضحت الغالبية العظمى من الجيش تدين بالولاء للزبير.
وقد فر عدد من القادة الموالين للملك الهارب والذين بقوا أحياء بحياتهم. وسرعان ما هرع عدد منهم باتجاه بحران؛ لإعلام الأمير ريان بما حدث، وتحذيره من شرور الزبير. ولما وصل أول واحد
منهم بحران ودخل قصر الأمير، طلب لقاءه على الفور لإعلامه بأمر جلل.
خرج الأمير ريان ومعه مستشاره وصديقه الأمير عماد للقاء القائد في إحدى شرفات القصر الواسعة، التي أطلت من بعيد على منظر البحر الرمادي الخلاب حيث عانقت زرقة مياه البحر الصافية
زرقة السماء الصافية. منظر خلاب، على العكس تماما مما حمله القائد للأمير ريان من أنباء.
وانتشر الحرس في المكان.
"أهلا، بك بيننا" قال الأمير ريان فورا.
نظر القائد بحزن عميق إلى الأرض، وظهر كما لو أنه طفل في الخامسة من عمره شاهد أمرا مفزعا لا يحتمله الأطفال، إذ ظهر الخوف والارتباك واضحين على محياه، رغم أن بنيته الجسدية
اتسمت بالقوة الهائلة، لا سيما مع عضلاته المفتولة وصدره المنفوخ من ضخم عضلاته، مما بين للأمير أن أمرا جللا بالفعل قد حدث.
صمت القائد؛ مما دفع الأمير ليحفزه على الكلام: ما بك؟! ماذا هنالك؟! ماذا حدث؟!
ظل القائد يحدق في الأرض، وبدأ عرقه يسيل بغزارة - من عظم عبء ما يحمله – عندما شرع قائلا: سيدي...
عاود الصمت.
فبدأ الشك يساور الأمير الذي قال: ما بك، يا رجل؟! أنت قائد عظيم في الجيش، فكيف ترتبك من أمر ما حدث؟! أيا يكن ما حدث، فإنه لن يكون هائلا لدرجة إفزاع رجل مثلك.
الأمير المسكين لم يكن يعرف ما الذي حدث، وأنه كفيل لإفزاع جيش هائل لا مجرد فرد ولو قائدا في الجيش.
"بلى هو كذلك" قال القائد، وأكمل: مولاي، أنا آسف لما سأقوله...
بدأ الارتباك يجتاح الأمير، بينما أكمل القائد: أنا آسف لأنني أنا من سينقل الأخبار إليك... لكن ذلك حفاظا على حياتك...
عندها تسارعت دقات قلب الأمير، وشك أن أمرا ما حدث في المعتزة، فحفز القائد بحزم: أخبرني بسرعة ما الذي حدث!
فقال الرجل: الزبير انقلب على جلالة الملك...
تسارعت أنفاس القائد، ثم أغمض عينيه وقال بسرعة أصعب ما نطق به في حياته: واغتاله واغتال الملكة والأميرة شقيقتك والقائد جاسما وابنه القائد عاصما.
فتح الأمير ريان عينيه على أقصى اتساعهما ولم يصدق ما سمعه، ووقف لمدة طويلة على هذا الحال، دون أن يرمش، في حين اجتاح شعور غريب من الفزع صدره.
أما الأمير عماد فقد فزع هو الآخر من هذا الخبر الهائل، أراد أن يهدئ من روع الأمير، لكنه خاف أن يفعل أي شيء من شأنه حينئذ أن يغضب الأمير، لذا التزم الصمت والهدوء.
ظل الأمير على حاله ذلك، لمدة، ولما طفق يستوعب ما سمعه، ركض بسرعة نحو القائد وأمسكه بقوة هائلة من خناقه، ورفع ثيابه للأعلى، وصرخ: ماذا تقول؟!... أنت كاذب... أنت كاذب... مستحيل...
مستحيل...
الإنكار، أحد أهم الوسائل التي يستخدمها كثير من البشر لاستيعاب الطامات الكبرى وهضمها، أليس كذلك؟! وهذا هو ما فعله الأمير في تلك اللحظات.
اندفع عماد بسرعة وقوة نحو الأمير، وهو يمسك بخناق القائد الذي حاول الإفلات من قبضته، وأحس كما لو أن الأمير سيقتله. أمسك عماد بالأمير، وهو يصرخ عليه: هدئ من روعك، يا مولاي...
ليس له ذنب... إنه معك وليس ضدك...
"ابتعد" صرخ الأمير على صديقه ومستشاره، ودفعه بقوة هائلة، ثم عاود الإمساك بخناق القائد.
فما كان من عماد إلا أن صرخ بقوة أكبر: إهدأ، يا ريان... ما بك؟! عليك أن تتمالك نفسك، وأن تتماسك في هذه الظروف!
لم يعتد عماد مناداة الامير باسمه دون "مولاي" أو "سيدي" على الأقل أمام الآخرين، لكن في تلك اللحظات العصيبة جدا، وجب أن يفعل ذلك ليوقظ الأمير مما هو فيه.
من جراءة عماد عليه، ترك الأمير القائد – الذي سرعان ما ذهب بعيدا – ووضع يديه على رأسه غير مصدق ما يحدث، وبينما تسارعت أنفاسه، ركع على الأرض على ركبتيه، وهو ما زال واضعا يديه على رأسه، ثم أجهش بالبكاء الشديد، وسال الدمع الغزير من الفارس القوي المغوار الذي لم يهب أشد المعارك والحروب، كأنه طفل صغير. كان الأمر مهينا، بكاء الأمير وولي العهد الذي لطالما حرص
على الظهور بمظهر القسوة والشدة وأحيانا الفظاظة أمام الآخرين. لكن كل ذلك له تفسير، فما حدث أسوأ بألف مرة من كل مما حدث في حياته مسبقا، حتى باغتيال أقاربه – وهو طفل صغير -
من قبل ملك ياقوتة، وما تبع ذلك من معاناة في جبال اليبس لسنوات طويلة، بعد حياة الترف والقصور.
وبينما هو يجهش في البكاء بمرارة، سارع عماد للنزول بجواره واحتضنه، ثم صرخ بالقائد وفي كل الحرس: ارحلوا فورا...
ثم صرخ بصوت أعلى: جميعا.
أنشؤوا يرحلون، وهم القائد بالرحيل، لكن قبل أن يغادر قال: مولاي، عليك أن تنجو بحياتك... والأفضل أن تغادر البقاء نهائيا...
أنصت عماد لتلك الكلمات بتمعن، وشرع يفكر في حل للمعضلة؛ فكلام القائد صحيح.
ورحل القائد وجميع الحرس، ولم يبق سوى الأمير المنهار، وصديقه العزيز يحتضنه، وحدهما، يحيط بهما بحر هادئ وسماء صامتة، وسط هذا الصراح والجنون.
بدأ عماد يحاول تهدئة الأمير، وهو يقول: اهدأ، يا ريان... سنجد حلا...
"أبي، يا عماد" تهدج صوت الأمير وهو يقول هذه الكلمات باكيا البكاء الغزير، وأكمل: أبي... أمي... أختي... كلهم رحلوا... كل شيء ضاع في لحظة واحدة!
"اهدأ، يا ريان" قال عماد، وأكمل: أنت أقوى رجل في البسيطة، وستتجاوز كل هذا... لقد تجاوزت ما هو أعظم منه بمراحل كثيرة...
قال عماد هذا، وهو يدرك جيدا، أن ما حدث مسبقا في حياة الأمير، لا يعادل حبة رمل واحدة في صحراء الألم التي سيعيشها الأخير بعد ما فعله الزبير.
الأمير في تلك اللحظات، رغم أن الألم هو أبرز ما اجتاح صدره، إلا أنه شعر بغضب عارم تجاه الزبير الذي خانه وأباه، وبشعور هائل من الذنب؛ لأنه وثق به، ورغم شدة ألم وحزنه على أهله،
قال: الوغد، كيف صدقناه؟!... كيف وثقنا به؟!... لا بد وأن يدفع الثمن...
فأمسك عماد بصديقه من كوعيه، ونظر إليه بحزم وقال بعينين ملؤهما الثقة: سننتقم منه، يا ريان... سيدفع هذا الحقير الثمن غاليا...
ثم أمسك بالأمير من كتفيه، وقال: عدني بذلك، يا ريان...
ثم صرخ: عدني بذلك...
قال الأمير الباكي، وهو يحكم إغلاق قبضته اليمنى غضبا وحنقا، وبرزت العروق في عنقه من شدة الغضب: أعدك بقتله... أعدك أنني لن أغادر الحياة قبل أن أقتله...
***
حمل عماد صديقه الأمير، وساعده للذهاب إلى غرفة نومه، وسرعان ما أخبر عماد زوجة ريان بكل ما حدث، فانهارت هي الأخرى من هول ما سمعت، وحزنت الحزن العظيم وبكت البكاء الشديد، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، فقد وجب عليها أن تقف بجانب زوجها، الذي انهار، واستلقى كطفل صغير ضعيف محطم في سريره، مكتفيا بالبكاء والحزن.
عرف عماد منذ اللحظة الأولى أنه يجب الرحيل بأسرع سرعة، قبل أن يفتك الوحش المفترس الزبير بالأمير وعائلته، إلا أنه آثر الصبر لعدة ساعات، حتى يتيح للأمير أن يستوعب –ولو قليلا- ما حدث. وبعد أن مر الوقت الذي قدره مناسبا، أتى عماد إلى غرفة نوم الأمير، حيث استلقى الأخير مكسورا على سريره.
فقال عماد: مولاي...
لم يرد الأمير، فصرخ عماد: ريان، أجبني.
كانت زوجة الأمير هنية تجلس بالغرفة، فلما رأت كل هذا، أجهشت بالبكاء حزنا وشفقة على زوجها، الرجل العظيم الجبار، الذي لطالما وقف كجبل صامد، ولم تظن يوما أنه سيأتي يوم تشفق فيه عليه!
أكمل عماد صراخه: اسمعني جيدا، يحب أن ترحل وزوجتك وأبناءك في أقرب فرصة، لا بد وأن الوغد الزبير في طريقه إليك.
عندها تناسى الأمير كل الحزن، فنهض من نومه، وقال بصوت خافت مرتجف: نعم... نعم، يجب أن أنجو بزوجتي وأبنائي.
فقال عماد: هيا، لنتوجه لجبال اليبس فورا.
الأمير كان رجلا ذكيا، بل ربما نابغة، ولم يكن رجلا هينا بسيطا ساذجا. من دلائل قوة المرء، وشدة بأسه، إدراكه لقوة أعدائه، واعترافه بها، وعدم إنكارها وخداع نفسه. وقد أدرك الأمير جيدا
مدى ذكاء الزبير وقوته، وعلم أنه توقع أن يتجه – أي ريان – إلى جبال اليبس، ولا بد وأنه أرسل قوة ضخمة بانتظاره هناك.
لهذا كله قال: لا... هو ينتظرنا هناك... يجب أن نرحل إلى مكان آخر.
فقال عماد: وأين سنذهب؟! هو في كل مكان في البقاء!
رد الأمير: سأذهب إلى مملكة القدماء، هذا أفضل خيار.
قال عماد: ولكن ماذا يضمن لك أن يقبل سلطانها استقبالك هناك؟
أجاب الأمير: لا شيء... إذا لم يقبل بذلك، فهذا يعني أن الله يريد لي الهزيمة... لكن أعتقد أنه لن يرفض ذلك. القدماء بعيدة جدا عن البقاء، وليس بينهما علاقة، ولا أعتقد أن ملكها سيحسب حسابا
لرضا الزبير من عدمه... والسلطان زاهي رجل ذو نخوة لا يرفض إجارة الم...
سكت ريان من صعوبة ما يريد قوله، إلا أنه استجمع قوته في تلك الظروف الصعبة، وقال: المستضعفين.
شعر بالذل لأنه وصف نفسه ب "المستضعف"، لكنه أدرك أن تلك هي الحقيقة.
نهض الأمير من استلقاءته، وبعد ساعات أبحرت سفينتان متوسطتا الحجم من بحران إلى مملكة القدماء. كان على السفينة الأولى الأمير وزوجته وابناه وابنته، وصديقه عماد مع عدد من حرس الأمير
والبحارة، أما السفينة الثانية فامتلأت بحرس الأمير إضافة إلى عدد من البحارة. واحتوت السفينتان على عدد من الخيول، إضافة لكل المال الذي امتلكه ريان في بحران، واصطحبه معه كاملا؛ فهو لم
يعرف إن كانت إقامته في القدماء ستطول أم تقصر.
استغرقت الرحلة ما يزيد على الثلاثة أشهر تقريبا، وكانت رحلة سوداء مليئة بالحزن والاكتئاب والألم. وُجد في أسفل السفينة حجرات للنوم، خصصت إحداها للأمير وأهله. وأخرى أصغر بكثير خصصت لصديقه عماد. وأمضى الأمير طوال هذه الفترة وقته في اكتئاب أسودَ مطبق. لم ينبس ببنت شفة طيلة الشهور الثلاثة إلا للضرورة القصوى، حتى ظنت زوجته هنية وعماد أنه فقد القدرة على النطق.
وأمضى طيلة الوقت إما نائما لساعات طويلة، أو مستلقيا في سريره يحدق في الحائط لساعات طويلة، أو يجلس فوق دكة السفينة على كرسي خشبي صغير ذي ثلاث سيقان صغيرة، يحدق في المشهد
نفسه، البحر الرمادي الهائل الاتساع الذي أحاط بهم من كل جانب وهو يعانق السماء الزرقاء، زرقة في زرقة في كل مكان حوله، وسواد في سواد في كل مكان داخله. خافت هنية وعماد كثيرا على
الأمير، وتحادثا سرا بوجوب إبقاء أنظارهما عليه، خشية أن يحدث له شيء، أو أن يؤذي نفسه، وفي كثير من الأحيان راودت هنية وعماد تخيلات بأن الأمير فجأة سيلقي بنفسه من على دكة السفينة
إلى البحر، حتى إنهما تحادثا بذلك سرا، هذا الأمر الذي لم يظن كلاهما أنه سيحدث يوما ما للأمير الفظ القاسي الشديد أمام المآسي!
***
بعد الرحلة السوداء الطويلة، وصلت السفينتان المملوءتان بالأحزان إلى شاطئ مدينة الزهرة البيضاء شمال البحر الرمادي، وهي عاصمة القدماء.
نزل الأمير ومن معه من السفينتين، وشاهدوا منظرا خلابا حيث تعانق جمال الطبيعة وصفرة رمال الشاطئ وزرقة البحر الرمادي والسماء، مع جمال العمران حيث بنيت المدينة كلها من الحجارة الزرقاء، في منظر خلاب لم يستمتع به الأمير ريان، ففيه ما فيه! ونزل الأمير في الميناء فشاهد كثيرا من الرجال والنساء يجيئون ويذهبون، والتجار يتنقلون في كل مكان في مشهد حيوي نادر، وعلى الشاطئ
وُجدت راية عملاقة هائلة الحجم لمملكة القدماء، وقد تلونت بالأزرق الداكن، ورُسم عليها زهرة بيضاء.
وانطلق الأمير من هناك نحو قصر السلطان زاهي. وحالما علم السلطان بمقدمه، سارع إلى استقباله بحفاوة في قصر الزهرة البيضاء.
كان القصر مبنيا كله باللون الأزرق الذي تفاوت في دكانة وفتاحة لونه من جزء إلى آخر، وامتلأ القصر بالزخارف والأعمدة زرقاء اللون، أما أرضية القصر قتكونت من بلاط ناعم أملس باهظ الثمن،
وكانت كل بلاطة مربعة الشكل هائلة الحجم ومرسوم على كل واحدة منه زهرة بيضاء جميلة المنظر.
وكان حراس السلطان يلبسون اللون الأزرق وتعلو ثيابهم رسمة الزهرة البيضاء.
أتى السلطان ومعه زوجته السلطانة باهرة، وكان السلطان متوسط الطول قوي البنية وبرزت عضلات صدره، وكان شعر رأسه أسود كثيف، وله شارب أسود كثيف، وكذلك غطى الشعر الأسود الكثيف
ذقنه. وكان عمره سبعة وأربعين عاما.
"أهلا بالأمير الحليف الحبيب، ريان" قال السلطان ليطمئن الأمير، ونجح في ذلك؛ إذ استبشر الأخير خيرا.
"أهلا بك" قال الأمير المكتئب، وهو مطأطئ رأسه في الأرض بذل.
فقال السلطان: رحم الله الملك، وعظم الله أجركم.
بدا الذهول واضحا على محيا الأمير وعماد ومن معهما، فقال السلطان: لا تستغرب، لي رجال في كل مكان، وبيننا الحمام الزاجل.
فأراد الأمير الحديث، لكنه أحس بحرج بالغ فالتزم الصمت، فقال السلطان: لا عليك، يا ريان... أنت وأهلك وكل من معك موضع ترحيب هنا... واعتبر هذا بلدك، وأننا أهلك...
ثم أضاف: أنا رجل يجير المَضِيم، ولا أرده، ولو دفعت حياتي ثمنا لذلك... تأكد من هذا جيدا... وذلك الوغد الخائن الزبير أشعل في صدري نارا تجاهه، وتجاه بشاعة ما فعله وما يحمله من شر في
قلبه الأسود، الذي غدر بالملك قصي، الذي لم يلق منه الزبير الغدار إلا كل محبة ووفاء.
خف حزن الأمير بسبب كلام السلطان، ولكن النار ظلت مشتعلة بداخله تجاه الزبير.
***