33

بعد الزلزال المدوي الذي وقع، استاء أمراء الثورة أمر استياء، فالمحبة بينهم وبين آل الملك والزبير، كلها تلاشت، بعد أن كانت مضرب المثل. لقد حدث كابوس سيقض مضجعهم إلى الأبد،
وسيجعل الكراهية هي السائدة. لم يصدقوا أن كل هذا يمكن أن يصدر عن رجل كالزبير، لم يعهدوا منه إلا الخير.
وأتى أمراء الثورة، أمين وسمية، والمغيرة وحورية، وسليم، كلهم للقاء الزبير. ولما علم بمقدمهم دعاهم إلى الساحة حيث توج ملكا، ثم دخل عليهم وجلس على كرسي العرش، وأمسك برأس الضيغم.
لم يتبادل الطرفان التحايا. وظل كل أمراء الثورة واقفين، فالغضب والحزن الذي بداخلهم منعهم من الجلوس.
وباشر أمين الحديث، قائلا: كيف تفعل هذا، أيها الزبير؟! كيف تخون ملكك؟! كيف تخون أباك؟!
وأتبع المغيرة – الذي اهتز رغم شدة قسوته بشدة مما حدث-: أيها الزبير، لا أستطيع أن أصدق ما فعلت! أنت رجل ما عهدنا منه إلا المروءة والشهامة والطيبة، فكيف حدث كل هذا؟!
جحظت عينا الزبير واحمرتا غضبا، وبعد مدة من الصمت صرخ بصوت مدو: أنا الذي صنعت كل شيء... كل حياتكم السعيدة الآن مني وبسببي... أنتم لا شيء دوني... والآن بعد كل هذه السعادة،
تلومونني؛ لأنني فقط أخذت ما أستحقه.
فسكتوا جميعا، وعم الصمت في الساحة.
وظل الأمر هكذا لمدة.
سمية بكت بحرقة، طيلة الأيام الماضية حزنا على الملك وعلى ما حدث، ومنذ أتت إلى القصر للقاء الزبير وعيناها قد اغرورقتا بالدموع.
انهارت وبكت البكاء المر الشديد، وتهدج صوتها، وهي تقول: أنت كنت رجلا طيبا... أنت لم تقتل الملك فقط... لماذا قتلت الزبير الطيب الذي عرفناه؟! كيف تقتل أباك وأمك وأختك وجاسما وعاصما؟!...
يا لبشاعة ما فعلته!... كلنا كنا عائلة واحدة، يحب أحدنا الآخر أكثر مما يحب نفسه... أنت رسمت الابتسامة على شفاهنا جميعا، وعلى شفاه كل أهل البقاء، بعد سنوات الضياع... خلصتنا من كابوس أسودَ طويل أقض مضاجعنا لسنين كثيرة... لكنك سرعان ما قتلت الابتسامة، وزرعت حزنا أكبر في قلوبنا، وخلقت كابوسا أسوأ بكثير من السابق... كيف يمكن لنا أن نعيش بعد ما فعلته؟! كيف يمكن لنا أن نقبل بما حدث؟! كيف يمكن لنا أن نغمض عيوننا دون أن نتخيلك وأنت تقتل الملك وباقي من قتلتهم؟! كيف لنا أن ننام دون أن نفكر ونتساءل ماذا فكروا جميعا في لحظات قتلك لهم؟!
وعلى العكس من الغضب الذي اعتراه عندما تحدث أمين والمغيرة، اعترى الزبير حزن بالغ؛ من كلام سمية، وجعل ينظر في الأرض حزنا.
وجلس حزينا، وظل الأمر هكذا، حتى نظر إلى سليم، وقال: وأنت، يا سليم، أنت – يا بني – هل ستصطف معي، مع أبيك، أم مع الآخرين؟
التزم سليم – المعروف بخجله – الصمت.
فصرخ الزبير بعنف: ما موقفك مما حدث؟
ارتعب قلب سليم، وقال بصوته الخافت الخجول: أنا حزين جدا.
ومر وقت من الصمت، قاطعه الزبير حين قال بهدوء وثقة: اسمعوني جيدا... ما حدث قد حدث، ولن يتغير... وأنا مصر على ما فعلته وما سأفعله، وإياكم أن تتحدوني أو تقفوا في طريقي... أنتم وسواكم،
كل من سيقف في طريقي، سأدمره وأنهيه نهائيا... لا تحسبوني لم أتأثر بقتلي للملك الذي أعتبره والدي... لذا لا تجعلوني أتألم بإيذائي لأي منكم؛ فأنتم أعزاء علي... ارحلوا الآن جميعا، أريد البقاء وحدي.
فشرعوا جميعا يرحلون، أما حورية فالتزمت الصمت طيلة النقاش، ولم يبدُ عليها على الإطلاق المبالاة بكل ما حدث وفعله الزبير. بل في حقيقة الأمر، أسرت لنفسها بإعجابها به وما فعله ومدى اتساع
طموحه.
***
كان الزبير رجلا فريدا ويفكر بطريقة مختلفة عن الآخرين، لذلك وفورا بعد استلامه الحكم، أسس فرقة من العيون مهمتها الاندساس في ربوع البقاء وحتى الممالك المجاورة، واستطلاع الأخبار والتجسس، وكل ذلك اتسم بالسرية. وعين أنسب رجل ممكن لهذه المسألة داهية الكثبة قائدا لهذه الفرقة وكلفه بإدارتها.
ولفطنة الزبير وبُعْدِ نظره – حتى لسنوات بل عقود قادمة – أيقن أنه لا بد وأن تحدث ثورة وربما ثورات بعد انقلابه على الملك قصي؛ لأن الشعب عشق الملك الهارب وآل الضياغم لذا سيسعون
للانتقام لهم، ولأن طبيعة شعب البقاء امتازت برفضهم للظلم وكرهه فسيسعون لإزالته.
وقد صدق حدس الزبير، فبعد ما يقرب الأربعة شهور من انقلابه، أعلمه داهية الكثبة أنه علم من خلال عيونه - المنتشرين في كل مكان كأنهم دقائق الهواء! – أن قبيلة تعرف بالقَسَطَة تخطط لثورة
ضد الزبير. وقد قطنت قبيلة القسطة في الشمال الغربي من البقاء، وقد حاولت سرا أن تقنع عددا كبيرا من القبائل في الثورة على الزبير بعد الانقلاب، وقد نجحت في ذلك.
استبق الزبير الأحداث، وأرسل جزءا كبيرا من جيشه أباد قبيلة القسطة وسائر القبائل المتحالفة معها على بكرة أبيها وسبى نساءها وأطفالها، واستحل بيوتها وأموالها ومملتكاتها، وعذب أسراها أمر
عذاب ثم قتلهم أسوأ قِتلة.
وكل ذلك؛ لأنه أراد تأديب الآخرين غير المشاركين في الثورة المخطط لها، من خلال إخماد أول ثورة بعنف شديد؛ حتى لا يتجرأ أحد على ثورة ثانية. وبالفعل نجح في ذلك؛ إذ بات الجميع ترتعد ف
رائصهم خشية وخوفا من الملك العنيف الزبير.
وبعد مدة من استلامه الحكم، صادر الزبير كل أموال آل الضياغم وأملاكهم على بكرة أبيها، وفرض الضرائب الباهظة على الشعب غير آبه بامتعاض أي منهم أو استيائه.
***
وهكذا عاش الأمير ريان في مدينة الزهرة البيضاء في حزن عميق قاتم، كانت أيامه شديدة السواد، وتقلب بين النوم والحزن، رغم أن نومه كان قليلا جدا، وامتنع عن الطعام والشراب ومجامعة زوجته،
ولم يكن يبتسم على الإطلاق، ولم يكن يتحدث إلا للضرورة القصوى.
حاولت زوجته وعماد التخفيف عنه، ولكن ذلك لم يجدِ نفعا. حتى السلطان زاهي حاول التخفيف عنه، وأرسل إليه الأموال والجواري والهدايا، وعرض عليه الأراضي والقصور، فما وجد من الأمير سوى الرفض التام!
كان يعيش في دوامة من الحزن على أبيه وأمه وأخته ومملكته الضائعة التي كان سيحكمها بلا شك يوما ما، وخالط ذلك شعور أكبر بكثير بالغضب والحقد تجاه الزبير، وتمنى الأمير أن ينتقم منه من
كل قلبه، وتساءل: "هل أستطيع النجاح في ذلك؟!"
ورغم أن الأمير نادرا ما خرج، إلا أنه فعل ذلك عدة مرات بناء على إلحاح صديقه عماد عليه. وذات مرة خرج مع عماد وعدد من حراسه ليتجول في المدينة. حدث ذلك بعد خمسة شهور من مقدمه
إلى القدماء.
وبينما هم يتجولون فجأة دفع عماد الأمير بقوة هائلة، فسقط عن جواده، وكادت تتكسر عظمة يده، وشعر بألم شديد نتيجة السقوط. لقد تفاجأ ولم يفهم لماذا فعل صديقه المقرب ذلك، وفي لمحة خاطفة، فكر: " هل خانني عماد؟! حتى عماد يفعل ذلك! هل يعقل أن نفوذ الزبير وصل إلى عماد نفسه؟!"
إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فقد شاهد عماد رجلا يندفع بسرعة ثم يركع أرضا إلى إحدى ركبتيه ويوجه نشابه باتجاه صدر الأمير، فدفع الأخير ليحميه، وأطلق الرجل السهم الذي لم يصب هدفه. ثم هرب
الرجل الذي اعتزم اغتيال الأمير، بينما لحقه عدد من حرس الأمير، في حين تحلق البقية – وهم الأكثرية- مع عماد حول الأمير الذي وقف - وهو مذهول - مما يحدث.
وبعد أن هدأت الأمور عاد الأمير إلى غرفته في القصر، وقد فشل حرسه في إيجاد الرجل الذي حاول اغتياله.
"تبا للزبير! ما أقواه وما أذكاه! حتى هنا، في القدماء البعيدة جدا عنه، وصل إلي!" هكذا ما انفك يفكر، واستسلم للفكرة التالية: "بالفعل، الزبير أفضل مني وأقوى... لا بد وأن هذا سبب كرهي له قبل الثورة، لا بد أن هذا سبب غيرتي منه!"
وقد خاف كثيرا، وطفق يشعر بضعف واستسلام أمام الزبير، وأنه أشقى أهل الأرض؛ لأنه لن يستطيع أبدا الانتقام بعد أن فقد كل أهله، بل كل شيء. وعاش في جحيم، رغم أنه أحيط بالقصر والمال
والنساء وغيره مما وفره له السلطان.
***
أتى الأمير عماد، لزيارة صديقه الأمير ريان، في غرفة الأخير في قصر السلطان زاهي.
دخل عماد، فوجد ريانا جالسا على كرسي في الغرفة ينظر من النافذة، وهو يائس مستسلم منكسر.
حيا عماد ريانا، فرد الأخير عليه ببرود.
حاول عماد الحديث معه في أمور عامة، بيد أن ردود الأخير كانت مختصرة وقصيرة.
مما دفع عمادا لأن يقول: ريان، هنالك أمر أريد محادثتك فيه منذ زمن طويل.
انتظر عماد ردا من ريان، غير أن الأخير ظل صامتا.
ثم قال عماد: إلام ستظل يائسا مستسلما؟! عليك أن تستجمع قواك.
لم يرد ريان، بل لم يرمش له جفن، وظل صامتا.
ثم قال عماد: ريان، أرجوك... عليك العودة إلى البقاء، وتحريرها من براثن الوغد الزبير والانتقام منه.
التزم ريان الصمت من جديد، ولم يتحرك لكأنه صنم!
مما دفع عمادا ليقول: ريان، أرجوك أجبني... بأي شيء.
فقال ريان بيئس: أي بقاء؟! وأي انتقام؟! وأي تحرير؟!... لقد ضاع كل شيء... لقد انتهى كل شيء... لم أعد أملك شيئا هناك... لا الأراضي، ولا الرجال، ولا المال... وذلك الحقير قوي جدا، ويمسك بزمام الأمور... علي أن أنسى الأمر، وأن أظل أتعذب كما أنا الآن، إلى أن يقهرني الموت.
"ما هذا الكلام؟!" قال عماد مستغربا، وأكمل: عليك أن تنتصر... لا بد من وسيلة... لا تستسلم.
فقال ريان: أتدري أمرا؟! الآن أفهم لم ظل والدي يرفض خططي لتحرير البقاء عندما كنا في جبال اليبس. لأنه كان يائسا، وفقط خطة الزبير المحكمة جدا هي ما أعادت الأمل له. لقد كان الشباب
وحماسته يتفجران مني آنئذ؛ لذلك ظللت أحيك الخطط... أما الآن فقد تقدم بي العمر، وتجمعت عبر السنين علي النوائب... وغدوت خائر القوى... أرجوك، يا عماد، إن كان لي عندك معزة، دعني الآن
وحيدا، أتالم في صمت، بعيدا عن أي شيء يذكرني بما حدث.
حزن عماد لكلام صديقه اليائس، واقتنع أن ريانا الشاب القوي المتحمس ذات يوم مات، وبات مكانه عجوز يعيش في جسد رجل - في منتصف العمر- ينتظر الموت بهدوء. لذا قام وترك صديقه تلبيه
لطلبه.
***
وبعد شهور من إقامة الأمير ريان، في قصر السلطان زاهي، أتى الأخير لزيارته.
دخل على الغرفة، فوجد ريانا يجلس جلسته اليائسة نفسها، وهو مرتخٍ وجسده متدل في الكرسي، ينظر بيأس وحزن من النافذة.
"كيف حالك، سمو الأمير؟" سأل السلطان زاهي.
نظر إليه الأمير ريان، ثم عاد ينظر من النافذة، وقال ببرود وجفاف: بخير.
لم يستإِ السلطان زاهي من عدم احترام ريان له، وهو السلطان العظيم؛ فقد قدر الحالة النفسية المزرية التي عاش فيها الأخير.
جلس السلطان على كرسي آخر في الغرفة، وبعد مدة قال: هل تعتقد أنك الوحيد الذي عانى من أحداث سيئة في حياتك؟!
لم يجب ريان.
تنهد السلطان، ثم قال: هل تعرف كيف أصبحتُ سلطانا؟.. لقد قتل أبي في حرب مع إحدى الممالك المجاورة. بعدها بويعت سلطانا. توقع الجميع أنني سأذهب وأنتقم لأبي. وهذا بالفعل ما فكرت به. لكن في النهاية، قررت أن أنهي الحرب، وأحقن الدماء، ووقعت سلاما مع المملكة المعادية. ليس لأنني لا أحب أبي، وليس لأنني ضعيف، وليس لأنني جبان... العامة يظنون أن الملوك محظوظون، وأن حياتهم
مليئة بالسعادة... ربما هذا صحيح إلى حد بعيد، لكن ما لا يعرفه العامة، أن القدر إذا عبس في وجه أي ملك، فإنه سيؤذيه أذى عظيم لا يمكن أن يشهد أحد من العامة مثله. فالملك دائما خسائره عظيمة إذا خسر. إما أن يخسر جزءا من بلده، أو أن يكرهه حتى ابنه، ويتمنى موته ليصبح محله... وفي أية لحظة غفلة بسيطة، يمكن أن ينقلب عليه أي رجل في جيشه، ويطيح به...
لقد أشار الملك في جملته الأخيرة، إلى ما فعله الزبير تجاه الملك قصي.
وأكمل: الخلاصة، هو كما أن مكاسب الملوك كبيرة، فمخاسرهم كبيرة... لقد وعيت جيدا هذا، عندما قتل أبي، وقررت أن أغض الطرف عن المملكة التي قتلته، فهم خسروا من رجالهم كما خسرت...
ما أريد إخبارك به، هو أنني مضيت في الحياة، ونسيت، ولهذا أنا أعيش في سلام الآن... لا أعني السلام مع الآخرين، وإنما أعني السلام الذي بداخلي...
ثم علّى من نبرته، وأكمل: وأنت، يا ريان، عليك أن تنسى، لكي تعيش السلام بداخلك.
ساد صمت طويل في الغرفة، ثم رد ريان: قصتك مختلفة جدا عن قصتي. أنا عشت طفولتي وشبابي أعاني مر الفقر والهرب والانكسار والذل بعد غنى القصور وعزتها. وبعد ذلك أتى الفرج، وعدت إلى كل هذا، ثم فجأة ضاع كل شيء من جديد. أن تتكرر المأساة، الطامة مرتين، أمر لا يمكن التغاضي عنه أو نسيانه... أتظن المشكلة في خسارتي لأبي فقط؟ أنت خسرت أباك فقط، أنا خسرت أبي وأمي
وأختي وجل عائلة الضياغم... خسرت حكمي ومُلكي... ثم فررت كالنساء، فخسرت كرامتي، واحترام الشعب لي... الموت أرحم مما أنا فيه.
أحس السلطان بمدى الألم الذي يشعر به ريان، وقرر المغادرة، بيد أنه قبل أن يفعل ذلك، قال: ربما هنالك الكثير من الصحة في كلامك... أرجوك، فقط، أن تتفكر بكلامي جيدا، وأن تحاول النسيان.
بعدها نهض وغادر الغرفة.
***
لم يكن الزبير إنسانا عاديا، وبعد توليه الملك، لم يكتف بالمشاهدة والمراقبة، وانتظار الفعل للقيام برد عليه، بل بادر هو بنفسه لصنع الأفعال.
لقد علم الزبير أنه عاجلا أم آجلا، لا بد وأن يحاول ملكا ياقوتة والهيجاء الانتقام ومعاودة احتلال ما فقداه من أراض في البقاء، ولكنه علم أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، لذا بادر بالأفعال تجاه المملكتين المجاورتين؛ لإشغال كل منها بأمورها الداخلية؛ فلا تتفرغ للهجوم على البقاء.
لم يرد الزبير احتلال أي أرض من المملكتين المجاورتين؛ وذلك لأن مساحة المملكتين المجاورتين شاسعة ويحتاج عشرات أضعاف عدد الجنود الذي يملكه لفرض السيطرة على أراضيهما. كما أنه بعد
الانقلاب الذي أنجزه، هو أراد التركيز على الداخل، وإخماد أية ثورة ممكن أن تنشب، وإبقاء الشعب راضخا، إن لم يكن بالسلاح فبالحذاء! لذا لم يرد أن ينشغل عن ذلك بحروب توسعية هو في غنى عنها.
لكنه أراد في الوقت ذاته أن يصرف المملكتين المجاورتين عن إيذائه، ووجد الطرائق المناسبة لذلك.
في ياقوتة، كان هنالك عدة قبائل رضخت بالقوة لحكم ملك ياقوتة، رغم رغبتها في الانفصال. وسكنت هذه القبائل في المنطقة الشمالية الغربية من ياقوتة، أي بالقرب مع الحدود مع البقاء. وبدهاء الزبير،
وبتنفيذ داهية الكثبة وقيس، تم إدخال عدد لا بأس به من مقاتلي البقاء، إلى ياقوتة، ولبس هؤلاء ملابس تشبه ملابس تلك القبائل المناوئة لياقوتة، وهاجموا ثكنة صغيرة لجيش ياقوتة وقتلوا كل من فيها،
وتعمدوا إبقاء عدد من مقاتليها أحياء. هؤلاء بدورهم نقلوا إلى ملك ياقوتة حازم كل ما حدث، وما ظنوه بأن مقاتلي القبائل المناوئة له هي من فعلت ذلك. وهكذا نشبت حرب لم تضع أوزارها إلا بعد
عشرات السنين، رغم المحاولات الكثيرة والمتكررة لشيوخ تلك القبائل إقناع الملك حازم بأن هنالك مكيدة دبرت من قبل أحد ما للإيقاع بين الطرفين، لكنه لم يقتنع على الإطلاق.
أما بخصوص الهيجاء، فقد أتت الفرصة وحدها على طبق من ذهب للزبير. فحالما توج الملك أنيس الفتي بالمُلك بعد قتل الزبير للملك ميمون، سارع أعمامه لمحاولة الانقلاب عليه. فنشبت حرب بين
الطرفين، وهنا استغل الزبير الداهية الفرصة. لقد كان الملك أنيس ضعيفا مقارنة بأعمامه، وكادوا يقضون عليه. ولكن الزبير أرسل إلى الملك قوات هائلة تلبس لباس جنود الأخير. فالزبير لا يريد
لأعمام الملك أن يعلموا أنه يسانده، حتى لا يكسب عداءهم فيغزوا البقاء، ويشغلوه عن مهمة ضبط الأمن الداخلي بعد الانقلاب. وهذه القوات ساعدت الملك أنيسا في إيقاف أعمامه.
رغم العداء بين الزبير وميمون أخي أنيس، وأن أنيسا من العائلة المالكة التي قتلت جد الزبير والتي يحقد عليها الزبير بجنون، فقد سعى الزبير للصداقة مع أنيس، وكسب وده! فالزبير تعلم من أخيه
دريد الحكمة والتروي والهدوء، وأن القوة وحدها لا تكفي. فقد أودت الشدة والغضب والحماسة الذين اتصف بهم جده إلى مقتل الأخير. وفي الآن ذاته، أودت قمة الهدوء والتروي بأخيه دريد إلى التهلكة،
بعد أن وثق بالزبير الذي دس له السم وقضى عليه. لهذا كله أدرك الزبير أن الوضع الأفضل هو الحالة الوسطى بين الحكمة والتروي والهدوء من جهة وبين الشدة والغضب والحماسة من جهة أخرى،
دون التطرف بالاعتماد على أحد الأسلوبين دون الآخر. وأدرك وجوب استخدام كل أسلوب من الأسلوبين في الظرف المناسب له.
وفي ظرف انقلاب أعمام أنيس عليه، قرر الزبير استخدام أسلوب الحكمة، وقبل أن يرسل جنوده أول مرة للملك أنيس، ذهب الزبير متخفيا بنفسه مع عدد ليس بكثير من الجنود ضم النسور السوداء وداهية الكثبة؛ وذلك لأنه احتاج خبرات الداهية ودهاءه في المفاوضات.
وصل الزبير ومن معه قصر الملك أنيس، وطلبوا مقابلته وأعلنوا عن هويتهم.
كان القصر مبنيا من الحجارة السوداء اللون في معظمها بينما علاها الذهب الخالص هنا وهناك، أما داخل القصر فقد غطى سقف القصر وأرضيته وجدرانه الرخام الأسود اللون، وانتشرت خطوط
عريضة من الذهب الخالص التي أعطت اللون الأسود حولها رونقا جميلا، ودل ذلك على بذخ ملوك الهيجاء.
دعاهم الملك الفتي فورا للقائه في أكبر قاعات القصر. تحمس الملك أنيس بحماسة الشباب لرؤية هذا الزبير، الذي بات أسطورة حررت البقاء، وقلبت نظام الحكم الذي استقر لقرون فيها. وفي البداية
ظن الملك أنها مجرد خدعة من أعمامه وغيرهم، لكنه بالفعل وجد الزبير ومعه جنوده يلبسون الزي الخاص بهم.
"كيف حالك، مولاي؟" قال الزبير، ليثير التعجب في صدر الملك الفتي الذي لم يصدق أن الزبير الأسطورة يناديه ب "مولاي".
ولكن فجأة اشتعل الغضب في صدر الملك أنيس؛ لأن الزبير قتل أخاه ميمونا، فقال: ماذا تريد؟! ولماذا أتيت؟! لا بد وأنك تخطط لمكيدة ما تجاهي.
"لا، يا مولاي" قال الزبير بهدوء، وأكمل بالهدوء ذاته: أنا هنا لمساعدتك.
فقال الملك أنيس بعنفوان الشباب وحماسته: أنا لن أقبل مساعدتك، بل سأقتلك لأنك قتلت أخي ميمونا.
اسود وجه الزبير، ولم يعرف بما يرد، عندها تقدم الداهية وقال: إذا فعلت هذا، فأنت مقتول لا محالة.
ازداد غضب الملك أنيس، وقال: تهددني... ووسط بيتي!
ثم نظر إلى جنوده في القاعة، وقال: اقتلوهم جميعا.
فهموا بذلك، قبل أن يقول الداهية: حاشاك، يا مولاي، أن أهددك. ومن يستطيع فعل ذلك؟!
فأشار الملك أنيس لجنوده بالتوقف، فتوقفوا، وقال أنيس: ما معنى كلامك إذاً؟!
"مولاي" قال الداهية بخبث، ثم أكمل: من سيقتلك ليس أحد أقرباء الزبير أو من يحبونه، انتقاما له، وإنما أعمامك؛ فمقتل الزبير سيعني مقتلك على يد أعمامك.
اتسعت عينا الملك أنيس على أقصى اتساع، وقال متعجبا: وكيف ذلك؟!
فأجاب الداهية: أعمامك يتقدمون عليك في الحرب بكثير، ومن خلال عيوني المنتشرة في مملكتك، فعدد جنودهم يفوق عدد جنودك بأربعة أضعاف.
تفاجأ الملك كثيرا؛ فتقدير عدد الجنود كان صحيحا تماما، واستغرب كيف تمكن الداهية من معرفة مثل المعلومة الدقيقة جدا عن شيء في عقر مملكته، ولا يعلمه إلا عدد قليل من الناس.
وأكمل الداهية: الزبير أتى هنا؛ لأنه يريد دعمك ضد أعمامك، وسيمدك بعدد من الجنود أكبر بكثير من عدد جنودهم مما سيمكنك من القضاء عليهم... لكن إذا قتلت الزبير الآن، فأنت ستقتل نفسك بيديك!
هدأ الملك الشاب، وبدأ يتفكر بعمق فيما سمعه.
ومر وقت، ثم تقدم الزبير للأمام وقال: مولاي، أنا هنا لأعرض صداقتي عليك، فهل تقبلها؟ أنا ليست لي أية مصلحة في مملكتك هذه... والآن في هذه اللحظات العصيبة، مصالحنا تستدعي أن نكون
أصدقاء... اقبل صداقتي، ودعنا نشكل حلفا فولاذيا يقضي على أعدائنا... أريدك فقط أن تتخيل ماذا سيحدث لأعمامك الذين بغوا عليك وآذوك، وكيف ستدمرهم شر تدمير لو اتحدت معي... انسَ الماضي، عائلتك ظلمتني، وأنا ظلمت عائلتك، والآن كل طرف قد أخذ حقه من الآخر، فلننسَ ما حدث، ولنبدأ صفحة جديدة.
تفكر الملك بعمق أكبر، وظل يتفكر لوقت طويل، ثم تنهد وقال: دعوني أتفكر فيما قلتماه، وسأرد لكما جوابا.
ثم طلب من جنوده أن يصحبوا الزبير ومن معه إلى جناح الضيوف في قصره، ففعلوا. لم يلتق الملك بالزبير طيلة عشرة أيام، قدم فيها خدم الملك ما لذ وطاب من طعام وشراب للزبير ومن معه، وأحسنوا خدمتهم. طول هذه المدة، وامتناع الملك عن لقاء الزبير، أثارا القلق في نفس الأخير، لكن الداهية بابتسامته الصفراء ظل يطمئن الزبير بأنه سيحصد ما يريده عاجلا أم آجلا.
وبالفعل، في نهاية المطاف وافق الملك على خطة الزبير، بعد تفكير مضن، واستشارات مطولة لمستشاريه. لقد كان داهية الكثبة داهية بالفعل، واعتمد في مفاوضاته على دراسته لنفسيات الناس،
واللعب على نقاط ضعفهم. لقد أردك جيدا أن أنيسا شاب فتي، قُتِل أخوه ومعشوقه ميمون؛ مما كسر قلبه وأثار الرعب والخوف فيه. كما أنه استلم المُلْك صغيرا، وعليه ضغوطات هائلة من أعمامه
الذين يفوقونه قوة وخبرة. كل هذا جعله إنسانا مهزوزا. والإنسان المهزوز لتجعله يرضخ لك، ما عليك سوى إخافته وهذا ما فعله الداهية تماما!
وهكذا أرسل الزبير قوته لدعم أنيس، وهزموا الطرف الآخر. ولما بات الملك أنيس على شفا طحن أعمامه، زعم الزبير أنه بحاجة قواته التي أرسلها لأنيس، لشأن داخلي فسحبها منه. وجعل تجارا –
لا يعرف أحد أنهم من طرف الزبير – يبيعون الأسلحة والخيول لأعمام أنيس بأسعار زهيدة ليقويهم ضد الأخير. ثم تقدم الأعمام من جديد على أنيس، فسارع الزبير لتزويد الأخير بقواته من جديد! وهكذا ظل الزبير يتقلب بين دعم الطرفين، دون علم أحد بذلك، ليبقي الحرب مشتعلة؛ لأنه خشي إن انتصر أحد الطرفين أن يتفرغ لغزو البقاء. وهكذا أثبت الزبير من جديد مدى ذكائه ودهائه، وأنه هو دائما من يتحكم بخيوط اللعبة.
وبعد مدة، سرت الشائعات في البقاء والهيجاء، بوجود صداقة سرية بين الزبير والملك أنيس.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي