34
وأخيرا، وبعد شهور استقرت الأمور للزبير، وبدأ يستمتع بالملك والحكم والثراء والنساء، وطفق يتفكر في شؤونه ومصالحه الخاصة، وكيفية إسعاد نفسه أكثر وأكثر.
منذ أهدته سمية ذلك الخنجر الذهبي - الذي أجهز به على جل خصومه الذين حالوا بينه وبين حلمه الشخصي في الملك والحكم - وهو يمسك به ويمعن النظر فيه، والأهم يفكر في الشخص الذي أهداه إياه. وقد زاد كل هذا أضعافا مضاعفة بعد هدوء الأمور واستقرارها واستتباب الحكم له.
ما لم يعلمه أحد سوى الزبير، وهو أنه منذ أول ما رأى سمية، وهو يفكر بها، ويحسد أمينا أشد الحسد عليها، ويتمنى لو أنها له. الزبير عانى منذ طفولته وحتى كبره، من فقر في الحنان. وذلك يعود لأنه
يتيم الأب منذ صغره، وموت أبيه مبكرا جعله يشعر بأنه وحيد، خاصة أن البدو غير معتادين على الحنان، وزاد كل هذا أضعافا بعد مقتل جده. لذا كانت سمية هي ما سيعوضه عن كل ما فاته وعن كل من فقدهم، وستكون أمه وأخته وابنته وحبيبته وزوجته، وستنسيه كل الأحزان.
"ولكنني لا يمكن أن أفعل شيئا!" هذا ما لطالما فكر به منذ لحظة رؤيته لها، واستمر هذا التفكير حتى بعد تتويجه ملكا، وحتى بعد استقرار الحكم له. ولكن أخيرا وصل هذا إلى نهاية، فمع التفكر العميق
المستمر، فكر الزبير: "الغاية العظيمة تبرر الوسيلة القذرة... أي شيء مباح في الحب والحرب... لقد فعلت أشياء أسوأ بكثير... ضحيت بأخي... والآن سأضحي بأشياء أقل أهمية من أجل سمية".
سمية محبوبة الزبير السرية، بل هي أكثر ما أحبه قلبه في حياته كلها!
***
أرسل الزبير في طلب أمين، فلبى الأخير الطلب. ورغم أن الزبير اعتاد استقبال كل ضيوفه وإجراء كل اجتماعاته في الشرفة التي توج فيها ملكا، لكنه حرص هذه المرة على استقبال ضيفه في قاعة مغلقة من قاعات القصر.
باتت تلك الشرفة تعرف بشرفة الأسد، نسبة لقبيلة الزبير، أما قصر الضيغم فغدا يعرف بقصر الكثبة! أما القاعة التي أراد استقبال أمين فيها، فعرفت بقاعة النسور السوداء. واختصها الزبير ليجتمع فيها
وحده بأي شخص يريد أن يحادثه بأمر خاص بينهما، دون وجود أحد حتى النسور السوداء.
اتسمت القاعة بالاتساع العظيم، واحتوت طاولة عريضة عظيمة الطول، يمكن أن يجلس عليها أربعون امرئ، وفي نهاية القاعة وُجِد كرسي خصص للملك. وأما جدران القاعة فعلق عليها الخناجر
والسيوف، وعلى الجدار فوق كرسي الملك بمسافة عالية، علق رأس نسر ذي نظرات حادة. والطاولة وكل الكراسي بما فيها كرسي الملك، علا حوافها الذهب الخالص. وانتشرت أشرطة من الذهب
في جدران القاعة وسقفها.
حضر أمين إلى قصر الكثبة ثم إلى غرفة النسور السوداء ، فوجد الزبير وحرسه الثلاثة النسور السوداء، إضافة لعدد من الحرس والخدم.
"مرحبا" قال أمين ببرود، على عكس ترحيباته السابقة بالزبير، والتي اتسمت كلها بالحرارة الشديدة التي تقترب من حرار الانصهار؛ فأمراء الثورة –باستثناء حورية – كلهم غضبوا مما فعله الملك
ذو الندب في التكريم الأسود وما لحقه.
"أهلا، يا أمين" قال الزبير ببرود مماثل.
كان الزبير يجلس على كرسي المُلك في آخر القاعة، وأمامه الطاولة الطويلة جدا، فجلس أمين على أحد الكراسي المحيطة بالطاولة.
لم يضيّف الزبير ضيفه؛ فهو على وشك الدخول في نقاش حاد بل في إعصار مع أمين.
ثم طلب الزبير من كل من في القاعة المغادرة بمن في ذلك النسور السوداء، ففعلوا ذلك جميعا.
ولما بقيا وحدهما، حدق الزبير بعينين جاحظتين في ضيفه، بينما بادله أمين نظرات حادة.
ثم قال الزبير: يا أمين، اليوم أرسلت في طلبك، لأنني أريد أن آمرك بأمر لا رجعة عنه.
لطالما خدمتك – كما خدمت كل فرد من أهل البقاء دون استثناء – ولطالما ضحيت من أجلكم جميعا، واليوم عليك أن تضحي من أجلي علك تسد قليلا من ديني عليك.
استغرب أمين من هذا، بينما تنهد الزبير عميقا؛ فما سيقوله صعب جدا.
ثم قال: أريدك أن تطلق سمية.
زاد استغراب أمين أضعافا مضاعفة، وبدا ذلك جليا على قسمات وجهه.
ساد صمت مدو في القاعة لمدة طويلة، ثم قال أمين المستغرب بنبرة ملؤها الاستهجان: ولم أفعل ذلك؟!
أسوأ شيء يمكن أن يفعله أمين في حياته هو تطليق سمية؛ فقد أحبها بجنون وشعرت هي بمشاعر مشابهة بل أقوى تجاهه.
تفكر أمين بسرعة ثم قال متعجبا: لتتزوجها أنت، أليس كذلك؟!
تنهد أمين ثم وقف بسرعة، وصرخ في الملك الزبير: أمجنون أنت؟! ما درجة المرض الذي أصاب قلبك والعته الذي أصاب عقلك؟! تطلب من رجل أن يطلق زوجته لتتزوجها أنت؟!
فقال الزبير بحزم: كيف تحادثني هكذا؟!
فقال أمين: لا أستغرب كل هذا من رجل خسيس غدار، قتل رجلا اعتبره أعز من ابنه على قلبه، قتله غدرا وخيانة.
فوقف الزبير، وقال بحزم: ستندم على هذا الكلام.
ابتعد أمين عن الكرسي، واقترب مسافة قليلة باتجاه الزبير.
ثم رد أمين: افعل ما تشاء.
فقال الزبير وهو يشير بسبابته اليمنى بقوة: ستطلقها رغما عن أنفك شئت أم أبيت.
سكت لمدة ثم أضاف بهدوء: إن كنت تحبها، فطلقها؛ فهي تستحق رجلا أعظم منك بكثير... أنت مجرد رجل يملك مالا كثيرا، ولا يميزك أي شيء آخر... أنت لست ندا لامرأة عظيمة جدا لا مثيل لها مثل سمية... يجب أن تتزوج رجلا عظيما مثلها أو أعظم... وليس هنالك خير مني!
"أنت مجنون ومريض فعلا" قال أمين بثقة.
رد الزبير: سأقتلك إن لزم الأمر.
قال أمين: افعلها، وأوقن أنك ستسعى لذلك... ولست أخاف الموت، ومستعد له من أجل سمية... وحتى عندما تقتلني لن تقبل بك؛ لأنها تحبني أنا، ولم تحبّ رجلا غيري قط ولن تحب رجلا غيري أبدا...
ثم طقق يرمي الزبير بنظرات الاحتقار من الأعلى للأسفل، ثم أضاف: وحتى إن حدث ذلك، فلن يكون حبها لرجل معتوه قذر خائن قتل أباه وأمه وأخته... والله وحده يعلم ما الأعمال القذرة الأخرى
التي فعلها في حياته ولا يعلم بها سواه.
تذكر الزبير فورا قتله لأخيه دريد، فعبس بشدة ونهض ثائرا واتجه نحو أمين بسرعة، ورغم أن أمينا لم يكن ندا للزبير بالقوة الجسدية ولا بالقتال؛ إلا أنه لم يخف ولم يهتز من الداخل.
وقف الزبير بالقرب من غريمه وبات أمين يشتم رائحة أنفاس الزبير الحارة المتسارعة من شدة الغضب.
جعل الرجلان يحدقان بغضب أحدهما في غريمه.
وبعد مدة من هذا، التف أمين وبدأ يغادر مسرعا غاضبا.
فصرخ الزبير: انتظر.
فوقف أمين، وظهره للزبير.
فقال الزبير: إياك وأن تخبرها... إذا فعلت ذلك، فاعتبر نفسك مقتولا.
ضحك أمين بسخرية، ثم قال: لا أخاف الموت... أتظنني مثلك، أيها الجبان.
أثارت كلماته حنق الزبير، في حين غادر القاعة في قمة السرعة والغضب.
***
أراد الزبير أن يضيق على أمين بأية طريقة، ومنذ النقاش الحاد بينهما طفق الزبير يتفكر بعمق كيف يفعل ذلك. وكعادته، نجح بعد التفكير العميق والمطول في الوصول لحل. فبعد إنشاء المملكة الجديدة
بنحو الستة أشهر، عادت التجارة بين البقاء من جهة وبين كل من ياقوتة والهيجاء من جهة أخرى. لم تكن التجارة كعهدها قبل الحرب المقيتة، لكنها لم تكن بالحجم القليل. وقد كان أمين – بالطبع -
من التجار بين البقاء والمملكتين المجاورتين، وقد اتجر بكميات ضخمة من البضائع.
لذا بعد النقاش الحاد بينه وبين الزبير، أصدر الأخير قانونا بأن أي رجل يُدخل بضائع أو أموال بقيمة خمسة آلاف درهم أو أكثر، فإن نصفها سيذهب لخزينة الدولة! وهذا المبلغ في ذلك الزمان والمكان هو مبلغ هائل! اتسم القرار – بالطبع – بالغرابة، وظن الناس أن الزبير هدفه استغلالهم، وأن يسعد على حسابهم.
فهم أمين الرسالة جيدا، ولكنه لم يكن امرأ سهلا على الإطلاق، واتسم بالذكاء منذ صغره. لذلك حل هذه المشكلة بأن جعل يقسم البضائع أو الأموال التي سيدخلها للبقاء على عدد كبير جدا من الرجال،
بحيث لا تأخذ الدولة أي جزء.
وإذا اتسم أمين بالذكاء، فإن داهية الكثبة اتسم بالدهاء الشديد، وعلم بما يحدث من خلال عيونه المنتشرين في كل مكان، حتى في المملكتين المجاورتين. فأعلم الزبير الذي شعر بكيد عظيم، وتعاظم الحنق
الهائل الذي بداخله تجاه أمين أضعافا مضاعفة.
***
وذات يوم أتت سمية إلى قصر الكثبة للقاء الزبير. تفاجأ حين علم بمقدمها، وأيقن أنه سيحدث أمر ليس بالمحمود. لذا دعاها إلى قاعة النسور السوداء في القصر، وطلب ألا يدخل عليهما أحد حتى حراسه.
دخل الملك ذو الندب القاعة الواسعة، فوجد المرأة التي يحبها من كل قلبه، وفرح كثيرا لما رآها، لكنه أخفى فرحته؛ لأنه أحس أنها تعلم بما حدث بينه وبين زوجها.
"مرحبا، يا سمية" قال، وأضاف: لقد نورت القصر بحضورك.
لم ترد عليه سمية، التي كانت تشع غضبا، وعيناها مفتوحتان على أقصى اتساعهما، والعبوس يحتل كل مكان في وجهها. لم يسبق للزبير أن رآها بمثل هذا الحال، بل بما عهده عنها من شدة نعومتها،
لم يتوقع يوما أن يراها بمثل هذا الحال.
وبعد مدة من الصمت، قالت بصوت غاضب: إلى أي درجة بلغ مرضك، أيها المعتوه؟ّ! لقد أخبرني أمين بكل شيء.
صعق من كلامها، فلا أحد يحادثه هكذا، وغضب كثيرا، لكن حزنه فاق غضبه بمراحل؛ لأنه أحب سمية من كل قلبه، وآلمه أن تحادثه بهذه الطريقة.
تغاضى عن كل هذا، وقال بصوت هادئ حزين: وبم أخبرك، حتى أعرف بما أرد؟
"تتظاهر بأنك لا تعلم!" قالت، تنهدت واستجمعت قواها، ثم قالت: أخبرني بخطتك بأن يطلقني لتتزوجني.
ازداد ذهوله، لكنه سيطر على نفسه وقال بهدوء مستفز: كيف تصدقينه؟! هذا رجل فاشل لا يميزه عن غيره سوى أنه يملك المال الكثير... أنا لم أطلب منه أن يطلقك لأتزوجك... فقط أخبرته أنني
أستحقك أكثر منه.
لم يكن ما قاله مقنعا، لكن هذا هو فقط ما استطاع الخروج به في هذا الموقف الذي اتسم بقمة الإحراج له.
ازداد الغضب على وجهها، وبدا عليها الاشمئزاز العظيم مما سمعته، وقالت: أمين لا يكذب علي، ولم يكذب قط، ولن يكذب أبدا... وحتى ولو كذب فهو أصدق من رجل قتل رجلا وثق به كابنه...
إياك أن تمس زوجي وحبيبي بأي سوء؛ لأنك ستدفع الثمن غاليا.
استاء الزبير كثيرا، لأنه أحس أنه سيخسرها للأبد.
ثم قال: هو يغار مني، ورغم أنني لم أطلب منه تطليقك، ألا ترين فعلا أنني الأحق به منك وأنني الأفضل لك وأنك ستسعدين أكثر بعشرات الأضعاف، عندما تتزوجينني؟!
قال هذا بعد أن أدرك أنه حان وقت الصراحة، ولم يبق هنالك شيء يخسره.
ازداد اشمئزازها، وقالت بحزم: أنت مجنون بالفعل، ومريض كذلك... أنا أحبه ولن أتركه، هل تفهم؟!
التفت وغادرت بسرعة، وبينما هي تفعل ذلك التفت وصرخت بغضب: إياك أن تؤذيه؛ لأنك ستدفع الثمن غاليا... أنت لا تعرفني جيدا... أنا أعشقه بجنون، وسأدمر العالم لأجله.
التفت من جديد وغادرت، بينما أحس الزبير نفسه غارقا في بحر اجتاحته أمواج عاتية من المشاعر السلبية، أمواج من الحزن والغضب واليأس!
***
أرسل الزبير في طلب أمين، ولما حضر استقبله الزبير في قاعة النسور السوداء، وبقيا وحدهما.
دخل أمين على الزبير فوجده وحده جالسا على الكرسي في آخر القاعة، وهو عابس أشد العبوس، وظهر على أمين عبوس ينافسه ضراوة!
فلما رآه الزبير وقف، ومشى بالقاعة حتى جعل ظهره متعمدا لأمين، عدوه اللدود الذي كان يوما صديقه الحميم.
ثم قال بغضب، وهو يسند كفه اليمنى إلى اليسرى خلف ظهره: أهلا، بصديقي العزيز. كم اشتقت إليك!
بدا الاستهزاء واضحا في العبارة الأخيرة.
لم يرد أمين التحية، بل قال: ماذا تريد؟ ليس لدي وقت كثير لك.
ازداد الجحيم في صدر الزبير حماوة من تجرؤ أمين عليه وهو الملك، وقال وهو يدير ظهره له: تريد زبدة الحكاية إذاً؟!
ثم التف ونظر بعينين ملؤهما القسوة لم يشهد أمين في حياته مثيلا لهما، ورغم ذلك لم يشعر بأي خوف.
وقال الزبير: ألم أحذرك بألا تخبرها؟! لم فعلت ذلك؟!
فقال أمين بغضب وشجاعة عارمة لم يتوقعها الزبير: لقد أخبرتها... هيا نفذ وعدك، واقتلني.
ظل الزبير واضعا يديه إحداهما فوق الأخرى خلف ظهره، ثم بدأ بالمشي ببطء شديد نحو أمين.
في هذه الأثناء ظل أمين واقفا، وعرف أنها لحظاته الأخيرة، وطفق يتخيل الزبير وهو يفعل ما سيفعله بعد لحظات، عندما يستل الخنجر الذي أهدته إياه زوجة أمين ليقتله به! ورغم كل ذلك لم يخف
أمين أبدا، فعلى الرغم من أن مثل هذه اللحظات – لحظات الموت – أخافت أعظم المقاتلين وأشرسهم عبر التاريخ، فإن ذلك التاجر الذي يقل قوة بكثير عنهم جميعا، لم يخف على الإطلاق.
وظل الزبير على حاله ذاك يقترب من أمين حتى بات أحدهما يشتم رائحة نفس الآخر. بسط الزبير يديه، بينما انتظر أمين لحظة موته.
ولكن الزبير لم يستل خنجره، بل وضع كفيه بنعومة على كتفي أمين، وقال بهدوء وثقة مستغربة في موقف كهذا: أتظنني مجنونا لأقتل صديقي الذي ساعدني في خطتي التي حلمت بها طيلة عمري...
صديقي الذي لولاه ما بلغت ما أنا عليه الآن.
فتح أمين عينيه تعجبا غير مصدق ما يسمعه، وزاد هذا أكثر وأكثر، عندما أكمل الزبير وهو يضع يديه على كتفي أمين: اذهب وعش سعيدا مع سمية... أنا اعتقدت أنني سأسعدها أكثر منك، لكنها تظن
عكس هذا... لذا أنا آسف يا أمين على كل شيء... اذهب وعش طيب النفس مع سمية... وأحملك أمانة أن تبلغها اعتذاراتي.
لم يصدق أمين على الإطلاق ما سمعه، وبينما غرق في محيط من الذهول، أزال الزبير يديه عن كتفيه وأعادهما على حالهما خلف ظهره، وترك أمينا ثم غادر القاعة ببطء شديد!
***
منذ أهدته سمية ذلك الخنجر الذهبي - الذي أجهز به على جل خصومه الذين حالوا بينه وبين حلمه الشخصي في الملك والحكم - وهو يمسك به ويمعن النظر فيه، والأهم يفكر في الشخص الذي أهداه إياه. وقد زاد كل هذا أضعافا مضاعفة بعد هدوء الأمور واستقرارها واستتباب الحكم له.
ما لم يعلمه أحد سوى الزبير، وهو أنه منذ أول ما رأى سمية، وهو يفكر بها، ويحسد أمينا أشد الحسد عليها، ويتمنى لو أنها له. الزبير عانى منذ طفولته وحتى كبره، من فقر في الحنان. وذلك يعود لأنه
يتيم الأب منذ صغره، وموت أبيه مبكرا جعله يشعر بأنه وحيد، خاصة أن البدو غير معتادين على الحنان، وزاد كل هذا أضعافا بعد مقتل جده. لذا كانت سمية هي ما سيعوضه عن كل ما فاته وعن كل من فقدهم، وستكون أمه وأخته وابنته وحبيبته وزوجته، وستنسيه كل الأحزان.
"ولكنني لا يمكن أن أفعل شيئا!" هذا ما لطالما فكر به منذ لحظة رؤيته لها، واستمر هذا التفكير حتى بعد تتويجه ملكا، وحتى بعد استقرار الحكم له. ولكن أخيرا وصل هذا إلى نهاية، فمع التفكر العميق
المستمر، فكر الزبير: "الغاية العظيمة تبرر الوسيلة القذرة... أي شيء مباح في الحب والحرب... لقد فعلت أشياء أسوأ بكثير... ضحيت بأخي... والآن سأضحي بأشياء أقل أهمية من أجل سمية".
سمية محبوبة الزبير السرية، بل هي أكثر ما أحبه قلبه في حياته كلها!
***
أرسل الزبير في طلب أمين، فلبى الأخير الطلب. ورغم أن الزبير اعتاد استقبال كل ضيوفه وإجراء كل اجتماعاته في الشرفة التي توج فيها ملكا، لكنه حرص هذه المرة على استقبال ضيفه في قاعة مغلقة من قاعات القصر.
باتت تلك الشرفة تعرف بشرفة الأسد، نسبة لقبيلة الزبير، أما قصر الضيغم فغدا يعرف بقصر الكثبة! أما القاعة التي أراد استقبال أمين فيها، فعرفت بقاعة النسور السوداء. واختصها الزبير ليجتمع فيها
وحده بأي شخص يريد أن يحادثه بأمر خاص بينهما، دون وجود أحد حتى النسور السوداء.
اتسمت القاعة بالاتساع العظيم، واحتوت طاولة عريضة عظيمة الطول، يمكن أن يجلس عليها أربعون امرئ، وفي نهاية القاعة وُجِد كرسي خصص للملك. وأما جدران القاعة فعلق عليها الخناجر
والسيوف، وعلى الجدار فوق كرسي الملك بمسافة عالية، علق رأس نسر ذي نظرات حادة. والطاولة وكل الكراسي بما فيها كرسي الملك، علا حوافها الذهب الخالص. وانتشرت أشرطة من الذهب
في جدران القاعة وسقفها.
حضر أمين إلى قصر الكثبة ثم إلى غرفة النسور السوداء ، فوجد الزبير وحرسه الثلاثة النسور السوداء، إضافة لعدد من الحرس والخدم.
"مرحبا" قال أمين ببرود، على عكس ترحيباته السابقة بالزبير، والتي اتسمت كلها بالحرارة الشديدة التي تقترب من حرار الانصهار؛ فأمراء الثورة –باستثناء حورية – كلهم غضبوا مما فعله الملك
ذو الندب في التكريم الأسود وما لحقه.
"أهلا، يا أمين" قال الزبير ببرود مماثل.
كان الزبير يجلس على كرسي المُلك في آخر القاعة، وأمامه الطاولة الطويلة جدا، فجلس أمين على أحد الكراسي المحيطة بالطاولة.
لم يضيّف الزبير ضيفه؛ فهو على وشك الدخول في نقاش حاد بل في إعصار مع أمين.
ثم طلب الزبير من كل من في القاعة المغادرة بمن في ذلك النسور السوداء، ففعلوا ذلك جميعا.
ولما بقيا وحدهما، حدق الزبير بعينين جاحظتين في ضيفه، بينما بادله أمين نظرات حادة.
ثم قال الزبير: يا أمين، اليوم أرسلت في طلبك، لأنني أريد أن آمرك بأمر لا رجعة عنه.
لطالما خدمتك – كما خدمت كل فرد من أهل البقاء دون استثناء – ولطالما ضحيت من أجلكم جميعا، واليوم عليك أن تضحي من أجلي علك تسد قليلا من ديني عليك.
استغرب أمين من هذا، بينما تنهد الزبير عميقا؛ فما سيقوله صعب جدا.
ثم قال: أريدك أن تطلق سمية.
زاد استغراب أمين أضعافا مضاعفة، وبدا ذلك جليا على قسمات وجهه.
ساد صمت مدو في القاعة لمدة طويلة، ثم قال أمين المستغرب بنبرة ملؤها الاستهجان: ولم أفعل ذلك؟!
أسوأ شيء يمكن أن يفعله أمين في حياته هو تطليق سمية؛ فقد أحبها بجنون وشعرت هي بمشاعر مشابهة بل أقوى تجاهه.
تفكر أمين بسرعة ثم قال متعجبا: لتتزوجها أنت، أليس كذلك؟!
تنهد أمين ثم وقف بسرعة، وصرخ في الملك الزبير: أمجنون أنت؟! ما درجة المرض الذي أصاب قلبك والعته الذي أصاب عقلك؟! تطلب من رجل أن يطلق زوجته لتتزوجها أنت؟!
فقال الزبير بحزم: كيف تحادثني هكذا؟!
فقال أمين: لا أستغرب كل هذا من رجل خسيس غدار، قتل رجلا اعتبره أعز من ابنه على قلبه، قتله غدرا وخيانة.
فوقف الزبير، وقال بحزم: ستندم على هذا الكلام.
ابتعد أمين عن الكرسي، واقترب مسافة قليلة باتجاه الزبير.
ثم رد أمين: افعل ما تشاء.
فقال الزبير وهو يشير بسبابته اليمنى بقوة: ستطلقها رغما عن أنفك شئت أم أبيت.
سكت لمدة ثم أضاف بهدوء: إن كنت تحبها، فطلقها؛ فهي تستحق رجلا أعظم منك بكثير... أنت مجرد رجل يملك مالا كثيرا، ولا يميزك أي شيء آخر... أنت لست ندا لامرأة عظيمة جدا لا مثيل لها مثل سمية... يجب أن تتزوج رجلا عظيما مثلها أو أعظم... وليس هنالك خير مني!
"أنت مجنون ومريض فعلا" قال أمين بثقة.
رد الزبير: سأقتلك إن لزم الأمر.
قال أمين: افعلها، وأوقن أنك ستسعى لذلك... ولست أخاف الموت، ومستعد له من أجل سمية... وحتى عندما تقتلني لن تقبل بك؛ لأنها تحبني أنا، ولم تحبّ رجلا غيري قط ولن تحب رجلا غيري أبدا...
ثم طقق يرمي الزبير بنظرات الاحتقار من الأعلى للأسفل، ثم أضاف: وحتى إن حدث ذلك، فلن يكون حبها لرجل معتوه قذر خائن قتل أباه وأمه وأخته... والله وحده يعلم ما الأعمال القذرة الأخرى
التي فعلها في حياته ولا يعلم بها سواه.
تذكر الزبير فورا قتله لأخيه دريد، فعبس بشدة ونهض ثائرا واتجه نحو أمين بسرعة، ورغم أن أمينا لم يكن ندا للزبير بالقوة الجسدية ولا بالقتال؛ إلا أنه لم يخف ولم يهتز من الداخل.
وقف الزبير بالقرب من غريمه وبات أمين يشتم رائحة أنفاس الزبير الحارة المتسارعة من شدة الغضب.
جعل الرجلان يحدقان بغضب أحدهما في غريمه.
وبعد مدة من هذا، التف أمين وبدأ يغادر مسرعا غاضبا.
فصرخ الزبير: انتظر.
فوقف أمين، وظهره للزبير.
فقال الزبير: إياك وأن تخبرها... إذا فعلت ذلك، فاعتبر نفسك مقتولا.
ضحك أمين بسخرية، ثم قال: لا أخاف الموت... أتظنني مثلك، أيها الجبان.
أثارت كلماته حنق الزبير، في حين غادر القاعة في قمة السرعة والغضب.
***
أراد الزبير أن يضيق على أمين بأية طريقة، ومنذ النقاش الحاد بينهما طفق الزبير يتفكر بعمق كيف يفعل ذلك. وكعادته، نجح بعد التفكير العميق والمطول في الوصول لحل. فبعد إنشاء المملكة الجديدة
بنحو الستة أشهر، عادت التجارة بين البقاء من جهة وبين كل من ياقوتة والهيجاء من جهة أخرى. لم تكن التجارة كعهدها قبل الحرب المقيتة، لكنها لم تكن بالحجم القليل. وقد كان أمين – بالطبع -
من التجار بين البقاء والمملكتين المجاورتين، وقد اتجر بكميات ضخمة من البضائع.
لذا بعد النقاش الحاد بينه وبين الزبير، أصدر الأخير قانونا بأن أي رجل يُدخل بضائع أو أموال بقيمة خمسة آلاف درهم أو أكثر، فإن نصفها سيذهب لخزينة الدولة! وهذا المبلغ في ذلك الزمان والمكان هو مبلغ هائل! اتسم القرار – بالطبع – بالغرابة، وظن الناس أن الزبير هدفه استغلالهم، وأن يسعد على حسابهم.
فهم أمين الرسالة جيدا، ولكنه لم يكن امرأ سهلا على الإطلاق، واتسم بالذكاء منذ صغره. لذلك حل هذه المشكلة بأن جعل يقسم البضائع أو الأموال التي سيدخلها للبقاء على عدد كبير جدا من الرجال،
بحيث لا تأخذ الدولة أي جزء.
وإذا اتسم أمين بالذكاء، فإن داهية الكثبة اتسم بالدهاء الشديد، وعلم بما يحدث من خلال عيونه المنتشرين في كل مكان، حتى في المملكتين المجاورتين. فأعلم الزبير الذي شعر بكيد عظيم، وتعاظم الحنق
الهائل الذي بداخله تجاه أمين أضعافا مضاعفة.
***
وذات يوم أتت سمية إلى قصر الكثبة للقاء الزبير. تفاجأ حين علم بمقدمها، وأيقن أنه سيحدث أمر ليس بالمحمود. لذا دعاها إلى قاعة النسور السوداء في القصر، وطلب ألا يدخل عليهما أحد حتى حراسه.
دخل الملك ذو الندب القاعة الواسعة، فوجد المرأة التي يحبها من كل قلبه، وفرح كثيرا لما رآها، لكنه أخفى فرحته؛ لأنه أحس أنها تعلم بما حدث بينه وبين زوجها.
"مرحبا، يا سمية" قال، وأضاف: لقد نورت القصر بحضورك.
لم ترد عليه سمية، التي كانت تشع غضبا، وعيناها مفتوحتان على أقصى اتساعهما، والعبوس يحتل كل مكان في وجهها. لم يسبق للزبير أن رآها بمثل هذا الحال، بل بما عهده عنها من شدة نعومتها،
لم يتوقع يوما أن يراها بمثل هذا الحال.
وبعد مدة من الصمت، قالت بصوت غاضب: إلى أي درجة بلغ مرضك، أيها المعتوه؟ّ! لقد أخبرني أمين بكل شيء.
صعق من كلامها، فلا أحد يحادثه هكذا، وغضب كثيرا، لكن حزنه فاق غضبه بمراحل؛ لأنه أحب سمية من كل قلبه، وآلمه أن تحادثه بهذه الطريقة.
تغاضى عن كل هذا، وقال بصوت هادئ حزين: وبم أخبرك، حتى أعرف بما أرد؟
"تتظاهر بأنك لا تعلم!" قالت، تنهدت واستجمعت قواها، ثم قالت: أخبرني بخطتك بأن يطلقني لتتزوجني.
ازداد ذهوله، لكنه سيطر على نفسه وقال بهدوء مستفز: كيف تصدقينه؟! هذا رجل فاشل لا يميزه عن غيره سوى أنه يملك المال الكثير... أنا لم أطلب منه أن يطلقك لأتزوجك... فقط أخبرته أنني
أستحقك أكثر منه.
لم يكن ما قاله مقنعا، لكن هذا هو فقط ما استطاع الخروج به في هذا الموقف الذي اتسم بقمة الإحراج له.
ازداد الغضب على وجهها، وبدا عليها الاشمئزاز العظيم مما سمعته، وقالت: أمين لا يكذب علي، ولم يكذب قط، ولن يكذب أبدا... وحتى ولو كذب فهو أصدق من رجل قتل رجلا وثق به كابنه...
إياك أن تمس زوجي وحبيبي بأي سوء؛ لأنك ستدفع الثمن غاليا.
استاء الزبير كثيرا، لأنه أحس أنه سيخسرها للأبد.
ثم قال: هو يغار مني، ورغم أنني لم أطلب منه تطليقك، ألا ترين فعلا أنني الأحق به منك وأنني الأفضل لك وأنك ستسعدين أكثر بعشرات الأضعاف، عندما تتزوجينني؟!
قال هذا بعد أن أدرك أنه حان وقت الصراحة، ولم يبق هنالك شيء يخسره.
ازداد اشمئزازها، وقالت بحزم: أنت مجنون بالفعل، ومريض كذلك... أنا أحبه ولن أتركه، هل تفهم؟!
التفت وغادرت بسرعة، وبينما هي تفعل ذلك التفت وصرخت بغضب: إياك أن تؤذيه؛ لأنك ستدفع الثمن غاليا... أنت لا تعرفني جيدا... أنا أعشقه بجنون، وسأدمر العالم لأجله.
التفت من جديد وغادرت، بينما أحس الزبير نفسه غارقا في بحر اجتاحته أمواج عاتية من المشاعر السلبية، أمواج من الحزن والغضب واليأس!
***
أرسل الزبير في طلب أمين، ولما حضر استقبله الزبير في قاعة النسور السوداء، وبقيا وحدهما.
دخل أمين على الزبير فوجده وحده جالسا على الكرسي في آخر القاعة، وهو عابس أشد العبوس، وظهر على أمين عبوس ينافسه ضراوة!
فلما رآه الزبير وقف، ومشى بالقاعة حتى جعل ظهره متعمدا لأمين، عدوه اللدود الذي كان يوما صديقه الحميم.
ثم قال بغضب، وهو يسند كفه اليمنى إلى اليسرى خلف ظهره: أهلا، بصديقي العزيز. كم اشتقت إليك!
بدا الاستهزاء واضحا في العبارة الأخيرة.
لم يرد أمين التحية، بل قال: ماذا تريد؟ ليس لدي وقت كثير لك.
ازداد الجحيم في صدر الزبير حماوة من تجرؤ أمين عليه وهو الملك، وقال وهو يدير ظهره له: تريد زبدة الحكاية إذاً؟!
ثم التف ونظر بعينين ملؤهما القسوة لم يشهد أمين في حياته مثيلا لهما، ورغم ذلك لم يشعر بأي خوف.
وقال الزبير: ألم أحذرك بألا تخبرها؟! لم فعلت ذلك؟!
فقال أمين بغضب وشجاعة عارمة لم يتوقعها الزبير: لقد أخبرتها... هيا نفذ وعدك، واقتلني.
ظل الزبير واضعا يديه إحداهما فوق الأخرى خلف ظهره، ثم بدأ بالمشي ببطء شديد نحو أمين.
في هذه الأثناء ظل أمين واقفا، وعرف أنها لحظاته الأخيرة، وطفق يتخيل الزبير وهو يفعل ما سيفعله بعد لحظات، عندما يستل الخنجر الذي أهدته إياه زوجة أمين ليقتله به! ورغم كل ذلك لم يخف
أمين أبدا، فعلى الرغم من أن مثل هذه اللحظات – لحظات الموت – أخافت أعظم المقاتلين وأشرسهم عبر التاريخ، فإن ذلك التاجر الذي يقل قوة بكثير عنهم جميعا، لم يخف على الإطلاق.
وظل الزبير على حاله ذاك يقترب من أمين حتى بات أحدهما يشتم رائحة نفس الآخر. بسط الزبير يديه، بينما انتظر أمين لحظة موته.
ولكن الزبير لم يستل خنجره، بل وضع كفيه بنعومة على كتفي أمين، وقال بهدوء وثقة مستغربة في موقف كهذا: أتظنني مجنونا لأقتل صديقي الذي ساعدني في خطتي التي حلمت بها طيلة عمري...
صديقي الذي لولاه ما بلغت ما أنا عليه الآن.
فتح أمين عينيه تعجبا غير مصدق ما يسمعه، وزاد هذا أكثر وأكثر، عندما أكمل الزبير وهو يضع يديه على كتفي أمين: اذهب وعش سعيدا مع سمية... أنا اعتقدت أنني سأسعدها أكثر منك، لكنها تظن
عكس هذا... لذا أنا آسف يا أمين على كل شيء... اذهب وعش طيب النفس مع سمية... وأحملك أمانة أن تبلغها اعتذاراتي.
لم يصدق أمين على الإطلاق ما سمعه، وبينما غرق في محيط من الذهول، أزال الزبير يديه عن كتفيه وأعادهما على حالهما خلف ظهره، وترك أمينا ثم غادر القاعة ببطء شديد!
***