38
وظل الزبير على حاله من الحزن على سمية، والجلوس وحيدا مع الخنجر الذي أهدته إياه، وقلة الاختلاط حتى بأقرب المقربين له. وقد شاع كل هذا في البقاء بأكملها.
وذات يوم أتى لزيارة الزبير ضيف لم يتوقعه أبدا. توجه الزبير إلى إحدى شرفات قصر الكثبة المطلة على الهواء الطلق، فوجد حورية بانتظاره، وعلى بعد مسافة غير بعيدة وقف حارسها –
غريب الأطوار – عكرمة، وهو يضع يده اليمنى على اليسرى، ويضع الأخيرة على ظهره. تفاجأ الزبير من مقدمها، وتساءل ماذا تريد.
"أهلا بك" قال الزبير بعد أن جلس، وقد انتبه جيدا لعنايتها بنفسها أقصى عناية، فقد تزينت بأجمل زينة، وتعطرت بأطيب عطر، ولبست أفضل لباس.
"مرحبا، أيها الزبير" قالت حورية ثم ارتشفت من كأس الشاي الذي ضيفه لها الخادم. ولم يكترث الزبير بعدم مخاطبتها له ب "مولاي" وهو ملك البقاء بأكملها.
ثم أضافت: كيف حالك؟ سمعنا أنك لست على ما يرام.
ضيف الخادم الزبير كأسا من الشاي، أبقاه الزبير أمامه ولم يشرب منه شيئا.
لم يجب الزبير على كلامها، في حين ابتسمت ابتسامتها المغرية، ثم قالت مبتسمة: سمعنا بحزنك العظيم على تلك المرأة!
وبينما اجتاحت التعابير المثيرة وجهها – وهذا ما استمر طيلة الحوار – أكملت: أتراها تستحق كل هذا؟!
هم الزبير بالدفاع عن سمية، ولكنه التزم الصمت؛ لأنه كان خائر القوى، مفرغا من أية طاقة بسبب حزنه الشديد واكتئابه العظيم.
"ما الذي يعجبك فيها؟!" قالت حورية، وأمالت رأسها وابتسمت بإغراء، وأكملت بنبرة استهزاء: جسدها النحيل، أم صدرها الصغير، أم قوامها الباهت، أم برودتها؟!
وضعت يديها على فخذها المدورة، ثم أكملت: أنت تحتاج امرأة ذات جسد جميل، وانحناءات، شخصيتها قوية، تثير بأنوثتها حتى الحجر.
ثم تساءلت بتعجب: لماذا تحزن على تلك، وأنت بإمكانك أن تمتلك أفضل منها؟!
جعل الزبير يحدق في حورية، متعجبا من كلامها، وتفحص جسدها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها.
وبينما وقف عكرمة كالصنم، قالت حورية: هنالك نساء متزوجات ولهن أبناء، مستعدات للتخلي عن أزواجهن من أجلك...
ابتسمت بإغراء، ووضعت رجلها اليمنى فوق اليسرى، ثم قالت مبتسمة: انظر حولك جيدا، ستجدهن الآن.
حدق الزبير في حورية التي أغرته بنجاح، وافتتن بجسدها، واحتار بين انحناءات جسمها، وجسدها المكتنز وتعابير وجهها المثيرة، وابتسامتها المغرية، وبياضها الناصع الشديد، وكل هذا أشعل نار حامية جدا بداخله، لم يعرف حينئذ ما الذي يمكن أن يطفئها.
***
بعد رحيل حورية والصنم الذي يحرسها، عاد الزبير إلى غرفته وأمسك بالخنجر الذي أهدته إياه سمية، وأنشأ يتفكر بعمق فيما قالته حورية، وظل هكذا أياما كثيرة.
لقد فهم رسالة حورية جيدا، وبدأت تجتاحه خيالات مثيرة، وأحس بنشوة وسعادة بالغتين؛ لأن هذه المرأة تمتلك جسدا وإثارة لم يشهد مثيلا لهما.
ولكنه تفكر جيدا، "هل أوذي المغيرة، صديقي الذي ساعدني ولطالما وقف بجانبي، والذي لولاه ما قامت الثورة ولا نجحت، والذي لولاه ما غدوت ملكا؟!"
ولكن الجواب أتى على شكل فكرة أخرى، إذ خاطب الزبير نفسه: "العظماء، أيها الزبير، لا بد وأن يضحوا، ولقد ضحيت بأقرب الناس إليك، أخيك دريد، وخسرت حبيبتك سمية، وابنك سليما، فهل سيقف جيش طموحاتك عند المغيرة، ومكانته في قلبك أقل منهم جميعا؟!"
***
بعد ما يقرب الشهر من زيارة حورية للزبير، توجه الأخير إلى الفيحاء، بالتحديد إلى منزل المغيرة. استقبل المغيرة وحورية ضيفهما في غرفة ضيوف منزلهما.
تكونت كل الغرفة من الخشب الثمين، بما في ذلك الأثاث، وانتشرت هنا وهناك التحف الخزفية الثمينة.
"كيف حالكما؟" سأل الزبير.
سكت المغيرة لمدة، ثم أجاب بجفاف: بخير.
ثم نظر بغضب وامتعاض إلى الأرض.
بينما قالت حورية بصوت ناعم مثير: نحن بأتم حال، أيها الملك.
لقد كان المغيرة كسائر أمراء الثورة مستاءً من تصرفات الزبير، لا سيما ما فعله مع الملك الهارب وآله، ثم ما ظن المغيرة أنه فعله مع أمين.
تفهم الزبير الأمر، فقال: أيها المغيرة، ما عهدته عنك أنك رجل شديد قاس، وعليك أن تتفهم أن الحياة لا بد في من تضحيات... أنا لم أكره الملك الهارب يوما، بل على العكس اعتبرته أبا لي... لكن مصلحة البقاء تقتضي فعل ما فعلتُه... وأنا لم أوذيك ولم أسئ إليك على الإطلاق في حياتي، فلم كل هذا الغضب؟!
وبالتأكيد عرف الزبير جيدا، أن ما دفعه لفعل ما فعله تجاه الملك الهارب لم يكن أبدا مصحلة البقاء!
ابتسمت حورية ابتسامة مثيرة، وقالت: اعذر المغيرة، يوما ما سينسى كل شيء حدث، وسيدرك أن ما فعلتَه هو الصحيح.
لم يعجب المغيرة ما قالته، لكنه لم يعلق.
فحاول الزبير من جديد استمالة المغيرة إلى صفه، فسأل: كيف أمور الفيحاء؟
ومن جديد أجاب المغيرة بجفاف وغضب: هي بخير... لا شيء جديد يذكر.
ثم قالت حورية، ووجهها تعلوه التعابير المثيرة الخبيثة: دعنا من الفيحاء... لا بد أيها الزبير أن هنالك أمراً هاما أتى بك إلى الفيحاء!
لقد عرفت حورية لماذا أتى الزبير، وأنه أخيرا وافق على خطتها، وأرادته أن يعرف جيدا أنها تعرف.
تفهم الزبير مغزاها، وأجاب: نعم... بالفعل... أمر هام... وما أهم من رؤية المرء لصديقه؟!
تنهد الزبير، ثم قال وهو ينظر إلى حورية: هل تسمحين لي بمحادثة المغيرة على انفراد؟
اتسعت ابتسامتها، وقال بصوت قمة في النعومة والدلال والإثارة: بالتأكيد.
قامت ورحلت وظل الرجلان الصديقان معا.
ثم قال الزبير: أيها المغيرة... أريدك أن تعرف أنك صديقي، وستظل صديقي للأبد... حتى لو ما فتئت غاضبا مني وحاقدا علي... ما حدث قد حدث، ورحم الله الملك الهارب... أريد أن أعترف أنه لولاك
ما حدثت الثورة، ولولاك ما صرتُ ملكا... لا أظن أنني أسأت إلى شخصك يوما ما... وإذا فعلت ذلك في أي يوم قادم، فأرجو أن تسامحني من كل قلبك... وتذكر دوما أن الحياة لا بد فيها من التضحيات.
أحس المغيرة بغرابة كلام الزبير، ثم قال: أنت لم تسئ إلي شخصيا في أي يوم، لكن ما فعلته فيه إساءة لكل مواطن في البقاء، وأنا منهم، ولا أعتقد أن أي أحد منا سيقدر على أن يسامحك يوما ما؛
لأن مسامحتك تعني خيانة البقاء!
انزعج الزبير كثيرا من كلام المغيرة، وشعر بغضب عارم، لكنه لم يرد على المغيرة، وقال: ائذن لي.
وقام الزبير، واتجه إلى منزل بجوار منزل المغيرة، خصص للزوار القادمين إلى الأخير. وأقام الزبير هناك مع النسور السوداء وخدمه.
لم يمر وقت طويل، قبل أن تأتي حورية للقاء الزبير، فقد توجهت إليه في مساء اليوم نفسه.
ولكنها لم تأت وحدها، وإنما كان معها ظلها عكرمة.
جلس الزبير وحورية في غرفة واسعة في المنزل الذي قطن فيه. وكالعادة وقف عكرمة وقفته المعهودة، بيده اليسرى فوق اليمنى، في حين أسند الأخيرة إلى ظهره.
وضعت حورية فخذها المدورة اليمنى فوق مثيلتها اليسرى، وقالت بدلال يثير حتى الحجر: كيف حالك... أيها الزبير؟
الزبير الذي لطالما أجاد التحكم بنفسه جيدا، لا سيما فيما يخص النساء، أحس ببركان عارم في تلك اللحظات بداخله.
إلا إنه استجمع قواه، وقال: حورية، لقد فهمت رسالتك المرة الماضية... وتفكرت في الموضوع... وألفيت أنه لا خير منك في هذه البسيطة.
في تلك اللحظة، تذكر الزبير سمية؛ مما أثار بداخله شجنا عميقا.
اجتاحت فرحة عارمة قلب حورية، وظهر ذلك جيدا على تعابير وجهها، وابتسمت ابتسامة عريضة مثيرة، أبانت أسنانها البيضاء المصفوفة بإبداع، كأنها حجارة ألماس ثمينة.
أكمل الزبير: حورية، أنا أريدك لي.
ضحكت حورية بإثارة، ثم قالت بترقيق بالغ لصوتها وبصوت مثير: وأنا أريدك بجنون.
هاج الزبير من صوتها وما قالته.
في حين أكملت بالطريقة نفسها: أعدك أنني سأجعلك أسعد رجل عرفته البقاء يوما.
زاد هياج الزبير، وابتسم ابتسامة صفراء خبيثة، ورد: أنت امرأة ذكية تعرف مصلحتها جيدا، وتعرف ما الصحيح وما المفيد، على العكس من غيرك، أنت اخترت أعظم رجل في البقاء، لذلك
سأجعلك أعظم ملكة في الكون كله، وسأجعلك تعيشين الجنة على الأرض.
وبالتأكيد، قصد من كلامه أن حبيبته الحقيقية سمية هي التي لا تعرف مصلحتها.
لكنه سرعان ما تنهد تنهيدة أخفت ابتسامته الصفراء الخبيثة، وظهر القلق جليا على وجهه وهو يقول: ولكن كيف ستتخلصين من المغيرة؟!
"لي طرقي" قالت بصوتها المثير.
اتسعت عيناها الرماديتان البراقتان الساحرتان، ثم قالت: ولكن لي شروط.
فقال الزبير: قوليها.
فردت: ولدي وبنتي لي، ولا يراهم المغيرة نهائيا... وأريد أن تظل لي مكانتي كما هي مع المغيرة، وأن أحضر اجتماعاتك وأشاركك في اتخاذ القرارات. كما أنني أريد أن تظل معي حاشيتي
ومنهم حارسي عكرمة في قصرنا، وفي أي مكان أذهب إليه. أريد وعد شرف منك.
وقد كان لحورية من المغيرة ولد اسمه حسن وابنة اسمها زبيدة، عمر البنت عشرة أعوام، أما الولد فعمره ثمانية أعوام.
تفكر الزبير بعمق، ومط شفتيه العريضتين للأمام، وقال: لك ذلك، هذا وعد شرف.
***
لم تنتظر حورية على الإطلاق، فمنذ إخبار الزبير لها برغبته الزواج منها، طفقت تستخدم طرقها "الخاصة" للتخلص من المغيرة.
لقد أدركت، أنه لا شيء يمكن أن يسعد الرجل كامرأة تدلّله وتسعده، وعلى النقيض، لا شيء يتعس الرجل كامرأة تملأ حياته نكدا. لهذا جعلت تفتعل المشكلات على أبسط الأشياء وأتفهها على الإطلاق.
"لماذا ذهبت؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا لم تجلب كذا؟ ولم فعلت كذا؟ وأين ذهبت؟ ومن أين عدت؟" هذه الأسئلة وغيرها العشرات استخدمتها مرارا وتكرارا كل يوم لملء حياة المغيرة نكدا. ورغم أنها امرأة
ثرية حتى قبل أن تتزوج المغيرة، ورغم أنه لم يبخل عليها يوما، ورغم أنها جعلها أغنى وأغنى بعد أن أغدق عليه الملك الهارب المال بناء على إيعاز الزبير، رغم كل ذلك أنشأت تطالب بكثير من المال، فلبى المغيرة الطلب، فما كان منها إلا أن تطلب المزيد والمزيد، ولم تشكر زوجها على عطاياه. وشرعت الأمور تتأزم أكثر وأكثر، لما تكررت زياراتها كثيرا إلى أهلها، وفي إحدى الزيارات ظلت
ثلاثة أشهر كاملة عند أهلها وهي تصحب ابنها وابنتها، وظل يراسلها المغيرة لكي تعود لكن دون جدوى. ووصلت الأمور إلى الهاوية، عندما لم تعد تكتفي بحضور الاجتماعات معه، بل وصل بها
الأمر إلى مطالبتها بحضور الاجتماعات وحدها، وألا يحضرها معها، فلم يحتمل المغيرة مثل ذلك.
ظلت هذه الأمور من أتفهها إلى أعمقها، تتكرر تكررا ممنهجا، أشعل غضب المغيرة. وفي نهاية المطاف، طالبته بالطلاق، فرفض رفضا مطلقا؛ فقد أحبها بجنون، ولن يجد امرأة بجمالها، ولن يجد
جسدا كجسدها، أو إثارة كإثارتها، والأهم أنه أحب ابنه وابنته بجنون ولم يرد على الإطلاق أن يحزنهما أي شيء، لا سيما من طرفه هو بتطليقه لأمهما. فزدات حورية من افتعال المشاكل أكثر وأكثر،
وظلت تطلب الطلاق، وما فتئ المغيرة يرفض، فزادت حورية افتعال المشكلات، وملأت حياته نكدا وكبدا، ومضت ثمانية شهور متواصلة منعته من أن يمسها على الإطلاق، وبالنهاية قرر
أصعب قرار في حياته، ووافق على طلاقها.
أراد المغيرة أن يودع جسدها وإثارتها، فهو لن يستمتع بهما بعد اليوم، فأراد أن يجامعها، ولما حاول أن يمسها رفضت ذلك مطلقا، مما أشعل بداخله ظمأً لن ينطفئ أبد الدهر.
لم يستطع أبدا أن يفهم لم كانت تتصرف هكذا، وهو الذي لطالما أعطاها كل ما تريده، وأحس أنها تفتعل المشكلات لسبب ما لكنه لم يستطع أن يعرفه.
طلقها، ووفقا لقانون البقاء أخذت حضانة الأولاد، وكان يراهما يومي الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع. وهذا هشم قلبه شر تهشيم، فلم يحب في حياته شيئا أو إنسانا كما أحب ابنيه، أحبهما بجنون،
لدرجة أنه حتى جسد حورية وإثارتها – اللذان جعلاه عبدا لها – لم تضاهِ مكانتهما في قلبه مكانة ابنيه.
***
ولما أعلمت حورية جاريتها زمردة نيتها بالزواج من الملك الزبير، تفاجأت زمردة، واعتراها مزيج متناقض من الحزن والفرح. الحزن؛ لأنها أشفقت على المغيرة الذي لم يسئ لها ولا لسيدتها قط،
بيد أنها أخفت حزنها عن حورية. وأما الفرح؛ فلأن الزبير أعظم رجل في البقاء، وربما في تاريخ البقاء – وفق وجهة نظر كثيرين-، وسيدتها بالزواج منه ستغدو ملكة البقاء كلها.
"مبارك، يا مولاتي" قالت زمردة.
لم ترد حورية – بتعاليها – على تهنئة جاريتها، ولكن قالت: ما رأيك بالزبير؟
فقالت زمردة: هو أعظم رجل في البقاء كلها. أنا سعيدة من أجلك، يا مولاتي. لا سيما وأنك ستغدين جلالة الملكة.
ابتسمت حورية ابتسامة مثيرة جدا وعريضة.
ثم قالت زمردة: لكن ألا تخشين، أنه لن تكون لك مكانتك التي وجدت عند أبيك والمغيرة؟
فضحكت حورية باستهزاء، وقالت: لقد سألتني السؤال نفسه قبل زواجي من المغيرة، ورأيتِ النتيجة.
فقالت زمردة: لكن الزبير مختلف جدا، والكل يتحدث عن قسوته العظيمة وشدته التي لا مثيل لها.
وبينما علت الابتسامة المثيرة وجهها، قالت حورية: كل رجال الأرض عبيد لي ولجسدي عندما أريد ذلك. لا الزبير ولا غيره استثناء. سأستعبده، وسأستعبد كل البقاء وكل أهلها، بعد أن أغدو الملكة الآمرة الناهية التي تتحكم بكل شيء من أصغر الأشياء إلى أكبرها.
***
وذات يوم أتى لزيارة الزبير ضيف لم يتوقعه أبدا. توجه الزبير إلى إحدى شرفات قصر الكثبة المطلة على الهواء الطلق، فوجد حورية بانتظاره، وعلى بعد مسافة غير بعيدة وقف حارسها –
غريب الأطوار – عكرمة، وهو يضع يده اليمنى على اليسرى، ويضع الأخيرة على ظهره. تفاجأ الزبير من مقدمها، وتساءل ماذا تريد.
"أهلا بك" قال الزبير بعد أن جلس، وقد انتبه جيدا لعنايتها بنفسها أقصى عناية، فقد تزينت بأجمل زينة، وتعطرت بأطيب عطر، ولبست أفضل لباس.
"مرحبا، أيها الزبير" قالت حورية ثم ارتشفت من كأس الشاي الذي ضيفه لها الخادم. ولم يكترث الزبير بعدم مخاطبتها له ب "مولاي" وهو ملك البقاء بأكملها.
ثم أضافت: كيف حالك؟ سمعنا أنك لست على ما يرام.
ضيف الخادم الزبير كأسا من الشاي، أبقاه الزبير أمامه ولم يشرب منه شيئا.
لم يجب الزبير على كلامها، في حين ابتسمت ابتسامتها المغرية، ثم قالت مبتسمة: سمعنا بحزنك العظيم على تلك المرأة!
وبينما اجتاحت التعابير المثيرة وجهها – وهذا ما استمر طيلة الحوار – أكملت: أتراها تستحق كل هذا؟!
هم الزبير بالدفاع عن سمية، ولكنه التزم الصمت؛ لأنه كان خائر القوى، مفرغا من أية طاقة بسبب حزنه الشديد واكتئابه العظيم.
"ما الذي يعجبك فيها؟!" قالت حورية، وأمالت رأسها وابتسمت بإغراء، وأكملت بنبرة استهزاء: جسدها النحيل، أم صدرها الصغير، أم قوامها الباهت، أم برودتها؟!
وضعت يديها على فخذها المدورة، ثم أكملت: أنت تحتاج امرأة ذات جسد جميل، وانحناءات، شخصيتها قوية، تثير بأنوثتها حتى الحجر.
ثم تساءلت بتعجب: لماذا تحزن على تلك، وأنت بإمكانك أن تمتلك أفضل منها؟!
جعل الزبير يحدق في حورية، متعجبا من كلامها، وتفحص جسدها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها.
وبينما وقف عكرمة كالصنم، قالت حورية: هنالك نساء متزوجات ولهن أبناء، مستعدات للتخلي عن أزواجهن من أجلك...
ابتسمت بإغراء، ووضعت رجلها اليمنى فوق اليسرى، ثم قالت مبتسمة: انظر حولك جيدا، ستجدهن الآن.
حدق الزبير في حورية التي أغرته بنجاح، وافتتن بجسدها، واحتار بين انحناءات جسمها، وجسدها المكتنز وتعابير وجهها المثيرة، وابتسامتها المغرية، وبياضها الناصع الشديد، وكل هذا أشعل نار حامية جدا بداخله، لم يعرف حينئذ ما الذي يمكن أن يطفئها.
***
بعد رحيل حورية والصنم الذي يحرسها، عاد الزبير إلى غرفته وأمسك بالخنجر الذي أهدته إياه سمية، وأنشأ يتفكر بعمق فيما قالته حورية، وظل هكذا أياما كثيرة.
لقد فهم رسالة حورية جيدا، وبدأت تجتاحه خيالات مثيرة، وأحس بنشوة وسعادة بالغتين؛ لأن هذه المرأة تمتلك جسدا وإثارة لم يشهد مثيلا لهما.
ولكنه تفكر جيدا، "هل أوذي المغيرة، صديقي الذي ساعدني ولطالما وقف بجانبي، والذي لولاه ما قامت الثورة ولا نجحت، والذي لولاه ما غدوت ملكا؟!"
ولكن الجواب أتى على شكل فكرة أخرى، إذ خاطب الزبير نفسه: "العظماء، أيها الزبير، لا بد وأن يضحوا، ولقد ضحيت بأقرب الناس إليك، أخيك دريد، وخسرت حبيبتك سمية، وابنك سليما، فهل سيقف جيش طموحاتك عند المغيرة، ومكانته في قلبك أقل منهم جميعا؟!"
***
بعد ما يقرب الشهر من زيارة حورية للزبير، توجه الأخير إلى الفيحاء، بالتحديد إلى منزل المغيرة. استقبل المغيرة وحورية ضيفهما في غرفة ضيوف منزلهما.
تكونت كل الغرفة من الخشب الثمين، بما في ذلك الأثاث، وانتشرت هنا وهناك التحف الخزفية الثمينة.
"كيف حالكما؟" سأل الزبير.
سكت المغيرة لمدة، ثم أجاب بجفاف: بخير.
ثم نظر بغضب وامتعاض إلى الأرض.
بينما قالت حورية بصوت ناعم مثير: نحن بأتم حال، أيها الملك.
لقد كان المغيرة كسائر أمراء الثورة مستاءً من تصرفات الزبير، لا سيما ما فعله مع الملك الهارب وآله، ثم ما ظن المغيرة أنه فعله مع أمين.
تفهم الزبير الأمر، فقال: أيها المغيرة، ما عهدته عنك أنك رجل شديد قاس، وعليك أن تتفهم أن الحياة لا بد في من تضحيات... أنا لم أكره الملك الهارب يوما، بل على العكس اعتبرته أبا لي... لكن مصلحة البقاء تقتضي فعل ما فعلتُه... وأنا لم أوذيك ولم أسئ إليك على الإطلاق في حياتي، فلم كل هذا الغضب؟!
وبالتأكيد عرف الزبير جيدا، أن ما دفعه لفعل ما فعله تجاه الملك الهارب لم يكن أبدا مصحلة البقاء!
ابتسمت حورية ابتسامة مثيرة، وقالت: اعذر المغيرة، يوما ما سينسى كل شيء حدث، وسيدرك أن ما فعلتَه هو الصحيح.
لم يعجب المغيرة ما قالته، لكنه لم يعلق.
فحاول الزبير من جديد استمالة المغيرة إلى صفه، فسأل: كيف أمور الفيحاء؟
ومن جديد أجاب المغيرة بجفاف وغضب: هي بخير... لا شيء جديد يذكر.
ثم قالت حورية، ووجهها تعلوه التعابير المثيرة الخبيثة: دعنا من الفيحاء... لا بد أيها الزبير أن هنالك أمراً هاما أتى بك إلى الفيحاء!
لقد عرفت حورية لماذا أتى الزبير، وأنه أخيرا وافق على خطتها، وأرادته أن يعرف جيدا أنها تعرف.
تفهم الزبير مغزاها، وأجاب: نعم... بالفعل... أمر هام... وما أهم من رؤية المرء لصديقه؟!
تنهد الزبير، ثم قال وهو ينظر إلى حورية: هل تسمحين لي بمحادثة المغيرة على انفراد؟
اتسعت ابتسامتها، وقال بصوت قمة في النعومة والدلال والإثارة: بالتأكيد.
قامت ورحلت وظل الرجلان الصديقان معا.
ثم قال الزبير: أيها المغيرة... أريدك أن تعرف أنك صديقي، وستظل صديقي للأبد... حتى لو ما فتئت غاضبا مني وحاقدا علي... ما حدث قد حدث، ورحم الله الملك الهارب... أريد أن أعترف أنه لولاك
ما حدثت الثورة، ولولاك ما صرتُ ملكا... لا أظن أنني أسأت إلى شخصك يوما ما... وإذا فعلت ذلك في أي يوم قادم، فأرجو أن تسامحني من كل قلبك... وتذكر دوما أن الحياة لا بد فيها من التضحيات.
أحس المغيرة بغرابة كلام الزبير، ثم قال: أنت لم تسئ إلي شخصيا في أي يوم، لكن ما فعلته فيه إساءة لكل مواطن في البقاء، وأنا منهم، ولا أعتقد أن أي أحد منا سيقدر على أن يسامحك يوما ما؛
لأن مسامحتك تعني خيانة البقاء!
انزعج الزبير كثيرا من كلام المغيرة، وشعر بغضب عارم، لكنه لم يرد على المغيرة، وقال: ائذن لي.
وقام الزبير، واتجه إلى منزل بجوار منزل المغيرة، خصص للزوار القادمين إلى الأخير. وأقام الزبير هناك مع النسور السوداء وخدمه.
لم يمر وقت طويل، قبل أن تأتي حورية للقاء الزبير، فقد توجهت إليه في مساء اليوم نفسه.
ولكنها لم تأت وحدها، وإنما كان معها ظلها عكرمة.
جلس الزبير وحورية في غرفة واسعة في المنزل الذي قطن فيه. وكالعادة وقف عكرمة وقفته المعهودة، بيده اليسرى فوق اليمنى، في حين أسند الأخيرة إلى ظهره.
وضعت حورية فخذها المدورة اليمنى فوق مثيلتها اليسرى، وقالت بدلال يثير حتى الحجر: كيف حالك... أيها الزبير؟
الزبير الذي لطالما أجاد التحكم بنفسه جيدا، لا سيما فيما يخص النساء، أحس ببركان عارم في تلك اللحظات بداخله.
إلا إنه استجمع قواه، وقال: حورية، لقد فهمت رسالتك المرة الماضية... وتفكرت في الموضوع... وألفيت أنه لا خير منك في هذه البسيطة.
في تلك اللحظة، تذكر الزبير سمية؛ مما أثار بداخله شجنا عميقا.
اجتاحت فرحة عارمة قلب حورية، وظهر ذلك جيدا على تعابير وجهها، وابتسمت ابتسامة عريضة مثيرة، أبانت أسنانها البيضاء المصفوفة بإبداع، كأنها حجارة ألماس ثمينة.
أكمل الزبير: حورية، أنا أريدك لي.
ضحكت حورية بإثارة، ثم قالت بترقيق بالغ لصوتها وبصوت مثير: وأنا أريدك بجنون.
هاج الزبير من صوتها وما قالته.
في حين أكملت بالطريقة نفسها: أعدك أنني سأجعلك أسعد رجل عرفته البقاء يوما.
زاد هياج الزبير، وابتسم ابتسامة صفراء خبيثة، ورد: أنت امرأة ذكية تعرف مصلحتها جيدا، وتعرف ما الصحيح وما المفيد، على العكس من غيرك، أنت اخترت أعظم رجل في البقاء، لذلك
سأجعلك أعظم ملكة في الكون كله، وسأجعلك تعيشين الجنة على الأرض.
وبالتأكيد، قصد من كلامه أن حبيبته الحقيقية سمية هي التي لا تعرف مصلحتها.
لكنه سرعان ما تنهد تنهيدة أخفت ابتسامته الصفراء الخبيثة، وظهر القلق جليا على وجهه وهو يقول: ولكن كيف ستتخلصين من المغيرة؟!
"لي طرقي" قالت بصوتها المثير.
اتسعت عيناها الرماديتان البراقتان الساحرتان، ثم قالت: ولكن لي شروط.
فقال الزبير: قوليها.
فردت: ولدي وبنتي لي، ولا يراهم المغيرة نهائيا... وأريد أن تظل لي مكانتي كما هي مع المغيرة، وأن أحضر اجتماعاتك وأشاركك في اتخاذ القرارات. كما أنني أريد أن تظل معي حاشيتي
ومنهم حارسي عكرمة في قصرنا، وفي أي مكان أذهب إليه. أريد وعد شرف منك.
وقد كان لحورية من المغيرة ولد اسمه حسن وابنة اسمها زبيدة، عمر البنت عشرة أعوام، أما الولد فعمره ثمانية أعوام.
تفكر الزبير بعمق، ومط شفتيه العريضتين للأمام، وقال: لك ذلك، هذا وعد شرف.
***
لم تنتظر حورية على الإطلاق، فمنذ إخبار الزبير لها برغبته الزواج منها، طفقت تستخدم طرقها "الخاصة" للتخلص من المغيرة.
لقد أدركت، أنه لا شيء يمكن أن يسعد الرجل كامرأة تدلّله وتسعده، وعلى النقيض، لا شيء يتعس الرجل كامرأة تملأ حياته نكدا. لهذا جعلت تفتعل المشكلات على أبسط الأشياء وأتفهها على الإطلاق.
"لماذا ذهبت؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا لم تجلب كذا؟ ولم فعلت كذا؟ وأين ذهبت؟ ومن أين عدت؟" هذه الأسئلة وغيرها العشرات استخدمتها مرارا وتكرارا كل يوم لملء حياة المغيرة نكدا. ورغم أنها امرأة
ثرية حتى قبل أن تتزوج المغيرة، ورغم أنه لم يبخل عليها يوما، ورغم أنها جعلها أغنى وأغنى بعد أن أغدق عليه الملك الهارب المال بناء على إيعاز الزبير، رغم كل ذلك أنشأت تطالب بكثير من المال، فلبى المغيرة الطلب، فما كان منها إلا أن تطلب المزيد والمزيد، ولم تشكر زوجها على عطاياه. وشرعت الأمور تتأزم أكثر وأكثر، لما تكررت زياراتها كثيرا إلى أهلها، وفي إحدى الزيارات ظلت
ثلاثة أشهر كاملة عند أهلها وهي تصحب ابنها وابنتها، وظل يراسلها المغيرة لكي تعود لكن دون جدوى. ووصلت الأمور إلى الهاوية، عندما لم تعد تكتفي بحضور الاجتماعات معه، بل وصل بها
الأمر إلى مطالبتها بحضور الاجتماعات وحدها، وألا يحضرها معها، فلم يحتمل المغيرة مثل ذلك.
ظلت هذه الأمور من أتفهها إلى أعمقها، تتكرر تكررا ممنهجا، أشعل غضب المغيرة. وفي نهاية المطاف، طالبته بالطلاق، فرفض رفضا مطلقا؛ فقد أحبها بجنون، ولن يجد امرأة بجمالها، ولن يجد
جسدا كجسدها، أو إثارة كإثارتها، والأهم أنه أحب ابنه وابنته بجنون ولم يرد على الإطلاق أن يحزنهما أي شيء، لا سيما من طرفه هو بتطليقه لأمهما. فزدات حورية من افتعال المشاكل أكثر وأكثر،
وظلت تطلب الطلاق، وما فتئ المغيرة يرفض، فزادت حورية افتعال المشكلات، وملأت حياته نكدا وكبدا، ومضت ثمانية شهور متواصلة منعته من أن يمسها على الإطلاق، وبالنهاية قرر
أصعب قرار في حياته، ووافق على طلاقها.
أراد المغيرة أن يودع جسدها وإثارتها، فهو لن يستمتع بهما بعد اليوم، فأراد أن يجامعها، ولما حاول أن يمسها رفضت ذلك مطلقا، مما أشعل بداخله ظمأً لن ينطفئ أبد الدهر.
لم يستطع أبدا أن يفهم لم كانت تتصرف هكذا، وهو الذي لطالما أعطاها كل ما تريده، وأحس أنها تفتعل المشكلات لسبب ما لكنه لم يستطع أن يعرفه.
طلقها، ووفقا لقانون البقاء أخذت حضانة الأولاد، وكان يراهما يومي الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع. وهذا هشم قلبه شر تهشيم، فلم يحب في حياته شيئا أو إنسانا كما أحب ابنيه، أحبهما بجنون،
لدرجة أنه حتى جسد حورية وإثارتها – اللذان جعلاه عبدا لها – لم تضاهِ مكانتهما في قلبه مكانة ابنيه.
***
ولما أعلمت حورية جاريتها زمردة نيتها بالزواج من الملك الزبير، تفاجأت زمردة، واعتراها مزيج متناقض من الحزن والفرح. الحزن؛ لأنها أشفقت على المغيرة الذي لم يسئ لها ولا لسيدتها قط،
بيد أنها أخفت حزنها عن حورية. وأما الفرح؛ فلأن الزبير أعظم رجل في البقاء، وربما في تاريخ البقاء – وفق وجهة نظر كثيرين-، وسيدتها بالزواج منه ستغدو ملكة البقاء كلها.
"مبارك، يا مولاتي" قالت زمردة.
لم ترد حورية – بتعاليها – على تهنئة جاريتها، ولكن قالت: ما رأيك بالزبير؟
فقالت زمردة: هو أعظم رجل في البقاء كلها. أنا سعيدة من أجلك، يا مولاتي. لا سيما وأنك ستغدين جلالة الملكة.
ابتسمت حورية ابتسامة مثيرة جدا وعريضة.
ثم قالت زمردة: لكن ألا تخشين، أنه لن تكون لك مكانتك التي وجدت عند أبيك والمغيرة؟
فضحكت حورية باستهزاء، وقالت: لقد سألتني السؤال نفسه قبل زواجي من المغيرة، ورأيتِ النتيجة.
فقالت زمردة: لكن الزبير مختلف جدا، والكل يتحدث عن قسوته العظيمة وشدته التي لا مثيل لها.
وبينما علت الابتسامة المثيرة وجهها، قالت حورية: كل رجال الأرض عبيد لي ولجسدي عندما أريد ذلك. لا الزبير ولا غيره استثناء. سأستعبده، وسأستعبد كل البقاء وكل أهلها، بعد أن أغدو الملكة الآمرة الناهية التي تتحكم بكل شيء من أصغر الأشياء إلى أكبرها.
***