39

مرت خمسة شهور، والمغيرة يتألم ويئن ويمتلئ حزنا. ولكنه لم يعرف أن القادم سيكون أقسى وأشد. فقد أشهر الزبير زواجه من حورية. وأقيم حفل زفاف هو الأضخم في تاريخ البقاء، فقد أراد الزبير
أن يشعر الجميع بأنه الأعظم، والأهم أراد لسمية أن تتندم على رفضها إياه. وسار موكب الزبير من بداية المعتزة إلى قصر الكثبة. وعج بالمؤيدين للزبير ومحبيه. وبينما تنقل الملك ذو الندب وحورية
يتبعهم المركب، جعل عدد من الجنود يرمون الورود، والدراهم الذهبية والفضية على الناس الذين وقفوا على جانبي الطريق ليشاهدوا العرس، ففرحوا بالدراهم، بل جعل بعضهم يشاجر بعضهم الآخر
بغية الحصول على المال. كان أغلب المشاركين بالحفل أو الحاضرين له إما من بدو الكثبة المؤيدين للزبير، أو من حلفائه أو من الفقراء في المدينة وبعض الغوغاء، ولم يكن الحضور كبيرا جدا؛
لأن كثيرا من الشعب كره الزبير بسبب انقلابه على الملك الهارب وآل الضياغم، لا سيما مع الطريقة البشعة التي انقلب بها. واشتمل الموكب أفضل عازفين استمع لهم أهل البقاء؛ إذ عزفوا معزوفات
لا مثيل لها.
ثم وصل الموكب قصر الكثبة، وهناك جلس الزبير وزوجه في الساحة الجنوبية نفسها التي اغتال فيها من اغتالهم. وبدأ المغنون يغنون للزبير وسط معزوفات جميلة تسر الآذان. ثم أقيمت مأدبة ضخمة
ليأكل منها الضيوف، وحول قصر الكثبة من الخارج وضعت الولائم، وسمح لعامة الشعب بالأكل منها.
بعد ذلك، أقام الزبير مسابقة للشعر، ليمدحه الشعراء ويتغنوا بأمجاده، ومنح كل شاعر مبلغا ضخما من المال مقابل شعره، في حين منح الشاعر الذي أعجبه شعره أكثر من البقية مبلغا لم يسبق أن حازه
شاعر في البقاء كلها.
ثم وزع العطايا والهدايا بسخاء على الحضور، وكذلك على عامة الشعب في المعتزة.
وهكذا أنفق مبلغا ضخما من خزينة الدولة، وبذر متعمدا على عرسه.
وحل الليل، وتوجه العريسان إلى غرفة النوم الخاصة بهما، بعد أضخم حفل عرفته البقاء في تاريخها.
وكانت حورية تلبس فستانا أبيض يتخلله اللون الوردي، وتعلوه في أماكنَ كثيرة الألماس واللؤلؤ. بينما لبس الزبير ثوبا أبيض، يتخلله لون ذهبي. وكلا اللباسين لم يشهد البقاء مثيلا له.
وجلست حورية على السرير بانتظار الزبير الفحل، بعد أن سرها مظهر القصر الجليل الفخم، وأنها ستكون الآمرة الناهية فيه، بل في البقاء بأكملها. ولكن حدثت المفاجأة، فقد لبس الزبير ثياب النوم،
ثم استلقى على السرير، وتغطى باللحاف بغية النوم. لم تفهم زوجته ما يجري، وأحست بالقلق والخوف.
قالت فورا والتعجب الشديد يحتلها: ما الذي تفعله؟!
فأجاب: لا شيء. أريد أن أنام.
فغضبت وقالت: كيف تنام، وهذه ليلة زواجك، وعليك أن تنصع ما يصنعه الرجل مع زوجته؟!
فرد: ليس لدي مزاج لذلك... ربما لاحقا.
فصرخت: أيها الزبير، هذا أمر غير مقبول.
فرد بهدوء وثقة وفظاظة: مقبول أم لا، افعلي ما تشائين.
جن جنونها، واشتعلت النار بصدرها، ولم تفهم لماذا يفعل ذلك، رغم أنها أيقنت أن هذا متعمد ومُخَطَّطٌ له منذ زمن.
وزاد تعجبها وغضبها والنار بداخلها، لما امتنع الزبير عن مجامعتها شهرا كاملا، قَبِلَ بعده أن يفعل ذلك.
لقد تفهم الزبير عقليتها، وعرف كيف تحكمت بالمغيرة من خلال جسدها، ولم يرد لذلك أن يتكرر معه، ولن يسمح الزبير وهو الرجل العظيم الأسطوري، أن تتحكم به امرأة وأن تذله، بغض النظر
عن هوية تلك المرأة، لم يقبل أن يغدو حيوانا تسوقه شهوته.
المرء الذكي هو الذي يتعلم من أخطائه، ولكن المرء الأذكى هو الذي يتعلم من أخطاء غيره.
***
لما علم المغيرة بزواج حورية من الزبير أغمض عينيه وتنهد عميقا، كما لم يتنهد من قبل، وآلمه قلبه.
"أيها الزبير الخسيس، لطالما سمعت عن نذالتك، لكن لم أتصور أنها تصل إلى هذا الحد. وأنتِ أيتها الخائنة، ستدفعين الثمن غاليا" هكذا فكر المغيرة آنئذ.
وفي يوم زفافهما جن جنون المغيرة، وشرب الخمر في ذلك اليوم، كما لم يسبق لامرئ أن شربه في تاريخ البقاء كله.
بعد ذلك رفع المغيرة قضية مطالبا بابنيه؛ إذ إن القانون في البقاء آنئذ أعطى الأب حق الوصاية على الأولاد، إذا ما تزوجت الأم.
وتنفيذ لوعد الشرف الذي منحه الزبير لحورية، أجبر الزبير القاضي بأن يمنح الوصاية لحورية، ومنع المغيرة نهائيا من رؤية ابنيه.
أحس المغيرة بالظلم الشديد والألم العميق، وطفق يشرب الخمور حتى عاقرها وأدمن عليها، وأنشأ يأكل بشراهة ويشرب بشراهة، وينام معظم النهار والليل. لقد دخل في اكتئاب عظيم. أخذ يتذكر كل لحظة جامع حورية فيها، ومدى الإثارة التي صاحبت ذلك، وأن ذلك لن يتكرر، بل إن رجلا آخر سيحل محله. تذكر كل التضحيات التي فعلها من أجل جسدها، حتى كرامته تخلى عنها، وبالنهاية تركته كما
يخلع الحذاء من القدم، وتفهم جيدا أن كل اصطناعها للمشكلات في الفترة الأخيرة من زواجهما، تم فقط لأجل التخلص منه والزواج من الزبير. تذكر في تلك اللحظات الأليمة كلام معلمه الأقطش بوجوب ترك حورية، وأنها ستكون السبب في هلاكه، إذا ما استمر معها. وآثار ذلك شجنا عميقا وألما شديدا في نفسه، والأقطش كان قد توفي حينئذ، ولم يعد بإمكانه الفضفضة له.
وأنشأ يقارن نفسه بالزبير مرارا وتكرارا، وآلمه أنه حتى هو رأى أن الزبير خير منه، فهو الذي حرر البقاء بعد سنوات الضياع والمعاناة، وهو الذي غدا ملك البلاد، وهو الذي بطش بكل خصومه.
وما أحزنه أكثر بأضعاف من فقدانه لحورية وخيانتها له، هو فقدانه لابنيه أعز شيئين على قلبه في الدنيا كلها, جعل يتذكر تقاسيم وجهيهما وبراءة طفولتهما وأنه لن يراهما من جديد أبدا.
ومع الإدمان على الخمور وكثرة الأكل والشرب، غدا المغيرة سمينا جدا، واختفت العضلات والقوة الجسدية التي لطالما عُرف بها.
***
ومع مرور الوقت، واستمرار المغيرة بشرب الخمور وانهياره، ظل أخوه مسعود يحاول استنهاض همته والتخفيف عنه.
دخل مسعود على غرفة أخيه المغيرة، فوجده مرتخيا على كرسي، وهو يمسك قارورة كبيرة من الخمر، وشاهده وهو يشرب منها.
"كيف حالك، أيها المغيرة" قال مسعود بحزن.
"أهلا... أهلا، بالغالي" قال المغيرة بلسان ثقيل، وهو غير مركز، وقد أذهب الخمر عقله.
حزن مسعود لما رأى هذا، وتذكر المغيرة القديم، الفارس الصنديد الذي لا يشق له غبار.
فقال مسعود: أيها المغيرة، أرجوك اصمد... عد قويا كما كنت... أرجوك لا تستسلم.
فقال المغيرة بلسانه الثقيل: اغرب عن وجهي... أريد أن أظل وحدي.
ثم شرب شربة كبيرة من قارورة الخمر.
فقال مسعود: أرجوك... الفيحاء تحتاجك.
"تبا للفيحاء... تبا لك... تبا لكم جميعا" كرر المغيرة بلسان ثقيل.
"أرجوك، أيها المغيرة... لا تستسلم... وتوقف عن الشرب" حاول مسعود تحفيز أخيه من جديد.
فجعل المغيرة يهذي: زبيدة... حسن... ضاعا... حياتي كلها ضاعت.
ثم غضب، وصرخ: انصرف من هنا... اغرب عن وجهي... أريد أن أستمتع بهذا الخمر اللذيذ.
وبدل أن ينهي مسعود استسلام المغيرة، استسلم مسعود لفكرة إعادة أخيه، وأيقن أن أخاه قد انتهى.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي