41

لقد أحب الزبير الأطفال بجنون، ومع مرور الوقت ظل يتألم من طريقة معاملة زبيدة وحسن ابنا حورية له، والمتمثلة بخوفهما منه وتجنبهما له. وقرر في النهاية وضع حد لكل هذا.
ففي يوم، دخل الزبير على غرفة الطفلين، ومعه صرتان يحملهما بيديه، وقد كانت غرفة واسعة جدا، فيها نافذة عريضة طويلة تبدأ من السقف وتنتهي بالأرضية، وفيها سرير كبير جدا لكل واحد منهما،
يكاد كل منهما لا يملأ سوى ربع سريره فقط عند نومه فيه!
كان الطفلان يلعبان عندما دخل، ولما رأياه تجمدا في مكانهما وتجمدت الدماء في عروقهما، وتجمدت عيونهما فلم تعد ترمش، وازدرد كل منهما ريقه؛ من شدة الخوف.
وقف الزبير مقابل الطفلين، وظل الثلاثة واقفين كلٌّ في مكانه دون حراك.
ثم قال الزبير: كيف حالكما؟
لم يردّ الطفلان.
ثم سأل الزبير: لم تخافان كل هذا الخوف مني؟!
فتح الزبير الصرة الأولى، وأخرج منها دمية جميلة جدا، وقال وهو يمسكها مخاطبا زبيدة: هذه لك، يا زبيدة.
لم تتحرك الفتاة خوفا وهيبة، فاقترب منها الزبير، وأعطاها الدمية.
ثم عاد إلى حيث كان، وفتح الصرة الثانية وأخرج منه سيفا ذهبيا جميلا جدا، يتمناه أعتى الفرسان، وقال وهو يمسكه مخاطبا حَسَناً: هذا لك، يا حسن.
لم يتحرك الفتى خوفا وهيبة، فاقترب منه الزبير، وأعطاه السيف.
اجتاحت الطفلين فرحة عارمة، بسبب الهديتين، لكنهما أخفاها خوفا من الزبير وتوقيرا له.
وسرعان ما غادر الزبير الغرفة.
"انظري إلى السيف ما أجمله!" قال حسن لأخته، وهو مبهور فاتح عينيه على أقصى اتساع، بعد مغادرة الزبير.
فقالت زبيدة: انظر إلى الدمية ما أجملها! والله لم أر شيئا أجمل منها قطّ!
وابتسم الطفلان فرحا، وكل منهما ينظر في هديته مبهورا من شدة جمالها.
بعد أيام، دخل الزبير غرفتهما من جديد.
ولما رأياه تكرر كل شيء يحدث كل مرة.
"كيف حالكما؟" قال الزبير.
لم يرد الطفلان، فأضاف الزبير: هيا معي، سنذهب في رحلة.
قاد الزبير جمعا يضم الطفلين وعددا كبيرا من الحرس يشملون النسور السوداء، إلى مزرعة كبيرة في المعتزة.
وهي مزرعة دهماء من كثرة الشجر والنباتات، امتازت بجمال خلاب. ووُجِدَ فيها إسطبل للخيول.
وفجأة أمر الزبير سائس الخيول في المزرعة أن يحضر حصانين معينين.
كان الأول فرسا بيضاء، والثاني جوادا أسود اللون.
نظر الزبير إلى الطفلين، وقال لهما: هذه الفرس البيضاء لكِ، يا زبيدة. وذلك الجواد الأسود لك، يا حسن. سنأخذهما معنا إلى قصر الكثبة. وبإمكان كل منكما ركوب جواده، متى ما شاء، وأينما شاء.
نزل الطفلان عن جواديهما بسرعة، وركض كل منهما إلى جواده الجديد، ولأول مرة تصرف الطفلان بعفوية أمام الزبير القاسي، وأخيرا انكسر الجليد.
جن جنون الطفلين، وقال حسن مخاطبا أخته - وهو يفتح فاه وعينيه على أقصى اتساع-: انظري إلى الجواد، ما أجمله! إنه حتى أجمل من جواد أبي.
وقالت الفتاة وهي فرحة مبتسمة: انظر إلى هذه الفرس! ما أجملها! سأسميها ثلجاء، لشدة بياضها.
فقال حسن، وهو فرح أقصى الفرح: وأنا سأسمي جوادي المغوار.
وهكذا ابتهج الطفلان ابتهاجا ضخما، زرع ابتهاجا أضخم بكثير في قلب الزبير.
وركب كل منهما جواده الجديد، وجعلا يقودان جواديهما في المزرعة صحبة الزبير – وهو على جواده- دون الحديث معه.
ومرة عدة أيام، جلب بعدها الزبير أكبر هدية تلقاها الولدان في حياتهما.
إذ أدخل معه شيئا لم يرياه من قبل.
دخل الزبير ومعه شبل أسد صغير جدا، عمره عدة أشهر.
خافت زبيدة كثيرا أول ما رأته وركضت إلى ركن في الغرفة، وجعلت ترتجف خوفا من الشبل.
أما حسن فركض بسرعة نحو الشبل، وقال مخاطبا الزبير للمرة الأولى في حياته: ما هذا؟! أخبرنا. إنه شبل أسد، أليس كذلك؟! لقد رأيت رسومات للأسود في كتب الحكايات لدينا في الفيحاء.
ابتسم الزبير ابتسامة عريضة؛ فأخيرا حادثه الطفل الذي تمنى من كل قلبه أن يكون ابنه، أو على الأقل أن يحادثه ويبادله المحبة.
قال الزبير: نعم، إنه شبل أسد صغير.
جعل الشبل يركض ويلعب في الغرفة، وبدت عليه أقصى مظاهر البراءة واللطف، كانت عينيه واسعتين كثيرا، وملونتين بعدة ألوان، وكان فمه رقيقا جدا ووجه وذقنه جميلين جدا.
وبينما تحرك الشبل في الغرفة، جعلت زبيدة ترتجف أكثر، ثم طفقت تصرخ من شدة الخوف.
فركض حسن نحوها، وضحك بسخرية قائلا: أيتها الجبانة!
ثم ركض نحو الشبل وجعل يداعبه ويحرك يديه على رأس الشبل، ويتلمس وجهه.
توجه الزبير فورا نحو زبيدة، وأمسكها من ذراعيها بحنية، وقال بحنية أكبر – لم يعتدها الناس من الزبير-: بنيتي، لا تخافي... لن يؤذيك ما دمت معك... وما دمت معك، فلن يتمكن إنسي ولا جني
من إيذائك.
اتسم كلامه بقمة الجمال والرقي والشاعرية، وسكنت نفس البنت وأحست بالطمأنينة؛ فأقوى رجل بالبقاء، تكفل بحمايتها مدى العمر.
توجه الزبير نحو الشبل، وأمسكه بيديه، ووضعه في حضنه، ثم خاطب زبيدة وهو بعيد عنها: تعالي، والمسيه. هو ليس شرسا كالأسود الكبار... لا تخافي، سأحميك، إذا حاول إيذاءك.
عندها اقتربت زبيدة بخطوات بطيئة، ولما وصلت إلى الزبير نزل – بتواضع أثار استغراب الطفلين- على ركبته، وخاطبها: المسي رأسه.
فمدت زبيدة يدها ببطء ثم تراجعت، لكنها استجمعت قوتها، ومدت يدها ولمست رأس الشبل، الذي اتسم بأنه أملس جدا.
ثم سحبت يدها بسرعة، لكنها لما لاحظت هدوء الشبل وأُلْفَتِه وعدم شراسته، جعلت تتلمس رأسه.
أما حسن الذي وقف بالقرب منهما، فمد يده وجعل يداعب الشبل مع زبيدة، ثم أخذه من حضن الزبير وحضنه وضمه إليه، وجعل يداعبه.
بعد مدة وضع حسن الشبل على الأرض، وجعل يلاحقه، بينما نظرت إليهما زبيدة باهتمام وفرحة بالغين.
كل هذا على مرأى الزبير، الذي شعر بفرحة عامرة.
بعد مدة، اندفع حسن نحو الزبير، واحتضنه. فنزل الزبير على ركبتيه وبادل حسنا الأحضان.
فقال حسن، وأحدهما يحتضن الآخر: شكرا.
فقبله الزبير.
واقتربت زبيدة، وقالت: شكرا.
فحضنها الزبير، وقبلها.
تلك اللحظات كانت من أسعد لحظات حياته على الإطلاق.
ومن ذلك اليوم، غدا الزبير صديقا للطفلين، وباتا يحبانه ويعتبرانه ملجأ لهما، ومصدرا لسعادتهما وفرحتهما.
وبعد أيام، وبينما الزبير يجالسهما في غرفتهما، سأل: لم كنتما لا تحبانني؟!
احمرت وجنتا كل منهما خجلا وإحراجا.
ثم استجمعت زبيدة قوتها وقالت: كنا نخاف منك.
"لم؟!" تساءل الزبير.
"الجميع يخاف منك" قال حسن بعفوية وصراحة كبيرة بالنسبة لعمره الضئيل.
خالج الزبيرَ مزيجٌ متناقض من الفرحة والحزن، الأولى؛ لأن أعداءه يخشونه، والثاني؛ لأن كثيرا من المقربين منه خافوه.
"ولكن أنتم أبنائي!" قال الزبير.
"نحن أبناء المغيرة" باغت حسن الزبير بجوابه الذي حمل في طياته جرأة، وصراحة أحزنا الزبير كثيرا.
تنهد الزبير ثم قال: حسن، أنا مثل عمكم.
ومنذ ذلك اليوم طفقوا ينادونه ب "عمي".
ثم أضاف الزبير: وأبوكم صديقي.
استغرب الطفلان كلامه، ونظرا في الأرض.
ثم قالت زبيدة: لكنك دمرت العلاقة بين أبي وأمي.
تفاجأ الزبير من ردها؛ فلم يكن يعتقد أنهما يعرفان تفاصيل ما جرى.
ثم قال: لا... هذه إشاعات... أحيانا لا يتفق الزوج والزوجة فقط. وهذا لا يعني –بالضرورة- أن أحدهما أو كلاهما سيئ.
سكت قليلا، ثم أضاف: والمغيرة صديقي... وهو أشجع رجل قابلته في حياتي، ليتكما شاهدتماه وهو يقاتل كالوحش في المعارك التي خضناها... ولولاه ما حدثت الثورة، ولولاه ولولا الثورة ما غدوت ملكا... لا أستطيع ذكر التفاصيل؛ هذه حكاية طويلة جدا جدا وذات شجون.
فرح الطفلان كثيرا؛ بسبب مدح أعظم رجال البقاء لأبيهما.
لقد اتسم الزبير بالذكاء الشديد، وقد تعمد مدح أبيهما، ليلعب بنفسياتهما ويكسب محبتهما.
"ولكنك آذيت أمنا!" باغته حسن بالسؤال؛ فالزبير ظن أنهما لا يعرفان باحتجازه لها.
نفى الزبير: لا، لم أوذِها.
فقال حسن: ولكنها الآن في السجن!
فرد الزبير: لا، هذه أكاذيب... هي فقط سافرت وستعود قريبا.
ثم قال: لطالما تمنيت أن يكون لي ابن من صلبي. وكلما مر الوقت، نمت أمنيتي أكثر وأكثر... وقد وهبني الله إياكما، إلى أن أنجب – من أمكما – ابنا من صلبي، يكون أخا لكما ولا أفرق بينه وبينكما.
فرح الطفلان كثيرا بكلام الزبير.
ومرت الأيام، وفي إحدى جلساته معهما، قالت زبيدة: عمي...
خافت قليلا، لكنها سرعان ما أكملت: نريد رؤية أبينا.
فقال حسن: السيف والخيول والشبل والهدايا، كلها جميلة... ولكننا نريد رؤية أبينا.
تنهد الزبير بعمق وحزن، ثم قال: ولكنني وعدت أمكما ألا يحدث هذا... وأنا رجل لا يكسر وعوده مهما حدث، إلا للضرورات القصوى.
أغمض الزبير عينيه وتذكر ما فعله بالملك الهارب وزوجته الملكة، بعد أن وعدهما بالوفاء المطلق، وحزن لأنه اضطر لكسر وعده لهما.
"أرجوك" قال حسن بوجهه وصوته البريئين.
انكسر قلب الزبير من هذا.
وقالت زبيدة: اعتبر ذلك ضرورة قصوى... وأمنا لن يصيبها ضير إن حدث ذلك.
ومنذ تلك اللحظة بدأ الزبير يتفكر بعمق في طلبهما.
***
مع مرور الأيام، ظل المغيرة يشرب ويشرب الخمور، حتى برزت كرشه كثيرا، وأمسى ضعيفا، وباتت حالته يرثى لها. صحيح أن ما فعلته طليقته والزبير به آلمه كثيرا، وأن فقدانه لمتع جسدها
أغضبه، إلا أن أكثر ما أحزنه هو فراق أبنائه.
وبعد طلب الطفلين لقاء أبيهما، ما انفك الزبير يفكر في المسألة حتى قرر كسر وعده لحورية، وقرر السماح لهما بلقاء أبيهما.
احتاج الزبير رجلا يجيد المفاوضة جيدا، ليفاوض المغيرة بخصوص لقاء الطفلين؛ فقد خشي الزبير إن أرسلهما للمغيرة، أن يخفيهما الأخير في مكان لا يعرفه إنس ولا جان، وبالتالي سيظهر الزبير أمام حورية بمظهر الضعيف الخائن الذي أضاع ابنيها.
ومن خير من داهية الكثبة لمثل هذا؟!
وبسرعة توجه الداهية مع عدد كبير من الجنود إلى الفيحاء، ووصل دار المغيرة.
ولما علم المغيرة بمقدمه، غضب كثيرا؛ لأنه من طرف الزبير الذي سلب منه كل شيء.
خرج المغيرة إلى غرفة الضيوف في داره، ومعه عدد كبير من مقاتليه، فوجد الداهية ومعه خمسة جنود.
وهكذا امتلأت الغرفة بالمقاتلين الذي استعد بعضهم لافتراس بعضهم الآخر، لو صدر من إحدى الطرفين غدر تجاه الطرف الآخر.
وبينما ظهر العبوس واضحا على محيا المغيرة، قال بغضب وبنبرة جافة قاسية مخاطبا الداهية: ما الذي أتى بك؟!
ابتسم الداهية ابتسامته الصفراء الخبيثة، وقال: ما أتى بي إلا الخير.
"أي خير يأتي من أمثالك وأمثال سيدك؟!" هكذا فكر المغيرة، وشعر أن هنالك مكيدة ما حبك الزبير خيوطها، وأرسل داهيته لتنفيذها.
ثم أكمل الداهية: ابناك...
فقاطعه المغيرة صارخا، وقد ارتعش قلبه خوفا: ماذا حدث لهما؟! والله لو مسهما سوء، لأقتلنك والزبير وكل من معكما، ولأدمرن البسيطة على أهلها.
زادت ابتسامة الداهية الصفراء اتساعا، ولم يعر كلام المغيرة أية قيمة؛ فقد علم جيدا أنه لا يستطيع فعل أي شيء مما ذكر.
رد الداهية: لا تخف... لا تخف... زبيدة وحسن بخير... لقد أصرا على الزبير أن يلقياك... وفي النهاية وافق الزبير.
فرح المغيرة كثيرا، في حقيقة الأمر كان هذا أسعد شيء حدث في حياته، لكأنه سيقابل امرأ عزيزا عاد من الموت، ولكنه خشي أن تكون هذه مصيدة يسعى الزبير من خلالها لتصفيتها.
سأل المغيرة: وكيف أعلم أن هذه ليست خدعة من الزبير؟!
فأجاب الداهية: لا شيء يمكن أن يؤكد لك أنها ليست كذلك.
"وكيف يكون اللقاء؟" سأل المغيرة، وفورا أتبعه بسؤالين من شدة توقه للقاء أبنائه: ومتى؟ وأين؟
ابتسم الداهية، وأجاب: يكون اللقاء في القلعة بالشيمية، يوم الاثنين القادم صباحا.
تنهد المغيرة، وقد اطمئن قلبه، وقال: حسن.
"ولكن" قال الداهية، وأتبع: هنالك شروط للقاء.
توجس المغيرة خيفة من الأمر، وسأل: وما هي؟
فقال الداهية: الزبير وعد حورية بالحفاظ على أبنائها، ويخشى إن أذن لك بلقائهما ألا تعيدهما، لذلك يحتاج لضمانات تؤكد له عودتهما.
"وما هي؟!" سأل المغيرة.
فأجاب الداهية: الزبير يريدك أن ترسل له أخاك مسعودا، ليحتجزه إلى حين تعيد الطفلين إليه، فيعيد لك أخاك سالما معافى.
ومسعود هذا هو أخو المغيرة الصغير، الذي أحبه الأخير بجنون، ولم يكن ليسمح لأحد بإيذائه.
مما دفع المغيرة ليقول: مستحيل، لن أضحي بأخي.
فقال الداهية بهدوء وثقة تتعجب لهما الدنيا كلها: أيها المغيرة، هذه ليست بتضحية... وحتى لو اعتبرتها كذلك، فالحياة لا بد فيها من تضحيات... ما مصلحة الزبير من قتل أخيك أو إيذائه؟! كما أنك تعرف
جيدا أن الزبير لو أرادك – أو أخاك – مقتولا، لكنت مقتولا منذ زمن بعيد. الزبير منذ بداية ما حدث بينكما، لم يرد أي احتكاك بينه وبينك؛ لأنه ما يزال يعتبرك صديقه، ولا يريد خسارتك ولا خسارة
الفيحاء... كل ما يريده الرجل هو إسعاد الطفلين، اللذين غدا يعتبرهما ولديه وأعز من أولاده.
تفكر المغيرة جيدا في كلام الداهية، ووجد أنه منطقي جدا، واقتنع به.
نظر المغيرة بحذر إلى الداهية الماكر، ووافق بلهفة كالمجنون قائلا: حسن أنا موافق.
وفي صبيحة يوم الاثنين توجه المغيرة صحبة أخيه مسعود، وعدد هائل من المقاتلين، إلى قلعة الشيمية. والشيمية هذه مدينة قليلة السكان، بها قلعة أثرية مهجورة ضخمة يعود بناؤها إلى مئات السنين،
وتحمل حجارتها شجونا وأحزانا وانتصارات كثيرة من تاريخ البقاء. وقد كان كثير من أجزائها إبان فترة الزبير، مهدوما، أو مكسّرا متهتكا. وقد وقعت بين العاصمة المعتزة ومدينة الفيحاء.
فلما وصلوا، وجدوا الزبير ومن معه قد عسكروا مقابل الطرف الآخر من القلعة. وضم المعسكر زبيدة وحسنا وقيسا والنسور السوداء وعددا هائلا جدا من جنود الزبير. وقد حرص الزبير على القدوم
منذ الفجر، وسط حراسة مشددة، وقبل قدومه جعل جنوده يتفقدون المدينة حيا حيا، وحارة حارة، حتى يتأكدوا أن المغيرة لم يجهز أية مفاجئات.
توجه أحد جنود الزبير إلى معسكر المغيرة، فلما بلغهم، قال وهو على جواده مخاطبا المغيرة: السلام عليكم. جلالة الملك يريد مسعودا، كي يرسل إليك الطفلين.
نظر المغيرة إلى أخيه، وقال: اذهب إليهم، يا مسعود.
ثم احتضن أخاه بقوة، وبعدما ترك الأخوان أحدهما الثاني، نظر المغيرة بجدية إلى أخيه، وقال: لا تخف، يا مسعود. والله لو آذاك، فلن أهدأ حتى أتي برأسه ورؤوس كل أهله.
أومأ مسعود برأسه مظهرا تفهمه لكلام المغيرة، رغم أنه علم أن الأخير ليس بمقدوره الوفاء بقسمه، فلو تمكن من إيذاء الزبير، لآذاه مذ سلب منه زوجه وأولاده!
ورغم كل هذا، مسعود كان مستعدا للتضحية من أجل أخيه وسعادته، لذلك ركب جواده، وذهب مع جندي الزبير.
وبعد أن وصل مسعود إلى معسكر الزبير، أرسل الزبير الطفلين مع أحد جنوده إلى معسكر المغيرة، وطفق يراقب ماذا سيحدث من بعيد هو وقيس.
ولما وصل الطفلان إلى معسكر المغيرة، ركض الأخير – الذي كان يوما ما فارسا مغوارا لا يشق له غبار – كالأطفال بجنون نحوهم، وركض الطفلان نحوه، واحتضن الثلاثة بعضهم بعضا،
وطفقوا يجشهون بالبكاء، وبكى المغيرة كالطفل الصغير.
فلما رأى الزبير كل هذا، حزن حزنا عظيما، ودمّعت عيناه، فرأى قيس ذلك.
وأخبر الجنديُّ المغيرةَ، أنه معه حتى مغرب الشمس لإعادة الطفلين إلى الزبير.
بعدها غادر الزبير وقيس والنسور السوداء وعدد من الجنود معسكرهم، وذهبوا إلى غابة غربيّ الشيمية، ليستريحوا فيها.
وعندما وصلوها، قال قيس مخاطبا النسور السوداء ومن وجد من الجنود: أريد محادثة الملك وحدنا.
فأومأ الزبير برأسه إلى النسور قائلا: دعونا وحدنا.
فرحلوا جميعا، وظل الزبير وقيس وحدهما.
جلس الزبير على الأرض مسندا ظهره إلى إحدى شجرات الغابة، وهو مطأطئ رأسه في الأرض حزنا.
نظر قيس إليه بحزن، وشفقة لم يشعر بهما تجاهه في حياته كلها، سوى في مرات معدودة على الأصابع.
"لماذا دمعت عيناي؟ هذا ما تريد أن تسألني إياه" قال الزبير قولا يثبت ذكاءه وفطنته وحضوره.
التزم قيس الصمت وأومأ برأسه مؤكدا صحة كلام الزبير.
فقال الزبير: صحيح أنني حزنت على صديقي المغيرة، وأنني دمرته، وحزنت أكثر على الطفلين اللذين أحبهما كما لو كانا ابنيّ وأكثر... ولكن ليس هذا السبب.
استغرب قيس وسأل متعجبا: ما هو، إذاً؟!
فأجاب الزبير: الشعور بالذنب... وهو أمر لا مثيل له. لقد فصلت الطفلين عن أبيهما دون ذنب له، أو لهما... هذا – لعمري – أسوأ شيء فعلته في حياتي... أسوأ حتى من قتلي للملك الهارب والملكة.
تنهد الزبير بشجن وأتبع: عندما فصلني الموت عن جدي – الذي كان أبي الحقيقي – وخطفه مني، كان ذلك أسوأ ما حدث في حياتي. ومرت الأيام والسنون، والآن أنا أفعل الشيء ذاته - الذي فعله الموت معي – مع طفلين لم يقترفا تجاهي أي خطأ أو ذنب، ومع أب لطالما كان خير صديق ومعين.
لم يجد قيس ما يقوله ليخفف عن الزبير، حتى قال: ولكن أنت لم تفعل ذلك وفق رغبتك، وإنما وفق رغبة حورية.
فقال الزبير فورا: حتى مع ذلك، كان لا بد وأن أرفض.
فقال قيس: الحياة لا بد فيها من التضحيات.
فرد الزبير: أتخبرني بهذا، يا قيس، وأنا من وضع هذه القاعدة أساسا؟!
ثم نظر في الأرض حزنا.
تلك اللحظة شكلت اللحظة الثالثة والأخيرة، في حياة الزبير كلها، التي شعر فيها قيس بضعفه. الأولى كانت بعد مقتل جده، والثانية بعد وفاة أخيه.
وقد أدرك قيس جيدا، في تلك اللحظة أن الزبير – رغم أنه ملك ويمتلك كل ما في الأرض، ويجب أن يكون أسعد الناس – بداخله حزن عميق لا مثيل لها، وما زال الطفل الفتي الحزين يعيش بداخله
منذ مقتل جده. واستغرب قيس من الهشاشة التي أخفاها الزبير الذي دوما ما تظهر عليه القسوة والشدة، ولكنه سرعان ما تذكر أنه حتى أقوى الوحوش، وأشرس السباع، لها قلوب تنبض وتحس وتشعر.
وبعد أن التقى الطفلان بأبيهما، جعل المغيرة يمشي مع زبيدة وحسن وحدهم في قلعة الشيمية المهجورة، حيث أحاطت بهم هنا وهناك الحجارة التي وقعت من بنيان القلعة، وانتشرت الرمال والأتربة في كل مكان، وشكلت القلعة مكانا أثريا جميلا يسر الناظرين.
سألهما المغيرة عن أحوالهما في قصر الكثبة ليطمئن عليهما، وسألهما ماذا يفعلان خلال أيامهما، وأكثر من إخبارهما بمدى حبه العظيم لهما وشوقه الجارف إليهما.
وأتت لحظة كان لا بد منها، فسأل: كيف يعاملكما الزبير؟
فأجابت زبيدة: أفضل معاملة.
فنظر المغيرة في الأرض حزنا؛ لأنه هو الذي يجب أن يكون معهما، لا رجل آخر لا يقرب لهما.
فقال حسن: أبي، الزبير يحبك... ويقول إنك صديقه.
غضب المغيرة؛ لأن الزبير آذاه أيما إيذاء، ورفض الكلام في الموضوع، وأكمل الحديث في موضوع آخر.
ورغم أنهما بقيا معه، منذ الصباح إلى المساء، تجنب المغيرة السؤال عن أمهما عمدا؛ فهو لا يطيق مجرد ذكر المرأة التي خانته ودمرت حياته.
وحل المساء، وحانت لحظة الفراق، وبينما علا السماء، شفق الشمس الغائبة، ودع المغيرة ابنيه وكلهم يجهشون في البكاء، على مرأى من الزبير الذي تمكن من رؤيتهم من خلال الضوء الخفيف
للشمس الغاربة، فحزن حزنا عظيما من جديد.
وعاد الطفلان إلى الزبير، وحضن بعضهم بعضا، وقال الطفلان: شكرا، يا عم.
فرح الزبير كثيرا، ومنذ تلك اللحظة تعمقت علاقته كثيرا بالطفلين.
وسرعان ما أرجع مسعودا – الذي أكرم وفادته وضيافته – إلى أخيه المغيرة.
ومنذ ذلك اليوم صار الطفلان يلتقيان أباهما مرتين كل شهر، وفق هذه الظروف والشروط نفسها.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي