42

بعد أسبوع من سجنه لها، عاد الزبير إلى حورية، في السجن تحت الأرض، فسألها من سيدها، فشتمته مرة أخرى.
فأمر بإرسال طعام وشراب رديئي النوعية لها بدل الطعام والشراب الفاخرين اللذين أُرْسِلا لها في الأسبوع المنصرم. وعاد بعد أسبوع، فرفضت من جديد الإقرار بأنه سيدها.
فمنع الأكل نهائيا عنها وسمح لها بالماء فقط، وعاد بعد أسبوعين فرفضت الإقرار بأنه سيدها.
ومر أسبوع آخر من منع الطعام عنها، فنزل الزبير إليها ووضع إناء به حساء على الأرض قرب قضبان الزنزانة، وكان بداخله ملعقة. ظل الزبير واقفا بجوار الإناء، فاندفعت حورية بسرعة للشرب منه، فضربه الزبير بقدمه فانقلب الإناء، وسال الحساء على الأرض ولم تستطع الشرب.
فصرخت غاضبة: سأقتلك... سأقتلك... أبي سيقتلك... سوف أنتقم منك ولو طال الزمان، أيها الزبير... أنت لا تعرف مع من تتعامل.
ثم غادر الزبير، ومع كل لحظة لها في الزنزانة حقدت حورية أكثر وأكثر على زوجها وغضبت أكثر وأكثر.
غاب لأسبوع ثم عاد، وبحوزته صندوق خشبي صغير به ثقوب تسمح لما بداخله بالتنفس، فأخرج منه الزبير جرذا رماديا قذرا تشمئز منه الأنظار، ووضعه على الأرض، فطفقت حورية تصرخ كالمجنونة خوفا، وسرعان ما دخل الجرذ إلى داخل الزنزانة، وشرعت حورية تهرب هنا وهناك وهو يتبعها، وقد قرفت واشئمزت أقصى اشمئزاز، وجعلت تتحرك كالمجنونة. لقد فهم الزبير نفسية حورية؛ فهي
المرأة التي اعتادت حياة أثرياء المدن في البيوت الفاخرة والقصور العامرة، ولم تعتد بؤس الفقراء، وما يعانونه، وذلك الجرذ القذر كان كفيلا بأن يقض مضجعها.
غاب ثم عاد بعد أسبوع، فوجدها جالسة القرفصاء في أحد أركان الزنزانة. وفجأة أتى أحدهم من الخارج وغطى النافذة الصغيرة أعلى الزنزانة بقطعة قماش خفيفة منعت الضوء عن الزنزانة تحت
الأرض، بينما أبقى الزبير الباب الذي يؤدي للدرج مفتوحا حتى يدخل الهواء إلى الزنزانة؛ فهو بالنهاية لا يريد موت زوجته، فلو أراد ذلك لأمر بقتلها منذ زمن بعيد.
وبعد يومين وقف الزبير وزبيدة وحسن، بالقرب من النافذة الصغيرة في أعلى الزنزانة، وجعل الزبير يحادثهم، وطلب منهما رفع صوتيهما، ففعلا، فسمعتهما حورية في الزنزانة المظلمة، حيث الجرذ
القذر.
إذ سأل الزبير: هل تحبان أمكما؟
فقالت زبيدة: نعم، نحبها.
وقال حسن: كثيرا... كثيرا.
فجن جنون المرأة التي كادت – خلال إقاتمها الطويلة في الزنزانة – تتشقق شوقا لابنيها.
وجعلت تصرخ بأعلى صوتها: زبيدة... حسن.
فتردد صدى صوتها في تلك الزنزانة المظلمة القذرة تحت الأرض، دون مجيب.
بعد يومين نزل الزبير إلى الزنزانة المعتمة وهو يحمل شمعة مضيئة.
جلست حورية – في تلك الأثناء- في ركن الزنزانة حيث التقاء الحائط مع القضبان، فأسندت ظهرها للحائط.
جلس الزبير بجوارها من الجهة الثانية، خارج القضبان، وأسند ظهره للحائط، ثم وجه شمعته نحو وجهه، فرأته حورية، فسأل الزبير باستهزاء واستخفاف: هل اشتقت لي؟!
فصرخت حورية فجأة، وهمت تهاجم الزبير بيديها، إلا أنه قام بسرعة، وغادر الغرفة، وهي تصرخ: سأقتلك... سأقتلك، أيها الحقير...
ولما فشلت كل هذه الطرائق، منع الزبير الماء عن زوجته يومين، ثم نزل إليها ومعه شمعة مضيئة، وجهها بحثا عن حورية، فوجدها جالسة تسند ظهرها إلى الحائط، وهي تسند رأسها ويديها على ركبتيها المرفوعتين عن الأرض، وهي تخبئ رأسها بين كفيها.
أدرك الزبير أنها غدت محطمة نفسيا، وأن اللحظة حانت، فقال: من سيدك؟... قولي أنت.
رفعت رأسها وأغمضت عينيها ألما وذلا وانهزاما، وقالت وهي مغمضة العينين غارقة في الذل ملطخة به: أنت.
وأخيرا انتصر الزبير، وسرعان ما فتح الباب، وأمسك بها من يدها بنعومة، وساعدها على الوقوف.
فمد ذراعيه جانبا، ثم قال: أهلا بزوجتي من جديد.
ثم احتضنها بقوة، بينما ظلت مرخية ذراعيها على جانبي جسدها.
ثم تركها، وقال: أقسم لك، إنني لم أعتزم إذلالك... وإياكِ أن تظني أن الزبير يفعل ذلك مع زوجته... ولكن فقط أردت أن أعلمك كيف تحترمين زوجك، حتى تكوني من الزوجات الصالحات.
لم تستطع في تلك اللحظة أن تغضب أو أن تحقد أكثر عليه، رغم أنها أرادت ذلك من صميم قلبها؛ وذلك لأن نفسيتها كانت محطمة مكسورة.
ثم قال الزبير: الأولاد الصغار، عندما يقسو آباؤهم عليهم، يستاؤون من ذلك، لأنهم للأسف عقولهم قاصرة في تلك الأعمار. ولكن بعد سنوات عندما يكبرون ويتذكرون تلك المواقف يفرحون ويشكرون آباءهم؛ لأنهم يعلمون حينئذ أن ذلك كان لمصلحتهم... والأب الذي يحب أبناءه حبا حقيقيا هو الذي يقسو عليهم حين يخطئون... وأنت بعد سنين ستتذكرين كل هذا وستشكرينني.
لم ترد حورية ببنت شفة؛ فكل ما أرادته في تلك اللحظة هو الخروج من هذا الجحيم تحت الأرض، والذي وجدت فيه في أسابيع شقاء أنساها سعادة السنوات الطويلة قبل ذلك ورخاءها، حيث كانت الليلة في تلك الزنزانة القذرة بألف سنة.
لقد تميز الزبير بالقوة والذكاء والشدة، وتميز باحترام أعدائه وخصومه وعدم الاستخفاف بهم، وتميز بدراسة نفسيات كل منهم ونقاط ضعفه، ولعب على هذه النقاط. وهكذا لمعرفته بنفسية حورية؛ تمكن من تحطيمها وكسرها من الداخل.
خرجت حورية، وعادت إلى غرفتها، وسرعان ما حممتها الجواري، وسرعان ما تناولت الطعام والشراب اللذيذين الفاخرين، والأهم سرعان ما التقت ابنيها، فانفجرت بالبكاء، وكانت تلك أول مرة تبكي
فيها أمام أحد في العالم. ثم رأت عكرمة الذي نظر إليها بحزن؛ لأنه فشل في حمايتها. ورأت جاريتها زمردة، التي احتضنت الملكة بحزن وشفقة، وجعلت تقول لها ما من شأنه أن يخفف عنها ويطمئنها.
***
بعد فترة وجيزة من احتجاز الزبير لزوجه؛ طفقت الإشاعات تنتشر خارج القصر، وفي شتى أنحاء البقاء بأن الزبير سجن حورية. لم يصدق كثير من الناس ذلك، فهل يعقل أن أقوى امرأة عرفتها البقاء
عبر تاريخها، يتم إذلالها وإهانتها بل ومعاملتها معاملة المجرمين والمساجين.
وقد استشرت هذه الإشاعات حتى بلغت منيبا أبا حورية. فلما علم بذلك، توجه نحو قصر الكثبة لزيارة ابنته، وحينئذ كان الزبير قد أطلق سراحها.
دخل منيب على شرفة النسور السوداء، فوجد الملك الزبير والملكة حورية بانتظاره وهما يجلسان على كرسيي العرش.
"مرحبا بكما" قال منيب بغضب؛ بسبب ما سمعه من إشاعات.
فرد الزبير بهدوء وبرود: أهلا، بعمي... كيف حالك؟ وكيف حال عمتي وأبنائك؟
فتح منيب عينيه اللتين احمرتا، من شدة الغضب، وتجاهل الزبير، ونظر نحو ابنته، وقال: كيف حالك، يا حورية؟
ظلت حورية صامتة، وهي لم تنبس ببنت شفة من بداية اللقاء، رغم أنها اعتادت أن تكون المبادرة في الحديث سواء عندما كانت تسكن في بيت أبيها، أو بيت المغيرة. كما أنها منذ بداية اللقاء،
وعكس ما عودت الناس عليه - من ابتسامتها المثيرة، وقسمات وجهها المغرية، وجلستها التي تلهب أفئدة الرجال - في هذه المرة كانت تجلس بحزن مطأطئة رأسها تنظر إلى الأرض، وهي
تشبك يديها إحداها بالأخرى، والحزن والذل باديان عليها.
لما رأى منيب كل هذا، انفجر صارخا: ما بالك؟!...
ثم نظر إلى الزبير، وقال بالأسلوب نفسه: ما بال ابنتي؟! ماذا فعلت بها؟!
"لم أفعل بها شيئا" قال الزبير، وأكمل: ابنتك بخير... بل بأفضل حال، هي ملكة البقاء بأكملها.
"ما بك، يا ابنتي؟!" سأل الأب الحزين بلهفة.
نظر الزبير- ببرود أعصاب وهدوء مستفزين لمنيب – إلى زوجته، وسأل: هل فعلت لك شيئا؟!... هيا أخبري والدك الحقيقة.
فصرخ الأب بغضب: أجيبي، يا حورية.
ظلت حورية صامتة، وعم الصمت في اللقاء زمنا كثيرا، وفجأة بخجل وبصوت خافت جدا، قالت حورية والحزن يعلو وجهها: لا.
ثم دمعت عيناها.
بعد أن رأى منيب كل هذا، صرخ مخاطبا الزبير: ماذا فعلت بابنتي؟! أين ذهبت حورية؟!
عندها وقف الزبير، وقال: سأترككما الآن وحدكما، فلا أحب التدخل بشؤونكم العائلية الخاصة.
كان كلامه مستفزا، ثم رحل – أيضا – رحيلا مستفزا، وظل منيب وابنته معا وحدهما.
حزن الأب حزنا كبيرا، وتأكد أن الإشاعات صحيحة. ابنته لطالما اتسمت بالقوة ولطالما دمرت كل خصومها، وكانت أقوى من الرجال، وهذا ما سعى إليه منيب منذ صغرها، واعتبره أكبر إنجاز
في حياته. وحينئذ انهارت وأصبحت شيئا أو مخلوقا ضعيفا هشا.
توجه منيب إليها، واحتضنها، فأجهشت بالبكاء واحتضنته، وجعل يحاول تهدئتها وطمأنتها.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي