43
مر ما يزيد على أحد عشر عاما على الانقلاب على الملك الهارب. خلالها عانى الكل في البقاء، وشعر الجميع بالحزن، حتى الملك ذو الندب المنتصر على جميع خصومه لم يسلم من كل هذا.
ففي عصر يوم من الأيام، توجه الزبير إلى حديقة كبيرة جميلة جدا في قصر الكثبة، مليئة بالورود بمختلف أنواعها وألوانها، وقد أشرف عليها منسق زهور هو الأفضل في البقاء كلها.
وجد الزبير بانتظاره زبيدة وحسن، ووجد طفلين: روان ذات الثماني سنوات وعامرا ذا الأربع سنوات، وقد اندفعوا جميعا عندما رأوه لتحيته، وتبادل الأحضان معهم واحدا واحدا. وروان وعامر هذان
هما ابنا الزبير من صلبه أنجبتهما له حورية.
حورية تلك التي جلست وحيدة في الحديقة في ذلك اللقاء مكسورة وحزينة على كرسي ناءٍ، وهذا حالها دوما بعد ما فعله بها الزبير، فحول حياتها لعذاب مقيم وألم كل يوم بل كل لحظة، فدوما تذكرت
ما فعله بها، لقد رغبت بالانتقام بكل قوة، لكنها في النهاية استسلمت كليا، وسلمت له جسدها ونفسها وأبناءها الأربعة وبات هو الآمر الناهي؛ فقد دمرها الزبير شر تدمير من الداخل وقضى على شخصيتها وكيانها.
وهكذا سلم الزبير على زبيدة وحسن بالحرارة نفسها التي سلم بها على روان وعامر؛ فهو لم يفرق بينهم مع أن الأخيرين من صلبه.
سألت روان: كيف حال أبي العزيز؟
"بخير، وكيف حال أجمل فتاة بالعالم" قال الزبير.
"بأتم حال" أجابت روان.
ثم حمل الزبير ابنه الصغير عامرا في حضنه وطفق يداعبه. وقد سماه على اسم أكثر شخص أحبه في شبابه، جده عامر. وبعد أن ولد عامر الثاني، أعلنه الزبير وليا للعهد لكامل مملكة البقاء.
وأمضى الزبير معظم وقته منذ ولادة روان ثم عامر، بمداعبتهما واللعب معهما والجلوس معهما.
لقد اتسم الطفلان بالجمال الشديد، الذي ورثا مظاهره من أمهما حورية، لكن نظرتهما الحادة وقوتهما وشراستهما ورثاها – بالتأكيد - من أبيهما الزبير.
ظهرت علامات الفرحة واضحة على محيا الزبير في عصر ذلك اليوم، لكن منظر الورود الجميل وألوانها المتعددة، وتظاهر الزبير بالسعادة، كل هذا لم ينسه كل تلك الأحزان وعلى رأسها فقدانه
لحب حياته والامرأة الوحيدة التي أحبها في عمره، سمية. ففي كل ليلة منذ أهدته الخنجر، اختبأ الزبير في إحدى غرف القصر، وهو يمسك خنجرها ويقلبه وينظر إليه بتمعن وينظر إلى السماء –
من الشرفة – ونجومها وقمرها، ويتذكر عندما يرى القمر وجه سمية وتفاصيله ونعومتها ورقتها وطيبتها وجمال شخصيتها، وفي كل ليلة تمنى لو أنه معها حتى لو كلفه هذا أن يتخلى عن كل شيء بما في ذلك المُلْكُ. وبعد أن فقد الأمل، ما انفك يتمنى أن يراها ولو مرة أخيرة في حياته. لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر. ولكن في كل ليلة في جلسة العشق والهيام تلك، سرعان ما يشوب هذه الذكريات
الجميلة العذبة، ذكرى إهانتها له وشتمها ولطمها له وبصقتها في وجهه، وكثيرا ما تلمس أجزاء وجهه حيث لطمته وبزقت عليه.
سمية هذه التي فكر بها الزبير طيلة الوقت، قضت السنوات الإحدى عشرة في عذاب وألم لم يعرف مثلهما أحد في تاريخ البقاء كله، وهي تتذكر زوجها وحبيبها أمينا، وكيف غدر به الزبير –
على حد ظنها – رغم أن المعلن هو أن قطاع الطرق هم من قتلوا زوجها في الهيجاء. ما انفكت دوما تتمنى الانتقام ولطالما تحمست للبدء به، لكن – في كل مرة – سرعان ما وأدت الفكرة،
حين تتذكر أن ذلك مستحيل؛ فهي لا تملك جيشا يهزم جيش الزبير ولا عيونا منتشرين في كل مكان كعيونه ولا مُلْكا كملكه. هي فقط تملك مبلغا هائلا من المال ورثته من أمين، والزبير يملك
مالا كثيرا كذلك. وفق كل هذه الظروف، أنى لها أن تنتقم منه؟! كانت الواقعية دوما تقتل الحماسة والرغبة الجامحة في الانتقام داخلها.
لم تكن سمية الضحية الوحيدة، فأمراء الثورة كلهم ذاقوا من طعنات خنجر الزبير. فذلك الأمير ريان قضى السنوات الإحدى عشرة نفسها في ألم وحزن وغضب في القدماء، البعيدة جدا عن أرض
ملكه الذي سُلِب منه في البقاء. فقد قضى هذه السنوات في قلة نوم وأرق وسهر، وقلة أكل حتى هزل جسمه الذي كان مفتول العضلات – ذات يوم –. وكان دوما حزينا، قليلا ما يحادث أحدا بما في
ذلك زوجته وأبناؤه وصديقه عماد، وحتى سلطان القدماء الذي لطالما زاره وحاول التخفيف عنه.
وضحية أخرى هي المغيرة، الذي طعنه الزبير في عِرضه، وسلب منه أهم شيء في حياته، أبناءَه، رغم أن الزبير جعله يلتقيهما بين الحين والآخر، ولكن سرا دون علم حورية، حتى بعد أن كسر نفسيتها من الداخل؛ لأن الزبير لا يحب كسر كلمته. فظل المغيرة يسكر، وانتقل من حانة إلى أخرى، فلم يترك حانة في الفيحاء إلا وثمل فيها. وبات يأكل كثيرا وينام كثيرا، وغدا مع مرور الوقت أسمن وأسمن، وأمسى ضعيفا في القتال.
وضحية أخرى، رجل كان – يوما ما – ابن الزبير المقرب جدا منه، سليم الذي حبسه الزبير في قصره، فظل يئن ويتألم في حياة القيد والحبس اللذين سببا له العقد النفسية والآلام في صغره وهو
حبيس تلك القرية النائية، فشكل ذلك كابوسا خلصه منه الزبير، لكنه سرعان ما أعاده إليه، فعاش متألما متحسرا.
كل هؤلاء، رغم آلامهم العظيمة وأدوا فكرة الانتقام من الزبير؛ فهم لا يملكون ما يملكه، وكلهم أدركوا أن الاقتصاص منه مستحيل، ورضوا بما حدث، إلى أن حدث بالنهاية أمر معين من قبل أكثر
أمراء الثورة معاناة وحزنا وألما، والمفاجأة أن الانتقام أتى من الشخص الذي لن يتوقعه أحد، سمية!
***
سمية هي أكثر من عانى في تاريخ البقاء؛ فقد اتسمت بأنها حساسة جدا، وقد أحبت أمينا حبا هو أكبر حب عرفه تاريخ البقاء. لذا فاقت معاناتها معاناة الزبير وسائر أمراء الثورة، بل وفاقت معاناة
الملك الهارب بعد ما حدث له في صغره ما حدث، عانت أكثر من كل امرأة مكلومة وكل امرأة أرملة وكل طفل أو طفلة تيتم، فاقت معاناتها معاناة كل من عانى من المرض أو الإعاقة أو العمى أو
الصمم، فاقت معاناتها معاناة كل من فقد مالا أو حبيبا أو قريبا أو تعرض للغدر.
وفي النهاية، وبعد أحد عشر عاما مما حدث، أتت المرة التي لم تتمكن فيها الواقعية من قتل فكرة الانتقام والحماسة لها. فبنهاية المطاف، ماذا ستخسر؟! لقد خسرت كل شيء، إنها لم تعد تريد المال، حتى حياتها استعدت للتخلي عنها في سبيل الانتقام.
وقد غدا هدفها الأهم وذو الأولوية مقتل الزبير مهما كلف الأمر، مهما دُفِع من مال، مهما ضاعت من أرواح. لكنها علمت أن الزبير أقوى امرئ وأذكى امرئ وأدهى امرئ عرفته البقاء في تاريخها. لذلك وجب عليها أن تضع خطة كاملة لا يمكن لها الفشل.
إن أهم قاعدة للانتصار على عدو، هي معرفة مدى قوته ونقاطها ومدى دهائه وعدم الاستخفاف به. لذا ظلت شهورا كثيرة تفكر بالخطة وتضع خطواتها بالتفاصيل وبعناية حثيثة حتى وضعت أصغر
التفاصيل وأتفهها، فلا مجال لأي خطإ مهما صغر.
وفي النهاية وصلت للخطة الكاملة، والمفاجأة أنها الخطة نفسها التي استخدمها الزبير للثورة وتحرير البقاء! نعم، فقد قررت أن تكون هي الزبير الجديد، وقررت أن تستخدم خطة مماثلة لخطته، باستخدام ملك هارب جديد ألا وهو الأمير ريان، واستخدام أقوى رجل في البقاء ألا وهو المغيرة، والرجل ذي الشعبية الكبرى في البقاء ألا وهو سليم، والمرء ذي المال الأكثر في البقاء، ألا وهو سمية نفسها!
***
بعد أن أحكمت سمية كل تفاصيل الخطة وخطواتها، بدأت فورا بتنفيذها.
تمثلت أولى خطوات الزبير الجديد – سمية - بلقاء الملك الهارب الجديد، الأمير ريان. فاتجهت على متن سفينة صغيرة إلى القدماء، وسافرت ما يزيد على ثلاثة شهور، حتى وصلت مدينة الزهرة البيضاء عاصمة القدماء. ورغم شدة التعب والإنهاك، توجهت فورا لقصر السلطان زاهي، وطلبت لقاء الأمير ريان. لقد تمتعت الزهرة البيضاء بجمال الطبيعة الخلاب الذي عانقه جمال العمران الساحر،
إلا أن كل ذلك لم يجذب انتباه المرأة الجميلة، التي أعمى عينيها الرغبة الجامحة في الانتقام.
ولما علم الأمير ريان بمقدمها، تفاجأ كثيرا، وظن أنها مجرد زيارة عادية بين صديقين.
دخلت سمية على غرفة في قصرالسلطان زاهي، فوجدت الأمير ريانا جالسا وهو حزين يائس مرخي الجسد على كرسي أمامه طاولة صغيرة وبجواره كرسيان آخران، وقد تميز كل الأثاث في الغرفة -
وحتى الغرفة نفسها - بكونهم فاخرين ثميني التكلفة. حيته سمية فبادلها التحية، وسرعان ما وقف، وبرقي الأمراء والدماء الملكية سحب أحد الكراسي ودعاها للجلوس، فجلست، ثم جلس الأمير.
طفقا يتحدثان، حتى قالت سمية: سمو الأمير، ليس هنالك وقت كاف لأضيعه، أريد أن أخبرك بما أتيت من أجله.
"تفضلي" قال الأمير بحزن وهدوء، وساءها وأحزنها هذا، إضافة للاكتئاب والاستسلام والاعتراف بالهزيمة الذين رأتهم على الأمير، الذي لطالما اعتادت – هي وغيرها – القوة والحماسة منه.
فردت الأميرة: لدي خطة للانتقام من الزبير، وتحرير البقاء من رجسه، وإعادة ملكك لك.
لم يتحمس الأمير كثيرا، رغم أن ما ذكرته هو ما يتوق إليه، ووحده الكفيل بتخليصه مما هو فيه، لكنه أيقن باستحالة هزيمة الزبير، وإن كان ذلك ممكنا، فلن يكون من خلال خطة تضعها امرأة
ما اعتادت طيلة حياتها سوى الرفاه والقصور ولون الذهب.
ولما لاحظت سمية ذلك، أصرت: أرجوك، استمع ثم احكم.
تنهد الأمير، ثم طفقت سمية تشرح خطوات الخطة، وأمضت وقتا طويلا في ذلك، وختمت كلامها: ... والأهم في هذا كله أن الزبير يجب أن يقتل.
ظلت علامات الحزن والاكتئاب بادية على الأمير، وقال بهدوء: ولكنها خطة صعبة جدا، وفرص نجاحها ضئيلة!
فقالت فورا: ماذا سنخسر إن فشلنا؟! أموالنا؟! حتى حياتنا رخيصة في سبيل الانتقام... هذا أفضل من الجحيم الذي نحن جميعا فيه.
أذهل الأمير من كلامها الأخير، وفجأة بدأ يتفكر بجدية في خطتها، وغير جلسته، واعتدل وجلس جلسة جدية، ومط شفتيه وقطب حاجبيه، وطفق يتفكر في تفاصيل الخطة فألفاها محكمة، ومع مرور الوقت لمعت الفكرة أكثر وأكثر في عقله.
"نعم، معك حق" قال، وأكمل: ليس لدينا شيء نخسره... وربما ننتصر، وحتى لو خسرنا، على الأقل نكون قد نغصنا على الوغد حياته.
فقالت فورا: أهم شيء، الزبير يجب أن يقتل. هذا أهم من أن تعود ملكا، أهم من أن أنتقم لزوجي، أهم من استعادة المغيرة أبناءه والانتقام لعرضه، أهم من استعادة سليم حريته.
فأومأ الأمير برأسه مبديا تفهمه وموافقته.
بعدها توجه الأمير وسمية للقاء سلطان القدماء السلطان زاهي، بناء على طلبها.
عرف الأمير ريان السلطان على سمية، وأعجب السلطان برقيها وجمال منظرها ولباسها وثقتها بنفسها.
أراد السلطان أن يعزم الاثنين على وليمة تليق بالأمير وسمية، إلا أن الأخيرة رفضت، وأخبرته أنها تريد إعلامه بأمر هام، وأنها لا تملك وقتا كثيرا.
ثم أخبرته بخطتها، والتي كان السلطان زاهي وجيشه جزءا منها.
أعجب السلطان زاهي بتفاصيل الخطة ودقة إحكامها، ولم يتوقع أن يأتي كل هذا من امرأة يعلم أنها أمضت حياتها في القصور ووسط الذهب، بعيدا عن وطيس المعارك والحروب، على الأقل نساء القدماء - اللاتي يعرفهن جيدا – ليس بمقدورهن الإتيان بمثل هذه الخطة.
تفكر السلطان وهو يجلس على كرسي العرش، ثم قال: ولكن لِمَ أخاطر؟! الزبير رجل قوي جدا، ومملكتي بعيدة جدا عن البقاء، ولا مصالح لي بها... أنا موقن أنكم أهل الحق، وأنه على طرف الباطل، وأن العدل والصحيح هما نصرتكما... وأنا ملك كريم ذو مروءة يرفض عدم إجارة المظلوم بل ويسعى لدعمه... لكنّ الحياة شيء مختلف بعيدا عن هذه المثاليات... لم أخاطر بشعبي ومملكتي والاستقرار والترف اللذين نعيش بهما؟! أنا آسف، لا أستطيع الموافقة.
وقفت سمية فورا من جلستها، والغضب والحقد والإصرار على قتل الزبير كلهم يشعون منها، وقالت مخاطبة السلطان: تخاطر لأن لك نصف أموالي – إن فعلت – ولا يمكنك أن تتصور كم من
الأموال أملك... ولك نصف خزينة البقاء بعد انتصارنا على الزبير، إضافة لضريبة باهظة تدفعها البقاء كل سنة لخزينة القدماء لمدة عشرين عاما كاملة... وأضف إلى هذا كله، أنه بعد الانتصار سأعطيك ما يتبقى من أموالي ولم أنفقه على الثورة...
جعلت سمية تتحرك في القاعة الكبيرة، وتذهب وتجيء وتقترب كل فترة من السلطان، وهي تلوح بيديها بينما تبين النقاط التي تريد قولها، وهذا هو حالها طيلة كلامها.
وأكملت: وأنت حتى لو شاركت وخسرنا، فلن تخسر شيئا كثيرا؛ لأن عنصر المفاجأة بجانبك، وقواتك أمهر في القتال البحري بكثير من قوات الزبير. وبعد أن تدك قواتك البحرية الزبير، لن أطلب
منك أكثر من ذلك، ولن أطلب منك أن تصاحبنا في الحرب البرية، التي سنتكفل بها وحدنا... عندها ستعود وقواتك إلى القدماء سالمين معافين. وحتى لو خسرنا الحرب البرية، فسنكون قد أنهكنا
الزبير ولن يتفرغ للانتقام منك؛ لأنه سيكون ضعيفا جدا، وأولويته فرض الاستقرار داخل البقاء... وهذا أصلا لن يحدث؛ لأن انتصارنا مضمون.
تفكر السلطان بعمق، وتفاجأ من قدرتها على الإقناع، ومن قوة حجتها، ولم يكن وحده المتفاجئ؛ فقد تفاجأ الأمير ريان كذلك؛ فرغم معرفته بها منذ سنوات، لم يعرف أنها تملك كل هذا في طيات نفسها
وعقلها.
وبعد مدة قال السلطان: موافق.
فظهرت الفرحة واضحة على سمية، التي لم يشهد السلطان في حياته كلها، شخصا حاقدا أو راغبا بالانتقام مثلها.
***
حان موعد الخطوة الثانية في خطة "الزبير الجديد". فبعد أن ضمنت سمية الشرعية، بموافقة الأمير ريان على الخطة، عادت على الفور – إلى البقاء - ودون راحة، رغم شدة الإنهاك والتعب اللذين عانت منهما في طريقه إلى القدماء. فتوجهت إلى الفيحاء للقاء المغيرة.
وبعدما علم بقدومها لزيارته، سرعان ما استقبلها في غرفة ضيوف داره.
تبادل الاثنان التحية، وطفقا يتحادثان.
استلقى المغيرة متعبا منهكا على أحد الكراسي، وقد ظهر عليه التراخي في جلسته وعدم التركيز.
ساء سمية ما رأته من سمنة مفرطة للرجل الذي كان يوما ما مفتول العضلات قوي البنية، كما ساءها ما بدا عليه من تعب وخمول وكسل وتراخي، كل هذا أكد لها ما سمعته من أنه أصبح سكيرا.
وبعد مدة قالت: أريد أن أخبرك بأمر جلل.
لم يبدُ أي تغير واضح على المغيرة، لا في جلسته ولا في انتباهه لسمية.
وشرعت تخبره بالخطة، حتى انتهت منها.
ثم قال: مستحيل لهذه الخطة أن تنجح.
فقالت: هل ستصر على رأيك، إن أخبرتك أنني حصلت على موافقة الأمير ريان، وسلطان القدماء زاهي؟!
اعتدل المغيرة في جلسته، بينما أكملت: ماذا ستخسر لو حاولت؟! حياتك؟! مالك؟!... في مقابل استعادة أولادك والانتقام لعرضك.
لمعت الخطة في عقله، وطفق يتفكر بتمعن في تفاصيلها وخطواتها فوجدها متقنة دقيقة، وأعجب بمدى ذكاء سمية.
وبعد تفكر قال: أنا موافق.
ابتسمت المرأة التي ما عرفت سوى الحزن لما يزيد على عقد، ثم اختفت الابتسامة وحل محلها الوجوم، وهي تقول: ولكن تذكر جيدا، أهم من أولادك، ومن الانتقام لعرضك... أهم من كل شيء...
الزبير يجب أن يقتل.
أومأ برأسه مبديا موافقته على كلامها وتفهمه له. ومنذ تلك اللحظة، توقف المغيرة عن شرب الخمور؛ حتى يتمكن من استعادة قوته والتركيز والمساعدة بالانتقام من الزبير.
***
الخطوة التالية في خطة الزبير الجديد، تمثلت في إقناع سليم بالموافقة عليها. توجهت سمية إلى قصر سليم، وهناك طلبت لقاء الشاب الذي كان قيد الإقامة الجبرية.
التقى الاثنان في إحدى غرف القصر. تبادلا التحايا، وتحادثا. مسبقا، كانت سمية تشعر بالشفقة على سليم الشاب المهزوز الضعيف، ولما رأته هذه المرة حزنت أكثر وأكثر؛ لأنها لاحظت مدى الحزن الذي يعيش فيه بعدما فعله الزبير به.
اصطحبت معها الكثير من الهدايا واللباس لسليم، لأنها لم ترد لرجالات الزبير في القصر أن يشكوا بسبب مقدمها إلى سليم!
منحته كل هذه الهدايا واللباس وبعد مدة طويلة وبينما هما في ركن في القصر، همست بصوت خفيض: أنصت إلي جيدا، يا سليم، أريد إخبارك بأمر هام جدا. لا تخبر به أي أحد على الإطلاق.
بعدها أخبرته بالخطة بالتفصيل.
فرد سليم بصوته الناعم هامسا: لا يمكنني أن أشارك في شيء كهذا... الزبير أبي.
فردت فورا هامسة: أي أب يفعل بابنه مثل ما فعله الزبير بك؟! يحبسك أحد عشر عاما! هل تعرف ما معنى أحد عشر عاما... والله حتى الأسود والوحوش تحرص على إسعاد أبنائها... من باعك بعه،
ومن هنت عليه فليهن عليك... فكر بنفسك بأهلك وبأمك المكسينة وبأخواتك... فكر بكل الذين آذاهم الزبير، بكل من سيفرحون بالتخلص منه... فكر بعمق.
توتر سليم، وبدا القلق ظاهرا عليه، وشرع يتفكر بعمق بكلامها، وفي النهاية وجده مقنعا، فقال وهو مطأطئ رأسه وعلى امتعاض: موافق.
ففرحت، ثم قالت هامسة: ولكن تذكر... أهم شيء، يجب أن يقتل الزبير، أهم من انتقامك وحريتك وحرية أهلك.
فحزن سليم كثيرا، ولكنه قرر أن يتخذ أكبر قرار اتخذه في حياته كلها قبل هذه اللحظة وبعدها، وأغمض عينيه وأومأ موافقا بحزن بالغ، وعزى نفسه أنه ليس هو من سيقتل الزبير بيديه، وسواء شارك
أم لم يشارك في الخطة فهي ستنفذ.
وسرعان ما أخبر سليم أمه بخطة سمية، وبأنه سيشارك فيها.
"إياك، يا بني" قالت سوسن، وأضافت: التهور والاندفاع هما اللذان أخذا بوالدك إلى الهاوية.
فرد سليم: لا، يا أمي... الأمر الآن مختلف، أنا الآن في الجانب الأقوى. أما أبي فوقف في الجانب الأضعف.
فقالت أمه: ولكن الزبير رجل خطير جدا... مخيف جدا... لم تعرف البقاء له مثيلا طيلة تاريخها، إياك أن تتحداه.
فأجاب: بل سأتحداه... هل تريدين أن أمضي بقية عمري مسجونا هنا؟!
فردت: هذا أفضل بكثير مما قد يحدث لك، وأفضل بكثير مما عشناه في القرية النائية... أرجوك، يا بني، التزم الحياد في هذا الأمر، على الأقل.
"لا، لن أفعل" رد سليم فورا، وأضاف: أمي، أنا الآن رجل قوي، ولست ذلك الطفل الضعيف الذي لطالما أمليتِ عليه ما يجب فعله.
فسكتت سوسن، وقد أنشأت تدعو الله أن يخرج ابنها سالما مما سيحدث.
***
ففي عصر يوم من الأيام، توجه الزبير إلى حديقة كبيرة جميلة جدا في قصر الكثبة، مليئة بالورود بمختلف أنواعها وألوانها، وقد أشرف عليها منسق زهور هو الأفضل في البقاء كلها.
وجد الزبير بانتظاره زبيدة وحسن، ووجد طفلين: روان ذات الثماني سنوات وعامرا ذا الأربع سنوات، وقد اندفعوا جميعا عندما رأوه لتحيته، وتبادل الأحضان معهم واحدا واحدا. وروان وعامر هذان
هما ابنا الزبير من صلبه أنجبتهما له حورية.
حورية تلك التي جلست وحيدة في الحديقة في ذلك اللقاء مكسورة وحزينة على كرسي ناءٍ، وهذا حالها دوما بعد ما فعله بها الزبير، فحول حياتها لعذاب مقيم وألم كل يوم بل كل لحظة، فدوما تذكرت
ما فعله بها، لقد رغبت بالانتقام بكل قوة، لكنها في النهاية استسلمت كليا، وسلمت له جسدها ونفسها وأبناءها الأربعة وبات هو الآمر الناهي؛ فقد دمرها الزبير شر تدمير من الداخل وقضى على شخصيتها وكيانها.
وهكذا سلم الزبير على زبيدة وحسن بالحرارة نفسها التي سلم بها على روان وعامر؛ فهو لم يفرق بينهم مع أن الأخيرين من صلبه.
سألت روان: كيف حال أبي العزيز؟
"بخير، وكيف حال أجمل فتاة بالعالم" قال الزبير.
"بأتم حال" أجابت روان.
ثم حمل الزبير ابنه الصغير عامرا في حضنه وطفق يداعبه. وقد سماه على اسم أكثر شخص أحبه في شبابه، جده عامر. وبعد أن ولد عامر الثاني، أعلنه الزبير وليا للعهد لكامل مملكة البقاء.
وأمضى الزبير معظم وقته منذ ولادة روان ثم عامر، بمداعبتهما واللعب معهما والجلوس معهما.
لقد اتسم الطفلان بالجمال الشديد، الذي ورثا مظاهره من أمهما حورية، لكن نظرتهما الحادة وقوتهما وشراستهما ورثاها – بالتأكيد - من أبيهما الزبير.
ظهرت علامات الفرحة واضحة على محيا الزبير في عصر ذلك اليوم، لكن منظر الورود الجميل وألوانها المتعددة، وتظاهر الزبير بالسعادة، كل هذا لم ينسه كل تلك الأحزان وعلى رأسها فقدانه
لحب حياته والامرأة الوحيدة التي أحبها في عمره، سمية. ففي كل ليلة منذ أهدته الخنجر، اختبأ الزبير في إحدى غرف القصر، وهو يمسك خنجرها ويقلبه وينظر إليه بتمعن وينظر إلى السماء –
من الشرفة – ونجومها وقمرها، ويتذكر عندما يرى القمر وجه سمية وتفاصيله ونعومتها ورقتها وطيبتها وجمال شخصيتها، وفي كل ليلة تمنى لو أنه معها حتى لو كلفه هذا أن يتخلى عن كل شيء بما في ذلك المُلْكُ. وبعد أن فقد الأمل، ما انفك يتمنى أن يراها ولو مرة أخيرة في حياته. لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر. ولكن في كل ليلة في جلسة العشق والهيام تلك، سرعان ما يشوب هذه الذكريات
الجميلة العذبة، ذكرى إهانتها له وشتمها ولطمها له وبصقتها في وجهه، وكثيرا ما تلمس أجزاء وجهه حيث لطمته وبزقت عليه.
سمية هذه التي فكر بها الزبير طيلة الوقت، قضت السنوات الإحدى عشرة في عذاب وألم لم يعرف مثلهما أحد في تاريخ البقاء كله، وهي تتذكر زوجها وحبيبها أمينا، وكيف غدر به الزبير –
على حد ظنها – رغم أن المعلن هو أن قطاع الطرق هم من قتلوا زوجها في الهيجاء. ما انفكت دوما تتمنى الانتقام ولطالما تحمست للبدء به، لكن – في كل مرة – سرعان ما وأدت الفكرة،
حين تتذكر أن ذلك مستحيل؛ فهي لا تملك جيشا يهزم جيش الزبير ولا عيونا منتشرين في كل مكان كعيونه ولا مُلْكا كملكه. هي فقط تملك مبلغا هائلا من المال ورثته من أمين، والزبير يملك
مالا كثيرا كذلك. وفق كل هذه الظروف، أنى لها أن تنتقم منه؟! كانت الواقعية دوما تقتل الحماسة والرغبة الجامحة في الانتقام داخلها.
لم تكن سمية الضحية الوحيدة، فأمراء الثورة كلهم ذاقوا من طعنات خنجر الزبير. فذلك الأمير ريان قضى السنوات الإحدى عشرة نفسها في ألم وحزن وغضب في القدماء، البعيدة جدا عن أرض
ملكه الذي سُلِب منه في البقاء. فقد قضى هذه السنوات في قلة نوم وأرق وسهر، وقلة أكل حتى هزل جسمه الذي كان مفتول العضلات – ذات يوم –. وكان دوما حزينا، قليلا ما يحادث أحدا بما في
ذلك زوجته وأبناؤه وصديقه عماد، وحتى سلطان القدماء الذي لطالما زاره وحاول التخفيف عنه.
وضحية أخرى هي المغيرة، الذي طعنه الزبير في عِرضه، وسلب منه أهم شيء في حياته، أبناءَه، رغم أن الزبير جعله يلتقيهما بين الحين والآخر، ولكن سرا دون علم حورية، حتى بعد أن كسر نفسيتها من الداخل؛ لأن الزبير لا يحب كسر كلمته. فظل المغيرة يسكر، وانتقل من حانة إلى أخرى، فلم يترك حانة في الفيحاء إلا وثمل فيها. وبات يأكل كثيرا وينام كثيرا، وغدا مع مرور الوقت أسمن وأسمن، وأمسى ضعيفا في القتال.
وضحية أخرى، رجل كان – يوما ما – ابن الزبير المقرب جدا منه، سليم الذي حبسه الزبير في قصره، فظل يئن ويتألم في حياة القيد والحبس اللذين سببا له العقد النفسية والآلام في صغره وهو
حبيس تلك القرية النائية، فشكل ذلك كابوسا خلصه منه الزبير، لكنه سرعان ما أعاده إليه، فعاش متألما متحسرا.
كل هؤلاء، رغم آلامهم العظيمة وأدوا فكرة الانتقام من الزبير؛ فهم لا يملكون ما يملكه، وكلهم أدركوا أن الاقتصاص منه مستحيل، ورضوا بما حدث، إلى أن حدث بالنهاية أمر معين من قبل أكثر
أمراء الثورة معاناة وحزنا وألما، والمفاجأة أن الانتقام أتى من الشخص الذي لن يتوقعه أحد، سمية!
***
سمية هي أكثر من عانى في تاريخ البقاء؛ فقد اتسمت بأنها حساسة جدا، وقد أحبت أمينا حبا هو أكبر حب عرفه تاريخ البقاء. لذا فاقت معاناتها معاناة الزبير وسائر أمراء الثورة، بل وفاقت معاناة
الملك الهارب بعد ما حدث له في صغره ما حدث، عانت أكثر من كل امرأة مكلومة وكل امرأة أرملة وكل طفل أو طفلة تيتم، فاقت معاناتها معاناة كل من عانى من المرض أو الإعاقة أو العمى أو
الصمم، فاقت معاناتها معاناة كل من فقد مالا أو حبيبا أو قريبا أو تعرض للغدر.
وفي النهاية، وبعد أحد عشر عاما مما حدث، أتت المرة التي لم تتمكن فيها الواقعية من قتل فكرة الانتقام والحماسة لها. فبنهاية المطاف، ماذا ستخسر؟! لقد خسرت كل شيء، إنها لم تعد تريد المال، حتى حياتها استعدت للتخلي عنها في سبيل الانتقام.
وقد غدا هدفها الأهم وذو الأولوية مقتل الزبير مهما كلف الأمر، مهما دُفِع من مال، مهما ضاعت من أرواح. لكنها علمت أن الزبير أقوى امرئ وأذكى امرئ وأدهى امرئ عرفته البقاء في تاريخها. لذلك وجب عليها أن تضع خطة كاملة لا يمكن لها الفشل.
إن أهم قاعدة للانتصار على عدو، هي معرفة مدى قوته ونقاطها ومدى دهائه وعدم الاستخفاف به. لذا ظلت شهورا كثيرة تفكر بالخطة وتضع خطواتها بالتفاصيل وبعناية حثيثة حتى وضعت أصغر
التفاصيل وأتفهها، فلا مجال لأي خطإ مهما صغر.
وفي النهاية وصلت للخطة الكاملة، والمفاجأة أنها الخطة نفسها التي استخدمها الزبير للثورة وتحرير البقاء! نعم، فقد قررت أن تكون هي الزبير الجديد، وقررت أن تستخدم خطة مماثلة لخطته، باستخدام ملك هارب جديد ألا وهو الأمير ريان، واستخدام أقوى رجل في البقاء ألا وهو المغيرة، والرجل ذي الشعبية الكبرى في البقاء ألا وهو سليم، والمرء ذي المال الأكثر في البقاء، ألا وهو سمية نفسها!
***
بعد أن أحكمت سمية كل تفاصيل الخطة وخطواتها، بدأت فورا بتنفيذها.
تمثلت أولى خطوات الزبير الجديد – سمية - بلقاء الملك الهارب الجديد، الأمير ريان. فاتجهت على متن سفينة صغيرة إلى القدماء، وسافرت ما يزيد على ثلاثة شهور، حتى وصلت مدينة الزهرة البيضاء عاصمة القدماء. ورغم شدة التعب والإنهاك، توجهت فورا لقصر السلطان زاهي، وطلبت لقاء الأمير ريان. لقد تمتعت الزهرة البيضاء بجمال الطبيعة الخلاب الذي عانقه جمال العمران الساحر،
إلا أن كل ذلك لم يجذب انتباه المرأة الجميلة، التي أعمى عينيها الرغبة الجامحة في الانتقام.
ولما علم الأمير ريان بمقدمها، تفاجأ كثيرا، وظن أنها مجرد زيارة عادية بين صديقين.
دخلت سمية على غرفة في قصرالسلطان زاهي، فوجدت الأمير ريانا جالسا وهو حزين يائس مرخي الجسد على كرسي أمامه طاولة صغيرة وبجواره كرسيان آخران، وقد تميز كل الأثاث في الغرفة -
وحتى الغرفة نفسها - بكونهم فاخرين ثميني التكلفة. حيته سمية فبادلها التحية، وسرعان ما وقف، وبرقي الأمراء والدماء الملكية سحب أحد الكراسي ودعاها للجلوس، فجلست، ثم جلس الأمير.
طفقا يتحدثان، حتى قالت سمية: سمو الأمير، ليس هنالك وقت كاف لأضيعه، أريد أن أخبرك بما أتيت من أجله.
"تفضلي" قال الأمير بحزن وهدوء، وساءها وأحزنها هذا، إضافة للاكتئاب والاستسلام والاعتراف بالهزيمة الذين رأتهم على الأمير، الذي لطالما اعتادت – هي وغيرها – القوة والحماسة منه.
فردت الأميرة: لدي خطة للانتقام من الزبير، وتحرير البقاء من رجسه، وإعادة ملكك لك.
لم يتحمس الأمير كثيرا، رغم أن ما ذكرته هو ما يتوق إليه، ووحده الكفيل بتخليصه مما هو فيه، لكنه أيقن باستحالة هزيمة الزبير، وإن كان ذلك ممكنا، فلن يكون من خلال خطة تضعها امرأة
ما اعتادت طيلة حياتها سوى الرفاه والقصور ولون الذهب.
ولما لاحظت سمية ذلك، أصرت: أرجوك، استمع ثم احكم.
تنهد الأمير، ثم طفقت سمية تشرح خطوات الخطة، وأمضت وقتا طويلا في ذلك، وختمت كلامها: ... والأهم في هذا كله أن الزبير يجب أن يقتل.
ظلت علامات الحزن والاكتئاب بادية على الأمير، وقال بهدوء: ولكنها خطة صعبة جدا، وفرص نجاحها ضئيلة!
فقالت فورا: ماذا سنخسر إن فشلنا؟! أموالنا؟! حتى حياتنا رخيصة في سبيل الانتقام... هذا أفضل من الجحيم الذي نحن جميعا فيه.
أذهل الأمير من كلامها الأخير، وفجأة بدأ يتفكر بجدية في خطتها، وغير جلسته، واعتدل وجلس جلسة جدية، ومط شفتيه وقطب حاجبيه، وطفق يتفكر في تفاصيل الخطة فألفاها محكمة، ومع مرور الوقت لمعت الفكرة أكثر وأكثر في عقله.
"نعم، معك حق" قال، وأكمل: ليس لدينا شيء نخسره... وربما ننتصر، وحتى لو خسرنا، على الأقل نكون قد نغصنا على الوغد حياته.
فقالت فورا: أهم شيء، الزبير يجب أن يقتل. هذا أهم من أن تعود ملكا، أهم من أن أنتقم لزوجي، أهم من استعادة المغيرة أبناءه والانتقام لعرضه، أهم من استعادة سليم حريته.
فأومأ الأمير برأسه مبديا تفهمه وموافقته.
بعدها توجه الأمير وسمية للقاء سلطان القدماء السلطان زاهي، بناء على طلبها.
عرف الأمير ريان السلطان على سمية، وأعجب السلطان برقيها وجمال منظرها ولباسها وثقتها بنفسها.
أراد السلطان أن يعزم الاثنين على وليمة تليق بالأمير وسمية، إلا أن الأخيرة رفضت، وأخبرته أنها تريد إعلامه بأمر هام، وأنها لا تملك وقتا كثيرا.
ثم أخبرته بخطتها، والتي كان السلطان زاهي وجيشه جزءا منها.
أعجب السلطان زاهي بتفاصيل الخطة ودقة إحكامها، ولم يتوقع أن يأتي كل هذا من امرأة يعلم أنها أمضت حياتها في القصور ووسط الذهب، بعيدا عن وطيس المعارك والحروب، على الأقل نساء القدماء - اللاتي يعرفهن جيدا – ليس بمقدورهن الإتيان بمثل هذه الخطة.
تفكر السلطان وهو يجلس على كرسي العرش، ثم قال: ولكن لِمَ أخاطر؟! الزبير رجل قوي جدا، ومملكتي بعيدة جدا عن البقاء، ولا مصالح لي بها... أنا موقن أنكم أهل الحق، وأنه على طرف الباطل، وأن العدل والصحيح هما نصرتكما... وأنا ملك كريم ذو مروءة يرفض عدم إجارة المظلوم بل ويسعى لدعمه... لكنّ الحياة شيء مختلف بعيدا عن هذه المثاليات... لم أخاطر بشعبي ومملكتي والاستقرار والترف اللذين نعيش بهما؟! أنا آسف، لا أستطيع الموافقة.
وقفت سمية فورا من جلستها، والغضب والحقد والإصرار على قتل الزبير كلهم يشعون منها، وقالت مخاطبة السلطان: تخاطر لأن لك نصف أموالي – إن فعلت – ولا يمكنك أن تتصور كم من
الأموال أملك... ولك نصف خزينة البقاء بعد انتصارنا على الزبير، إضافة لضريبة باهظة تدفعها البقاء كل سنة لخزينة القدماء لمدة عشرين عاما كاملة... وأضف إلى هذا كله، أنه بعد الانتصار سأعطيك ما يتبقى من أموالي ولم أنفقه على الثورة...
جعلت سمية تتحرك في القاعة الكبيرة، وتذهب وتجيء وتقترب كل فترة من السلطان، وهي تلوح بيديها بينما تبين النقاط التي تريد قولها، وهذا هو حالها طيلة كلامها.
وأكملت: وأنت حتى لو شاركت وخسرنا، فلن تخسر شيئا كثيرا؛ لأن عنصر المفاجأة بجانبك، وقواتك أمهر في القتال البحري بكثير من قوات الزبير. وبعد أن تدك قواتك البحرية الزبير، لن أطلب
منك أكثر من ذلك، ولن أطلب منك أن تصاحبنا في الحرب البرية، التي سنتكفل بها وحدنا... عندها ستعود وقواتك إلى القدماء سالمين معافين. وحتى لو خسرنا الحرب البرية، فسنكون قد أنهكنا
الزبير ولن يتفرغ للانتقام منك؛ لأنه سيكون ضعيفا جدا، وأولويته فرض الاستقرار داخل البقاء... وهذا أصلا لن يحدث؛ لأن انتصارنا مضمون.
تفكر السلطان بعمق، وتفاجأ من قدرتها على الإقناع، ومن قوة حجتها، ولم يكن وحده المتفاجئ؛ فقد تفاجأ الأمير ريان كذلك؛ فرغم معرفته بها منذ سنوات، لم يعرف أنها تملك كل هذا في طيات نفسها
وعقلها.
وبعد مدة قال السلطان: موافق.
فظهرت الفرحة واضحة على سمية، التي لم يشهد السلطان في حياته كلها، شخصا حاقدا أو راغبا بالانتقام مثلها.
***
حان موعد الخطوة الثانية في خطة "الزبير الجديد". فبعد أن ضمنت سمية الشرعية، بموافقة الأمير ريان على الخطة، عادت على الفور – إلى البقاء - ودون راحة، رغم شدة الإنهاك والتعب اللذين عانت منهما في طريقه إلى القدماء. فتوجهت إلى الفيحاء للقاء المغيرة.
وبعدما علم بقدومها لزيارته، سرعان ما استقبلها في غرفة ضيوف داره.
تبادل الاثنان التحية، وطفقا يتحادثان.
استلقى المغيرة متعبا منهكا على أحد الكراسي، وقد ظهر عليه التراخي في جلسته وعدم التركيز.
ساء سمية ما رأته من سمنة مفرطة للرجل الذي كان يوما ما مفتول العضلات قوي البنية، كما ساءها ما بدا عليه من تعب وخمول وكسل وتراخي، كل هذا أكد لها ما سمعته من أنه أصبح سكيرا.
وبعد مدة قالت: أريد أن أخبرك بأمر جلل.
لم يبدُ أي تغير واضح على المغيرة، لا في جلسته ولا في انتباهه لسمية.
وشرعت تخبره بالخطة، حتى انتهت منها.
ثم قال: مستحيل لهذه الخطة أن تنجح.
فقالت: هل ستصر على رأيك، إن أخبرتك أنني حصلت على موافقة الأمير ريان، وسلطان القدماء زاهي؟!
اعتدل المغيرة في جلسته، بينما أكملت: ماذا ستخسر لو حاولت؟! حياتك؟! مالك؟!... في مقابل استعادة أولادك والانتقام لعرضك.
لمعت الخطة في عقله، وطفق يتفكر بتمعن في تفاصيلها وخطواتها فوجدها متقنة دقيقة، وأعجب بمدى ذكاء سمية.
وبعد تفكر قال: أنا موافق.
ابتسمت المرأة التي ما عرفت سوى الحزن لما يزيد على عقد، ثم اختفت الابتسامة وحل محلها الوجوم، وهي تقول: ولكن تذكر جيدا، أهم من أولادك، ومن الانتقام لعرضك... أهم من كل شيء...
الزبير يجب أن يقتل.
أومأ برأسه مبديا موافقته على كلامها وتفهمه له. ومنذ تلك اللحظة، توقف المغيرة عن شرب الخمور؛ حتى يتمكن من استعادة قوته والتركيز والمساعدة بالانتقام من الزبير.
***
الخطوة التالية في خطة الزبير الجديد، تمثلت في إقناع سليم بالموافقة عليها. توجهت سمية إلى قصر سليم، وهناك طلبت لقاء الشاب الذي كان قيد الإقامة الجبرية.
التقى الاثنان في إحدى غرف القصر. تبادلا التحايا، وتحادثا. مسبقا، كانت سمية تشعر بالشفقة على سليم الشاب المهزوز الضعيف، ولما رأته هذه المرة حزنت أكثر وأكثر؛ لأنها لاحظت مدى الحزن الذي يعيش فيه بعدما فعله الزبير به.
اصطحبت معها الكثير من الهدايا واللباس لسليم، لأنها لم ترد لرجالات الزبير في القصر أن يشكوا بسبب مقدمها إلى سليم!
منحته كل هذه الهدايا واللباس وبعد مدة طويلة وبينما هما في ركن في القصر، همست بصوت خفيض: أنصت إلي جيدا، يا سليم، أريد إخبارك بأمر هام جدا. لا تخبر به أي أحد على الإطلاق.
بعدها أخبرته بالخطة بالتفصيل.
فرد سليم بصوته الناعم هامسا: لا يمكنني أن أشارك في شيء كهذا... الزبير أبي.
فردت فورا هامسة: أي أب يفعل بابنه مثل ما فعله الزبير بك؟! يحبسك أحد عشر عاما! هل تعرف ما معنى أحد عشر عاما... والله حتى الأسود والوحوش تحرص على إسعاد أبنائها... من باعك بعه،
ومن هنت عليه فليهن عليك... فكر بنفسك بأهلك وبأمك المكسينة وبأخواتك... فكر بكل الذين آذاهم الزبير، بكل من سيفرحون بالتخلص منه... فكر بعمق.
توتر سليم، وبدا القلق ظاهرا عليه، وشرع يتفكر بعمق بكلامها، وفي النهاية وجده مقنعا، فقال وهو مطأطئ رأسه وعلى امتعاض: موافق.
ففرحت، ثم قالت هامسة: ولكن تذكر... أهم شيء، يجب أن يقتل الزبير، أهم من انتقامك وحريتك وحرية أهلك.
فحزن سليم كثيرا، ولكنه قرر أن يتخذ أكبر قرار اتخذه في حياته كلها قبل هذه اللحظة وبعدها، وأغمض عينيه وأومأ موافقا بحزن بالغ، وعزى نفسه أنه ليس هو من سيقتل الزبير بيديه، وسواء شارك
أم لم يشارك في الخطة فهي ستنفذ.
وسرعان ما أخبر سليم أمه بخطة سمية، وبأنه سيشارك فيها.
"إياك، يا بني" قالت سوسن، وأضافت: التهور والاندفاع هما اللذان أخذا بوالدك إلى الهاوية.
فرد سليم: لا، يا أمي... الأمر الآن مختلف، أنا الآن في الجانب الأقوى. أما أبي فوقف في الجانب الأضعف.
فقالت أمه: ولكن الزبير رجل خطير جدا... مخيف جدا... لم تعرف البقاء له مثيلا طيلة تاريخها، إياك أن تتحداه.
فأجاب: بل سأتحداه... هل تريدين أن أمضي بقية عمري مسجونا هنا؟!
فردت: هذا أفضل بكثير مما قد يحدث لك، وأفضل بكثير مما عشناه في القرية النائية... أرجوك، يا بني، التزم الحياد في هذا الأمر، على الأقل.
"لا، لن أفعل" رد سليم فورا، وأضاف: أمي، أنا الآن رجل قوي، ولست ذلك الطفل الضعيف الذي لطالما أمليتِ عليه ما يجب فعله.
فسكتت سوسن، وقد أنشأت تدعو الله أن يخرج ابنها سالما مما سيحدث.
***