44

وهكذا اكتملت أركان خطة "الزبير الجديد"، فقد اجتمع لسمية الشرعية والقوة والشعبية والمال، ولم يتبقَ سوى التنفيذ. قامت الخطة على افتعال حرب في شمال البقاء، باتفاق سمية مع شيخ عدد من القبائل هناك. إذ وقع معسكر لجيش الزبير بالقرب من تلك القبائل، إضافة لتمركز مجوعة أخرى قليلة العدد على الحدود الشمالية للبقاء، لعدم وجود أي مملكة أو دولة قريبة منها شمالا.
عندما أحكمت سمية وضع خطتها، قررت أن الضربة يجب أن تبدأ من الشمال، لأنه الأقرب إلى القدماء، التي بنت خطتها على قدوم المساعدات منها. ولذلك درست مناطق الشمال بأكملها، مدنها وقراها
وقبائلها، وأيها الأكثر كرها للزبير. فلم تجد خيرا من منطقة التميرية، فشيخ شيوخ هذه القبائل غنيم، ذاع وانتشر في كل البقاء، استياؤه من الزبير ومن الضرائب الباهظة التي فرضها على الشعب. بالطبع الزبير علم باستياء الشيخ وكلامه الكثير، لكنه آثر عدم الاصطدام بقبائل تلك المنطقة؛ لأنه سيخسر بالحرب معها أكثر مما سيكسب، خاصة أن الأمور لم تخرج عن نطاق الاحتجاج الكلامي إلى الأفعال
التي قد تهدد ملكه أو الاستقرار في مملكته.
لهذا توجهت سمية إلى الشيخ غنيم وأخبرته بخطتها، ولأنها تعلم أن أفضل وسيلة لإغراء أي إنسان في البسيطة هو لون الذهب، فقد عرضت عليه عُشْرَ ثروتها – التي ورثتها من أمين – مقابل موافقته،
فوافق الرجل فورا، لا سيما أنه اقتنع بخطتها ومدى إحكام خطواتها وتفاصيلها، وأنها ستنجح لا محالة، وستنتهي بقطف رأس الزبير، وعندها لن يسعى الأخير للانتقام منه.
وقد وقعت منطقة التميرية بالقرب من الساحل الشمالي للبقاء على البحر الرمادي الذي تقع على ضفته الشمالية البعيدة جدا القدماء، وكأي حد من حدود البقاء، تمركز حراس الحدود هناك، لكنهم تمركزوا
بأعداد قليلة جدا، مقارنة مع أعداد الجنود على الحدود الشرقية مع ياقوتة والغربية مع الهيجاء، وذلك لأن الزبير استبعد أي حرب على الجهة الشمالية، لأنه كان في حالة سلم مع القدماء – البعيدة جدا
أصلا عن البقاء – وسائر الجزر الموجودة في بحر الرمادي، والتي على الرغم من كثرتها كانت ضعيفة، لا طاقة لها بمقاتلة الزبير.
لذلك هاجمت قوات قبائل التميرية بقيادة الشيخ غنيم القوات الحدودية القريبة منها على الساحل الشمالي، ولأن عدد قوات القبائل أكبر بكثير، تمكنت من قتل كل الجنود. وقد تأكدت سمية أن الزبير سيرسل
قوات المعسكر القريب من قبائل التميرية، لتأديب الشيخ غنيم بعد ما فعله.
وبالفعل صدق توقع سمية، فقد أرسل الزبير نصف قواته في المعسكر الشرقي للقضاء على قبائل التميرية، لكن القوات تفاجأت بعدد هائل من المقاتلين فاقها بأربعة أضعاف تمثل بقوات الشيخ إضافة لقوات الأمير إضافة لقوات القدماء! اندلعت معركة بين الطرفين، أجهزت فيها قوات الأمير وحلفائه على قوات الزبير، فما كان من جل قوات الزبير سوى محاولة الهرب، لكن قوات الأمير وحلفائه تبعتهم حتى
أجهزت على معظمهم. ثم توجهت قوات الأمير وحلفائه إلى معسكر جيش الزبير الشرقي – والذي يبعد عن منطقة التميرية مسيرة نصف يوم – فأجهزت على كل من هناك دون رحمة أو رأفة.
فقبل ستة أشهر من بدء تنفيذ الخطة، بدأ المؤيدون المضمون وفاؤهم للأمير ريان بالتجمع في جبال اليبس.
فبعد أن أعلمته سمية بخطتها، أرسل الأمير إلى أقرب رجاله الأوفياء والذين كانوا قد تبقوا في البقاء، بالتجمع في جبال اليبس، وتجميع بقية الموالين له هناك. وأصلا قبل أن تتوجه سمية إلى القدماء للقاء
الأمير ريان، توجهت إلى جبال اليبس، وما أحاط بها من قرى ومناطق، فوجدت أن الزبير لم يضع رجاله هناك. فأي امرئ مهما بلغ ذكاؤه وحرصه، لا بد وأن يزل ويخطئ والزبير ليس استثناء، فقد ظن أن الأمور انتهت خلال أحد عشر عاما، وأن آل الضياغم لا عودة لهم. وبعد أن اطمأنت سمية لعدم وجود قوات للزبير، بنت خطتها على تجمع الموالين للأمير هناك، وهو ما حدث خلال خمسة أشهر،
نظموا خلالها أنفسهم وتدربوا وتجهزوا للقتال. وقبل هجمة الشيخ غنيم على القوات الحدودية بشهر، بدأت القوات الموالية للأمير تتوجه بجماعات قليلة العدد كل فترة إلى منطقة التميرية، حتى لا يلاحظ عيون الزبير وداهية الكثبة ذلك، وقد نجحت القوات الكثيرة أخيرا بالتجمع في التميرية، لا سيما مع تكتم أهل القبائل المطبق على قدوم القوات إليهم، وفي النهاية هاجمت قوات الأمير مع أفراد قبائل التميرية
القوات الحدودية.
وقبل ستة أشهر، وبناء على توصيات سمية وخطتها، اتفق سلطان القدماء زاهي مع جزيرة قريبة من البقاء - مسيرة أسبوع بالسفر عبر البحر-على افتعال حرب بينهما. فادعى سلطان القدماء أنه سيفسخ
معاهدة السلم مع جزيرة الرهفاء القريبة من البقاء؛ لأن سلطانها الذي كان خاضعا لزاهي رفض أن يدفع الضريبة الجديدة الباهظة التي فرضها عليه السلطان. فوجه السلطان عددا هائلا من السفن ضم عددا كبيرا من المقاتلين إلى الجزيرة لاحتلالها. كل هذا هَدَف إلى أن لا تشك عيون الزبير وداهية الكثبة، بأن حركة السفن هدفها الحقيقي هو الهجوم على البقاء لا الرهفاء. وبالفعل انطلت الخدعة على داهية
الكثبة والزبير، وصدقوا أن هنالك حربا بين القدماء والرهفاء. وصلت السفن إلى الرهفاء وتمركزت هناك. وقبل أسبوع من مهاجمة قبائل التميرية وقوات الأمير ريان للقوات الحدودية، أبحرت كل السفن باتجاه البقاء، وبعد أس وصلت فوجدت الساحل مفرغا من قوات الزبير، ووجدوا الشيخ غنيم وقواته وقوات الأمير بانتظارهم. وقد كان على متن السفن الواصلة السلطان زاهي والأمير ريان بنفسيهما!
لقد تميزت قوات القدماء، بالخبرة الهائلة في الحروب البحرية، وذلك لأنها خاضت على مدى السنين حروبا بحرية كثيرة، لذا امتلك سلطان القدماء أساطيل ضخمة من السفن المتطورة، الذين أجاد جنودها الإبحار بسرعة وبإتقان عبر البحار.
***
لم تكن كل هذه المفاجآت المهولة كافية، فقد وجدت مفاجأة أخرى لا تقل حجما، ففي اليوم نفسه - وبناء على اتفاق مسبق – بدأت انتفاضة عارمة في جل مدن البقاء وقراها ومناطقها، وقاتل الثوار جنود
الزبير في هذه المناطق وقتلوا معظمهم وأسروا عددا لا بأس به، في حين لاذ عدد من الجنود بالفرار. وهكذا سيطر الثوار على جل المدن والمناطق. ومن بين المدن المنتفضة، كانت الفيحاء، فقد قاد
المغيرة ثورة عارمة حرر بها المدينة من سلطة الزبير، وقد أبدع المغيرة في القتال، رغم سمنته المفرطة وكرشه البارزة؛ وذلك لأن لمسة الفارس المقاتل الماهر لم تختف داخله. ففي الستة أشهر التي
سبقت هذا اليوم الموعود، قامت دعوة سرية للثورة في المدن والمناطق الأكثر نفورا من الزبير وكرها له، والأكثر ولاء لآل الضياغم. وقد صبرت سمية طيلة هذه الأشهر الكثيرة، لأن غاية سامية –
وفق نظرها – صعبة جدا وقد تكون مستحيلة في نظر الكثيرين، وتحتاج للصبر طيلة هذه المدة، وماذا ستخسر إن صبرت ستة أشهر بعد أن صبرت أحد عشر عاما؟!
بعد كل هذا خسر الزبير ما يقرب من ثلث مقاتليه، لكن وُجِدَت هنالك مفاجأة أخيرة، فقد بدأت الانقلابات والانشقاقات في جيش الزبير، وبدأ قتل العمداء وسائر الرتب الكبيرة وحتى الصغيرة الموالية للزبير في الجيش. فكما وُجدت هنالك دعوة سرية للثورة في المدن، وُجد هنالك دعوة سرية للانقلابات والانشقاقات في الجيش، وهذه الدعوات كلها أنجزها رجال الأمير ريان، بناء على توصيات سمية.
بالمحصلة خسر الزبير نصف جيشه في يوم واحد! وكل هذا بسبب خطة "الزبير الجديد"؛ سمية التي استخدمت خطة تشبه كثيرا خطة الزبير قبل أعوام كثيرة حين حرر البقاء. أي شخص في البقاء،
لو أخبره أحدهم في ذلك اليوم، أن كل هذا من تخطيط امرأة، فبالتأكيد سيتهمه بالجنون، ولو أخبره بهوية تلك المرأة، وأنها ليست امرأة قوية شرسة – كحورية مثلا في شبابها – بل هي امرأة مسالمة جدا لا تفقه شيئا في المكائد والحروب، لزاد اتهامه له بالجنون أضعافا. حتى سمية نفسها، لو أخبرها أحدهم قبل أحد عشر عاما أنها ستفعل كل هذا، لوصفته بالجنون. ولكن، الحياة لطالما علمتنا أن بداخل
كل منا قوة هائلة وعزيمة حديدية وقدرات لا يعلم عنها، وأن القدر عندما يقسو، والظروف عندما تضع المرء على المحك وتدفعه إلى حافة الهاوية، فإنها تخرج كل هذا من جوف المرء. وهذا ما حدث، فقد حول القدر سمية، من امرأة مسالمة هادئة بسيطة، إلى وحش كاسر، وإلى داهية تشع ذكاء. وقد أغرقت بدهائها، الزبير البحار الماهر والمخضرم في بحر الذكاء والدهاء والقوة في يوم واحد!
***
بعد أن انتهى كل شيء، كان الملك ذو الندب نائما في غرفته في قصر الكثبة، وكان الوقت في بداية مغرب شمس ذلك اليوم. أتى حاجب القصر فطرق على باب غرفة الزبير فتجاهله الأخير، انتظر
مدة ثم عاود الطرق، فقال الزبير متذمرا بصوت عال: من هناك؟ ماذا تريد الآن؟!
فقال الحاجب: أنا حاجب القصر، يا مولاي... أريد أن أنبئك بأمر هام.
فوبخه الزبير بصوت عال ونبرة جافة: انصرف الآن، أريد أن أنام.
غاب حاجب القصر لمدة ثم عاد إلى الزبير ليوقظه، فطرق الباب.
"هل عدت من جديد؟!" صرخ الزبير، وأكمل موبخا بعنف: انصرف، ما الذي سيكون قد حدث؟!
مرت مدة، حتى عاد أحدهم، وطرق الباب، وقال: مولاي، هنالك أمر جلل.
كان هذا صوت يعرفه الزبير جيدا، رغم أنه نادرا ما يسمعه، هو صوت بيدق أهم النسور السوداء، وقائد فرقة الزنوج، الذي نادرا جدا ما تحدث.
فلما سمعه الزبير، أيقن بالفعل أن هنالك أمرا جللا قد حدث، وتفاجأ، وقال: بيدق!
نهض الزبير مسرعا من فراشه، وفتح الباب، فوجد حارسه الأمين بيدقا، ويقف خلفه حاجب القصر المُوَبّخ مطأطئ الرأس خَجِلا. وكان الشيب قد التهم كل رأس بيدق ولحيته وشاربه، والأمر مماثل لهلال والأقرط، فقد شاب الرجال.
فسأل الزبير حارسه الأمين: ماذا هنالك؟!
حتى بيدق المقرب جدا من الزبير، لدرجة أن الأخير ائتمنه على حياته، خشي إخبار الزبير بما حدث، فقال: مولاي، قيس والداهية وعدد من قادة الجيش والعيون ينتظرونك في القاعة الذهبية، ويريدون
إعلامك بأمر ما.
والقاعة الذهبية هذه، قاعة كبيرة خصصت من أيام ملوك الضياغم، لمناقشة الحروب والحالات الطارئة والتخطيط لها.
اندفع الزبيرمسرعا نحو القاعة الذهبية، ودخلها، فوجد جمعا ضم قيسا قائد الجيش، والداهية قائد فرقة العيون، وعددا من كبار قادة الجيش وفرقة العيون، والنسرين الأسودين الآخرين هلالا والأقرط،
وأمامهم طاولة عليها حجارة ملونة بألون مختلفة فوق خريطة البقاء، وكل لون منها رمز لجيش أو قوة معينة. وخلف الزبير وقف بيدق.
فلما رأى الزبير كل هذا، أيقن أن هنالك أمرا جللا بالفعل، وأن هذا الأمر الذي حدث يهدد ملكه.
فتح الزبير عينيه على أقصى اتساعهما، وتنفس بغضب وبسرعة، لكأن ألسنة النار انبعثت من منخريه، مما زرع الرعب في قلوب كل الحاضرين بمن فيهم قيس والداهية والنسور السوداء، رغم أن هؤلاء جميعا، حتى الموت والحروب بالنسبة لهم أمور تافهة هينة لا قيمة لها.
مرت مدة من الصمت في القاعة، حتى قال الزبير بهدوء وغضب وبنبرة جافة: ما الذي حدث؟!
سكت الجميع بمن فيهم قيس والداهية.
فصرخ الزبير هائجا: ما الذي حدث؟!
بنهاية المطاف، وبعد صمت طويل، لم يجد قيس بدا من إخبار الزبير بما حدث، لا سيما أنه صاحب أعلى رتبة من بين الحاضرين بعد الزبير، فقال: أمراء الثورة، خططوا لانقلاب وثورة جديدة، بمساعدة ملك القدماء، ودمروا معسكرنا الشرقي، وقتلوا معظم جنوده، وحدثت انتفاضات في مدن كثيرة سيطر الثوار عليها، كما حدثت انقلابات بالجيش بأعداد كبيرة، وقتل عدد هائل من كبار القادة المؤيدين لك،
وعدد كبير من كل من رفض هذا الانقلاب وهذه الثورة... بالمحصلة خسرنا نصف قواتنا...
صمت قيس لمدة ثم أكمل: أو أكثر.
وبسرعة قال الداهية: عيوني في كل مكان، بما في ذلك القدماء، لكن غَدْرَ ملكها، وإحكام خطتهم بالتفصيل أنجحها.
وازدرد الداهية ريقه خوفا وخشية.
لقد علم قيس والداهية أن بركانا سينفجر الآن لم يشهدا له مثيلا في حياتهما، هما أصلا أرسلا بيدقا لإيقاظ الزبير؛ لأنهما خشيا من ردة فعل الأخير.
الغريب أن الزبير في تلك اللحظات التزم الصمت، ونظر بهدوء إليهما، وتباطأت أنفاسه. عندها بدأ الخوف – وبسرعة – ينمو أكثر وأكثر فيهما؛ فلو صرخ فورا لانتهى الأمر، لكنهما علما عندئذ أنه سيحدث شيء لم يشهدا عُشْرَه في حياتهما كلها.
مضت مدة طويلة على هذا الحال. لم يرمش الزبير طيلة هذه المدة على الإطلاق! وشرع قيس والداهية يرتجفان، وتسارعت دقات قلبيهما وأنفاسهما، وأنشآ يزدردا ريقهما.
وفجأة اتسعت عيناه، وأحكم قبضتي كفيه، وبدأت شفتاه تتحركان حركات غريبة من شدة الغضب، ثم صرخ صرخة هي الأقوى في تاريخ قيس والداهية وسائر الحاضرين، وهو يلوح بيده وذراعه اليمنيين: غنم، بقر، بعير.
ثم هجم بسرعة على الطاولة، ورمى كل ما عليها على الأرض، ثم قلب الطاولة رأسا على عقب، وطفق يدوس عليها وعلى الحجارة التي كانت عليها، وحتى على خريطة البقاء – المقدسة لدى الزبير
وجميع أهلها – التي كانت عليها. فشرع يتحرك بالغرفة بجنون وعشوائية، وهو يلوح بذراعيه، ويصرخ: غنم... بقر... بعير... من معي همج بهائم... أضاعوا ملكي.
في هذه الأثناء كلها كان قيس والداهية قد تحركوا مبتعدين عن الزبير وهو يهيج كوحش في الغرفة، وباقي الحاضرين فعلوا الشيء نفسه، كلما اقترب الزبير منهم.
بعدها وقف الزبير ونظر إلى قيس والداهية، فخافا أشد خوف في حياة كل منهما؛ إذ لم يسبق للزبير توبيخ أي منهما طيلة حياتهما.
تراجع الاثنان للخلف خشيةً، وبينما نظر إلى قيس، قال الزبير: أنت قائد جيش؟!... أنت لا تصلح لقيادة قطيع من الجمال.
وفورا نظر إلى الداهية، وقال: وأنت... داهية الكثبة؟! أنت داهية الفشل والعار والهزيمة.
ثم صرخ بقوة: تبا لكم!... تبا لكم جميعا!
ثم صرخ والعروق نافرة في عنقه: انصرفوا جميعا فورا... لا أريد أن أرى أيا منكم.
بقي الجميع واقفين، ليس عصيانا لأمره، وإنما من هول الزلزال الذي رأوه ومن شدة الصدمة.
فصرخ بجنون: انصرفوا جميعا... لا يعودن أحد منكم إلا عند مشرق الشمس.
من الطبيعي، ما شعر به – في تلك اللحظات – قيس والداهية من الحزن والمهانة والإذلال. والسبب الرئيس لحزنهما لم يكن التوبيخ أمام كل هؤلاء من قبل الزبير، وإنما لأنه حبيبهما وأنهما بالفعل شعرا
بالذنب؛ لأنهما بالفعل شعرا أنهما أضاعا ملكه.
فرحلوا جميعا، الزبير في تلك اللحظات كادت عيناه تخرج من رأسه، وشعر بدوخة وأنه سيقع من شدة الغضب. جلس على كرسي المُلك المخصص له في الغرفة. تسارعت أنفاسه ودقات قلبه، واستمر
شعوره بالدوخة، وفجأة صرخ بصوت عال جدا: تبا!... تبا!...
ورغم أنهم جميعا رحلوا، فقد انتظروا خارج الغرفة، ولم يبتعدوا عنها. وقد سمعوا صراخ الزبير. واستمر الأخير بالصراخ لساعات، وهم يستمعون له بحزن وخوف. بعدها اختفى الصراخ. في تلك
اللحظات جلس الزبير وقد استجمع هدوءه وتركيزه، وأسند رأسه بيديه وهو ينظر إلى الأرض. وبعد مدة جعل يحدق في حائط الغرفة، وهو يسند رأسه إلى كرسي المُلك، ثم وضع يديه خلف رأسه إحداها فوق الأخرى، وهو مسترخ وما زال ينظر إلى الحائط.
ثم قال بصوت منخفض: لن يهزمني أحد... مستحيل... الزبير لا يهزم... يجب أن أجد خطة أهزمهم بها... يجب ذلك كما فعلت قبل سنوات كثيرة، ونجحت في تحقيق المعجزة بتحرير البقاء بأكملها، والآن سأفعل ما هو أسهل بكثير.
أحكم الزبير تركيزه، وبعد وقت طويل من التفكير والتركيز والتحديق في الحائط، قام من جِلسته تلك، وأعاد الطاولة مستندة على أرجلها، ووضع الخريطة على الطاولة، وأعاد الحجارة ذات الألوان
المختلفة على الخريطة وفق الترتيب الذي وُجِدَت عليه عندما دخل الغرفة، وطفق يتفكر بعمق، ووضع نصب عينيه أن من قواعد الانتصار النهائي في أي حرب هو عدم إنكار الهزائم التي يتعرض لها المرء، وعدم إنكار قوة أعدائه، وأنه يجب أن يكون واقعيا يدرك ما لديه من قوة وما لدى خصومه. لذا وضع نصب عينيه أنه خسر ما يقرب نصف قواته، في حين ينتظره جيش قوي، متعطش أفراده للانتقام والثورة وتملأ الحماسة أفئدتهم، في حين أن الموالين له قلوبهم ملأى بذل الهزيمة والفشل. طفق ينظر إلى الخريطة والحجارة بتركيز وأنشأ يتفكر بعمق، وظل هكذا وقد أخذ يحوم حول الطاولة. وكلما مر
الوقت جعل يحرك الحجارة لتجريب خطة معينة، وعندما يجد الخطة فاشلة ضعيفة لا يمكن لها أن تنجح، عاود ترتيب الحجارة ترتيبا آخر ليجرب خطة أخرى، وعندما يجدها فاشلة عاود تكرير الأمر
. وتخلل ذلك شعور باليأس والضعف، فيعاود الجلوس على كرسي العرش، إلا أنه سرعان ما يستجمع قواه، ويرفض الاستسلام والخسارة، ويعاود المحاولة بالحجارة والخطط من جديد، فالزبير ليس بالمرء الذي يمكن أن يستسلم ما دام حيا!
وبعد ساعات طويلة من كل هذا، وصل أخيرا إلى الحل وإلى الخطة المثالية التي يستحيل لها الفشل، ووضع كل خطواتها من أصغرها إلى أكبرها بالتفصيل والإتقان.
ثم عاد وجلس جلسته تلك على كرسيه ذلك، وهدأ واسترخى.
وجعل يقول بصوت منخفض: سأهزمهم... الزبير لا يهزم... لقد جنوا على أنفسهم... الزبير لا يهزم...
قال ذلك، وعيناه مفتوحتان على أقصى اتساعهما وهما تلمعان طموحاً ورغبةً بالانتصار والانتقام والاقتصاص من الخونة الذين خانوه – على حد ظنه – بعد أن جعلهم أمراء البقاء كلها، وبعد كل ما فعله
لهم.
وظل على حاله هذا من الهدوء والجلوس والتأمل مدة طويلة.
وحالما بدأت الشمس بالإشراق، عاد جميع الذين طردهم الزبير إلى القاعة الذهبية، والخوف والرعب يجتاحان قلوبهم؛ لأنهم توقعوا المزيد من الغضب والتوبيخ. وزاد خوفهم ورعبهم عندما رأوا الزبير
بهدوئه واسترخائه وهو يجلس على كرسي المُلك.
وقفوا جميعا كالأولاد الذين ينتظرون توبيخ والدهم، أو كالتلاميذ الأطفال الذين ينتظرون توبيخ أستاذهم، وأخذوا ينظرون في الأرض من شدة الخجل والعار والحزن والذل. إلا أن المفاجأة حدثت كما
عود الزبير الجميع – عبر تاريخه – بالمفاجأت التي أذهلت حتى أقرب المقربين إليه.
وقف الزبير بهدوء، وبسرعة وقفت الدماء في عروقهم.
"آسف" قال الزبير بنبرة حزينة هادئة.
فتحوا عيونهم على أقصى اتساعها من هول المفاجأة، ونظروا إليه بتعجب حتى بيدق.
"أنا أعتذر لكم جميعا" قال الزبير، وأكمل: لم يجب أن أتصرف هكذا... أنتم أخطأتم لأنكم بشر... حتى أنا أخطأت لأنني اطمأننت، في حين وجب علي أن أظل حذرا تجاه أمراء الثورة لآخر لحظة،
وألا آمن شرورهم.
ثم نظر إلى قيس والداهية اللذين وقفا متجاورين، وأكمل خطابه: أنتم من صنعني... أنتم من نفذ كل خططي منذ البداية... لولاكم أنا لا أسوى شيئا، لولاكم ما كسبت شيئا.
ثم اقترب من قيس، ووضع جبينه على جبين قيس، وقال بالنبرة الحزينة الهادئة نفسها: أنا آسف، يا قيس. فداك كل ملكي، آسف.
فحضنه قيس وطفق يبكي، فبادله الزبير الأحضان، وقال: لا تبكِ، يا قيس. نحن سننتصر... نحن سننتصر وسنذلهم.
ثم توجه الزبير إلى الداهية وأمسكه من كتفيه، وقال: أعتذر، يا داهية الكثبة، بل داهية البقاء... بل داهية الكون... أنت أذكى رجل قابلته في حياتي كلها.
فقال الداهية فورا: نحن فداك، أيها الزبير. ما يهمنا هو حياتك... تبا للبقاء، تبا للكثبة... تبا لنا جميعا! المهم هو أنت... أنت هو البقاء، أنت هو الكثبة، أنت كل شيء... حتى لو فقدنا حياتنا في سبيلك
فذلك رخيص... المهم أن تظل أنت على قيد الحياة.
"لا، لن تفقدوا حياتكم... لن تفقدوا أي شيء" قال الزبير بهدوء، وأكمل: نحن سننتصر وسندوس عليهم بنعالنا، وسنعلمهم أن بدو الكثبة هم ملوك العالم.
بعدها اعتذر الزبير لبقية القادة الحاضرين وللنسور السوداء.
لقد اعتذر الزبير لجميعهم، وصالحهم؛ لأنه أحبهم من كل قلبه، ولأنه بالفعل ندم على توبيخه لهم، ولأنه أيضا يعلم جيدا أنه لن ينتصر ولن تقوم له قائمة دونهم.
ثم قال: الآن حان وقت العمل.
وفورا طلب منهم الاقتراب من الطاولة حيث الخريطة والحجارة الملونة، وشرع يشرح لهم الخطة بتؤدة ودقة، وهو يحرك الحجارة من مكان إلى آخر.
وقد انبهروا بذكائه وحكمته وكيف سيطر على نفسه في هذه الظروف التي ينهار خلالها أي رجل مهما بلغت عظمته، وقد بلغ كل هذا أوجه حالما انتهى من شرح الخطة. حتى إن الداهية –
على عظم دهائه – فكر: "أنا لست نقطة في محيط ذكائه!".
"يحيا الزبير!" هتف قيس الذي كانت لحيته الكثة قد ابتلت من كثرة الدموع. وأنشؤوا جميعا يهتفون: يحيا الزبير!
لكأنهم في هذا أطفال متحمسون، رغم أن أصغر من في الجلسة كان في الأربيعنات من عمره.
"الآن نبدأ التحرك نحو الفتناء، فورا" أمر الزبير.
والفتناء هذه مدينة محصنة بسور عظيم غليظ، في أقصى الغرب الشمالي للبقاء على حدودها مع الهيجاء، وقد استندت خطة الزبير على الذهاب إليها وسحب جل قواته إليها.
توجه الزبير ليخرج من القاعة، وعندما وصل بابها توقف، ثم عاد ونظر إلى قيس والداهية، وسأل: أيهم صاحب الخطة؟
وكان قد شك بشخص معين.
فقال الداهية: الإشاعات بأنها سمية.
تنهد الزبير، وأغمض عينيه شجنا وحزنا وألما؛ لأن من خطط لكل هذا هي حبيبته وآسرة قلبه، وقد صدق توقعه؛ فقد توقع أنها هي من سعى لكل هذا، إلا أنه تفاجأ من مدى قوتها وذكائها
وقدرتها على إحكام كل هذه الخطة الناجحة.
غادر الزبير مكسور القلب، بعد علمه بهوية المخطط للثورة عليه.
***
بدأ الملك ذو الندب بتنفيذ خطته، وبدأت قواته تنسحب من شتى أرجاء البقاء، نحو مدينة الفتناء في أقصى الغرب. وانسحب الزبير وزوجه وابناها وابناهما مع المنسحبين نحو الفتناء، وأخلت
قوات الزبير المعتزة. وحالما علم الأمير ريان بكل ذلك، بدأت قواته تزحف لاحقة بقوات الزبير، ودخل الأمير ريان وأمراء الثورة – عدا سليما – وسلطان القدماء زاهي وقواته المعتزة.
أما سليم، ففي يوم الثورة أرسل الأمير ريان – وفق تعليمات سمية وخطتها – خمسين مقاتلا تسللوا إلى المعتزة ثم إلى القصر حيث يسكن سليم وأهله، وقتلوا كل الحراس الذين يحرسون
القصر ويفرضون الإقامة الجبرية على سليم وأهله. وهرّبوا سليما وأهله إلى خارج المعتزة إلى مكان آمن في قرية صغيرة في ضواحي المعتزة.
ولما دخل الأمير ريان المعتزة توجه إلى قصر الكثبة مع أمراء الثورة وملك القدماء، وسرعان ما التحق بهم سليم.
وسرعان ما بويع الأمير ريان ملكا على البقاء، من قبل مناصريه، ومن قبل أمراء الثورة. وأعاد تسمية قصر الكثبة بقصر الضيغم، وأعاد تسمية قاعاته – التي غير الزبير أسماءها –
بأسمائها القديمة. كانت تلك أمور بسيطة، إلا أنها رمزت لأشياء عظيمة جدا.
وفي المساء، اجتمع أمراء الثورة الأربعة وسلطان القدماء بإحدى قاعات القصر. وقد بدت الفرحة عارمة على محياهم جميعا، إلا سليما الذي ظهر الهدوء والقلق عليه.
وبدؤوا يتبادلون التهنئة، والإثناء، وتكررت كلمة "مبارك" مرارا وتكرارا.
ثم قال سلطان القدماء، مخاطبا الملك ريانا: لقد أوفيت بوعدي لك، والآن لا أستطيع الاستمرار. لا أستطيع المخاطرة بمصالح شعبي، وبحياة جنودي، من أجل معركة هي ليست بمعركتهم...
الأمر الآن بين يديك وحدك... بالتوفيق، فأنت على حق وهو على باطل.
أومأ الملك ريان برأسه للسلطان زاهي مبديا تفهمه.
ثم قال السلطان زاهي: ائذنوا لي الآن.
وغادر القاعة؛ فقد أراد إعطاء مساحة خاصة لأمراء الثورة، يتحادثون فيها براحة مطلقة.
وطفقوا من جديد يتبادلون التهنئة والفرحة والضحكات والبسمات لا تغادر وجوههم، عدا سليما.
"أخيرا سننتقم" قال الملك ريان.
"نعم، أخيرا سنعيش بسكينة وطمأنينة واستقرار من جديد" قال المغيرة.
لقد فرحوا جميعا، فقد اقترب كل واحد منهم من استعادة حقوقه ومن الانتقام شر انتقام من الزبير.
أقلهم فرحا هو سليم، الذي وقع بين نارين، نار استعادة حريته هو وأهله، والانتقام من الزبير، ونار حزنه على أنه سيضطر لمواجهة الرجل الذي لطالما اعتبره أباه، حتى في تلك اللحظات.
إلا أنه داس على قلبه، وقرر السير نحو مصلحته ومصلحة أهله، ورفع الظلم عنه وعنهم وعن سائر المظلومين من قبل الزبير.
فقالت سمية فورا: ولكن أريد منكم أن تعدوني أنه مهما حدث ومهما طال الأمر، فإن الزبير يجب أن يقتل.
فنظرت إليهم واحدا واحدا بجدية ونظرات حادة، لم يتوقعها أحد من امرأة، لا سيما من سمية.
"هيا عدوني" حفزتهم بجدية وحزم.
فمدت يدها اليمنى للأمام.
اقترب الثلاثة منها، ووضعوا واحدا واحدا أيديهم اليمنى الواحدة فوق الأخرى.
"الزبير يجب أن يقتل" قالت سمية، فنظرت إلى الملك ريان.
فقال بعينين حادتين غاضبتين: الزبير يجب أن يقتل.
فنظرت سمية إلى المغيرة، فقال بعينين تماثلان عيني ريان تماما: الزبير يجب أن يقتل.
فنظرت إلى سليم، الذي التزم الصمت لمدة ونظر في الأرض، فنظرت إليه سمية بحدة وبغضب، فلما رأى عينيها تنهد، وقال: الزبير يجب.... يجب أن يقتل.
وأغمض عينيه ألما وحزنا على ما قاله.
وفي تلك الليلة جلس ريان في غرفة أبيه وأمه ثم في غرفته في قصر الضيغم، وأرقه السهر، وهو يستعيد ذكرياته في القصر ومع أبيه وأمه وأخته، وخالجه شعور من الحزن والشجن،
وسيطرت عليه رغبة جامحة في قهر الزبير حتى يمحو هذا الحزن والألم إلى الأبد.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي