45
عندما بدأت خطة الزبير، تحرك أولا بسرعة بصحبة زوجته حورية وابنيها زبيدة وحسن وابناهما روان وعامر، إلى الفتناء، وسط حراسة مشددة جدا من قبل فرقة الزنوج، وبالأخص النسور السوداء.
وصل الزبير الفتناء، في أقصى الغرب الشمالي من البقاء، على حدودها مع الهيجاء، ولم يفصل بين المدينة والهيجاء، سوى بحر صغير، يعرف ببحر الدم. وقد سمي بذلك لكثرة الدماء التي سالت فيه
إثر الحروب الطاحنة بين الهيجاء والبقاء للسيطرة على الفتناء لشدة جمالها وكثرة مواردها ومظاهر الرفاهية والجمال في بنيانها وطبيعتها، ومهارة أهلها في شتى المهن، ومدى غناهم. وللسبب نفسه،
سميت الفتناء بهذا الاسم، لأنها سببت الفتنة بين أهل المملكتين. وقد بنيت من الحجارة السوداء القاتمة في منظر جميل جدا، وأحاط بها سور من جميع الجهات بما في ذلك جهة بحر الدم الذي فصلها
عن الهيجاء، حتى لا تستطيع سفن الهيجاء دخول المدينة من ساحلها، وكذلك أطل جزء من الفتناء على البحر الرمادي شمالا، وحتى ذلك الجزء أحيط بالسور. لقد حرص المهندس الذي صمم المدينة على جعلها منيعة حصينة؛ لكثرة الحروب التي خيضت فيها، فأحاط بها سور ضخم هائل الارتفاع وغليظ السمك، أما القلعة الكبرى فيها فقد كانت منيعة وأحيطت بسور يتميز بالصفات نفسها، وكانت نوافذ
القلعة واسعة من الداخل ضيقة من الخارج، حتى يتمكن المقاتلون داخل القلعة من إطلاق السهام بأريحية، في حين يجد المقاتلون خارجها صعوبة بالغة في إيصال أسهمهم داخل القلعة. وقد امتازت الفتناء بلونها الأسود الذي ميزها، وأما القلعة فيها، فقد بنيت من الحجارة السوداء الباهظة الثمن، وغطى أرضيتها وسقفها وحيطانها الرخام رمادي اللون باهظ الثمن.
بعدها بدأت القوات الموالية للزبير بالتوجه نحو الفتناء، وأكبر قوة فيها كانت بقيادة قيس والداهية. وبأوامر الزبير أحرقوا في طريقهم كل زرع وكل شيء قابل للأكل. وكلما مروا على مدينة أو قرية،
عرضوا على التجار ثلاثة أضعاف سعر البضائع لشرائها كلها، فوجدوا موافقة من الغالبية العظمى من التجار، وبذلك أخلوا كل تلك القرى والمدن من البضائع، ونقلوا كل البضائع والمؤن والأغذية
معهم إلى الفتناء. وقد قرر الزبير إنفاق كل أموال خزينة الدولة على هذه الحرب حتى آخر قرش؛ لأنه لم يعد هنالك شيء يخسره، وليس أمامه سوى البحث عن الانتصار بأية طريقة. الهدف من كل
هذه الإجراءات، تزويد القوات المتجمعة بالفتناء بالطعام والشراب والبضائع لأطول فترة ممكنة، لأن خطة الزبير بنيت على أنه سيكون هنالك حصار طويل جدا لقوات الفتناء من قبل قوات ريان.
كما أنهم تعمدوا إحراق الزرع وإخلاء المدن من البضائع والأغذية، حتى تجد قوات ريان صعوبة بالغة في إيصال البضائع والطعام والشراب إلى معسكرها حول الفتناء – أثناء حصارها المتوقع –
مما سيصعب مهمتهم. كما أتلفت قوات الزبير كل المجانيق في معسكرات الجيش، فهم لا يريدون أخذها معهم لأنها لن تفيدهم كونهم المحاصرين، كما أنه ستؤخر وصولهم للفتناء، وزد على ذلك
أنهم لم يريدوا أن تجدها قوات ريان، فتصحبها معها وتستخدمها أثناء حصار الزبير .
وقد أمر الزبير متعمدا، بأن تتوجه ثلث قواته التي تبقت بعد الثورة الجديدة، إلى الكثبة، وأن يبقوا هناك. وأمر أن يتوجهوا إلى هناك في جماعات قليل عدد أفرادها قلة شديدة، حتى لا يعلم أحد بتوجه
ثلث جيشه إلى هناك. وأمر متعمدا ابن أخيه سهيلا شيخ قبائل الكثبة، أن يبقى بدو الكثبة المقاتلين فيها، وكذلك أن يبقى ثلث الجيش الذاهب هناك فيها، إلا إذا أتاهم أمر بالتحرك.
***
وهكذا تجمع الزبير وجل التابعين له في الفتناء، إذ أقام الزبير وآله وأكثر المقربين إليه وكبار القادة في قلعة الفتناء الكبرى، بينما انتشرت قواته في شتى أرجاء المدينة الحصينة المنيعة. وطفقوا
ينتظرون قدوم قوات ريان.
وزحف الثوار لاحقين بالزبير وقواته حتى سيطروا على كل المناطق في طريقهم من المعتزة إلى الفتناء، وعسكروا هناك وأحكموا حصار الزبير وقواته من كل الجهات، عدا الجهات التي أطلت من خلالها المدينة على البحر الرمادي وبحر الدم. وبلغت قوات ريان عدة أضعاف قوات الزبير. ووجدت قواته في طريقها إلى الفتناء كل المناطق الزراعية محروقة، فلم يتمكنوا من الاستفادة منها، كما وجدوا المدن والقرى في الطريق مفرغة من البضائع والأطعمة والأشربة، مما جعل أمراء الثورة يوقنون بأن الزبير تعمد فعل كل هذا.
قرر ريان التوجه مباشرة إلى الفتناء؛ لأن الأولوية هي القضاء على الزبير، لذلك لم يكترث بفرض سيطرته على مناطق البقاء المختلفة، فظلت كثير من المناطق دون سيطرة الأمير، ومنها صحارى
الكثبة الموالية للزبير، خاصة وأن ريانا أيقن أن الأمور ستنتهي بسرعة، وأنه سيقضي على الزبير بسرعة كبيرة، وبعدها سيتفرغ لفرض سيطرته على البقاء، ومناطقه المختلفة ومنها الكثبة.
وبدأ الحصار، وبدأت الأيام تمر وتمر، ولم تتمكن قوات ريان من إجبار الزبير على الخروج لمواجهتها. وبعد مرور الشهر الأول، طفق التوتر يجتاح ريانا ومعسكره وكل من معه، لا سيما أمراء الثورة، وكلما مر الوقت، ازداد التوتر والقلق وحتى الخوف لديهم.
ثم مر شهران آخران، جعلا سمية تتساءل: كيف استطاع الصمود طيلة هذه الفترة؟!
فرد ريان: لا بد وأن لديه مخزونا هائلا من البضائع والطعام والشراب... غالبا، جمعها من المدن والقرى في الطريق بين المعتزة والفتناء.
وبالفعل صدق تحليل ريان، فالبضائع والطعام والشراب الذين جلبهم الزبير من المدن والقرى في الطريق كانت كثيرة جدا، وكفته جيدا، مما جعله قادرا على تحمل الحصار ورفض الخروج.
ونظرا لإحراق الزبير الأراضي الزراعية، وتفريغه الطريق من المعتزة إلى الفتناء من البضائع، غدت مهمة معسكر ريان صعبة، إذ خصص جزءا كبيرا من قواته وفرّغها فقط لجلب البضائع من المعتزة البعيدة إلى معسكره حول الفتناء باستمرار، مما أجهد هؤلاء وقلل أعداد المحاصرين.
أيقن ريان أن الزبير – لا محالة – سيخرج في نهاية المطاف. إلا أن ذلك لم يحدث، فقد مرت ستة شهور منذ بدء الحصار، ومع ذلك، لم يخرج الأخير.
وبعد مرور الأشهر الستة حدث أمر غريب ومفاجئ لمعسكر ريان، إذ أرسل إليهم الزبير رسولا لم يتوقعوه، وأي رسول كان!
توجه داهية الكثبة إلى معسكر ريان، ولما علم الأخير بمقدمه تفاجأ كثيرا، وقد طلب الداهية مقابلة ريان، وباقي أمراء الثورة، فوافق ريان على ذلك، واجتمع هو وباقي أمراء الثورة، في خيمة من خيام
المعسكر، ثم دخل عليهم الداهية.
لقد أصر الزبير على إرسال الداهية المقرب كثيرا منه، إلى معسكر ريان؛ وذلك ليظهر حسن نواياه لهم، وكذلك لأن الداهية أفضل مفاوض عرفه الزبير في حياته. كما أن الزبير أيقن باستحالة قتل ريان
للداهية أو إيذائه حتى؛ بعد ما فعله أسود الوجه الحنشي، وما حدث له بعد قتله لرسول أرسل إليه.
لما دخل الداهية، قال بهدوء وبرود: السلام عليكم.
وقد ظهرت عليه علامات اليأس والحزن، بل والهزيمة حتى.
"كيف حالكم؟" أضاف الداهية.
فرفضوا الرد عليه.
ثم نظر إلى سليم، وقال: كيف حالك، يا سليم؟
أراد سليم الرد، غير أنه رفض؛ لأن ذلك سيغضب باقي أمراء الثورة.
فقال الداهية بهدوء، ناظرا إلى ريان: ليست هذه وسيلة لاستقبال الضيوف.
فبرزت العروق في عنق ريان، واحمر وجهه غضبا، وهاج صارخا: أنت لست بضيف... أنتم قتلة خونة.
لم يستئ الداهية، وحافظ على هدوء أعصابه، ورد بثقة: ربما نحن كما وصفتنا... لكن بالنهاية من غيرنا لو أتيحت له الفرصة ما استغلها؟! ولاحظوا الآن – جميعكم – أنكم انتصرتم، والله قد أعانكم علينا... ربما هذا عقابنا لكل ما فعلناه.
"الآن، ادخل في المسألة مباشرة" صرخ ريان، وأكمل بالنبرة نفسها: لم أرسلك الخائن؟!
تنهد الداهية، ثم قال بحزن وأسى: الزبير يريد الاستسلام، وتسليم نفسه لكم، ولكن بشروط.
"لا نقبل ذلك" قالت سمية، وأكملت بغضب: يجب أن يقتل.
تفاجأ الداهية – الذي لا تفاجئه حتى أكبر المصائب - مما رآه من سمية، فهو مطلقا لم يتوقع مثل هذا الكلام والتصرف، منها بالذات.
"وما هي الشروط؟" قال ريان بحزم وغضب.
فصرخت سمية وقد برزت عيناها في محجريهما -غير آبهة بكون ريان هو ملك معسكرها وأنه الآمر والناهي فيه -: قلنا واتفقنا: يجب أن يقتل.
فنظر إليها ريان بحزم وقال بهدوء: لا خيار أمامنا، نحن نحاصره منذ ستة أشهر، ولا أدري ما مصادر البضائع والمؤن لديه. ويبدو أنه لن يخرج أبدا... ربما هذا هو الحل، أن يستسلم لنا.
فقال المغيرة مخاطبا سمية: ستحقن دماء كثيرة، إن وافقنا... ونحن حتى لو لم نقتله، فسوف نفرض عقوباتنا عليه، وأقلها السجن مدة الحياة.
"لا أقبل" قالت سمية وعيناها قد برزتا أقصى بروز، وأكملت: أريد مقتله.
تفاجأ الداهية؛ فقد توقع أن يكون الرفض والنكاية إما من ريان الفاقد لملكه، أو من المغيرة الفاقد لزوجته وأهله، خاصة أن كليهما مقاتل شرس ذاقت سيفه أجساد عشرات المقاتلين. لم يتوقع الرفض والنكاية من امرأة هادئة ناعمة لا تستطيع إيذاء الحيوانات حتى، وليس لها خبرة في الحروب والمكائد.
تجاهل ريان كلام سمية، وخاطب الداهية: ما الشروط؟
فقال الداهية فورا: لن نتحدث هنا... الزبير يريد أن يذهب أحدكم إليه؛ ليتأكد من حسن نيتكم وأنكم لن تغدروا به، إذا تمكنتم منه بعد أن يستسلم لكم لاحقا.
فصرخت سمية بغضب: مستحيل.
وقال ريان فورا: أخبرنا هنا الآن بشروطك.
فرد الداهية فورا: لا... الزبير يريد أن يتأكد أنكم لن تغدروا به... هذا أول شروطه وأهمها. وأنت تعلم جيدا أنه لا يمكن أن يؤذي رسولك أو رسول سواك، بعد ما حدث لأسود الوجه الحنشي.
"هذا صحيح" قال المغيرة.
فقالت سمية: مستحيل، لن أسمح بذلك.
فقال ريان: اهدئي قليلا... لن يحدث شيء للرسول.
فردت: لن يحدث ذلك إلا على جثتي.
فقال ريان: سمية، اهدئي... نحن المنتصرون عاجلا أم آجلا... المسألة مسألة وقت فقط.
فلما رأى الداهية اختلافهم وتشاكسهم فيما بينهم، قال: سأترككم الآن، وردوا لي بقراركم حين تجمعون عليه.
ثم غادر الخيمة، وظل فيها أمراء الثورة الأربعة، في حين لم ينبس سليم ببنت شفة حتى تلك اللحظة.
حالما غادر الداهية، قالت سمية بغضب: هذه مكيدة من مكائده، سيقتل الرسول لا محالة.
"مستحيل" قال المغيرة فورا، وأضاف: بعد قصة أسود الوجه الحنشي، لم يجرؤ شخص في البقاء - ولا حتى الهيجاء وياقوتة - على قتل أي رسول، ذلك لم يحدث لما يزيد على ألف عام.
وأسود الوجه هذا كان ملكا لإحدى الممالك في البقاء، قبل ما يقرب الألف عام من حرب ريان والزبير. وقد أرسل له ملك مملكة معادية رسولا، فقتله، فحمل العار، وظل العار يحرق أهله، حتى
قتله أحد إخوته ليغسل العار.
فردت سمية: الزبير نذل، الزبير استثناء. لطالما كان كذلك.
فرد المغيرة: قتل الرسل لم يحدث منذ ألف سنة، والزبير لن يفعل ذلك.
فقال ريان: لا خيار أمامنا. هذا سيضمن لنا النصر وسيحقن الدماء... وسنسجنه مدى الحياة.
فردت سمية بحزم: لا، أنا أرفض. سأسحب مالي من الحرب.
فأطرقوا جميعا يتفكرون، ومرت مدة حتى قال ريان: حسنٌ، سنسجنه، وبعد ثلاث سنوات سنغتاله ونغدر به، سندس من يفعل ذلك، وندعي أن ذلك خارج عن سيطرتنا... أنا مستعد لفعل ذلك إن
كان يرضيك... وفكري جيدا، بهذا سنضرب عصفورين بحجر واحد؛ سنقلته وفي الآن نفسه سنحقن الدماء.
عندها طفقت سمية تهدأ، وحدثت المفاجأة بأن تنهدت ثم قالت: ولكن من الرسول؟!
فنظر ريان والمغيرة إلى سليم الوحيد الذي لم يتكلم منذ مقدم الداهية.
فقالت سمية بغضب: مستحيل... تريدان استغلاله؛ لأنه شاب ضعيف.
فقال المغيرة: اذهبي أنتِ إذاً.
فرد ريان: لا... الزبير يعشقها بجنون، وسيؤذيها لا محالة... أنا أرفض ذهابها.
فقالت سمية: أنا موافقة، سأذهب أنا، لا سليم.
فقال ريان: كلا... لن أرضى بأن يقال: ضحى الرجال بامرأة.
فقالت: أنا سأذهب، وسأتحمل كامل المسؤولية.
فرد ريان: لا، هذا أمر نهائي مني كوني الملك.
ثم قال ريان: نحن الثلاثة الأهم، أنا أمثل الشرعية، والمغيرة القوة، وأنت المال... والأهم من هذا كله أن سليما هو ابن الزبير، ويستحيل له أن يؤذيه... في أقصى الحالات سيحتجزه أو سيسجنه.
نظر سليم بخوف عظيم إلى ريان، وهو يستمع إلى كلامهم.
فقالت سمية: لا.
فقال المغيرة: هذا هو السبيل الوحيد.
ثم نظر إلى سليم، وأضاف: وهذه هي الفرصة الأخيرة لك للقائه قبل أن نسجنه مدى الحياة.
فقال ريان مخاطبا سليما: سأعينك وزيرا في الدولة الجديدة... بل لك كل ما تطلب.
"ولكن..." قال سليم الضعيف بصوت خافت يريد معارضة كلامهم.
فقال المغيرة - الذي أراد إقناعه بأية وسيلة-: هل كان أبوك الهيثم الرجل المغوار، القائد العظيم سيقبل مثل هذا الرفض وهذا الخوف؟!
فأغمض سليم عينيه؛ لأن المغيرة تمكن منه، وقال بصوت هادئ راضخ خافت: أنا موافق.
فصرخت سمية بجنون: لا... لا... لا... فلنلغِ كل شيء.
فقال ريان: اهدئي، يا سمية. كلامك غير معقول.
وأضاف المغيرة مؤيدا: اهدئي، يا سمية. وها هو موافق. اهدئي.
عندها بدأت بالبكاء الشديد، وطفقت تتحرك في الخيمة حركات قوية جنونية، وهي تبكي بحرقة، وتصرخ وصوتها يتهدج بعبارات مثل: "لن أسمح بذلك" و "على جثتي" و "لن أسمح بالتضحية بسليم".
لم يعرها ريان والمغيرة اهتماما؛ فهما أصرا على تنفيذ قرارهما.
وفجأة حدثت المفاجأة حين قال سليم بصرامة لم يسبق أن تحدث بها: سأذهب، يا سمية، سواء أوافقت أم لا.
فاحتضنته سمية، وهي تبكي بحرقة، وتقول بصوت يتهدج: لا... يا حبيبي... لا... ما أجبننا!... هذه مملكة الجبناء... لا مملكة الشجعان كما يُزعم عنها... تبا لكم... تبا لنا جميعا... تبا لي...
وفي النهاية استدعى ريان الداهية، وأخبره بأن الرسول هو سليم وعدد من قادة قبائل البقاء.
أومأ الداهية برأسه، واصطحب معه سليما وقادة القبائل وعاد إلى الزبير.
***
توجه الداهية صحبة سليم ووجهاء قبائل كثيرة من قبائل البقاء – الذين أرسلهم – ريان، حتى دخلوا على الزبير في كبرى قاعات قلعته الحصينة، بحضور قيس والنسور السوداء، وعدد من كبار
دولة الزبير، وحراسه وجنوده.
لقد تعمد ريان إرسال عدد من وجهاء القبائل مع سليم، حتى يصعّب على الزبير فعل المفاجأة وقتل سليم؛ فإن كان سيفعل ما فعله أسود الوجه الحنشي مرة مع سليم، فبالتأكيد سيحسب ألف حساب
للفضيحة لو فعلها مع كل هؤلاء، لا سيما مع ما يمثلونه من قبائل كثيرة وقوية ومتنوعة من سائر أنحاء البقاء.
تقدم سليم الضعيف مهزوز الشخصية الوفد بمسافة كبيرة، وهو خجل ينظر في الأرض. ثم جعل يقلب نظره بين الزبير وحوله، وبين النظر في الأرض. والتزم الصمت.
عم الصمت في القاعة لمدة طويلة، وساد فيها التوتر، ليس فحسب في من يمثلون معسكر ريان، بل حتى في من يمثلون معسكر الزبير، فحتى قيس والداهية شعرا بتوتر شديد وترقب منهك.
ثم قال الزبير – وهو يجلس على كرسي العرش -: أهلا بابني وحبيبي... كم اشتقت إليك!... لقد كنت بانتظارك.
تنهد الزبير وحدق بحدة في سليم، ثم أكمل: لقد أيقنت أنهم سيختارونك – أنت – بالذات. فأنت أقلهم أهمية، فهم يمثلون الشرعية والمال والقوة... أخبروك أنه يستحيل أن يُقتل رسول بعدما حدث
لأسود الوجه الحنشي... "الزبير لن يقتل ابنه" هذا ما أخبروك به... وهذا صحيح؛ الزبير لا يمكن أن يقتل ابنه مهما حدث.
فتح الزبير عينيه على أقصى اتساع، ووقف بغضب، وحدق بقوة وحدة أكبر في الشاب، الذي ارتعب كثيرا حتى ارتعدت فرائصه، وبدأ يرتجف، وطفقت دقات قلبه وأنفاسه تتسارع.
شرع الزبير يتحرك في الساحة حركة سريعة وعنيفة مقتربا من سليم حينا، ومبتعدا عنه حينا آخر.
وبينما هو على حاله هذا، أكمل: ابنه الذي كان نكرة لا قيمة له، لا أحد يعرفه، فارا كالأرانب الجبانة في قرية نائية خوفا على نفسه من الرجال... ابنه الذي كان يعيش أدقع درجات الفقر، وأكبر
درجات الخوف، وأقل درجات الحرية... ثم أتى أبوه الذي بعثه الله له ليعوضه عن أبيه الأول، انتشله من كل هذا، وأخذه من أدنى القاع إلى أقصى القمة... أعاد له أمجاد أبيه الأول، وبنى له
مجدا في البقاء كلها، بل في الكون كله... وجعله غنيا، هو وأهله ، وأعطاهم قصرا لهم يرتعون ويمرحون ويفرحون فيه... ومرت الأيام، وبدل أن يقف الابن مع أبيه – الذي فعل له كل هذا – وقف ضده ومع أعدائه وخانه، داس على النعم التي أعطاها إياه وكفر بها جميعا، وأنكرها وطعن أباه في ظهره... وماذا بدر من الأب؟! لم يأخذ منه المال ولا القصر ولا آذاه ولا عذبه لا هو ولا أهله،
فقط احتجزه في قصر يتمنى كل الشعب أن يعيشوا في قصر يمتلك عُشْر صفاته يوما واحدا فقط... وماذا حدث بعد ذلك؟! عاد الابن الخائن ليخون أباه، وهذه المرة يريد أن يساعد أعداءه في قتل أبيه... هذا أمر غير مستغرب من شبه رجل تربى على يد النساء.
أثناء هذا الكلام الذي قاله الزبير بقسوة بالغة وغضب عارم وإهانة جارحة، وحركته العنيفة القوية ذاهبا وراجعا، اجتاح الخوف قلب الشاب، وشرع يبكي بحرقة.
ثم قابل الزبير سليما، واقترب منه، وهو يرتجف أشد ارتجاف، ودقات قلبه وأنفاسه سريعة سرعة غير معقولة. أجهش سليم بالبكاء؛ خوفا من الزبير ومما قد يحدث وحزنا على أبيه وحبا له.
"لا تبكِ، يا بني. لا تبكِ" قال الزبير وهو يمسح دموع سليم ببرود.
ثم أكمل: ما أخبروك به صحيح... الزبير لن يقتل ابنه... وأنا لن أقتل ابني.
ثم استل الزبير خنجره الذهبي بسرعة، وطعن سليما بقوة وعنف حتى اخترق الخنجر أحشاء الشاب بعمق، وقال الزبير: لكنك لست ابني.
ثم طعنه الثانية بصفات الأولى نفسها، وهو يقول: لست ابني، أيها الخائن.
ثم طعنه الثالثة بصفات سابقتيها نفسها، وهو يقول: أبناء الزبير الحقيقيون لا يخونونه.
تفاجأ سليم أقصى مفاجأة، ولم يصدق ما يحدث. وجزن حزنا عظيما؛ لأن الزبير – أباه – قتله بيديه.
حتى قيس والداهية ساءهما ما حدث – رغم علمهما المسبق بأنه سيقع- وذلك لأنه أمر سيئ جدا أن يقتل الأب ابنه، لا سيما مع علمهما بمحبة الزبير العارمة لسليم. وأغمضا عيونهما حزنا.
أما وفد ريان، فهالهم ما رأوه من قتل رسول، الأمر الذي لم يحدث منذ ما يزيد على ألف عام في البقاء كلها وما جاورها.
فطفقوا يصرخون وأفواههم وعيونهم مفتوحة على أقصى اتساع.
"قذر"، "وغد" ،"كيف تقتل رسولا؟!" ،"أيها الخائن الحقير"، أمثلة على العبارات التي صدرت منهم.
في هذه الأثناء، كان سليم قد سقط قتيلا على الأرض، ثم نظر الزبير إلى جثته باحتقار، ثم قال: خذوا هؤلاء الكلاب، واصلبوهم جميعا على باب الفتناء. وخذوا رأس هذا الكلب الخائن واغرزوا رمحا فيه، وضعوه على باب الفتناء.
"تبا لك" ،"ستدفع الثمن غاليا" ،"لن يتركك الملك ريان بعدما فعلته"، هي بعض العبارات التي صرخ بها أعضاء الوفد دون فائدة، فقيس والداهية نسيا حزنهما، وانضما إلى سائر العدد الكبير من
جنود الزبير، وبدؤوا تنفيذ تعليماته بحذافيرها.
الزبير علم جيدا بالعار الذي سيلحقه مدى عمره، بعد قتله للرسول، لا سيما وأنه ابنه. فبعدما فعله أسود الوجه الحنشي، اعتبر قتل الرسول أقبح فعل يمكن لأي امرئ فعله. غير أن الزبير الذي ضحى حتى بأخيه من أجل مصلحته، وفي تلك اللحظات التي وضع فيها بين خيارين إما أن يخسر كل شيء – حتى حياته – أو أن ينجو من هذه الحرب، قرر فعل أي شيء لكي ينتصر..
أما الداهية، فقد تعمد عند ذهابه إلى ريان ومن معه، التصرف على أنه مهزوم، وإخفاء ابتسامته الصفراء، والتظاهر بأنه يسعى للصلح، حتى يقنعهم بأن يرسلوا سليما معه، وهذا أقصى درجات الدهاء،
وهو ما امتاز به.
***
فقبل شهر ونصف من قتله لسليم، أرسل الزبير – عبر الحمام الزاجل – رسالة إلى ملك ياقوتة حازم.
ولبعد المسافة بين الزبير والملك حازم، تنقل الحمام الزاجل من الفتناء إلى منطقة ثانية في البقاء، ثم تنقل حمام زاجل آخر من منطقة إلى أخرى في البقاء، وتكررت المسألة، حيث استلم عيون الزبير رسالة الحمام الزاجل وعاودوا إرسالها بينهم، حتى وصلت في النهاية إلى الملك حازم.
أخبره الزبير من خلال الرسالة أنه مستعد أن يتخلى عن نصف أراضي البقاء ونصف أملاكها له، في حين سيذهب النصف الآخر من الأراضي والأملاك لملك الهيجاء أنيس، وكل هذا مقابل أن
يرسل ملك ياقوتة قواته لمساعدة الزبير، وبعد الحرب ضد ريان، على ملك ياقوتة أن يرسل قواته لمعاونة ملك الهيجاء أنيس ضد أعمامه. وفي المقابل يتخلى الزبير عن الملك، على أن يستلم مدينة بحران، ويغدو أميرا لها، وله حكم ذاتي فيها.
فأرسل ملك ياقوتة رسالة للزبير يعلمه فيها بموافقته على العرض.
بعدها غادر الزبير الفتناء في قارب صغير عبر بحر الدم الصغير جدا، بصحبة النسور السوداء فقط، حتى وصل الهيجاء.
ثم سافر عبر أراضي الهيجاء حتى وصل عاصمتها القاسمة ثم قصر الملك أنيس، وطلب لقاء مستعجلا مع الملك، فوافق الأخير فورا.
حيا الزبير الملك أنيسا، فبادله التحية، وجلس الملك أنيس على كرسي العرش في آخر القاعة، بينما وجدت الكراسي بالعرض أمامه على اليمين والشمال. وطلب من الزبير الجلوس على إحدى الكراسي في القاعة هائلة الاتساع، فجلس الزبير ووقف النسور السوداء حوله، بيدق أمامه وهلال والأقرط خلفه على اليمين والشمال – على الترتيب-.
ثم ضيف أحد الخدم الملك أنيسا من القهوة وضيف الزبير منها.
طفق الاثنان يشربان، حتى قال الزبير: أيها الملك أنيس، لدي عرض لك.
فقال الملك أنيس: نتحدث عنه لاحقا، بعد أن تتغدى.
فقال الزبير: لا وقت لمثل هذا... لا بد وأنك تعرف أن قوات ريان تحاصرني في الفتناء، ولا وقت لدي.
"ما العرض؟" سأل الملك أنيس.
فقال الزبير: سأمنحك نصف أراضي البقاء ونصف أملاكها، في حين سيحوز ملك ياقوتة على النصف المتبقي من كل من الأراضي والأملاك، وذلك مقابل أن تساعداني على دحر قوات ريان، ثم
منحي إمارة في بحران، ذات حكم ذاتي، بعد أن أتخلى عن المُلك... وقد وافق ملك ياقوتة على العرض. وأريد منك أيضا أن تمدني بما أحتاجه من البضائع والطعام والشراب عبر بحر الدم.
تفكر الملك أنيس لمدة، وأطرق، ثم قال: ولكنك قد تخسر ضد ريان، وعندها سيهاجمني بقواته – دون رحمة – وقد يسلب ملكي...
تنهد الملك، ثم أضاف: وأعمامي لا بد وأن يستغلوا الفرصة ويحاولوا الانقضاض علي من الخلف.
فقال الزبير فورا، والذي توقع كلام الملك أنيس بتفاصيله: الأمران مستحيلان. لن ينتصر علي ريان، فأنا سأغتال قريبا اثنين من أقرب المقربين إليه، وجيش ياقوتة سيعينني وجيشك كذلك، وجيش ابن أخي سهيل سيأتي من أراضي الكثبة لمعاونتي، وإذا أضفنا هذه القوات إلى من تبقى من قواتي، فإنها ستشكل ستة أضعاف قوات ريان.
"وماذا عن أعمامي؟!" سأل الملك أنيس.
فأكمل الزبير: الحرب ضد ريان ستأخذ يوما واحدا فقط، وسيعود جنودك بسرعة، ولكن ليس وحدهم وإنما مع جنود ياقوتة – الذي وافق ملكها على مساعدتك – ومع جنودي ومقاتلي الكثبة،
وسيقضون على أعمامك على بكرة أبيهم، حتى لو لم يبادروك بالقتال.
أطرق أنيس مفكرا بتمعن، وبعد مدة قال: حسن، أنا موافق.
وابتسم الزبير ابتسامة صفراء، واستأذن من الملك أنيس، وسافر فورا باتجاه الفتناء.
***
وصل الزبير الفتناء، في أقصى الغرب الشمالي من البقاء، على حدودها مع الهيجاء، ولم يفصل بين المدينة والهيجاء، سوى بحر صغير، يعرف ببحر الدم. وقد سمي بذلك لكثرة الدماء التي سالت فيه
إثر الحروب الطاحنة بين الهيجاء والبقاء للسيطرة على الفتناء لشدة جمالها وكثرة مواردها ومظاهر الرفاهية والجمال في بنيانها وطبيعتها، ومهارة أهلها في شتى المهن، ومدى غناهم. وللسبب نفسه،
سميت الفتناء بهذا الاسم، لأنها سببت الفتنة بين أهل المملكتين. وقد بنيت من الحجارة السوداء القاتمة في منظر جميل جدا، وأحاط بها سور من جميع الجهات بما في ذلك جهة بحر الدم الذي فصلها
عن الهيجاء، حتى لا تستطيع سفن الهيجاء دخول المدينة من ساحلها، وكذلك أطل جزء من الفتناء على البحر الرمادي شمالا، وحتى ذلك الجزء أحيط بالسور. لقد حرص المهندس الذي صمم المدينة على جعلها منيعة حصينة؛ لكثرة الحروب التي خيضت فيها، فأحاط بها سور ضخم هائل الارتفاع وغليظ السمك، أما القلعة الكبرى فيها فقد كانت منيعة وأحيطت بسور يتميز بالصفات نفسها، وكانت نوافذ
القلعة واسعة من الداخل ضيقة من الخارج، حتى يتمكن المقاتلون داخل القلعة من إطلاق السهام بأريحية، في حين يجد المقاتلون خارجها صعوبة بالغة في إيصال أسهمهم داخل القلعة. وقد امتازت الفتناء بلونها الأسود الذي ميزها، وأما القلعة فيها، فقد بنيت من الحجارة السوداء الباهظة الثمن، وغطى أرضيتها وسقفها وحيطانها الرخام رمادي اللون باهظ الثمن.
بعدها بدأت القوات الموالية للزبير بالتوجه نحو الفتناء، وأكبر قوة فيها كانت بقيادة قيس والداهية. وبأوامر الزبير أحرقوا في طريقهم كل زرع وكل شيء قابل للأكل. وكلما مروا على مدينة أو قرية،
عرضوا على التجار ثلاثة أضعاف سعر البضائع لشرائها كلها، فوجدوا موافقة من الغالبية العظمى من التجار، وبذلك أخلوا كل تلك القرى والمدن من البضائع، ونقلوا كل البضائع والمؤن والأغذية
معهم إلى الفتناء. وقد قرر الزبير إنفاق كل أموال خزينة الدولة على هذه الحرب حتى آخر قرش؛ لأنه لم يعد هنالك شيء يخسره، وليس أمامه سوى البحث عن الانتصار بأية طريقة. الهدف من كل
هذه الإجراءات، تزويد القوات المتجمعة بالفتناء بالطعام والشراب والبضائع لأطول فترة ممكنة، لأن خطة الزبير بنيت على أنه سيكون هنالك حصار طويل جدا لقوات الفتناء من قبل قوات ريان.
كما أنهم تعمدوا إحراق الزرع وإخلاء المدن من البضائع والأغذية، حتى تجد قوات ريان صعوبة بالغة في إيصال البضائع والطعام والشراب إلى معسكرها حول الفتناء – أثناء حصارها المتوقع –
مما سيصعب مهمتهم. كما أتلفت قوات الزبير كل المجانيق في معسكرات الجيش، فهم لا يريدون أخذها معهم لأنها لن تفيدهم كونهم المحاصرين، كما أنه ستؤخر وصولهم للفتناء، وزد على ذلك
أنهم لم يريدوا أن تجدها قوات ريان، فتصحبها معها وتستخدمها أثناء حصار الزبير .
وقد أمر الزبير متعمدا، بأن تتوجه ثلث قواته التي تبقت بعد الثورة الجديدة، إلى الكثبة، وأن يبقوا هناك. وأمر أن يتوجهوا إلى هناك في جماعات قليل عدد أفرادها قلة شديدة، حتى لا يعلم أحد بتوجه
ثلث جيشه إلى هناك. وأمر متعمدا ابن أخيه سهيلا شيخ قبائل الكثبة، أن يبقى بدو الكثبة المقاتلين فيها، وكذلك أن يبقى ثلث الجيش الذاهب هناك فيها، إلا إذا أتاهم أمر بالتحرك.
***
وهكذا تجمع الزبير وجل التابعين له في الفتناء، إذ أقام الزبير وآله وأكثر المقربين إليه وكبار القادة في قلعة الفتناء الكبرى، بينما انتشرت قواته في شتى أرجاء المدينة الحصينة المنيعة. وطفقوا
ينتظرون قدوم قوات ريان.
وزحف الثوار لاحقين بالزبير وقواته حتى سيطروا على كل المناطق في طريقهم من المعتزة إلى الفتناء، وعسكروا هناك وأحكموا حصار الزبير وقواته من كل الجهات، عدا الجهات التي أطلت من خلالها المدينة على البحر الرمادي وبحر الدم. وبلغت قوات ريان عدة أضعاف قوات الزبير. ووجدت قواته في طريقها إلى الفتناء كل المناطق الزراعية محروقة، فلم يتمكنوا من الاستفادة منها، كما وجدوا المدن والقرى في الطريق مفرغة من البضائع والأطعمة والأشربة، مما جعل أمراء الثورة يوقنون بأن الزبير تعمد فعل كل هذا.
قرر ريان التوجه مباشرة إلى الفتناء؛ لأن الأولوية هي القضاء على الزبير، لذلك لم يكترث بفرض سيطرته على مناطق البقاء المختلفة، فظلت كثير من المناطق دون سيطرة الأمير، ومنها صحارى
الكثبة الموالية للزبير، خاصة وأن ريانا أيقن أن الأمور ستنتهي بسرعة، وأنه سيقضي على الزبير بسرعة كبيرة، وبعدها سيتفرغ لفرض سيطرته على البقاء، ومناطقه المختلفة ومنها الكثبة.
وبدأ الحصار، وبدأت الأيام تمر وتمر، ولم تتمكن قوات ريان من إجبار الزبير على الخروج لمواجهتها. وبعد مرور الشهر الأول، طفق التوتر يجتاح ريانا ومعسكره وكل من معه، لا سيما أمراء الثورة، وكلما مر الوقت، ازداد التوتر والقلق وحتى الخوف لديهم.
ثم مر شهران آخران، جعلا سمية تتساءل: كيف استطاع الصمود طيلة هذه الفترة؟!
فرد ريان: لا بد وأن لديه مخزونا هائلا من البضائع والطعام والشراب... غالبا، جمعها من المدن والقرى في الطريق بين المعتزة والفتناء.
وبالفعل صدق تحليل ريان، فالبضائع والطعام والشراب الذين جلبهم الزبير من المدن والقرى في الطريق كانت كثيرة جدا، وكفته جيدا، مما جعله قادرا على تحمل الحصار ورفض الخروج.
ونظرا لإحراق الزبير الأراضي الزراعية، وتفريغه الطريق من المعتزة إلى الفتناء من البضائع، غدت مهمة معسكر ريان صعبة، إذ خصص جزءا كبيرا من قواته وفرّغها فقط لجلب البضائع من المعتزة البعيدة إلى معسكره حول الفتناء باستمرار، مما أجهد هؤلاء وقلل أعداد المحاصرين.
أيقن ريان أن الزبير – لا محالة – سيخرج في نهاية المطاف. إلا أن ذلك لم يحدث، فقد مرت ستة شهور منذ بدء الحصار، ومع ذلك، لم يخرج الأخير.
وبعد مرور الأشهر الستة حدث أمر غريب ومفاجئ لمعسكر ريان، إذ أرسل إليهم الزبير رسولا لم يتوقعوه، وأي رسول كان!
توجه داهية الكثبة إلى معسكر ريان، ولما علم الأخير بمقدمه تفاجأ كثيرا، وقد طلب الداهية مقابلة ريان، وباقي أمراء الثورة، فوافق ريان على ذلك، واجتمع هو وباقي أمراء الثورة، في خيمة من خيام
المعسكر، ثم دخل عليهم الداهية.
لقد أصر الزبير على إرسال الداهية المقرب كثيرا منه، إلى معسكر ريان؛ وذلك ليظهر حسن نواياه لهم، وكذلك لأن الداهية أفضل مفاوض عرفه الزبير في حياته. كما أن الزبير أيقن باستحالة قتل ريان
للداهية أو إيذائه حتى؛ بعد ما فعله أسود الوجه الحنشي، وما حدث له بعد قتله لرسول أرسل إليه.
لما دخل الداهية، قال بهدوء وبرود: السلام عليكم.
وقد ظهرت عليه علامات اليأس والحزن، بل والهزيمة حتى.
"كيف حالكم؟" أضاف الداهية.
فرفضوا الرد عليه.
ثم نظر إلى سليم، وقال: كيف حالك، يا سليم؟
أراد سليم الرد، غير أنه رفض؛ لأن ذلك سيغضب باقي أمراء الثورة.
فقال الداهية بهدوء، ناظرا إلى ريان: ليست هذه وسيلة لاستقبال الضيوف.
فبرزت العروق في عنق ريان، واحمر وجهه غضبا، وهاج صارخا: أنت لست بضيف... أنتم قتلة خونة.
لم يستئ الداهية، وحافظ على هدوء أعصابه، ورد بثقة: ربما نحن كما وصفتنا... لكن بالنهاية من غيرنا لو أتيحت له الفرصة ما استغلها؟! ولاحظوا الآن – جميعكم – أنكم انتصرتم، والله قد أعانكم علينا... ربما هذا عقابنا لكل ما فعلناه.
"الآن، ادخل في المسألة مباشرة" صرخ ريان، وأكمل بالنبرة نفسها: لم أرسلك الخائن؟!
تنهد الداهية، ثم قال بحزن وأسى: الزبير يريد الاستسلام، وتسليم نفسه لكم، ولكن بشروط.
"لا نقبل ذلك" قالت سمية، وأكملت بغضب: يجب أن يقتل.
تفاجأ الداهية – الذي لا تفاجئه حتى أكبر المصائب - مما رآه من سمية، فهو مطلقا لم يتوقع مثل هذا الكلام والتصرف، منها بالذات.
"وما هي الشروط؟" قال ريان بحزم وغضب.
فصرخت سمية وقد برزت عيناها في محجريهما -غير آبهة بكون ريان هو ملك معسكرها وأنه الآمر والناهي فيه -: قلنا واتفقنا: يجب أن يقتل.
فنظر إليها ريان بحزم وقال بهدوء: لا خيار أمامنا، نحن نحاصره منذ ستة أشهر، ولا أدري ما مصادر البضائع والمؤن لديه. ويبدو أنه لن يخرج أبدا... ربما هذا هو الحل، أن يستسلم لنا.
فقال المغيرة مخاطبا سمية: ستحقن دماء كثيرة، إن وافقنا... ونحن حتى لو لم نقتله، فسوف نفرض عقوباتنا عليه، وأقلها السجن مدة الحياة.
"لا أقبل" قالت سمية وعيناها قد برزتا أقصى بروز، وأكملت: أريد مقتله.
تفاجأ الداهية؛ فقد توقع أن يكون الرفض والنكاية إما من ريان الفاقد لملكه، أو من المغيرة الفاقد لزوجته وأهله، خاصة أن كليهما مقاتل شرس ذاقت سيفه أجساد عشرات المقاتلين. لم يتوقع الرفض والنكاية من امرأة هادئة ناعمة لا تستطيع إيذاء الحيوانات حتى، وليس لها خبرة في الحروب والمكائد.
تجاهل ريان كلام سمية، وخاطب الداهية: ما الشروط؟
فقال الداهية فورا: لن نتحدث هنا... الزبير يريد أن يذهب أحدكم إليه؛ ليتأكد من حسن نيتكم وأنكم لن تغدروا به، إذا تمكنتم منه بعد أن يستسلم لكم لاحقا.
فصرخت سمية بغضب: مستحيل.
وقال ريان فورا: أخبرنا هنا الآن بشروطك.
فرد الداهية فورا: لا... الزبير يريد أن يتأكد أنكم لن تغدروا به... هذا أول شروطه وأهمها. وأنت تعلم جيدا أنه لا يمكن أن يؤذي رسولك أو رسول سواك، بعد ما حدث لأسود الوجه الحنشي.
"هذا صحيح" قال المغيرة.
فقالت سمية: مستحيل، لن أسمح بذلك.
فقال ريان: اهدئي قليلا... لن يحدث شيء للرسول.
فردت: لن يحدث ذلك إلا على جثتي.
فقال ريان: سمية، اهدئي... نحن المنتصرون عاجلا أم آجلا... المسألة مسألة وقت فقط.
فلما رأى الداهية اختلافهم وتشاكسهم فيما بينهم، قال: سأترككم الآن، وردوا لي بقراركم حين تجمعون عليه.
ثم غادر الخيمة، وظل فيها أمراء الثورة الأربعة، في حين لم ينبس سليم ببنت شفة حتى تلك اللحظة.
حالما غادر الداهية، قالت سمية بغضب: هذه مكيدة من مكائده، سيقتل الرسول لا محالة.
"مستحيل" قال المغيرة فورا، وأضاف: بعد قصة أسود الوجه الحنشي، لم يجرؤ شخص في البقاء - ولا حتى الهيجاء وياقوتة - على قتل أي رسول، ذلك لم يحدث لما يزيد على ألف عام.
وأسود الوجه هذا كان ملكا لإحدى الممالك في البقاء، قبل ما يقرب الألف عام من حرب ريان والزبير. وقد أرسل له ملك مملكة معادية رسولا، فقتله، فحمل العار، وظل العار يحرق أهله، حتى
قتله أحد إخوته ليغسل العار.
فردت سمية: الزبير نذل، الزبير استثناء. لطالما كان كذلك.
فرد المغيرة: قتل الرسل لم يحدث منذ ألف سنة، والزبير لن يفعل ذلك.
فقال ريان: لا خيار أمامنا. هذا سيضمن لنا النصر وسيحقن الدماء... وسنسجنه مدى الحياة.
فردت سمية بحزم: لا، أنا أرفض. سأسحب مالي من الحرب.
فأطرقوا جميعا يتفكرون، ومرت مدة حتى قال ريان: حسنٌ، سنسجنه، وبعد ثلاث سنوات سنغتاله ونغدر به، سندس من يفعل ذلك، وندعي أن ذلك خارج عن سيطرتنا... أنا مستعد لفعل ذلك إن
كان يرضيك... وفكري جيدا، بهذا سنضرب عصفورين بحجر واحد؛ سنقلته وفي الآن نفسه سنحقن الدماء.
عندها طفقت سمية تهدأ، وحدثت المفاجأة بأن تنهدت ثم قالت: ولكن من الرسول؟!
فنظر ريان والمغيرة إلى سليم الوحيد الذي لم يتكلم منذ مقدم الداهية.
فقالت سمية بغضب: مستحيل... تريدان استغلاله؛ لأنه شاب ضعيف.
فقال المغيرة: اذهبي أنتِ إذاً.
فرد ريان: لا... الزبير يعشقها بجنون، وسيؤذيها لا محالة... أنا أرفض ذهابها.
فقالت سمية: أنا موافقة، سأذهب أنا، لا سليم.
فقال ريان: كلا... لن أرضى بأن يقال: ضحى الرجال بامرأة.
فقالت: أنا سأذهب، وسأتحمل كامل المسؤولية.
فرد ريان: لا، هذا أمر نهائي مني كوني الملك.
ثم قال ريان: نحن الثلاثة الأهم، أنا أمثل الشرعية، والمغيرة القوة، وأنت المال... والأهم من هذا كله أن سليما هو ابن الزبير، ويستحيل له أن يؤذيه... في أقصى الحالات سيحتجزه أو سيسجنه.
نظر سليم بخوف عظيم إلى ريان، وهو يستمع إلى كلامهم.
فقالت سمية: لا.
فقال المغيرة: هذا هو السبيل الوحيد.
ثم نظر إلى سليم، وأضاف: وهذه هي الفرصة الأخيرة لك للقائه قبل أن نسجنه مدى الحياة.
فقال ريان مخاطبا سليما: سأعينك وزيرا في الدولة الجديدة... بل لك كل ما تطلب.
"ولكن..." قال سليم الضعيف بصوت خافت يريد معارضة كلامهم.
فقال المغيرة - الذي أراد إقناعه بأية وسيلة-: هل كان أبوك الهيثم الرجل المغوار، القائد العظيم سيقبل مثل هذا الرفض وهذا الخوف؟!
فأغمض سليم عينيه؛ لأن المغيرة تمكن منه، وقال بصوت هادئ راضخ خافت: أنا موافق.
فصرخت سمية بجنون: لا... لا... لا... فلنلغِ كل شيء.
فقال ريان: اهدئي، يا سمية. كلامك غير معقول.
وأضاف المغيرة مؤيدا: اهدئي، يا سمية. وها هو موافق. اهدئي.
عندها بدأت بالبكاء الشديد، وطفقت تتحرك في الخيمة حركات قوية جنونية، وهي تبكي بحرقة، وتصرخ وصوتها يتهدج بعبارات مثل: "لن أسمح بذلك" و "على جثتي" و "لن أسمح بالتضحية بسليم".
لم يعرها ريان والمغيرة اهتماما؛ فهما أصرا على تنفيذ قرارهما.
وفجأة حدثت المفاجأة حين قال سليم بصرامة لم يسبق أن تحدث بها: سأذهب، يا سمية، سواء أوافقت أم لا.
فاحتضنته سمية، وهي تبكي بحرقة، وتقول بصوت يتهدج: لا... يا حبيبي... لا... ما أجبننا!... هذه مملكة الجبناء... لا مملكة الشجعان كما يُزعم عنها... تبا لكم... تبا لنا جميعا... تبا لي...
وفي النهاية استدعى ريان الداهية، وأخبره بأن الرسول هو سليم وعدد من قادة قبائل البقاء.
أومأ الداهية برأسه، واصطحب معه سليما وقادة القبائل وعاد إلى الزبير.
***
توجه الداهية صحبة سليم ووجهاء قبائل كثيرة من قبائل البقاء – الذين أرسلهم – ريان، حتى دخلوا على الزبير في كبرى قاعات قلعته الحصينة، بحضور قيس والنسور السوداء، وعدد من كبار
دولة الزبير، وحراسه وجنوده.
لقد تعمد ريان إرسال عدد من وجهاء القبائل مع سليم، حتى يصعّب على الزبير فعل المفاجأة وقتل سليم؛ فإن كان سيفعل ما فعله أسود الوجه الحنشي مرة مع سليم، فبالتأكيد سيحسب ألف حساب
للفضيحة لو فعلها مع كل هؤلاء، لا سيما مع ما يمثلونه من قبائل كثيرة وقوية ومتنوعة من سائر أنحاء البقاء.
تقدم سليم الضعيف مهزوز الشخصية الوفد بمسافة كبيرة، وهو خجل ينظر في الأرض. ثم جعل يقلب نظره بين الزبير وحوله، وبين النظر في الأرض. والتزم الصمت.
عم الصمت في القاعة لمدة طويلة، وساد فيها التوتر، ليس فحسب في من يمثلون معسكر ريان، بل حتى في من يمثلون معسكر الزبير، فحتى قيس والداهية شعرا بتوتر شديد وترقب منهك.
ثم قال الزبير – وهو يجلس على كرسي العرش -: أهلا بابني وحبيبي... كم اشتقت إليك!... لقد كنت بانتظارك.
تنهد الزبير وحدق بحدة في سليم، ثم أكمل: لقد أيقنت أنهم سيختارونك – أنت – بالذات. فأنت أقلهم أهمية، فهم يمثلون الشرعية والمال والقوة... أخبروك أنه يستحيل أن يُقتل رسول بعدما حدث
لأسود الوجه الحنشي... "الزبير لن يقتل ابنه" هذا ما أخبروك به... وهذا صحيح؛ الزبير لا يمكن أن يقتل ابنه مهما حدث.
فتح الزبير عينيه على أقصى اتساع، ووقف بغضب، وحدق بقوة وحدة أكبر في الشاب، الذي ارتعب كثيرا حتى ارتعدت فرائصه، وبدأ يرتجف، وطفقت دقات قلبه وأنفاسه تتسارع.
شرع الزبير يتحرك في الساحة حركة سريعة وعنيفة مقتربا من سليم حينا، ومبتعدا عنه حينا آخر.
وبينما هو على حاله هذا، أكمل: ابنه الذي كان نكرة لا قيمة له، لا أحد يعرفه، فارا كالأرانب الجبانة في قرية نائية خوفا على نفسه من الرجال... ابنه الذي كان يعيش أدقع درجات الفقر، وأكبر
درجات الخوف، وأقل درجات الحرية... ثم أتى أبوه الذي بعثه الله له ليعوضه عن أبيه الأول، انتشله من كل هذا، وأخذه من أدنى القاع إلى أقصى القمة... أعاد له أمجاد أبيه الأول، وبنى له
مجدا في البقاء كلها، بل في الكون كله... وجعله غنيا، هو وأهله ، وأعطاهم قصرا لهم يرتعون ويمرحون ويفرحون فيه... ومرت الأيام، وبدل أن يقف الابن مع أبيه – الذي فعل له كل هذا – وقف ضده ومع أعدائه وخانه، داس على النعم التي أعطاها إياه وكفر بها جميعا، وأنكرها وطعن أباه في ظهره... وماذا بدر من الأب؟! لم يأخذ منه المال ولا القصر ولا آذاه ولا عذبه لا هو ولا أهله،
فقط احتجزه في قصر يتمنى كل الشعب أن يعيشوا في قصر يمتلك عُشْر صفاته يوما واحدا فقط... وماذا حدث بعد ذلك؟! عاد الابن الخائن ليخون أباه، وهذه المرة يريد أن يساعد أعداءه في قتل أبيه... هذا أمر غير مستغرب من شبه رجل تربى على يد النساء.
أثناء هذا الكلام الذي قاله الزبير بقسوة بالغة وغضب عارم وإهانة جارحة، وحركته العنيفة القوية ذاهبا وراجعا، اجتاح الخوف قلب الشاب، وشرع يبكي بحرقة.
ثم قابل الزبير سليما، واقترب منه، وهو يرتجف أشد ارتجاف، ودقات قلبه وأنفاسه سريعة سرعة غير معقولة. أجهش سليم بالبكاء؛ خوفا من الزبير ومما قد يحدث وحزنا على أبيه وحبا له.
"لا تبكِ، يا بني. لا تبكِ" قال الزبير وهو يمسح دموع سليم ببرود.
ثم أكمل: ما أخبروك به صحيح... الزبير لن يقتل ابنه... وأنا لن أقتل ابني.
ثم استل الزبير خنجره الذهبي بسرعة، وطعن سليما بقوة وعنف حتى اخترق الخنجر أحشاء الشاب بعمق، وقال الزبير: لكنك لست ابني.
ثم طعنه الثانية بصفات الأولى نفسها، وهو يقول: لست ابني، أيها الخائن.
ثم طعنه الثالثة بصفات سابقتيها نفسها، وهو يقول: أبناء الزبير الحقيقيون لا يخونونه.
تفاجأ سليم أقصى مفاجأة، ولم يصدق ما يحدث. وجزن حزنا عظيما؛ لأن الزبير – أباه – قتله بيديه.
حتى قيس والداهية ساءهما ما حدث – رغم علمهما المسبق بأنه سيقع- وذلك لأنه أمر سيئ جدا أن يقتل الأب ابنه، لا سيما مع علمهما بمحبة الزبير العارمة لسليم. وأغمضا عيونهما حزنا.
أما وفد ريان، فهالهم ما رأوه من قتل رسول، الأمر الذي لم يحدث منذ ما يزيد على ألف عام في البقاء كلها وما جاورها.
فطفقوا يصرخون وأفواههم وعيونهم مفتوحة على أقصى اتساع.
"قذر"، "وغد" ،"كيف تقتل رسولا؟!" ،"أيها الخائن الحقير"، أمثلة على العبارات التي صدرت منهم.
في هذه الأثناء، كان سليم قد سقط قتيلا على الأرض، ثم نظر الزبير إلى جثته باحتقار، ثم قال: خذوا هؤلاء الكلاب، واصلبوهم جميعا على باب الفتناء. وخذوا رأس هذا الكلب الخائن واغرزوا رمحا فيه، وضعوه على باب الفتناء.
"تبا لك" ،"ستدفع الثمن غاليا" ،"لن يتركك الملك ريان بعدما فعلته"، هي بعض العبارات التي صرخ بها أعضاء الوفد دون فائدة، فقيس والداهية نسيا حزنهما، وانضما إلى سائر العدد الكبير من
جنود الزبير، وبدؤوا تنفيذ تعليماته بحذافيرها.
الزبير علم جيدا بالعار الذي سيلحقه مدى عمره، بعد قتله للرسول، لا سيما وأنه ابنه. فبعدما فعله أسود الوجه الحنشي، اعتبر قتل الرسول أقبح فعل يمكن لأي امرئ فعله. غير أن الزبير الذي ضحى حتى بأخيه من أجل مصلحته، وفي تلك اللحظات التي وضع فيها بين خيارين إما أن يخسر كل شيء – حتى حياته – أو أن ينجو من هذه الحرب، قرر فعل أي شيء لكي ينتصر..
أما الداهية، فقد تعمد عند ذهابه إلى ريان ومن معه، التصرف على أنه مهزوم، وإخفاء ابتسامته الصفراء، والتظاهر بأنه يسعى للصلح، حتى يقنعهم بأن يرسلوا سليما معه، وهذا أقصى درجات الدهاء،
وهو ما امتاز به.
***
فقبل شهر ونصف من قتله لسليم، أرسل الزبير – عبر الحمام الزاجل – رسالة إلى ملك ياقوتة حازم.
ولبعد المسافة بين الزبير والملك حازم، تنقل الحمام الزاجل من الفتناء إلى منطقة ثانية في البقاء، ثم تنقل حمام زاجل آخر من منطقة إلى أخرى في البقاء، وتكررت المسألة، حيث استلم عيون الزبير رسالة الحمام الزاجل وعاودوا إرسالها بينهم، حتى وصلت في النهاية إلى الملك حازم.
أخبره الزبير من خلال الرسالة أنه مستعد أن يتخلى عن نصف أراضي البقاء ونصف أملاكها له، في حين سيذهب النصف الآخر من الأراضي والأملاك لملك الهيجاء أنيس، وكل هذا مقابل أن
يرسل ملك ياقوتة قواته لمساعدة الزبير، وبعد الحرب ضد ريان، على ملك ياقوتة أن يرسل قواته لمعاونة ملك الهيجاء أنيس ضد أعمامه. وفي المقابل يتخلى الزبير عن الملك، على أن يستلم مدينة بحران، ويغدو أميرا لها، وله حكم ذاتي فيها.
فأرسل ملك ياقوتة رسالة للزبير يعلمه فيها بموافقته على العرض.
بعدها غادر الزبير الفتناء في قارب صغير عبر بحر الدم الصغير جدا، بصحبة النسور السوداء فقط، حتى وصل الهيجاء.
ثم سافر عبر أراضي الهيجاء حتى وصل عاصمتها القاسمة ثم قصر الملك أنيس، وطلب لقاء مستعجلا مع الملك، فوافق الأخير فورا.
حيا الزبير الملك أنيسا، فبادله التحية، وجلس الملك أنيس على كرسي العرش في آخر القاعة، بينما وجدت الكراسي بالعرض أمامه على اليمين والشمال. وطلب من الزبير الجلوس على إحدى الكراسي في القاعة هائلة الاتساع، فجلس الزبير ووقف النسور السوداء حوله، بيدق أمامه وهلال والأقرط خلفه على اليمين والشمال – على الترتيب-.
ثم ضيف أحد الخدم الملك أنيسا من القهوة وضيف الزبير منها.
طفق الاثنان يشربان، حتى قال الزبير: أيها الملك أنيس، لدي عرض لك.
فقال الملك أنيس: نتحدث عنه لاحقا، بعد أن تتغدى.
فقال الزبير: لا وقت لمثل هذا... لا بد وأنك تعرف أن قوات ريان تحاصرني في الفتناء، ولا وقت لدي.
"ما العرض؟" سأل الملك أنيس.
فقال الزبير: سأمنحك نصف أراضي البقاء ونصف أملاكها، في حين سيحوز ملك ياقوتة على النصف المتبقي من كل من الأراضي والأملاك، وذلك مقابل أن تساعداني على دحر قوات ريان، ثم
منحي إمارة في بحران، ذات حكم ذاتي، بعد أن أتخلى عن المُلك... وقد وافق ملك ياقوتة على العرض. وأريد منك أيضا أن تمدني بما أحتاجه من البضائع والطعام والشراب عبر بحر الدم.
تفكر الملك أنيس لمدة، وأطرق، ثم قال: ولكنك قد تخسر ضد ريان، وعندها سيهاجمني بقواته – دون رحمة – وقد يسلب ملكي...
تنهد الملك، ثم أضاف: وأعمامي لا بد وأن يستغلوا الفرصة ويحاولوا الانقضاض علي من الخلف.
فقال الزبير فورا، والذي توقع كلام الملك أنيس بتفاصيله: الأمران مستحيلان. لن ينتصر علي ريان، فأنا سأغتال قريبا اثنين من أقرب المقربين إليه، وجيش ياقوتة سيعينني وجيشك كذلك، وجيش ابن أخي سهيل سيأتي من أراضي الكثبة لمعاونتي، وإذا أضفنا هذه القوات إلى من تبقى من قواتي، فإنها ستشكل ستة أضعاف قوات ريان.
"وماذا عن أعمامي؟!" سأل الملك أنيس.
فأكمل الزبير: الحرب ضد ريان ستأخذ يوما واحدا فقط، وسيعود جنودك بسرعة، ولكن ليس وحدهم وإنما مع جنود ياقوتة – الذي وافق ملكها على مساعدتك – ومع جنودي ومقاتلي الكثبة،
وسيقضون على أعمامك على بكرة أبيهم، حتى لو لم يبادروك بالقتال.
أطرق أنيس مفكرا بتمعن، وبعد مدة قال: حسن، أنا موافق.
وابتسم الزبير ابتسامة صفراء، واستأذن من الملك أنيس، وسافر فورا باتجاه الفتناء.
***