47

مع مشرق شمس اليوم التالي من مقتل سليم، رأى الجنود في معسكر ريان الأجساد المصلوبة على سور الفتناء، وما زال أصحابها أحياء ينتظرون الموت بأسرع وقت من قبل نار الشمس؛ حتى يستريحوا من العذاب. ورأوا كذلك رأس سليم والدماء تعلوه، والمغروز به رمح، يعلو سور الفتناء. فنادوا ريانا والمغيرة وسمية. أتوا على الفور، فلما رأوا هذا المنظر، هالهم وأدهشهم. وشعروا برعب وخوف
وحزن اجتاحهم على الفور، حتى ريان والمغيرة الفارسان اللذان ذاقت سيوفهما من دماء أشرس المقاتلين، ارتعبا من المنظر.
أما سمية فجن جنونها، وطفقت تبكي، وتتقيأ من شدة المنظر، وركعت على ركبيتها، خصوصا عندما رأت رأس سليم.
وسرعان ما أمسك بها ريان والمغيرة، واحتضنها ريان وجعل رأسها على صدره، وغطى على عينيها؛ حتى لا ترى مزيدا من بشاعة المنظر، وجعل يقول لها: اهدئي، يا سمية... اهدئي... أقسم لك
بروح أبي أنني سأنتقم من الحقير.
وبينما احتضنها، أخذ يدفعها بعيدا عن المكان عائدا إلى خيام المعسكر، حتى لا ترى المنظر المرعب.
وطفقت تقول: أخبرتك ألا ترسله... لقد قتلناه... أنا قتلته.
فجعل ريان يقول: لم تقتلي أحدا... لم نقتل أحدا... تمالكي نفسك.
وظلت تبكي البكاء الشديد، ونزلت الدموع غزيرة من عينيها.
وحتى المغيرة وريان، دمّعت عيناهما على سليم، وخاصة لما رأيا دموع سمية.
لم يتوقع ريان، ولا المغيرة، ولا سمية، ولا أحد في البقاء كلها، ولا حتى أقرب المقربين من الزبير أن يفعل الفعل القبيح الملعون الذي فعله أسود الوجه الحنشي قبل ما يقرب ألف عام، والذي أودت
به اللعنة إلى مقتله. لكن كلهم خاب توقعهم؛ فهنالك رجل واحد لا تنطبق عليه القاعدة ولا التوقعات، هنالك رجل واحد يضحي بأي شيء لتحقيق أهدافه، رجل اسمه الزبير.
تلك لم تكن آخر مفاجأة من الزبير لخصومه في ذلك اليوم، فالزبير لا يسكن، وهو في حراك دائم مستمر، وهو يصبر حين يكون الموقف مناسبا للصبر، ويسارع الأمور حين يكون الموقف مناسبا لذلك.
ففي ظهيرة اليوم نفسه، توجه عشرة جنود صحبة الزبير - بأمر منه - إلى إحدى غرف القصر حيث جلست حورية وابناؤها الأربعة زبيدة وحسن وروان وعامر، ووقف بالغرفة عكرمة كعادته،
وجلست الجارية زمردة.
دخل الزبير ومن معه الغرفة، وألقوا القبض على عكرمة - الذي لم يجد فائدة من المقاومة – وغادروا الغرفة. عرفت حورية أن الزبير يخطط لأمر ما. وفي تلك الأيام كانت المرأة قد انكسرت
شخصيتها منذ حبسها الزبير، وحل الضعف والهشاشة محل القوة والغرور فيها. لهذا كله قالت والخوف يحتلها: ماذا تريد أن تفعل؟!
"لا شيء، لا تخافي" قال الزبير بثقته وهدوئه المعتادين.
ثم نظر إلى زبيدة وحسن، وقال: أريدكما أن تأتيا معي.
"لا تلمس أولادي" صرخت حورية بجنون وخوف، وأكملت بالطريقة نفسها: ماذا ستفعل بهما؟!
فأجاب الزبير: لن أفعل بهما شيئا... أقسم لك بروح جدي.
وخافت زمردة، وجعلت تصرخ: مولاي، أرجوك، لا تؤذهما... أرجوك...
ثم نظر إلى روان وعامر، ثم عاود النظر إلى حورية، وقال: أولادك غالون علي كأولادي تماما.
لم تقتنع حورية – الملكة – بكلامه، وركعت على الأرض، وحاولت تقبيل قدميه، وهي تقول: أرجوك، سأفعل أي شيء تطلبه، لكن لا تلمس أولادي بسوء.
ساء الزبيرَ ما حدث، وقال: لا يصح مثل هذا... أنتِ ملكة وزجة الزبير.
لقد أشفق عليها في تلك اللحظات، وتذكر حورية القديمة القوية التي يهابها أشرس الرجال، ذلك شعور متناقض غريب من الشفقة؛ لأنه هو من دمرها وجعلها امرأة ضعيفة هشة بلا شخصية.
فبكت بضعف وجنون، وأمسكت ساقيه، وهي تقول باكية صارخة صراخا جنونيا: أرجوك... أرجوك...
فنادى الزبير بصوت عال: علياء.
فدخلت نسوة يلبسن لباس نساء قبائل الكثبة، وأخذن حورية التي ظلت تقاوم بعنف – هي وزمردة - لكن دون فائدة. وانكب أبناؤها الأربعة يحاولون حمايتها، وقد اجتاحهم الرعب والفزع والخوف،
وحتى ابنا الزبير من صلبه روان وعامر، انطبق عليهم هذا. لكن محاولتهم باءت بالفشل، فعدد النسوة فاق العشرين، وكن من نساء الكثبة البدويات القويات جسديا.
وبعد أن ساق نسوة الكثبة حورية – الملكة – خارج الغرفة، نظر الزبير إلى زبيدة وحسن اللذين ما زال الرعب في قلبيهما، وقال: تعالا معي.
"ماذا تريد أن تفعل بنا؟!" سأل حسن ببراءة.
"لا شيء" قال الزبير بهدوئه وثقته، وأكمل بالطريقة نفسها: هل آذيتكما يوما؟! هل تعتقدان أنني يمكن أن أؤذيكما يوما؟! أنتما ابناي.
فخضعت زبيدة وحسن لأمر عمهما – الذي أحباه بجنون وأحبهما بجنون – وغادرا الغرفة معه.
خرج الزبير وسط حراسة مشددة – ضمت النسور السوداء – صحبة زبيدة وحسن، حتى بلغوا جميعا سور الفتناء، الذي اتسم بالسمك، وبإمكانية الوقوف والحركة عليه بسهولة. وهناك وقف قيس والداهية.
صعد الزبير والنسور السوداء وزبيدة وحسن السور، ووقفوا عليه.
نظر الزبير إلى زبيدة وحسن بجدية وحسم، وقال: ما سيحدث الآن مجرد تمثيل، ولن أوذيكما مهما حدث، حتى لو لم يستجب والدكما.
توجس الشابان خيفة، وسأل حسن: ماذا ستفعل بنا؟! وما دخل أبي؟!
فتجاهله الزبير.
لم يصدق الشابان كلام الزبير؛ لأنهما أيقنا أنه مستعد للذهاب إلى النهاية لتحقيق أهدافه. بيد أنه صدق بالفعل بكل كلمة قالها.
ثم أنشأ الزبير يصرخ: أيها المغيرة... يا سمية، يا ريان.
صوته الجهوري القوي، بلغ معسكر ريان، وسرعان ما نادى الجنود ملكهم ريانا والمغيرة وسمية، فأتوا.
كان رأس سليم على الرمح يحيط بالزبير، ويحيط به الرجال المصلوبون الذين يتعذبون، إذ تقتلهم أشعة الشمس ببطء.
ولما أتى المغيرة ومن معه، صرخ الزبير بصوته الجهوري القوي: لقد رأيتم إلامَ قاد طيشكم وشركم.
وأشار إلى رأس سليم والمصلوبين حوله.
ثم أكمل بالصوت نفسه: والآن، إذا ظللتم مصممين على ما تفعلونه فسأقتل ابني المغيرة زبيدة وحسنا.
فبدأت زبيدة وحسن بالارتجاف، واجتاحهما الخوف والرعب دفعة واحدة.
"كيف تفعل هذا، يا عمي؟!" صرخ حسن سائلا ببراءة وخوف.
وقالت زبيدة ببراءة وخوف أكبر صارخة: أرجوك عمي، لا تفعلها.
نظر إليهما الزبير بحزن، لكنه تجاهلهما.
ثم قال: أيها المغيرة، معك حتى مغرب الشمس، لئن لم تغادر أنت - وكل قواتك من أهل الفيحاء- معسكر ريان، لأقتلن ابنيك.
ثم أخرج سيفه في منظر مهيب مخيف، وأتى الجنود وركّعوا زبيدة وحسنا على ركبهم، وربطوا أيديهما وأقدامهما بحبل غليظ.
ثم قال الزبير – وهو يلوح بسيفه الغليظ نحو الشابين -: إني جاد، أيها المغيرة.
ثم وضع سيفه على مقربة كبيرة من عنق زبيدة، وتعمد فعل ذلك معها لا مع حسن؛ حتى يثير خوفا أكبر في المغيرة، كونها الأنثى بين ابنيه.
طفقت فرائص الشابين ترتعد، وطفقا يرتجفان، وعلت الزرقة بشرتهما وشفاههما، وتسارعت دقات قلبيهما وأنفاسهما.
وشرعا يرجوان الزبير وصوتهما يتقطع خوفا ورعبا: أرجوك... كيف تفعل هذا بنا؟!
أما المغيرة – وعلى مرأى الزبير- حدثت له التغييرات نفسها التي حدثت لابنيه، وسقط على ركبتيه، وطفقت فرائصه ترتعد، وطفق يرتجف، وعلت الزرقة بشرته وشفتيه، وتسارعت دقات قلبه وأنفاسه.
وجعل يهذي وصوته يتقطع خوفا ورعبا: ابناي... لا يمكن... ولداي...
المغيرة الرجل الذي سيطر على الفيحاء، أشرس المدن في البقاء، حيث اللصوص والعصابات والمجرمون، المغيرة الذي أرهب الأعداء في حربي التحرير، وفي الحرب ضد الزبير، المغيرة هذا ا
لرجل المغوار، تحول إلى طفل ضعيف جبان خائف في تلك اللحظات.
ظل الزبير ينتظر بهدوء وثقة وبرود، وهو يشهر سيفه نحو عنق زبيدة، رغم محبته الشديدة لها ولأخيها.
بعد مدة قصيرة من حال المغيرة، نهض، وقال: سأرحل فورا.
فصرخ ريان: كيف تفعل هذا؟! أنى لنا أن ننتصر عليهم دونك؟!
فقال المغيرة: لا أعرف... ابناي أهم شيء.
فقال ريان بحزم: لن أسمح لك بالرحيل.
فقالت سمية - التي اجتاحها الرعب والخوف من كل ما يحدث-: دعه يرحل... ابناه أهم من كل شيء... من الحرب... وحتى منا... وأصلا – إن ظل معنا - لن يستطيع القتال، إن حدث لهما أي مكروه.
فسكت ريان مذعنا، وقام المغيرة، واتجه إلى كل قواته، وأخبرهم بأنهم سيرحلون معه إلى الفيحاء.
وقبل أن يرحل طلب من أحد كبار قادة جيش ريان اللحاق به لاحقا، وإخباره ماذا صنع الزبير بابنيه.
وبينما طفق المغيرة ورجاله بالرحيل، صرخ الزبير بصوته الجهوري: لئن عدتَ – أيها المغيرة – لأقتلنهما فورا، دون أن تأخذني بهما رأفة.
أنصت المغيرة جيدا لهذه الكلمات، وقرر أن يرحل دون عودة إلى الأبد.
بعد رحيل المغيرة وقواته من معسكر ريان، أمر الزبير جنوده ففكوا وثاق زبيدة وحسن، وفورا حضن أحدهما الآخر، وهما يرتجفان خائفين تعلو الزرقة بشرتهما وشفاههما.
بعد مدة نظرت زبيدة إلى الزبير بعينين حادتين قاسيتين وبحنق وغضب عارمين، لم يشهد الزبير لهما مثيلا على زبيدة قط، وقالت بغضب: كيف تفعل هذا بنا؟!
ثم قال حسن بغضب وحنق مماثلين، وبقسوة شديدة، وبنظرة مماثلة: أنت لست عمنا... ولا تعني لنا شيئا منذ هذه اللحظة.
حزن الزبير كثيرا وتألم من هذا الكلام أقصى ألم، وأغمض عينيه شجنا، ثم رحل عنهما بسرعة. وفي تلك اللحظات تذكر كل لحظاته معهما، بما فيه لحظات لعبه معهما وهما طفلان، ولحظات إهدائه
الدمية والسيف والحصانين لهما، ولحظة أحضر لهما الشبل، وكيف طفق الثلاثة يداعبونه، تذكر كل لحظاته معهما، وأيقن أنها رحلت دون عودة. أما قيس والداهية فقد حزنا وتألما؛ لأنهما علما جيدا مبلغ محبة الزبير لزبيدة وحسن، وأنه يتألم بعد اضطراره لفعل ما فعله.
فبعد أن ضحى الزبير بكل شيء، ضحى بمحبة الشابين له، رغم أنه لم يكن ليقتلهم لو عاند المغيرة ورفض المغادرة؛ فقد صدق في وعوده لهما ولأمهما.
عاد الشابان إلى أمهما في غرفة نومها، بعد أن أطلق النسوة سراحها، ووجدا روانَ وعامرا وزمردة، بانتظارهما مع حورية.
وحالما رأت الأم ابنيها، ركضت نحوهما وركعت على ركبيتها، واحتضنتهما، وقد زاد بكاؤها وسالت دموعها غزيرة، إذ إنها بكت بحرقة قبل مجيئهما.
"الحمد لله" قالت باكية، وأضافت: الحمد لله أولادي بخير.
ثم انضم إليهم روان وعامر، وحضن الخمسة بعضهم بعضا.
ثم قالت حورية: اللعين كاد يقتلكما فيقتلني.
وطفق الخمسة جميعا يبكون.
ثم قالت حورية: تبا له... لا تخافوا من الوغد... إنه إبليس بل أسوأ، كان سيضحي بشابين يافعين لطالما زعم أنهما ابناه!
وفي الغرفة وقف عكرمة دون حراك؛ فهو لا يملك شيئا يفعله، ورغم قسوته وشدته، دمّعت عيناه ألما على ما حدث؛ فحتى قسوة عكرمة العارمة، لا تضاهي - على الإطلاق - قسوة الزبير. وأما زمردة
فقد بكت البكاء الشديد، حزنا على ما حدث للشابين.
أما المغيرة وبينما هو في طريقه من الفتناء إلى الفيحاء، لحق به القائد الذي أوصاه بمراقبة ما سيفعله الزبير بابنيه. وأخبره أن الزبير لم يؤذ أبناءه، فارتاح المغيرة وسر وفرح، وزال الاضطراب الذي
اجتاحه منذ لحظة تهديد الزبير له. وأحس أنه مستعد الآن، لأي شيء - حتى الموت - براحة، ما دام ابناه بخير.
عاد القائد الذي أبلغ المغيرة بما حدث إلى معسكر ريان، واستمر المغيرة وقواته في رحلتهم نحو الفيحاء.
وفي طريقهم مروا بمنطقة اسمها الشويرية، وهي صحراء فيها بعض الزرع وتحوي جبالا شاهقة كثيرة تحيط بأرض مبسوطة. ما لم يعلمه المغيرة ولا حتى ريان ولا سمية ولا كثير من أتباع الزبير، أن سهيلا وقوات الكثبة التابعة له وثلث قوات الزبير – المتبقية بعد ما فعله ريان وقواته بقوات الزبير- انتظرت في جبال الشويرية. وعندما أصبح المغيرة وقواته في الأرض المبسوطة بين الجبال، وأحاطت
به قوات سهيل، أغارت الأخيرة على قوات المغيرة.
شكلت قوات سهيل ما يقرب ثمانية أضعاف قوات المغيرة. ولما رأى المغيرة وقواته قوات البدو وقوات الزبير، متجهة نحوهم من الجبال بهذا العدد المهول، جزعوا وارتعبوا وتفاجؤوا.
واندلعت المعركة واتسمت بالشراسة والقوة، غير أن كفة سهيل رجحت على كفة المغيرة؛ لأن قوات الأول فاقت قوات الثاني بكثير. كما أن قوات الأول تمتعت بالتدريب والانضباط العسكريين، بينما قوات الثاني تشكلت من مقاتلين عاديين من أهل الفيحاء.
أما المغيرة فقاتل بشراسة، ففي البداية كلما هاجمه أحدهم قتله المغيرة دون رحمة، وبعد مدة وبعد أن كثر القتل في قواته، لم يرض المغيرة بالفرار، بل بادر قوات سهيل بمهاجمتهم، ولم يؤثر الكرش
ولا الوزن الزائد كثيرا على قوته؛ فما زال يتمتع بلمسة المحارب، وفن المقاتل. وطفق يقتل من قوات سهيل، حتى قتل منهم الكثير، وفي إحدى اللحظات هاجم ثلاثة فرسان معا المغيرة، لكنه قتلهم
وحده جميعا. وظل يندفع نحو قوات سهيل، ويقتل منهم، إلى أن تجمع حوله ثمانية مقاتلين وبينما يقاتلونه غرس أحدهم سيفه في ظهر المغيرة من الخلف، ثم أجهز عليه آخر بطعنه في بطنه من الأمام،
فسقط عن جواد، وخر قتيلا.
وهكذا ظل المغيرة يقاتل حتى آخر لحظة، وقُتِل الفارس المغوار البطل وهو يقاتل ولم يمت ميتة الجبناء، وعزاؤه الوحيد في لحظات مقتله، أنه اطمئن جيدا إلى أن ابنيه بأمان.
***
أحد الفارين من المعركة والمنتمين لمقاتلي الفيحاء، عاد فورا إلى معسكر ريان، وطلب لقاءه فورا؛ لإخباره بالأمر الجلل الذي قد حدث، فوافق ريان على لقائه.
حيا الرجل ريانا، فبادله التحية، وقال فورا، وهو متعب منهك: مولاي... باغتتنا قوات تابعة للزبير، وانتصرت علينا، والمغيرة قتل في المعركة.
فتح ريان عينيه على أقصى اتساعهما، ولم يصدق آذانه، وتمنى لو أن ما سمعه مجرد كذب. أحس بدوخة، وأنه سيفقد الوعي من هول الموقف. فهذه مفاجأة جديدة من الزبير لم يكن لها حساب عند ريان،
الذي تساءل من أين خرج الجنود التابعون للزبير، وهو يحاصره منذ أشهر كثيرة ويمنع النمل حتى من مغادرة الفتناء. أحس ريان أن أمراء الثورة باتوا حجارة شطرنج يتخلص منهم الزبير الواحد تلو
الآخر، وأحس أنه – أي ريان – مجرد لعبة تافهة حقيرة، يحركها الزبير كيفما يشاء بخيوطه.
وسرعان ما أعلم ريان كبار قادة جيشه بما حدث، واستشرى الخبر في الجيش حتى علمت به سمية.
فأتت على خيمة ريان، وطلبت لقاءه.
دخلت عليه منهارة أقصى انهيار، وعيناها وما حولهما منفوخون من شدة البكاء. وبدت علامات الضعف والوهن عليها.
فقالت: لقد خدعنا الوغد.
ثم انفجرت بالبكاء.
فسارع ريان، وأمسكها من كوعيها بكفيه، وقال: اهدئي... سأنتقم للمغيرة وسليم والجميع... اهدئي... نحن اقتربنا من بغيتنا... سوف آتيك برأس الزبير وبرؤوس كل من معه... أعدك بذلك... ما تزال
دفة السفينة بأيدينا لا أيديه، ونحن الذين نحاصره ونحشره في بقعة ضئيلة.
قال ريان هذا وهو يتساءل هل ما زال هنالك مفاجآت أخرى من طرف الزبير، أم إنه استنفد كل أوراقه؟!
وكان ريان قد قرر - منذ علمه بمقتل المغيرة – عدم ملاحقة قواته للقوات التي يقودها سهيل، فذلك صعب، وقد يظل سهيل يهرب في شتى أرجاء البقاء، التي خلت من أي مقاتل من الطرفين،
وستظل قوات ريان – لو أرسلها – تلاحق سهيلا وجيشه، مما سيقلل عدد القوات المحاصرة للزبير، وسيضعف موقف ريان الذي أراد التركيز على شيء واحد، رجل واحد، الزبير.
استمر حصار ريان للزبير عدة أشهر، وتعجب الأول كيف استطاع الأخير الصمود تحديدا في الشهور الأخيرة! فحتى لو جلب كل بضائع وطعام البقاء في طريقه هاربا من المعتزة إلى الفتناء،
فإنها حينئذ ستكون قد نفدت، فمن أين له الطعام والبضائع الكافية للصمود في الشهور الأخيرة؟! لم يعلم ريان، أن الزبير ذهب إلى الهيجاء، وضمن اتفاقه مع ملكها، وعده الأخير بتزويده بكل ما
يحتاجه من طعام وشراب وبضائع عبر بحر الدم.
وأثناء الحصار، بدأت قوات ياقوتة تزحف نحو الفتناء. وقد علم ريان وسمية بذلك.
"ماذا نفعل الآن؟!" سألت سمية ريانا.
تنهد ريان، ثم قال: كيف أقنعهم هذا الشيطان؟! هل يعقل أنه باع البقاء فقط من أجل سلامته وانتصاره؟!
فقالت سمية: يبدو أننا سنخسر، بل يبدو أننا قد خسرنا كل شيء!
نظر ريان إلى سمية بتمعن، وقال: لا تقولي مثل هذا الكلام... لا تخافي، سنظل هنا، ولن يتمكنوا منا.
"فلنستعن بملك القدماء" قالت سمية.
فرد ريان: لقد رفض مساعدتنا ونحن في موقع قوة، أترينه سيساعدنا الآن ونحن في موقع ضعف، وسنقاتل جيشا أضخم من جيشنا؟! كما أن قواته بضخامتها تحتاج ما لا يقل عن شهور كثيرة من
الإبحار لتصل من القدماء إلى البقاء!
بعد ذلك استمر الحصار إلى أن اقترب جيش ياقوتة وجيش الكثبة – الذي ضم ثلث قوات الزبير – بقيادة سهيل من معسكر ريان. وبات ريان المُحَاصَرَ بعد أن كان المُحَاصِرَ، وانقلب السحر
على الساحر. عندها أيقن الزبير أن ساعة الحرب قد حانت.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي