الفصل الرابع
سعد نبيل لسماعه هذا الخبر، فالأمر ليس مجرد تحفة فنية قديمة فقط، لكن الأماكن والمباني والأشياء تبقى صامتة لا معنى لها حتى نعرف تاريخها فتدب فيها الحياة من جديد وتصبح حكاية تتناقلها الأفواة من جيل لجيل.
*
ازدحمت صالة التحرير في مجلة أخر خبر وتحولت كخلية نحل ارتفع طنينها، دخل مصطفى الصالة، تلفت في ارجائها باحثًا عن مكان يجلس فيه، لكن كل الاماكن مزدحمة، لوحت له سميحة من إحدى أركان الصالة، رسم على شفتيه ابتسامة مغتصبة، وتوجه نحوها، في الطريق اوقفه فرج ممسكًا ذراعه، قال له بصوت مرتفع كعادته عند الحديث:
- جالي قميص (تومي) يسوى يجي الفين جنيه.. كاروهات على بني كده بس إيه.. حاجه أخر آلاجة.
وقف مصطفى في البداية يطالع وجه فرج صامتًا، يعلم جيدًا أن المبلغ الذي يخبره به الآن سينزل إلى عشرة في المئة فقط، هذا القميص سيحصل عليه بمئتين أو ربما ثلاثمائة جنيهًا كحد أقصى، هذا أمر منتهي ولكن كل ما يريد مصطفى معرفته الآن من أين حصل هذا الكهل على مثل هذا القميص، فمصدر القميص دليل قاطع على أنه أصلي أو تقليد، وما هي درجة جودة تقليده، ظل مصطفى صامتًا يطالع وجه فرج الذي لم يتوقف عن الحديث قائلًا:
- طبعًا عارف الأستاذ أشرف عيسى؟
هز مصطفى رأسه بالإيجاب، أكمل فرج حديثه وكأنه لم يرى هزة رأس مصطفى أو رآها وتجاهلها:
- الأستاذ أشرف عيسى اللي بيلبس حمالات بنطول.. عارفة؟
- أه عارفة يا عم فرج.. ماله الأستاذ أشرف؟
وضع فرج صينية الشاي التي في يده على مكتب يجلس خلفه صحفي شاب صغير يشاهد فيديو على موقع اليوتيوب، يوقفه كل عدة ثواني ويكتب في ورقة أمامه، لم يهتم الشاب بوضع الصينية على مكتبة أثناء عمله، فهذا لن يؤثر كثيرًا على ما يفعله الآن؛ ثم إن عم فرج هو ملك هذه الصالة وله مطلق الحرية أن يفعل بها ما يريد، هكذا اعتاد كل من يعمل هنا.
اقترب فرج من أذن مصطفى وقال:
- أشرف أول ما اشتغل جه اشتغل هنا في المجلة.. الكلام ده يجي من سبعة وعشرين سنة كده.. كان بيشكك من عندي زي ما كلكو دلوقتي بتشككوا.. بس هو كان بيشكك مشاريب وأكل وساعات كان بيأخد نقدية كمان.. هي مش ساعات يعني لكن تقدر تقول كده على طول.. هو صحيح كان بيرد ويدفع كل اللي عليه.. لكن وفي نفس اليوم اللي سدد فيه يبدأ يستلف ويشكك تاني..
- وبعدين يا عم فرج؟ انا مش فاضي للكلام ده.. وايه علاقة الأستاذ عيسى بالقميص؟
- مانا جايلك في الكلام أهوه.. إتكى على الصبر شويه يا ابني.
نفخ مصطفى في ضيق، ولكن ما باليد حيلة، لابد أن يسمع ما يريد العم فرج أن يحكيه حتى لو لم يكن ذو قيمة، أكمل فرج حديثه:
- ساب المجلة وراح اشتغل في دولة من دول الخليج.. ما طولش هناك يمكن سنة تقريبًا..
صمت فرج لبرهة قصيرة وكأنه يحسب شيء في عقله ثم أدرف قائلًا:
- لا والله.. استغفر الله العظيم يا رب.. والنبي ما كمل سنة يا مصطفى يا ابني.. هم يجي كده كام شهر.. قول تمانية مثلا بالكتير..
- وبعدين يا عم فرج؟
قالها مصطفى في ضيق، لكنه تذكر أن لا شيء وراءه أو مكلف به، وأنه أتى اليوم للمجلة لمقابلة نهى مرجان، وهي لا تأتي الآن، فلا مانع من ممارسة بعض الثرثرة مع هذا الكهل، ربت مصطفى على كتف فرج وابتسم له مشجعًا ليكمل كلامه ثم أشار لسميحة أن تنتظره حتى ينهي كلامه مع فرج، عاد فرج لسرد قصة أشرف عيسى محاولا جمع خيوطها من ذاكرته المتهالكة:
- رجع من الخليج بس حاجه تانية خالص.. يومين وهوب راح فاتح جرنال لوحده.. وبقا هو رئيس التحرير.. حبه وبعد كام سنه كده باع الجرنال وراح ما تفهمش بقا شارك في قناة فضائية واللا اشتغل فيها بس.. ودلوقتي زي مانت عارف وشايف شغال في قناة فضائية بتدفع له شيء وشويات، وفي محطة إذاعه اللي هي mm دي...
- FM يا عم فرج... fm مش mm.
- مش هتفرق يا مصطفى يا ابني.. المهم كان في سفرية برا.. تقريبا كده في أمريكا.. كان بيتعالج هناك اصل بعيد عنك عنده النقرس.
- عارف النقرس ده بيجي من إيه يا عم فرج؟
- اه من شرب الخمرة والعياذ بالله.. هو بيشرب بس على خفيف ربنا يتوب عليه بقا.
- اولا الأستاذ أشرف ما بيشربش.. ثانيًا النقرس يا راجل يا فتاي ما لوش علاقة بالخمرة.. النقرس بيجي بسبب كترة أكل اللحمة.
- يا راجل!
- اه وحياتك.
- طب النقرس بسبب اللحمة يعني مرض الناس الغنية أهوه.. رايح يتعالج منه ليه بقا؟!
- لإنه في الأول أو في الاخر مرض يا عم فرج.. كمل يا عم فرج.. وبعد لما سافر أمريكا حصل إيه؟
- رجع تاني هيحصل إيه يعني؟!
- حمد لله على سلامته يا سيدي.. ها وبعدين؟
- اه افتكرت.. جاب لي القميص ده وقالي اسمه (تومي) وتمنه يجي أكتر من ألفين جنيه.
- هو قالك كده.
هز فرج رأسه بالإيجاب، مد مصطفى يده في جيبه واخرج ورقة بمئتين جنيه وعرضها على فرج قائلًا:
- تمشي معاك دي يا بركة.
- ميتين جنيه إيه بس يا مصطفى يا ابني.. بقولك (تومي) وامريكا والأستاذ أشرف عيسى وانت تقولي ميتين جنيه.. طب ده الميتين جنيه دول مش جايبين حق وقفتي معاك دلوقتي.. بقولك الأستاذ أشرف عيسى.. أشرف عيسى.
- ميتين وتلاتين يمشي معاك؟
- ميتين وخمسين وانا الخسران.
اخرج مصطفى ورقة نقدية فئة الخمسين جنيهًا، دس فرج النقود واشار لمصطفى أن يتبعه بعد أن حمل الصينية من فوق المكتب الذي كان يجلس عليه شاب منذ فترة وجيزة، اختفى وسط زحام الصالة، اخبرة مصطفى أن يذهب ويباشر عمله، وقبل أن يغادر سيتوجه مصطفى إلى البوفية ويأخذ القميص منه هناك.
لوح فرج بيده لكن قبل أن يمشي طلب منه مصطفى أن يحدث الأستاذ أشرف عيسى عنه، ضيق فرج عينيه وهو ينظر لمصطفى وقال:
- خلص انت كتابك بس.. وانا هخليه يعمل لقاء معاك ويمكن لو عجبه الكتاب يكلم إدارة القناة تقدم برنامج بس انت خلص كتابك.
قالها وترك مصطفى حائرًا، أحس أن الصالة غلفها السكون فجأة، وشعر بأن كل من في الصالة يطالعونه، ينظرو إليه، منتظرين منه رد، ثم انتبه لحاله وعادت الحركة مرة أخرى في صالة التحرير، أكمل طريقه نحو سميحة ووقف بجوارها، مدت يدها فصافحها، نظرت لزميل الجامعة والعمل وسألته إن كان قد تناول وجبة أفطاره، أخبرها أنه لم يتناولها بعد، قالت له أنها اعتقدت أنه يوصي عم فرج على أفطار وقهوة، تغير لون وجهه وازداد حمرة واخبرها أنه هناك مشكلة لأحد جيران فرج، وأنه يستنجد به لتدخل، هزت سميحة رأسها غير مهتمة بما يقول، وعلقت على كلامه أن ما يهمها هو أنه لم يتناول أفطاره بعد مثلها.
وقفت سميحة وتناولت حقيبتها واشارت له أن يسبقها لأنها قررت أن تعزمه على الأفطار، سبقها مصطفى بخطوات تبعته حتى خرجا من صالة التحرير، مشيا بجوار بعضهما وهما خارجين من مبنى المجلة.
وقفت سميحة أمام البوابة الرئيسية للمجلة مترددة، سألها مصطفى عن سبب وقوفها هكذا، لا تعرف بالضبط أين سيفطران، هناك مطعم قريب من المجلة لكنه يقدم مأكولات شعبية لا تستهويها كما أنها تصيبها بالانتفاخ لإنها تعاني من القولون، وهناك على الجهة المقابلة من المجلة محل لبان، لم تجربه من قبل، لكنها تمر من أمامه كلما حضرت للمجلة، تطالع وجهته من خلف زجاج سيارتها، واجهته نظيفة ويبدو أن بضاعته جيدة، لكنها لم تجربه ولو لمرة واحدة، وربما تأخذ سيارتها وتصطحب مصطفى لإحدى المطاعم المعروفة وهناك يمكنهم تناول وجبة افطار كاملة ومضمونة والسعر سيكون معقول.
عرضت الاقتراحين الأخيرين على مصطفى بعد أن استبعدت فكرة المطعم الشعبي، سألها مصطفى عن سعر الإفطار في المطعم المعروف، مطت شفتها السفلى في استهتار واخبرته أن الوجبة للفرد ستكون ما بين مئة ومئة وخمسين جنيهًا، برزت عيني مصطفى، ودور شفتيه ورفع حاجبيه مستنكرًا ناكرًا ما تقوله، ضحكت سميحة من رد فعله واخبرته أن هذا سعر معقول لو قارنته بكوب من القهوة فقط في (ستاربكس)، وعلى العموم هي من دعته للغفطار مما يعني أنه لن يدفع شيء.
يعلم مصطفى هذا جيدًا، فسميحة ليست زميلة في المجلة وحسب أو تعرف عليها في العمل فقط، لكنها زميلة منذ أيام الجامعة، وصديقة منذ سنوات طوال، لم تكن هذه المرة الأولى التي تدعوه لتناول الطعام، اعتادت على فعل ذلك منذ تعرفهما على بعضهما، كانت كل يوم أثناء الجامعة تدعوه في كافتيريا الكلية لتناول سندوتشات الجبن الرومي وشرب النسكافية، رفض في البداية، لكنها غضبت لرفضه واعتبرته أنه لا يعتبرها صديقة له، وافق بعد الحاح ثم صارت عادتهما.
والحقيقة أنه كثيرًا في أيام الجامعة الخوالي ما غادرا الجامعة واصطحبته في سيارتها متجهة لمطعم بعينه أو كافيه باسمها لتناول الإفطار أو شرب مشروب محدد تهتم سميحة كثيرًا بهذه الأمور وتتابع تقيمات المطاعم والكافيهات وتدون ملحظواتها على كل مكان تزوره، ولا تجرب أو تدخل مكان لا تعرفه، ولهذا السبب وببساطة نظرت لمصطفى واشارت نحو محل اللبان وسألته:
- كلت هنا أو شربت هنا قبل كده؟
نظر مصطفى نحو المحل الذي اشارت عليه سميحة، قال لها:
- اه جربته أكتر من مرة، معقول على فكرة مش وحش.. سندوتشات الجبنة الرومي عنده عالمية خصوصا لما تطلبيها سخنة، كمان اللبن بتاعه نضيف وفي منه أكتر من نوع علشان الدسم، انا جربت كامل الدسم حلو قوي والبقسماط عنده طازة وما بيجبش حموضة.
رفعت سميحة ابهامها وعلى وحهها علامات الإعجاب مما قاله مصطفى، ردد مصطفى نظره نحو سميحة ونحو اللبان، ابتسم وسألها إذا ما كنت قد قررت تناولت الإفطار عند لبان السعادة كما هو مكتوب على اليافطة المعلقة على واجهة المحل، هزت سميحة رأسها نافية وأخبرته أنها لسعيدة حقًا لإنه وأخيرًا تعلم شيء منها وهو تقييم محلات الطعام بطريقة جيدة وأنه أصبح يلاحظ أشياء كان منذ فترة لا يهتم بها.
اشارت له وتحركت، لحق مصطفى بعد أن سبقته إلى مكان انتظار السيارات، ركبت سيارتها، جلس مصطفى بجوارها، سألها عن سبب رفضها تناول وجبة الإفطار عند اللبان، نظرت له وهي تحاول رص خصلات شعرها البني القصير بجانب بعضها، قالت قبل أن تضع مفتاح السيارة في مكانه:
- الصراحة أنا متضايقة قوي.. وكنت قاعدة في المجلة غصي عني وحمدت ربنا لما انت جيت.. اليوم فاكس من أوله يا معلم.
ادارت سميحة محرك سيارتها، جاء صوت المحرك هادئ ناعم، نظرت سميحة في المرآة الجانبية قبل أن تغير ناقل الحركة، وضعت يدها على ناقل الحركة، نفخ مصطفى في ضيق، ابعدت سميحة يدها عن ذراع صندوق الحركة ونظرت له وسألته في قلق:
- مالك يا ابني فيك انت راخر؟
- متضايق يا سميحة.. متضايق.. البت منى قابلتني على غيار ريق كده قدام المجلة وعكننت عليا.
- هي عكننت عليك انت كمان؟! انا كنت فاكرة انا بس.. قولي بقا عملت لك ايه بنت الحلال دي؟
- لا واضح إنها مضيقاكي انت كمان.. احكي انت الأول.
بدأت السيارة وبهدوء في الرجوع إلى خلف بينما سميحة تحكي لمصطفى أن منى أبو زيد تغيظها وتعاندها باسمها وصورتها على التحقيق الذي كتبته في العدد الأخير، اندهش مصطفى وعلق هو الأخر أن هذا هو السبب الرئيسي لضيقه منها، واضاف متسائلًا:
- تفتكري هي قاصدة فعلًا تغيظنا واللا إحنا اللي على راسنا باطحة واللا إيه؟
- باطحة أيه يا ابو درش على رأسنا.. ما تفوق بقا من الدروشة اللي انتي فيها دي يا اسطى.. احنا زي الفل.. انا اتعينت في المجلة وهي لسه بتشتغل بالقطعة.. يبقا مين احسن بقا؟
نظر نحوها ولم يرد، ضربت مقود السيارة واعادت السؤال مرة أخرى، سألها بصوت مرتفع:
- أنتِ عاوزة الحق ولا ابن عمه؟
نظرت له وابتسمت في سخرية مريرة وقالت:
- لا الحق ولا ابن عمه.. اسكت.. اسكت.. إحنا فشلة يا معلم والكتابة دي مش سكتنا...
قاطعها مصطفى معترضًا وهو يشير على ملف الأوراق الذي وضعه على الكرسي الخلفي للسيارة:
- اتكلمي عن نفسك يا بيضة، انا عندي كتابي اهوه.. باكورة اعمالي.. كتاب هيغير مجرى التاريخ.
لوحت بيدها مستهزأة من كلامه وسألته وهي تنحرف بالسيارة في شارع جانبي:
- إلا قولي صحيح.. هو الكتاب ده عن إيه؟
- عن الماورئيات وعلاقتها الخفية بمستقبل الإنسان المكنون المترخ في الخطيئة.
نظرت له سميحة وفتحت فمها عن أخره، اغلقته على مهل وقالت:
- انت مدرك انت بتقول إيه؟
- طبعا عارف بقول إيه.. مش بقولك هيغير مجرى التاريخ.
- انت بتهبد يا ريس وبتقول أي كلام.. بس ما علينا.. احب افكرك بقا إن اخر مرة قولت لي إن الكتاب ده عن تأثر الإنسان وسلوكه من مخالطته للحيوانات.. ولما سألتك يعني إيه قولت لي: "يعني مثلا واحد مدرب كلاب وعايش وسط الكلاب على طول.. أكيد سلوكه هيتأثر بيهم.. وواحد مدرب أسود وعايش وسطيهم أكيد هيبقا مختلف عن مدرب الكلاب." وساعتها قولت لك يعني هيبقا سلوكة كلابي فقولت لي بالظبط.. مع إني اصلا كنت بقألش.
اعتدل مصطفى في جلسته وقال محاولًا تجميع شتات فكره الذي مزقته سميحة بكلامها وسخريتها:
- في باب كامل فعلا عن الموضوع ده في الكتاب.. لكن الموضوع الرئيسي للكتاب هو عن الماورئيات..
- ايوه ماورئيات ايه بقا.. كمل باقي العنوان.
صمت مصطفى لثوان قليلة ثم تمتم بصوت مسموع وهو ينظر ويشير لها:
- جهلة وبرجوازية.. الاتنين مع بعض.
ضحكت سميحة ساخرة واخرجت لسانها معاندة لمصطفى، ركنت السيارة أمام كافية فخم، اشارت له وقالت:
- انزل.. انزل يا بتاع الماورئيات المرتخ في المعاصي...
قاطعها مصطفى وهو يتحدث بجدية:
- الخطيئة يا جاهلة.. الخطيئة مش المعاصي.. في فرق.
فتحت باب السيارة وقالت قبل أن تنزل:
- ماشي ماشي.. الخطيئة.. اخطئت انا في البخاري.. يللا خلينا نشوف هنطفح ايه.
تابعت سميحة كل خلجة من خلجات مصطفى وهو يتحدث مع النادل، شفته العليا الرفيعة الدقيقة والتي تبدو كخط تقريبًا يزداد سمكه قليلًا في المنتصف، شفته السفلى مكتنزة تغري على التقبيل والمص، دقنه الدقيق البارز من اسفل قليلًا يجعلها تفكر كثيرًا في فركه بين ابهمامها وسبابتها، لكنها دائمًا ما تتراجع في اللحظات الأخيرة عن فعل هذا، جبينه العريض نسبيًا يزيد وجهه بهاء وإشراق، وانفه الصغير مرتفع الأرنبة يجعله كقيصر روماني من عصور غابرة، شعره الأسود وحاجبيه الأسودين المقرونين وعينيه السودتان يجعلان من نظراته نجوم تلمع في سماء ليل حالك، هي تحبه، وتعرف وتعترف بذلك، ولكنه مشغول بأخرى، تلك القصيرة اللعينة صاحبة تحقيق المجازر، لماذا لم يخطئ أحدهما ويذبحها معتقدًا إنها عنزة مثلا؟! افكار إجرامية كثيرة ترواد سميحة عبد الله ابنة أحد كبار رجال الأعمال في مصر وشمال أفريقيا، الأخت الوسطى لثلاث أخوة كلهم يعملون في إمبراطورية عبد الله الشتري، دفع لمجلة أخر خبر ذات يوم مليون ومأتان وخمسون ألف جنيهًا مقابل حملة دعاية لمنتج غذائي جديد، كان هذا هو الهدف المعلن من الصفقة، ولكن المخفي منه هو تعيين ابنته سميحة في المجلة.
في الواقع لم يقتنع عبد الله يومًا ما بابنته سميحة، ولم يهتم بها ولا لأحوالها، فهي في يوم من الأيام ستذهب لتعيش في بيت زوجها، وبعد موته سينتقل بسببها جزء من ثروته لرجل غريب ولابنائها الغرباء أيضًا عنه؛ فهم في النهاية لا يحملون اسمه، صرح لها منذ صغرها بكلامه واراءه هذه، قال لها ذات يوم وهو يحاول صبغ كلامه بلهجة مزاح: "كان نفسي نبقا أيام الجاهلية.. كنت دفنتك وارتحت." ومن يومها وهو يدفنها ويأودها ويورايها التراب كل يوم، السيارة التي تركبها هي سيارة قديمة تخلى عن أحد أخواتها الذكور لسبب ما، المليون وربع الذي دفعهم في المجلة استفاد منهم في حملته الإعلانية وكان مخطط لها سواء كانت سميحة موجودة أو لا، وتعيينها في المجلة ربح زائد وراحة لضميره الذي احيانًا وعلى فترات متباعدة وخاصة بعد حديث يخص سميحة مع امها يشعر بوخزة فيه، ولكنها في النهاية مشروع خاسر من كل الاتجاهات، المكسب الوحيد المحتمل منها هو أن تأتيه بعريس غني يدمج امبراطوريته لتصبح هي الأكبر والأقوى على مستوى الشرق الأوسط.
تعرف سميحة جيدًا طريقة تفكير أبيها، وتفكير أخوتها الذي لا يختلف مطلقًا عن تفكير أبيهم، وكما تعرف وتعترف بحبها لمصطفى داوود.
*
ازدحمت صالة التحرير في مجلة أخر خبر وتحولت كخلية نحل ارتفع طنينها، دخل مصطفى الصالة، تلفت في ارجائها باحثًا عن مكان يجلس فيه، لكن كل الاماكن مزدحمة، لوحت له سميحة من إحدى أركان الصالة، رسم على شفتيه ابتسامة مغتصبة، وتوجه نحوها، في الطريق اوقفه فرج ممسكًا ذراعه، قال له بصوت مرتفع كعادته عند الحديث:
- جالي قميص (تومي) يسوى يجي الفين جنيه.. كاروهات على بني كده بس إيه.. حاجه أخر آلاجة.
وقف مصطفى في البداية يطالع وجه فرج صامتًا، يعلم جيدًا أن المبلغ الذي يخبره به الآن سينزل إلى عشرة في المئة فقط، هذا القميص سيحصل عليه بمئتين أو ربما ثلاثمائة جنيهًا كحد أقصى، هذا أمر منتهي ولكن كل ما يريد مصطفى معرفته الآن من أين حصل هذا الكهل على مثل هذا القميص، فمصدر القميص دليل قاطع على أنه أصلي أو تقليد، وما هي درجة جودة تقليده، ظل مصطفى صامتًا يطالع وجه فرج الذي لم يتوقف عن الحديث قائلًا:
- طبعًا عارف الأستاذ أشرف عيسى؟
هز مصطفى رأسه بالإيجاب، أكمل فرج حديثه وكأنه لم يرى هزة رأس مصطفى أو رآها وتجاهلها:
- الأستاذ أشرف عيسى اللي بيلبس حمالات بنطول.. عارفة؟
- أه عارفة يا عم فرج.. ماله الأستاذ أشرف؟
وضع فرج صينية الشاي التي في يده على مكتب يجلس خلفه صحفي شاب صغير يشاهد فيديو على موقع اليوتيوب، يوقفه كل عدة ثواني ويكتب في ورقة أمامه، لم يهتم الشاب بوضع الصينية على مكتبة أثناء عمله، فهذا لن يؤثر كثيرًا على ما يفعله الآن؛ ثم إن عم فرج هو ملك هذه الصالة وله مطلق الحرية أن يفعل بها ما يريد، هكذا اعتاد كل من يعمل هنا.
اقترب فرج من أذن مصطفى وقال:
- أشرف أول ما اشتغل جه اشتغل هنا في المجلة.. الكلام ده يجي من سبعة وعشرين سنة كده.. كان بيشكك من عندي زي ما كلكو دلوقتي بتشككوا.. بس هو كان بيشكك مشاريب وأكل وساعات كان بيأخد نقدية كمان.. هي مش ساعات يعني لكن تقدر تقول كده على طول.. هو صحيح كان بيرد ويدفع كل اللي عليه.. لكن وفي نفس اليوم اللي سدد فيه يبدأ يستلف ويشكك تاني..
- وبعدين يا عم فرج؟ انا مش فاضي للكلام ده.. وايه علاقة الأستاذ عيسى بالقميص؟
- مانا جايلك في الكلام أهوه.. إتكى على الصبر شويه يا ابني.
نفخ مصطفى في ضيق، ولكن ما باليد حيلة، لابد أن يسمع ما يريد العم فرج أن يحكيه حتى لو لم يكن ذو قيمة، أكمل فرج حديثه:
- ساب المجلة وراح اشتغل في دولة من دول الخليج.. ما طولش هناك يمكن سنة تقريبًا..
صمت فرج لبرهة قصيرة وكأنه يحسب شيء في عقله ثم أدرف قائلًا:
- لا والله.. استغفر الله العظيم يا رب.. والنبي ما كمل سنة يا مصطفى يا ابني.. هم يجي كده كام شهر.. قول تمانية مثلا بالكتير..
- وبعدين يا عم فرج؟
قالها مصطفى في ضيق، لكنه تذكر أن لا شيء وراءه أو مكلف به، وأنه أتى اليوم للمجلة لمقابلة نهى مرجان، وهي لا تأتي الآن، فلا مانع من ممارسة بعض الثرثرة مع هذا الكهل، ربت مصطفى على كتف فرج وابتسم له مشجعًا ليكمل كلامه ثم أشار لسميحة أن تنتظره حتى ينهي كلامه مع فرج، عاد فرج لسرد قصة أشرف عيسى محاولا جمع خيوطها من ذاكرته المتهالكة:
- رجع من الخليج بس حاجه تانية خالص.. يومين وهوب راح فاتح جرنال لوحده.. وبقا هو رئيس التحرير.. حبه وبعد كام سنه كده باع الجرنال وراح ما تفهمش بقا شارك في قناة فضائية واللا اشتغل فيها بس.. ودلوقتي زي مانت عارف وشايف شغال في قناة فضائية بتدفع له شيء وشويات، وفي محطة إذاعه اللي هي mm دي...
- FM يا عم فرج... fm مش mm.
- مش هتفرق يا مصطفى يا ابني.. المهم كان في سفرية برا.. تقريبا كده في أمريكا.. كان بيتعالج هناك اصل بعيد عنك عنده النقرس.
- عارف النقرس ده بيجي من إيه يا عم فرج؟
- اه من شرب الخمرة والعياذ بالله.. هو بيشرب بس على خفيف ربنا يتوب عليه بقا.
- اولا الأستاذ أشرف ما بيشربش.. ثانيًا النقرس يا راجل يا فتاي ما لوش علاقة بالخمرة.. النقرس بيجي بسبب كترة أكل اللحمة.
- يا راجل!
- اه وحياتك.
- طب النقرس بسبب اللحمة يعني مرض الناس الغنية أهوه.. رايح يتعالج منه ليه بقا؟!
- لإنه في الأول أو في الاخر مرض يا عم فرج.. كمل يا عم فرج.. وبعد لما سافر أمريكا حصل إيه؟
- رجع تاني هيحصل إيه يعني؟!
- حمد لله على سلامته يا سيدي.. ها وبعدين؟
- اه افتكرت.. جاب لي القميص ده وقالي اسمه (تومي) وتمنه يجي أكتر من ألفين جنيه.
- هو قالك كده.
هز فرج رأسه بالإيجاب، مد مصطفى يده في جيبه واخرج ورقة بمئتين جنيه وعرضها على فرج قائلًا:
- تمشي معاك دي يا بركة.
- ميتين جنيه إيه بس يا مصطفى يا ابني.. بقولك (تومي) وامريكا والأستاذ أشرف عيسى وانت تقولي ميتين جنيه.. طب ده الميتين جنيه دول مش جايبين حق وقفتي معاك دلوقتي.. بقولك الأستاذ أشرف عيسى.. أشرف عيسى.
- ميتين وتلاتين يمشي معاك؟
- ميتين وخمسين وانا الخسران.
اخرج مصطفى ورقة نقدية فئة الخمسين جنيهًا، دس فرج النقود واشار لمصطفى أن يتبعه بعد أن حمل الصينية من فوق المكتب الذي كان يجلس عليه شاب منذ فترة وجيزة، اختفى وسط زحام الصالة، اخبرة مصطفى أن يذهب ويباشر عمله، وقبل أن يغادر سيتوجه مصطفى إلى البوفية ويأخذ القميص منه هناك.
لوح فرج بيده لكن قبل أن يمشي طلب منه مصطفى أن يحدث الأستاذ أشرف عيسى عنه، ضيق فرج عينيه وهو ينظر لمصطفى وقال:
- خلص انت كتابك بس.. وانا هخليه يعمل لقاء معاك ويمكن لو عجبه الكتاب يكلم إدارة القناة تقدم برنامج بس انت خلص كتابك.
قالها وترك مصطفى حائرًا، أحس أن الصالة غلفها السكون فجأة، وشعر بأن كل من في الصالة يطالعونه، ينظرو إليه، منتظرين منه رد، ثم انتبه لحاله وعادت الحركة مرة أخرى في صالة التحرير، أكمل طريقه نحو سميحة ووقف بجوارها، مدت يدها فصافحها، نظرت لزميل الجامعة والعمل وسألته إن كان قد تناول وجبة أفطاره، أخبرها أنه لم يتناولها بعد، قالت له أنها اعتقدت أنه يوصي عم فرج على أفطار وقهوة، تغير لون وجهه وازداد حمرة واخبرها أنه هناك مشكلة لأحد جيران فرج، وأنه يستنجد به لتدخل، هزت سميحة رأسها غير مهتمة بما يقول، وعلقت على كلامه أن ما يهمها هو أنه لم يتناول أفطاره بعد مثلها.
وقفت سميحة وتناولت حقيبتها واشارت له أن يسبقها لأنها قررت أن تعزمه على الأفطار، سبقها مصطفى بخطوات تبعته حتى خرجا من صالة التحرير، مشيا بجوار بعضهما وهما خارجين من مبنى المجلة.
وقفت سميحة أمام البوابة الرئيسية للمجلة مترددة، سألها مصطفى عن سبب وقوفها هكذا، لا تعرف بالضبط أين سيفطران، هناك مطعم قريب من المجلة لكنه يقدم مأكولات شعبية لا تستهويها كما أنها تصيبها بالانتفاخ لإنها تعاني من القولون، وهناك على الجهة المقابلة من المجلة محل لبان، لم تجربه من قبل، لكنها تمر من أمامه كلما حضرت للمجلة، تطالع وجهته من خلف زجاج سيارتها، واجهته نظيفة ويبدو أن بضاعته جيدة، لكنها لم تجربه ولو لمرة واحدة، وربما تأخذ سيارتها وتصطحب مصطفى لإحدى المطاعم المعروفة وهناك يمكنهم تناول وجبة افطار كاملة ومضمونة والسعر سيكون معقول.
عرضت الاقتراحين الأخيرين على مصطفى بعد أن استبعدت فكرة المطعم الشعبي، سألها مصطفى عن سعر الإفطار في المطعم المعروف، مطت شفتها السفلى في استهتار واخبرته أن الوجبة للفرد ستكون ما بين مئة ومئة وخمسين جنيهًا، برزت عيني مصطفى، ودور شفتيه ورفع حاجبيه مستنكرًا ناكرًا ما تقوله، ضحكت سميحة من رد فعله واخبرته أن هذا سعر معقول لو قارنته بكوب من القهوة فقط في (ستاربكس)، وعلى العموم هي من دعته للغفطار مما يعني أنه لن يدفع شيء.
يعلم مصطفى هذا جيدًا، فسميحة ليست زميلة في المجلة وحسب أو تعرف عليها في العمل فقط، لكنها زميلة منذ أيام الجامعة، وصديقة منذ سنوات طوال، لم تكن هذه المرة الأولى التي تدعوه لتناول الطعام، اعتادت على فعل ذلك منذ تعرفهما على بعضهما، كانت كل يوم أثناء الجامعة تدعوه في كافتيريا الكلية لتناول سندوتشات الجبن الرومي وشرب النسكافية، رفض في البداية، لكنها غضبت لرفضه واعتبرته أنه لا يعتبرها صديقة له، وافق بعد الحاح ثم صارت عادتهما.
والحقيقة أنه كثيرًا في أيام الجامعة الخوالي ما غادرا الجامعة واصطحبته في سيارتها متجهة لمطعم بعينه أو كافيه باسمها لتناول الإفطار أو شرب مشروب محدد تهتم سميحة كثيرًا بهذه الأمور وتتابع تقيمات المطاعم والكافيهات وتدون ملحظواتها على كل مكان تزوره، ولا تجرب أو تدخل مكان لا تعرفه، ولهذا السبب وببساطة نظرت لمصطفى واشارت نحو محل اللبان وسألته:
- كلت هنا أو شربت هنا قبل كده؟
نظر مصطفى نحو المحل الذي اشارت عليه سميحة، قال لها:
- اه جربته أكتر من مرة، معقول على فكرة مش وحش.. سندوتشات الجبنة الرومي عنده عالمية خصوصا لما تطلبيها سخنة، كمان اللبن بتاعه نضيف وفي منه أكتر من نوع علشان الدسم، انا جربت كامل الدسم حلو قوي والبقسماط عنده طازة وما بيجبش حموضة.
رفعت سميحة ابهامها وعلى وحهها علامات الإعجاب مما قاله مصطفى، ردد مصطفى نظره نحو سميحة ونحو اللبان، ابتسم وسألها إذا ما كنت قد قررت تناولت الإفطار عند لبان السعادة كما هو مكتوب على اليافطة المعلقة على واجهة المحل، هزت سميحة رأسها نافية وأخبرته أنها لسعيدة حقًا لإنه وأخيرًا تعلم شيء منها وهو تقييم محلات الطعام بطريقة جيدة وأنه أصبح يلاحظ أشياء كان منذ فترة لا يهتم بها.
اشارت له وتحركت، لحق مصطفى بعد أن سبقته إلى مكان انتظار السيارات، ركبت سيارتها، جلس مصطفى بجوارها، سألها عن سبب رفضها تناول وجبة الإفطار عند اللبان، نظرت له وهي تحاول رص خصلات شعرها البني القصير بجانب بعضها، قالت قبل أن تضع مفتاح السيارة في مكانه:
- الصراحة أنا متضايقة قوي.. وكنت قاعدة في المجلة غصي عني وحمدت ربنا لما انت جيت.. اليوم فاكس من أوله يا معلم.
ادارت سميحة محرك سيارتها، جاء صوت المحرك هادئ ناعم، نظرت سميحة في المرآة الجانبية قبل أن تغير ناقل الحركة، وضعت يدها على ناقل الحركة، نفخ مصطفى في ضيق، ابعدت سميحة يدها عن ذراع صندوق الحركة ونظرت له وسألته في قلق:
- مالك يا ابني فيك انت راخر؟
- متضايق يا سميحة.. متضايق.. البت منى قابلتني على غيار ريق كده قدام المجلة وعكننت عليا.
- هي عكننت عليك انت كمان؟! انا كنت فاكرة انا بس.. قولي بقا عملت لك ايه بنت الحلال دي؟
- لا واضح إنها مضيقاكي انت كمان.. احكي انت الأول.
بدأت السيارة وبهدوء في الرجوع إلى خلف بينما سميحة تحكي لمصطفى أن منى أبو زيد تغيظها وتعاندها باسمها وصورتها على التحقيق الذي كتبته في العدد الأخير، اندهش مصطفى وعلق هو الأخر أن هذا هو السبب الرئيسي لضيقه منها، واضاف متسائلًا:
- تفتكري هي قاصدة فعلًا تغيظنا واللا إحنا اللي على راسنا باطحة واللا إيه؟
- باطحة أيه يا ابو درش على رأسنا.. ما تفوق بقا من الدروشة اللي انتي فيها دي يا اسطى.. احنا زي الفل.. انا اتعينت في المجلة وهي لسه بتشتغل بالقطعة.. يبقا مين احسن بقا؟
نظر نحوها ولم يرد، ضربت مقود السيارة واعادت السؤال مرة أخرى، سألها بصوت مرتفع:
- أنتِ عاوزة الحق ولا ابن عمه؟
نظرت له وابتسمت في سخرية مريرة وقالت:
- لا الحق ولا ابن عمه.. اسكت.. اسكت.. إحنا فشلة يا معلم والكتابة دي مش سكتنا...
قاطعها مصطفى معترضًا وهو يشير على ملف الأوراق الذي وضعه على الكرسي الخلفي للسيارة:
- اتكلمي عن نفسك يا بيضة، انا عندي كتابي اهوه.. باكورة اعمالي.. كتاب هيغير مجرى التاريخ.
لوحت بيدها مستهزأة من كلامه وسألته وهي تنحرف بالسيارة في شارع جانبي:
- إلا قولي صحيح.. هو الكتاب ده عن إيه؟
- عن الماورئيات وعلاقتها الخفية بمستقبل الإنسان المكنون المترخ في الخطيئة.
نظرت له سميحة وفتحت فمها عن أخره، اغلقته على مهل وقالت:
- انت مدرك انت بتقول إيه؟
- طبعا عارف بقول إيه.. مش بقولك هيغير مجرى التاريخ.
- انت بتهبد يا ريس وبتقول أي كلام.. بس ما علينا.. احب افكرك بقا إن اخر مرة قولت لي إن الكتاب ده عن تأثر الإنسان وسلوكه من مخالطته للحيوانات.. ولما سألتك يعني إيه قولت لي: "يعني مثلا واحد مدرب كلاب وعايش وسط الكلاب على طول.. أكيد سلوكه هيتأثر بيهم.. وواحد مدرب أسود وعايش وسطيهم أكيد هيبقا مختلف عن مدرب الكلاب." وساعتها قولت لك يعني هيبقا سلوكة كلابي فقولت لي بالظبط.. مع إني اصلا كنت بقألش.
اعتدل مصطفى في جلسته وقال محاولًا تجميع شتات فكره الذي مزقته سميحة بكلامها وسخريتها:
- في باب كامل فعلا عن الموضوع ده في الكتاب.. لكن الموضوع الرئيسي للكتاب هو عن الماورئيات..
- ايوه ماورئيات ايه بقا.. كمل باقي العنوان.
صمت مصطفى لثوان قليلة ثم تمتم بصوت مسموع وهو ينظر ويشير لها:
- جهلة وبرجوازية.. الاتنين مع بعض.
ضحكت سميحة ساخرة واخرجت لسانها معاندة لمصطفى، ركنت السيارة أمام كافية فخم، اشارت له وقالت:
- انزل.. انزل يا بتاع الماورئيات المرتخ في المعاصي...
قاطعها مصطفى وهو يتحدث بجدية:
- الخطيئة يا جاهلة.. الخطيئة مش المعاصي.. في فرق.
فتحت باب السيارة وقالت قبل أن تنزل:
- ماشي ماشي.. الخطيئة.. اخطئت انا في البخاري.. يللا خلينا نشوف هنطفح ايه.
تابعت سميحة كل خلجة من خلجات مصطفى وهو يتحدث مع النادل، شفته العليا الرفيعة الدقيقة والتي تبدو كخط تقريبًا يزداد سمكه قليلًا في المنتصف، شفته السفلى مكتنزة تغري على التقبيل والمص، دقنه الدقيق البارز من اسفل قليلًا يجعلها تفكر كثيرًا في فركه بين ابهمامها وسبابتها، لكنها دائمًا ما تتراجع في اللحظات الأخيرة عن فعل هذا، جبينه العريض نسبيًا يزيد وجهه بهاء وإشراق، وانفه الصغير مرتفع الأرنبة يجعله كقيصر روماني من عصور غابرة، شعره الأسود وحاجبيه الأسودين المقرونين وعينيه السودتان يجعلان من نظراته نجوم تلمع في سماء ليل حالك، هي تحبه، وتعرف وتعترف بذلك، ولكنه مشغول بأخرى، تلك القصيرة اللعينة صاحبة تحقيق المجازر، لماذا لم يخطئ أحدهما ويذبحها معتقدًا إنها عنزة مثلا؟! افكار إجرامية كثيرة ترواد سميحة عبد الله ابنة أحد كبار رجال الأعمال في مصر وشمال أفريقيا، الأخت الوسطى لثلاث أخوة كلهم يعملون في إمبراطورية عبد الله الشتري، دفع لمجلة أخر خبر ذات يوم مليون ومأتان وخمسون ألف جنيهًا مقابل حملة دعاية لمنتج غذائي جديد، كان هذا هو الهدف المعلن من الصفقة، ولكن المخفي منه هو تعيين ابنته سميحة في المجلة.
في الواقع لم يقتنع عبد الله يومًا ما بابنته سميحة، ولم يهتم بها ولا لأحوالها، فهي في يوم من الأيام ستذهب لتعيش في بيت زوجها، وبعد موته سينتقل بسببها جزء من ثروته لرجل غريب ولابنائها الغرباء أيضًا عنه؛ فهم في النهاية لا يحملون اسمه، صرح لها منذ صغرها بكلامه واراءه هذه، قال لها ذات يوم وهو يحاول صبغ كلامه بلهجة مزاح: "كان نفسي نبقا أيام الجاهلية.. كنت دفنتك وارتحت." ومن يومها وهو يدفنها ويأودها ويورايها التراب كل يوم، السيارة التي تركبها هي سيارة قديمة تخلى عن أحد أخواتها الذكور لسبب ما، المليون وربع الذي دفعهم في المجلة استفاد منهم في حملته الإعلانية وكان مخطط لها سواء كانت سميحة موجودة أو لا، وتعيينها في المجلة ربح زائد وراحة لضميره الذي احيانًا وعلى فترات متباعدة وخاصة بعد حديث يخص سميحة مع امها يشعر بوخزة فيه، ولكنها في النهاية مشروع خاسر من كل الاتجاهات، المكسب الوحيد المحتمل منها هو أن تأتيه بعريس غني يدمج امبراطوريته لتصبح هي الأكبر والأقوى على مستوى الشرق الأوسط.
تعرف سميحة جيدًا طريقة تفكير أبيها، وتفكير أخوتها الذي لا يختلف مطلقًا عن تفكير أبيهم، وكما تعرف وتعترف بحبها لمصطفى داوود.