8

الفصل الثامن:

نعود الى ميرا التي لا تزال نائمة حتى الآن فلقد حلّ المساء و لا زالت نائمة و ذلك بسبب الارهاق و التعب و الأرق فهي غير قادرة على النوم ليلاً في بعض الأحيان

بينما كان أمير و انجيلا قد وصلا منذ مدة وجيزة و تناولا طعامهما معاً على المائدة في رفقة ميلا والدة امير و ميرا ، و الجميل في الأمر انهم يعتبرون انجيلا مثل ابنة العائلة ، فلقد كانت انجيلا ابن سائقهم الذي عمل معهم لمدة عام كامل و كانت انجيلا تعمل كأخصائية تغذية ، فلقد تخرجت من الجامعة بعد ان تخصصت في ذلك الفرع و بعد ان حازت على عدة شهادات عليا ، و عندما توفى والدها لم تكن تملك اي مأوى و لذلك ميلا فضلت ان تبقى انجيلا في جانبها ، بينما كانت ميرا لا تثق كثيراً في انجيلا ، فميرا لم تعد قادرة على ان تثق بأي أحد خارج عن اطار والدتها و شقيقها و توأمها أمير ، و مع ذلك انجيلا تتفهم ذلك في شكل جيد لأن ميلا والدة ميرا و أمير قصّت و روت الى انجيلا كل ما حدث مع ميرا ، مما جعلها تلتمس عذراً من أجلها ، فهي تتفهم و تدرك في ان الانسان اذا ما تمت خيانته و غُدر به قد يكون الانسان الأحرص في هذه الحياة ، و يتعلم من درسه بعد ان قد لقنوه درساً قاسياً بسبب خيانتهم و الغدر بهم..

و عندما انتهى أمير من تناول طعامه ذهب حالاً الى جانب ميرا حيث غرفتها ، ثم دخل اليها خلسة و بدأ يرمي عليها الأوسدة السوداء القطنية ، فكل غرفة ميرا سوداء فهي لم تُدخل او تدمج اي لون آخر سوى اللون الأسود ، ثم بدأت ميرا بتحريك عيناها و بدأت تتمتم قائلة و موجهة في حديثها الى امير و هي غارقة في النوم

ميرا : امير اعلم انه انت ايها الفوضوي ، اتركني و شأني فأنا متعبة و مرهقة جداً

أمير : لا ا ا ، لن اتركك و شأنك هيا استيقظي فلدي خبر سار جداً

ميرا : اخبرني بالأنباء السارة عندما استيقظ من نومي ، هيا ارجوك

أمير : حسناً اذاً سوف اذهب

نهضت ميرا مسرعة بعد أن شعرت في ذهابه حقاً ثم رأته يتوجه نحو خارج الغرفة ، ثم قالت له مخاطبة اياه

ميرا : لا لا انتظر لقد استيقظت

بدأ أمير في الضحك لتتزايد قهقهاته ، و يتمعن في طفولة ميرا التي لم تُنهيها اي من حروب حياتها او الصعوبات التي مرت بها ، لكن ميرا لم تكن تشعر في تلك الطفولة التي بقيت على حالها و لذلك دائماً ما تعود بعفوية لتلك الطفولة ، فلا تزال بقايا منها مختبئ في داخلها بسبب كل ما عانت منه ، أصبحت طفولتها مكنونة بينها و بين نفسها ..

ثم قالت ميرا له : هيا اخبرني عن الاتباء السارة

أمير : هل تذكرين الشاب الذي اتى من اجل الوظيفة

ميرا : نعم اتذكره ، ماذا به و ما شأني به

أمير : انه المصور الذي تبحثين عنه نفسه ، و الذي ينشر على المواقع الاجتماعية باسم مجهول


ميرا : ليس هو ، انه مجرد شخص كاذب و مخادع

أمير : لدي مصادري الموثوقة انه هو

و بدأت ميرا تخبره عن الموقف الذي جمع ميرا مع ذلك الشاب ، و بدأت تخبره عن كذبه و خداعه و توضح له عن كل ما حدث و ما ادركته و لذلك هي تظن بان ديفيد مجرد كاذب و مخادع ..

أمير : ربما تحدث في تلك الطريقة لأنه شخص مغرور ، لكن ما لا تعلمينه ان هذا الشاب هو ابن اكبر و اغني عائلات باريس ، فربما احب ان يمازحك لا اكثر

ميرا : مع ذلك لا يمكنني تقبله ، فانا لا احتمل المخادعين و الكاذبين

أمير : فكري في الموضوع اكثر فنحن في حاجة ماسّة اليه ، من أجل توسيع عملنا أكثر و من أجل نجاح خطتنا فكما أعلم ان شركة روزاليا ايضاً تبحث عن نفس الشخص

ميرا : يمكننا ان نجد شخصاً أفضل لا تقلق ، التهم من ذلك ان لا نأمن للناس التي لا تُؤتمن و ان لا نثق بالناس التي لا أمن او ثقة لها ، لا يمكننا احتمال المخادعين فهم سوف يجعلون من عملنا مجرد عمل خاسر و فاشل بعيداً عن النجاح و الفوز و الانتصار

صمت أمير لأنه مدرك بأن ميرا لم تعد تتمكن من الوثوق او التصديق بأي أحد و لم يجد جواب مناسب للرد عليها و بعد صمت طويل قال لها مخاطب اياها

أمير : اوه لقد نسيت

ميرا : ما الذي نسيته يا أمير ، اصبحت كثير النسيان في هذه السنوات القليلة

أمير : ههه لقد اصبحتُ رجلاً عجوزاً اذاً

ضحكت ميرا في رفقة أمير و تعالت ضحكاتهم المرافقة لقهقهاتهم ثم عاد أمير ليكمل حديثه و الذي يوجهه الى ميرا قائلاً

امير : هناك معرض سوف يُقام في جزيرة تابعة لفرنسا الا و هي جزيرة سانت مارغريت ، و ذلك المعرض طلب حضور الكاتبة ميارا الا و هي النتِ و لذلك عليكِ الذهاب و سوف يكون هناك تغطية للأحداث و سوف يتم نشرها

ميرا : يبدو انك نسيت في أنني لا يمكنني الخروج امام الكاميرات و الناس العامة من اجل تحقيق هدفي ، و لكي اصل الى ما اريده يجب علي الاختباء من عيون الناس و نظرهم و مراقبتهم لي

أمير : لا تقلقي فهناك خطة

ميرا : و ما هي تلك الخطة يا امير التي لن تكشفني امام الناس العامة

أمير : سوف تصعد انجيلا بدلاً منك على المسرح لكن مع ذلك وجودك ضروري ، لكن عليكِ تخبئة نفسك جيداً و سوف يكون في رفقتك الكثير من الحراس الشخصيين فلا تخافي او تقلقي

ميرا : حسناً اذاً ، خطة جيدة ، سوف اعمل على تدريب انجيلا في طريق مثالية لكي ننجح في خطتنا دون ان اظهر او اعيق و اصنع حواجز تعيق هدفي..

أمير : اتفقنا اذاً ، هيا الآن حان وقت المتعة قليلاً فلقد سئمت من العمل

ميرا : صدقني لا املك اي نشاط او قوة لاذهب و استمتع

أمير : كفاكِ ايتها الكسولة هيا انهضي و قومي بتحضير و تجهيز نفسك فهناك مفاجئة لك

ميرا : همم مفاجئة لكن ما هو سبب و مناسبة هذه المفاجئة

أمير : اوه ميرا ، هل من الضروري ان يكون لكل شيء في دنيانا سبب ما

ميرا : هه ربما انت محق ، حسناً اذا سوف اذهب و استعد

أمير : انا في انتظارك اذاً

ميرا : حسناً سوف الحق بك بعد قليل

ذهب أمير من اجل ان ينتظر ميرا في قاعة الاستقبال فلقد مضى وقت طويل على الذهاب و الاستمتاع مع بعضهم البعض كأشقاء و توأم ، فلقد كان امير دائماً ما يضع ميرا تحت الجبر من اجل ان تأتي معه و يروحان عن نفسهما قليلاً

بينما كان أمير ينتظر ميرا ، دخلت ميرا الى الحمام و غسلت وجهها لتستفيق من حالة الملل و الكسل التي لاصقتها بعد ان خلدت الى النوم في وضح النهار ، ثم توجهت الى خزانتها و اختارت ملابسها و كالعادة كل لباسها اسود من دون اي لون آخر يُذكر ، لقد اختارت فستان كلوش قصير يصل الى حد ركبتيها ، كان فستان هادئ و سادة ، ثم ارتدت حذاء اسود سبور و رفعت شعرها و صنعت منه مثل شكل زيل الحصان و وضعت اقراط سوداء ناعمة جداً و وضعت مشبك ناعم اسود اللون على شعرها ، و عندما انتهت من تحضير و تجهيز نفسها نزلت الى الاسفل حيث قاعة الاستقبال و ذلك من اجل ان تذهب في رفقة امير الذي ينتظرها هناك ..

و عندما نزلت توجهت في رفقة امير شقيقها و توأمها الى سيارتهم الخاصة ثم صعدا الى السيارة و بدأ امير يقود السيارة و لقد جلست ميرا في جانبه تنظر من نافذة السيارة الى المناظر ، كانت مدموجة في الهدوء و السكون و كأنها تتلاشى مع ممرات الطريق و كأنها ملقاة بين الدروب و كأنها بين هضاب اللا شعور و تلال التلاشي و السكون و جبال اللاشيء و اللامبالاة ، و كأنها تبحث عن ماء من الينابيع و الانهار و البحيرات ، هي تحتاج الى الكثير من الماء البارد لكي تطفئ النار التي في داخلها ، و كأنها تبحث عن مكان ما بعيد ، عن مكان مهجور لتترك قلبها المهجور هناك و تعود ..

لقد كانت تبحث عن شيء ما تترك به بقاياها المتراكمة ، لقد كانت تريد آلة زمنية ما تذهب عبرها لكي ترتب اجزائها المبعثرة ، لقد كانت تبحث عن أغصان زيتون مثل أغصان زيتون دمشق التي كانت تحمل السلام في لونها الأخضر ، لقد كانت تبحث عن
صحراء لتقتلع جزور خيبة أملها من داخلها و تثبتها بعيداً عنها ، لقد كانت تبحث عن مفتاح لكي تعود و تفتح قفل قلبها المغلق ، لقد كانت تبحث عن الكثير و الكثير..

فتحت زراعيها و اخرجت زراعها من النافذة لكي تتصادم مع نسمات الهواء البارد و بدأت تستنشقه بكل رحب و سعة و كأنه مرّ زمن طويل على استنشاقها للهواء ، أما أمير فلقد كان يتمعن في الطريق و يتخيل شمس حب حياته في أنها تجلس في جانبه و في القرب منه ، فلقد كان ينظر تارةً الى الطريق من اجل ان يقود بشكل جيد و تارةً اخر كان ينظر الى المقعد الذي في جانبه لكي يعود و يرى خيال شمس و التي هي حب حياته و عشق روحه ، لكنها سريعاً ما كانت تتلاشى بعد ابتسامة منه قد رسمت على شفتاه ، و عندما وصلا نزلا حالاً من السيارة الخاصة بهما و اذ ببستان صغير ذا بوابة و سور ضخمان ، عندما رأت ذلك تفاجئت ميرا في مفاجئة أمير ، فلطالما كانت ميرا تحب الطبيعة و الاشجار و الخضار و الزهور ، لقد كانت ميرا منبهرة في كل الخضار و الازهار المتمددة على طول السور و البوابة ، قاطع ذهولها أمير و هو يحاورها قائلاً لها

أمير : هذه ليست هي المفاجئة التي اخبرتك عنها يا ميرا ، المفاجئة هي في الداخل ، فهيا لكي نذهب معاً و تطّلعي و تكتشفي مفاجئتك

فرحت ميرا كثيراً و بدت ملامح السعادة تعتلي وجهها و كأنها لا تزال طفلة في أول السنين ، طفلة تحبو فرحاً و تخطو همسهاً ، طفلة تنطق للمرة الاولة و تبدأ في اكتشاف الحياة ، طفلة صغيرة على مفارق الطرقات تمشي في سعادة عارمة ، كانت تبدو كطفلة صغيرة تكتشف ما هو جديد ، تحيك الالغاز و تبحث عن حلّها ، طفلة رقيقة ذات حساسية مفرطة ، تنهمر دموعها من عيناها لأي سبب ، تقطب حاجباها و تقوس شفتاها ان لم تجد ما تريد او ما تتخيله ، طفلة صغيرة في لباسها الوردي تبدو كالشمس في وضح النهار ، طفلة صغيرة تائهة لكنها سعيدة ، خائفة لكنها متشوقة ، باكية لكن داخلها مليء بالسلام ، طفلة صغيرة لا تكترث بما حدث او ما يحدث او ما سوف يحدث مستقبلاً ، طفلة لا تفكر الا بالاشياء و الافكار البسيطة ، طفلة تعتنق بساط السلام و البساطة و تعانق الحب و السعادة و تحتمي بنفسها بمرح ، كانت كطفلة صغيرة ، جسد كبير و روح طفلة صغيرة..

ثم توجها مع بعضهما البعض الى داخل البستان ، و ما ان لبثت في الدخول ، تاهت عيناها و صُدمت و السعادة تعتلي على وجهها اكثر و اكثر ، لقد كانت تشعر في سعادة عارمة ، و كأنهت استفاقت من الشرود و الشتات و كأن تلك المفاجئة جعلتها تعي الاشياء التي من حولها ، و كأنها جعلتها تستفيق من دوامة التفكير حيث قد بدأ التركيز السعيد يظهر في ملامح و جهها ، و كأن ثغرات التفكير و التوه و الشرود قد رحلت في مجرد رؤيتها لتلك المفاجئة ، بدأت تلتف و تدور حول نفسها لتنظر الى تلك المفاجئة المهمة في النسبة لها ، لقد كانت تشعر في سعادة عارمة قد ظهرت على ملامح وجهها ، كانت عيناها الخضراوتان لا يسعهما تصديق ما رأوه ، و كانت البسمة مرسومة على شفتاها الكرزيتان ، اما وجنتاها فلقد ظهرت تلك الغمزة الصغيرة التي في خدها الأيسر ، لقد كانت تدور و تلتف و تمسك في يد امير و تجعله يدور و يلتف معها ، لقد.كانت في اشد لحظاتها السعيدة ، ثم توقفت و بدأت تقول و توجه في سؤالها الى امير مخاطبة اياه قائلة

ميرا : كيف فعلت كل هذا مشيرة الى البستان

فلقد كان البستان كبير و مملوء بزهور الياسمين ، كان ذلك البستان محاط ببياض الياسمين و خضار أغصانه ، لقد كان الياسمين ممتد على ارض البستان ايضاً ، لقد كان مليء بأشجار زهور الياسمين ، و يتوسطه كوخ صغير من الخشب ، و يتدلى عليه الياسمين من كل جهاته و نواحيه ، و خارج الكوخ كان أمير قد وضع مقعدان خشبيان و طاولة و على الطاولة وعاء خاص من أجل الزهور (مزهرية) و كانت تلك المزهرية قد مُلئت بزهور الياسمين ذات البياض الناصع و العطر الفواح ، كان ذلك البستان مليء بعبير زهور الياسمين و كأن البستان ملئ بذلك العبير و الرحيق و عادت لتلتف و تدور حول نفسها و حول البستان فهي لم تصدق انها ترى من جديد زهور الياسمين ، فزهور الياسمين نادرة جداً في باريس ، و عادت لتقترب من الياسمين و تقترب منه لتلحظ جماله و تستنشق عبيره و تتمعن في جماليته ، لقد كانت سعيدة جداً بتلك المفاجئة ، مفاجئة شقيقها و توأمها أمير ، لم يسعها تصديق كل ما تراه بأم عينيها ، ثم بدأت تمشي في الجهة الاخرى من البستان اي خلفة الكوخ الخشبي الصغير ، و ما ان لبثت لأن تلتف بوجها حتى رأت تلك الارجوعة الصغير التي في الخلف ، لقد كانت ارجوحة بسيطة جداً من دف خشبي و حبال ثخينة ، لكن ما جملها هو الياسمين الملتف حول حبالها و حول الدف الخشبي من الاسفل ، كانت ارجوحة مثالية جداً ، كانت تبدو ارجوحة صغيرة و ناعمة و هادئة فدائماً ما تجلب زهور الياسمين نسمات الهدوء و السكون ..

ثم قالت ميرا و وجهت في سؤالها الى امير :

_لكن منذ متى و انت تخطط لهذه المفاجئة

أمير : اصبري فالمفاجئة لم تنتهي بعد !!

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي