9

الفصل التاسع:

بدأ أمير يتقدم مستدعياً اليها من اجل ان تلحق به ، ثم دخلت مع شقيقها و توأمها أمير الى ذلك الكوخ ، و عندما دخلا الى ذلك الكوخ ، بدت علامات الانبهار تظهر على ملامح وجه ميرا ، فلقد كان الكوخ يحتوي على رف فخم للكتب و كانت جميع الكتب من كتابة و تأليف ميرا ، أيضاً كانت هناك أشجار من زهور الياسمين قد نمت داخل الكوخ ، و كانت هناك صور خاصة بميرا و الجميع و كانت موضوعة على جدران الكوخ في شكل مرتب و منسق ، فقد قام امير في كل تلك الخطوات في عناية و مثالية، و قد وضع امير جميع صور ميرا التي كانت في الماضي على تلك الجدران الخاصة في الكوخ ، لقد كانت صورها ممتلئة في تلك الجدران ، فهناك صورة لها قد جمعتها مع هلى و هي التي جذبت انتباهها كثيراً فلقد كانت تنظر اليها في عناية و كأنها تريد العودة لزمان و مكان تلك الصور و كأنها تريد آلة من اجل ان ترجع في الزمن الى الوراء حيث كل ما مضى ، كل ما مضى و لن يعود ..

و هناك صورة اخرى جمعتها مع أشقّائها جوري و عمر ، لقد كانت تبدو سعيدة جداً في تلك الصورة ، فلطالما كانت عائلة كرم محور مهم في حياتها ، هي لا يمكنها ان تنسى او تتناسى فضل جميعهم حتى فضل كرم ، فرغم كل الأذية التي تسببها لها بقيت تحترمه و تتذكره ، رغم قسوته عليها و شدته عليها ، رغم عدم تقبلها و ردعها ، رغم طرده لها و عدم ابقائها في جانب اخوتها ، رغم حرمانها من منزل ذكرياتها التي جمعتها مع هلى و جوري و عمر ، رغم مل ذلك لا زالت ميرا تقدم الاحترام و التقدير له ، فلقد رحل كرم و لم يبقى في هذه الحياة ، و هي تعلم جيداً انه قد رحل و لن يعود او يتمكن من العودة ، فلقد رحل الى ابد الآبدين ..

زادت بهجتها عندما رأت صورة تجمعها مع جميع عائلتها في التبني ، فلقد كانت صورة عائلية سعيدة و مملوءة بالبهجة و الضحك و القهقهات السعيدة ، لقد كانت صورة مليئة بروح العائلة ، مليئة بالمحبة و التضامن ، لقد كانو جميعاً يبدون في غاية و ذروة سعادتهم ، تلك الصورة كانت تجمع ميرا مع هلى و كرم و أشقّائها جوري و عَمر ، ذهبت و اقتربت راكضة الى تلك الصورة العائلية و بدأت تتحثث في اصابع كفيها صورهم جميعاً ، لقد كانت تتذكر كل مواقفها و لحظاتها التي جمعتهم مع لعضهم البعض ، لقد بدأت تذكر عراكها مع عمر و جوري ، لقد كانت تتذكر و تشعر في حضن والدتها هلى الراحلة ، لقد كانت في أمس الحاجة اليهم جميعاً ، لكن ما من احد بقي على حاله و الجميع قد تغير و تبدلت ظروفه و أوضاع حياته ، و الصورة الأخرى التي تسببت في اهدار و انهمار دموع ميرا هي صورتها مع والدها الحقيقي ، والدها الذي قد رحل و لم يعد ، بدأت تتمعن في ملامحه و تتحثث في يديها صورتها التي جمعتها مع والدها ، لقد كانت تنساب و تجري دموعها و ثم تنهدر و تتصادم مع وجنتيها ، لتكمل تلك الدموع سيرها و تبلل شفتاها الكرزيتان ، اما عيناها الزجاجيتان ، كانتا قد اصبحا خضراء اللون في شكل أدكن و أغمق ، و عادت لتكمل في القاء نظراتها على جميع الصور التي وضعها أمير على الجدران ، حتى وصلت الى صورتها التي تجمعها مع ميلا و امير و الجد برهان ، حتى بدأت تتذكر الجد برهان ، تتذكر لحظاته الاخيرة و انفاسه الاخير قبل ان يأتي الموت و يسرقه منهم ..

قبل عدة أشهر من الآن كان قد تعرض الجد برهان الى أزمة قلبية و لم يعرف الاطباء سبب ذلك ، فلقد كانت صحته جيدة و كل مؤشرات اختباراته و تحليلاته كانت تؤود الى انه في صحة جيدة دون اي خطر على نفسه ، و لكنها كانت مشيئة الرب ، و عندما اسعفته ميرا في رفقة امير و ميلا بعد ان اتته تلك الازمة للمرة الثانية ، قرر الأطباء ان يجروا له عملية جراحية من اجل صحته و الاطمئنان عليه أكثر ، و لقد كانت العملية ضرورية و ليست حسب الرغبة ، فلقد كان من الضروري ان يقوم في اجرلء تلك العملية ، في بادئ الأمر عارضت ميلا ابنته تلك العملية و لم ترتح لتلك الفكرة ، فهي كانت خائفة جداً ، و في نفس الآن كانت تخشى عليه ان يصاب في اي مكروه ، و لذلك و بعد صعوبات قبلت في اجراء تلك العملية لوالدها ، و عندما دخل الجد برهان الى تلك العملية ، بقي ثلاث ساعات في غرفة العمليات ، يطلب اسعافه و تأمين الدم له بحسب زمرة دمه و ذلك من تجل ان يتناسب معه و من اجل ان تنجح العملية ، لكنه و مع الاسف لم يخرج من تلك العملية فلقد توفي أثناء العملية ، و لم يحتمل اكثر فكما وضح الطبيب لاحقاً بأن جسده غير قابل لأن يتحمل اجراء اي عمليات و لذلك قد توفي الجد برهان ، مما جعل جميع من كان من افراد عائلته في ان يدخلو في موجة عارمة من الاكتئاب و خاصةً ميلا فلقد كان والدها و مؤنثها في ظلمتها و صديقها في وحدتها ، لقد كان عالماً بأسره في النسبة لها و هكذا رحلت روح الجد برهان بعيداً دون اي عودة ..


نعود الى ميرا فلقد بقيت تحدق في ذلك الكوخ لساعات طويلة و ذلك لأن ذالك الكوخ قد نال اعجابها كثيرا كثيرا ، و شعرت في الراحة و السلام ، لقد كانت سعيدة جداً بكل ما قام أمير في تحضيره و تجهيزه و تنسيقه ، فأمير قد تعلم هندسة الديكور في عدة معاهد في السابق و لذلك هو محترف و عبقري في تصميم و ابتكار ديكورات جديدة و نو يأخذ نصف الشركة لإنجاز عمله و تحقيق مستحقاته و زيادة ارباحه ، فلطالما كان ممتاز في كل من التصميم و الترتيب و التنسيق و هو لطالما كان يبتكر أشياء جديدة في عالم هندسة و تصميم الديكورات سواءً كانت ديكورات خارجية ام داخلية ،فهو مبدع في كل شيء و محترف في جميع الزوايا و النواحي ..

بدأت ميرا في الكلام موجهةً في سؤالها اليه قائلةً له و مخاطبةً اياه

ميرا : و هل كل هذا من اجلي

أمير : بالطبع فكم شقيقة و توأم لدي ، انا لا املك سوى ميرا واحدة و هي شقيقتي و عزيزتي و ابنة ابي و امي

ميرا بعد ان تأثرت في كلماته تلك و بعد ان انهمرت دموعها و انسابت على وجنتيها قالت له مخاطبةً اياه

ميرا : كم انت لطيف يا امير ، احبك و اشكرك على كل هذا العمل الذي قمت به من اجلي

أمير : و هل تتقدمين في الشكر الى اخيكِ و شقيقك و توأمك يا ميرا ، هل يعقل هذا

ميرا : انت اجمل ما حدث في حياتي

أمير : و انتِ يا عزيزتي و اختي و شقيقتي و توأمي و صديقة دربي

ميرا : اذاً ماذا يوجد بعد هذه المفاجئة

أمير : يوجد عصير التوت

ميرا : انت تمزح صحيح

أمير : و لماذا امزح ، هل تذكرين كنا نشرب منه في الجامعة ، فالمرحومة هلى كانت تعده من اجلك و تبعث به اليك

ميرا : نعم اتذكر ذلك ، اشتاق لتلك الايام و تلك اللحظات

أمير : لقد مضت في سرعة البرق و انتهت و تلاشت و رحلت جميعها و لم يتبقى منها اي اثر

ميرا : لقد ظلّ القليل من بقايا روحنا فقط

أمير : هذا هو الحال ، هيا اجلسي في الخارج حيث المقاعد الخشبية و سوف احضر عصير التوت و بعدها سوف اخبرك كيف اعدتُ كل هذا

ميرا : حسناً اذاً في انتظارك يا امير

ثم ذهب امير من اجل ان يحضر عصير التوت و كأسان من اجل ان يشربا بهما ، و عندما عاد حاملاً اياه تقدم و جلس على الكرسي الخشبي الآخر و بدأ في سكب العصير في الكأسان و بعد ان انتهى من ذلك بدأا في شرب عصير التوت ، فلطالما كان العصير المفضل لدى ميرا ، لقد كانت تعده لها هلى في كل محبة لانها كانت تعلم بانه العصير المفضل اليها ، و عندما بدأت في أخذ اول رشفة من كأس عصير التوت الخاص بها ، بدأت تتذكر طعم و مذاق عصير توت والدتها هلى الراحلة التي ربتها و رعتها و اهتمت بها ، لقد كان مذاق ذلك العصير يذكرها في عصير هلى الراحلة عندما كانت تقوم في اعداده في يديها ، كانت هلى تعده في كامل حبها ، لقد كانت ميرا تحن و تشتاق اليها و يمتلئ قلبها بالحنين و الفراغ بسبب رحيلها و بعدها عنك و بسبب كل ما مضى ، لقد كانت ترتشف رشفة تلو الرشفة و تتلذذ في مذاق ذلك العصير و كأنها عادت و بدأت في العيش من جديد ، و كأنها لا زالت في جانب هلى ، في جانب الياسمين و عصير التوت ، للحظة ظنّت في انها قد كانت تعيش في كابوس ما و انتهى ، للحظة ظنّت في انها لا زالت هناك مع الجميع دون خيانة او غدر او حروب ، للحظة بدأت تظن نفسها بأنها لا تزال تعيش قصة حبها تلك التي لم تكتمل ، للحظة ظنّت في ان شمس لم ترحل عنهم ابداً ، للحظة ظنّت في ان كل شيء لا يزال على ما يرام ، دون اي طعنات او جروح او آلام ، لقد كانت تعيش الاحلام التي في مخيلتها و كأن تلك الاحلام قد استحوذت عليها ، و بدأت تنقلها الى مرحلة الوهم السعيد ، الوهم الذي يمتلئ بالفرح و المرح و الاشراقة ، الوهم الذي يختبئ خلف الشمس و نورها ، الوهم الذي يتدلى في شباكه ليسقطنا أرضاً ، ذلك الوهم دائماً ما يبقى مسيطر على انفينا و عقلنا و روحنا و قلبنا ، ذلك الوهم الذي يسحق روحنا تارة و ينتفض منا و من اعماقنا تارة اخرى ، ذلك الوهم الذي دائماً ما يعانقنا في قوة و اصرار على انه سوف يربح و يفوز في حربه ضدنا ، ذلك الوهم ذو الوجوه المتعددة ، فتارةً ما يسعدنا كثيراً و تارة ما يحزننا اكثر ، ذلك الوهم متعدد الوجوه و الافكار ، متعدد الخطط و الشباك ، متعدد الأقنعة و الأرواح..

و اثناء جلوسهم و شربهم لذلك العصير الذي احضره امير ، عصير التوت بدأ امير في حديثه موجهاً اليها و هو يقول مخاطباً لها

أمير : اما بعد فكل هذا قد احضرته من دمشق

ميرا : لا اصدق كيف استطعت ، و ربما في فعلتك هذه قد أحضرت الشكوك و الاوهام في رفقة هذا العصير و تلك الزهور (زهور الياسمين)

أمير : لا تقلقي لقد تدبرت الامر دون معرف اي احد ، بالاضافة الى ان العالم كبير و لن يكتشفزنا بسبب بعض الظهور و القليل من العصير

ثم بدأت ميرا في الضحك و تعالت ضحكاتها المرافقة مع قهقهاتها ، ثم ليشاركها أمير الضحك وتعلو اصوات ضحكاتهم و قهقهاتهم مع بعضهم البعض من جديد كما كانا في السابق ، كما كانا في زمن الماضي و الايام السابقة و اللحظات الماضية التي لا يمكنها ان تعود و من المستحيل ان تعود ..

لقد مرت ميرا في مراحل كثيرة في حياتها ، في مرحلة ما كانت قد استسلمت لألمها و خيانة سعد و غدره بها ، لكنها كانت ضعيفة القلب بعد ان قام سعد في القضاء على شخصيتها و روحها و عقلها و قلبها ، لقد كانت ضعيفة لدرجة انها تمنت لو كانت كل ما مرت به مجرد حلم مخيف و رحل ، لقد كانت تنتظر عودة سعد و قدومه اليها ، و بالاحرى كانت تظن في انه سوف يعود حقاً ، فدائماً ما كانت تنتظره ، تدخل الى حساباته على المواقع الاجتماعية و تبحث عنه ، فدائما ما تراها تبحث عن صوره التي تم نشرها على الانترنت ، و دائما ما تراها تبحث عن صوره في الجرائد و المجلدات و الأغلفة و الكتيبات و المطبوعات ، لكن أملها كان يتلاشى عندما تراه في الصورة ممسك في يد روزاليا ، لقد كان أملها يتلاشى في مجرد رؤيتها الى مثل تلك الصور ، ثم تعود و تملي على نفسها الآمال و الأوهام الكاذبة و المخادعة ، ثم تعود لكي تنظر من جديد الى اخبار سعد ، كانت دائماً ما تلتمس له الاعذار و تقوم في صنع مشهد من مخيلتها ، مشهد عودته اليها و معانقته لها و مسك يدها ، لقد كانت تصنع مشاهد كثيرة من اجلها و اجله ، ففي كل احلامها كان سعد موجود و لطالما كان بطل جميع احلامها ، للحظة ما ظنت ميلا والدتها بأن ميرا قد فقدت عقلها بسبب صدمتها بعد كل ما حدث ، فلقد كانت ميرا تواسي نفسها في نفسها و تقوم بغرس الآمال و الأحلام في قلبها و عقلها و مخيلتها ، لقد كانت دائما ما تدخل الى رقمه و تراقب ظهوره و عدم ظهوره ، لقد كانت تتأمل في ان يرسل لو رسالة واحدة اليها ، و لو عن طريق الخطأ ، لقد كانت لا تنام منتظرو منه رسالة واحدة فقط ، لقد كانت تنتظر عودته من كل قلبها في فارغ الصبر ، لقد كانت تقرأ خبر خطوبته و تعود لكي تلتمس له عذراً ما من جديد ، ثم تقرأ خبر زواجه و تعود مرة اخرى لكي تلتمس عذراً له ، لقد كانت تظن بأنه قد أُجبر على كل ذلك ، لقد كانت تظنه بأنه مجبور و مضطر على فعل كل ذلك ، فدائماً ما كانت تضعه في اوراق العفو و الصفح و التماس الاعذار ، لقد كانت تقدره و تقدر وضعه و تفكر في خسارته لشمس ، فهو قد خسر ايضاً لقد خسر شقيقته شمس الوحيدة ، الوحيدة التي كانت في رفقته منذ صغرها ، فلقد كانا متعلقان في بعضهما البعض بشدة ، لكن و بسبب كل ما حدث تعرض لخسارتها ..

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي