الفصل السبعون

شعر "نوح" بتبدل حال ابنته في الآونة الآخيرة، لم تعد تتناول معه الطعام، تجلس بغرفتها لساعات طويلة دون أن تخرج منها، ولم تذهب إلى العمل الأيام الماضية، مما أوغر صدره وأقلقه وجعله لا يطمئن حيال ما هي عليه، كما إن ذلك الحلم لا يستطيع منذ راوده أنه يمحيه من مخيلته، أحداثه ترسخت في عقله، مما دفع الريبة بداخله متسللة لقلبه على "لينا" بالأخص

قرر الذهاب إليها لرؤيتها والإطمئنان عليها وفي نفس الوقت للتحدث معها، فهو ملاحظ أنها متخذة موقفا منه منذ شجاره مع "راغب"، طرق على غرفتها بخفة لكي لا ييقظها إن كانت نائمة، ولكنه استمع فور طرقته لصوتها صدح من الداخل سامحة له بالدلوف:

- ادخل

قبض على مقبض الباب فاتحا إياه، دلف الغرفة وعلى محياه ابتسامة طيبة، وجدها جالسة على طرف الفراش وومسكة بهاتفها ويبدو عليها الخمول، سألها بصوت هادئ مناقض لتلك العنجهية التي تحتل صوته على الدوام:

- فاضية؟

تركت الهاتف على جنب وأجابته وهي تومئ له بالإيجاب بنبرة متريثة:

- أيوه

جلس أمامها وهو ينظر له بتفقد، لم يخفَ عنه ذلك الشحوب المعتري وجهها، وملامحها يعتليها حزن لا يدري من أين لها به وهي دائما مبتسمة مليئة بالنضارة، سألها بحنان أبوي لم تشعر به منذ زمن بعيد:

- قافلة ليه على نفسك اليوم كله؟، لا نزلتي تاكلي معايا  ولا حتى روحتي الشركة

اصطنعت البسمة وهي تخبره بإجابة مراوغة مرددة:

- مفيش، مرهقة شوية بس

يعلم أنها تختلق أي عذر فحسب، لم يرِد أن يضغط عليها في تساؤله حول تلك النقطة، واستطرد مستفهما عما يلاحظه منها متوجسا:

- هو احنا مبنتكلمش؟

رمشت بأهدابها عدة مرات بغرابة وسألته مستفسرة حول سبب تساؤله ذاك:

- ليه بتقول كده يا بابي؟

تحاهل سؤالها والذي يعلم أنه إذا أخبرها أن هذا ما يشعر به منها لراوغت من جديد، لذا سألها بجدية رادفا:

- انتي زعلانة لسه مني بسبب حوار راغب وكيان؟

سحبت شهيقا مطولا لرئتيها ولفظته على مهلٍ، ثم أجابته بصدق قائلة:

- بابي انا مش زعلانة منك، أنا بس كنت زعلانة عشان راغب وكمان كيان طيبة و..

قاطع استرسال كلماتها قائلا بمشاعر أبوية قلما تحدث بها معها وبالأحرى لم ترها عليه منذ كانت والدتها على قيد الحياة:

- أنتي وراغب ولادي والحاجة اللي طلعت بيها من الدنيا، مش عايز أحس انكوا بتبعدوا عني، وإذا كان على راغب وكيان فأنا هصالحهم، أنا أكيد مش عايز بنت ابني وأول حفيدة ليا تتولد وأنا وابوها مبنتكلمش

ترقرقت الدموع بعينيها ولم تعقم على ما قاله، بينما هو شعوره بوجود خطب معها ازداد وتفاقم، ليطنب في حديثه متكلما بهدوء:

- أنا حاسس ان انتي فيكي حاحة، وعارف اني مقصر معاكي، بس أنا عايز ابدأ معاكي صفحة جديدة، نتكلم مع بعض ونخرج، مش عايزك تقفلي على نفسك الأوضة وتبقى حزينة كده، اتفقنا يا لينا؟

تساقطت دمعة من أحد عينيها على إثر ما قاله، حركت وجهها مومئة له بالإيجاب مكتفية بالصمت فهي لا تدري ما الذي يجب غليها قوله بالأساس، بينما هو شغر بعدم رغبتها في التحدث، لذا أراد أن يترك على راحتها ولا يضغطها بالمزيد من الكلام، وثب عن جلسته وأخبرها وهو يربت على وجنتها برفق قائلا:

- هسيبك بقى تكملي اللي كنتي بتعمليه

ابتسم لها قبلما يستدير متحركا في طريقه للخارج تاركا إياه في دوامة أفكارها وحزنها الدفين، لم تتأثر بكلمات والدها وتغيره المفاجيء والتي كانت تتمنى أن يكن هكذا معها بالسابق على الأقل لما كانت بحثت عن الحب والإهتمام بالخارج، وما كانت أقبلت على تلك الزيحة الذي تسببت في حدوث كارثة وهو حملها الذي لا تعرف كيف ستتصرف حياله، رفعت ركبتيها واتكأت بمرفقيها عليهما ودفنت وجهها بيديها شاعرة بصداع بالغ يكاد يهشم رأيها من كثرة تفكيرع وعدم وجود حل لما أصبحت عليه

¤¤¤¤¤¤

تساقطت دموعها على وجنتيها وهي جالسة على الأريكة بجانب "كيان" بمنزلها هي وشقيقها، تقص عليها ما دار بينها هي و"فارس" من نقاش كانت تحاول به جعل زواجهما رسميا لأجل حملها، أردفت بصوت باكٍ وهي دافنة وجهها بكفيها ومنحنية بجذعها للأماما لإتكاء مرفقيها فوق فخذيها:

- مش راضي يا كيان يعمل حاجة

دنت "كيان" منها ودت يدها لتربت فوق كتفها وهي متشكل على قسماتها مزيجا من الأسى على "لينا" والضيق من الآخر وقالت مستنكرة:

- ازاي يعني؟

رفعت وجهها عن يديها والتفتت برأسها لها ونظرت لها بنظرات تتشبع بالخذلان وهي تخبرها بشجن رادفة:

- بيقولي اتصرفي ونزليه، وانا خايفة أوي أعمل كده

توسعت عينيها برهبة بالغة مما استمعت له، وعقبت باستهجان هادرة:

- ايه اللي هو بيقوله ده؟، ده أكيد مجنون

انهمرت المزيد من دموع "لينا" من ذلك المأذق الذي وضعت به ولا تجد منه مخرج، واطنبت في الحديث بنحيب مرددة:

- أنا مش عارفة أعمل ايه، أنا مكنتش عايزه أخلف دلوقتي بس أنا مش هقدر أقتل روح ربنا حطها جوايا، مش هقدر يا كيان وهو سابني في الكارثة دي لواحدي

ازداد حنق "كيان" من ذلك الوغد والذي لم ترتَح له من البداية، وعقبت في نبرة غاضبة هاتفة:

- مفيش حاجة اسمها سابك لواحدك، ده ابنه زي ماهو ابنك، روحيله تاني وكلميه

ابتلعت تلك الغصة بحلقها وهي تضبط أنفاسها وردت عليها في صوت مختنق من بكائها الذي تحاول تهدئته:

- كلمته تاني مصمم على كلامه ورافض يعلن جوازنا

شعرت "كيان" بتخبط هائل وهي لا تجد حل لتلك المعضلة، ولكنها على حين غرة أخبرتها في جدية بما طرأ بفكرها:

- هدديه

تعقدت ملامحها وهي تنظر لها وسألتها بقلة حيلة:

- بإيه؟

تحفزت في جلستها ورمقتها بنظرة جادة وهي تخبرها بصوت هادئ:

- قوليله إنه لو مجاش برضاه يطلبك من بابكي، انتي هتعرفيه بكل حاجة ووقتها بقى يتصرف معاه

نظرت له في إنكسار عارم، ونطقت في احتمال جال بفكرها ووارد الحدوث فهي باتت تتوقع أي شيء منه:

- أفرضي نكر أصلا اننا متجوزين

اضطرمت نظراتها للغاية، وتشدقت في كمد بنبرة صوت ارتفعت قليلا:

- ينكر ازاي يعني؟، انتي مش معاكي ورقة جوازكوا!

رمقتها بنظرة متوجسها وهي تنطق بعبارتها الأخيرة، ليحتل التوتر حينها وجه "لينا"، رمشت بأهدابها وهي تزيغ يعينيها عنها وأخبرتها في تردد وصوت مهزوز:

- لأ.. معاه هو

فغرت فاهها بصدمة وسألتها على الفور مستفسرة:

- معاه ازاي يعني؟

زفرت بضيق جاثم فوق صدرها وأجابتها في نبرة نادمة للغاية:

- كان اديهالي بس أنا خوفت تقع في ايد حد من الشغالين وقولتله خليها معاك

أوصدت "كيان" عينيها بكدر ونظرت لها في عتاب وهي تتشدق:

- ليه عملتي كده يا لينا؟، ده الدليل الوحيد اللي كان هيبقى معاكي يثبت جوازكوا

تكومت الدموع بعينيها من جديد وهي تخبرها في صوت ضعيف امتلأ بالخذلان:

- كنت مستأمناه، مكنتش متخيلة أنه يعمل معايا كده

شعرت "كيان" بالتألم لأجلها مستعرة جام توجعها المترسخ قلبها، وسألتها في تشتت:

- طب والحل دلوقتي؟

سحبت نفس مطولا محاولة تثبيط بكائها وزفرته على معلٍ ثم ردت عليها في فتور وقلة حيلة بالغة:

- هكلمه تاني واحاول معاه، ماهو مفيش حل غير ده


يُتبع ....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي