13

الفصل الثالث عشر
-أشعب
-راضي ماذا بك، لماذا تتصل في هذا الوقت، لم تشرق الشمس بعد، ماذا حدث، هل أصاب الولد مكروه.
-لا لا يا أشعب لا تقلق، لقد قررت شيئاً وعليك أن تعينني عليه
-تفضل يا راضي ماذا تريد.
-أولاً أحب شكرك على ذلك الترحيب الحافل في السيارة والمنزل وكل شيء سعيت لإسعادي أنا وطفلي، لكني لن أستطيع أن أملك شيئاً ليس من حقي امتلاكه، فاعذرني، خذ كل ما منحتني إياه واحضر لي شقة صغيرة لي ولابني، واخصم حقها مقسطاً من مرتبي
-ماذا تقول يا راضي، ألم نتفق بأن نخصم ثمن كل هذا من مرتبك، هل جننت يا رجل؟
-من أي مرتب يا أشعب، هل سأتقاضى من العمل معك شهرياً نصف مليون جنيه حتى أتمكن من سداد قيمة القصر والسيارة على عشر سنوات
ضحك صديقه ثم قال
-يا رجل، ألا تقبل الهدايا، لقد قبل النبي الهدية.
-صلى الله عليه وسلم، لكني أعلم يا أشعب مصدر المال.
-حتى وإن كنت تعلم، لقد منحتك إياه أمام الله وصار ملكاً خالصاً لك، اشحذ الهمة وأكمله قصرين وأسطول من السيارات، وشركة خاصة بك، كله سيصبح باجتهادك أنت فقط
لمعت في عين راضي الفكرة، لكن شيئاً بداخله قرر أن ينغص عليه حياته، ويوقظ ضميره الذي لم ينم إلا ساعاتٍ قليلة وعاد في كامل همته.
-لا يا أشعب لا تغرني بكلامك المعسول، لا تورطني في ذلك الجحيم الذي تحيا به يا رجل.
-فلننتهي من الحديث الآن يا راضي نم الآن وحينما يحل الصباح سأصنع لك كل ما تريد.
أغلق راضي الهاتف وظل حائراً هل هو على صواب الآن، وكيف سيتلقى ولده صدمة أن لن يظل هنا لأيامٍ أخرى
ظل يقلب جسده على السرير حتى غفا لبرهة، إذا به ينتفض من مكانه على دقة الباب، دقة رقيقة سمح بالدخول
-تفضل.
اعتدل في جلسته حينما رآها، هي، يحادثه قلبه هل تجسدت في قلب امرأة أخرى، أم أنها تتلاعب بمشاعره فيخيل إليه أي امرأة أخرى أنها هي
-آسفة يا سيدي أنا مديرة المنزل أتيت لأخبرك بأن الفطور جاهز
ظل يتأملها بلهفة، ثم ابعد عينيه وتساءل بحزم
-هل استيقظ الولد
-نعم يا سيدي هو ينتظرك على مائدة الطعام في الأسفل.
انصرفت، وظل عبيرها بالغرفة، وظل يهمس
-ماذا فعلت بي يا أشعب تتلاعب بي كي لا أستطع أن ابتعد عن هنا، يالك من رجل خبيث.
نهض ونزل للفطور بعد أن استعاد نشاطه بحمام ماءٍ بارد، وإذا بها تتنقل بين الخدم كفراشةٍ تحلق بين الورود كاد يقع من الدرج لكنه تمسك جيداً، ثم عدل في خطواته لتبقى ثابتة، كلما اقترب منها لم يتمالك نفسه حتى جلس إلى جوار الولد
-صباح الخير يا ولدي
-أبي، صباح الخير
-كيف لك أن تستيقظ بعيداً عن أحضاني لم تأتي كي تحتضني عندما استيقظت من نومك
-لا تحزن يا أبي، فلكل مكانٍ نظامه الخاص، هناك كان الخوف هو المسيطر على كل حياتي، وكنت استمد منك القوة كي أكمل يومي، الآن أصبح المكان آمن، رجال الأمن يحاوطونه من كل مكان ولا يمكن لأي شخصٍ أن يقترب مني
نظر إليه والده متعجباً
-معنى هذا أنك هنا قد استغنيت عن أبيك ما دمت تحيا هنا في الترف
ألقى الطفل بالطعام الذي كان يحمله في يده على المائدة ونزل عن كرسيه وارتمى بين أحضانه
-لا يا أبي لا يمكنني أن أتخلى عنك أبداً، مسك بيده
وصعد يقبل جبينه وجلس على رجل أبيه، أشار إلى الطعام وردد
-فلتطعمني إذاً يا أبي كما كنت تفعل هناك .
ابتسم أبيه وقد تخلل الشك إلى قلبه، ستأخذه الدنيا الجديدة بعيداً عن أبيه، هذا ما جعله يؤكد أن قراره صحيح، شقة بالإيجار ستجعل الأمر سهلاً عليه كي يتمكن من تربية أفضل لولده، ظل يفكر وهو يطعم الولد، ولكن أين يبقى الولد ومع من وهو في عمله.
الآن عليه أن يُفكر بهدوء، وأن يشرح لابنه الأمر، جلس وهو يحتسي كوب القهوة يحادثه بلطف
-أتعلم يا صغيري، لقد أكرمنا عمك أشعب في تلك الليلة كرماً كبيراً سأذهب إلى العمل كي أشكره بنفسي، وستحضر أنت معي كي نبحث عن شقة صغيرة نحيا فيها سوياً
نظر إليه الطفل وهو يتراجع إلى الوراء، يتأمل كل ركن في القصر، وكأنما كان يحيا فيه لسنوات
-أتقصد بأن هذا البيت ليس لنا يا أبي، وكل الألعاب التي في غرفتي، وتلك الشاشة الكبيرة، وحمام السباحة، كل هذا ليس لي، جاوبني
-اهدأ يا ولدي، لا تحزن هكذا، هو ليس لنا، لكننا سنحيا في منزل جميل سأجلب لك فيه كل ما تتمنى من اللعب، ولن تمل فيه أبداً، وسأجلب لك ملابس كثيرة، وستذهب أيضاً إلى المدرسة
طأطأ الولد رأسه حزناً لما قاله والده
-كما ترى يا أبي، سأنتظرك كي نرحل من هنا.
ترجل الولد وجلس بعيداً عن أي ركن يمكنه خلاله أن يرى أي شيء في المنزل، سحب وسادة ونام دون أن ينظر حتى إلى ذلك المعلق في السقف، ولا ذلك الدرج الملتوي، فقط أغلق عيناه بشدة واحكم قبضة يداه وظل صامتاً
لم يحتمل راضي وضع الولد، تركه ورحل، قلبه يعتصر لأجله، لكنه يريد أن يبدأ الولد حياته بطريقة صحيحة، يدرك أن أي شيء لا يكد فيه الشخص ليس من حقه، وحتى الهدايا لها حدود يجب ألا تتخطاها أبداً، ربما لن يدرك الولد ما أراده أبيه أن يكون ، لكنه كلما كبر سيعرف جيداً بأن أبوه كان يخاف عليه من ذلك الحميم الذي يعتصر قلب كل مفرط متسيب الأمر عنده سيان بين مال حلال ، ومال حرام هو يعرف أصل وجوده ومع ذلك ارتضاه
خرج وهو متيقن بأنه على صواب، ظل يفكر في شيء ربما يعوض الطفل عن كل هذا، شخص يخلصه من ملله، ينسيه حياته السابقة، ويحنو عليه كما يفعل أبيه
طال الطريق بالسيارة بسبب التكدس المروري صباحاً، لكن عقله قد تورم لا يعلم كيف سيقتنع أشعب بما سيقوله له، لكن عليه المواجهة كي يستريح
-راضي تفضل، أيرضيك أن توقظ المدير ومالك الشركة قبل الفجر هكذا يا رجل، علي أن أخصم لك ثلاثة أيام عقاباً على تعكير صفو العقل المدبر للشركة وتعطيل العمل
تحدث إليه راضي في جد
-أيها المدير فلتفعل ما عليك فعله، مثلي مثل باقي زملائي
-راضي لا تتعامل بجدية هكذا، لا يوجد أحد هنا، جميعهم يعلم بأنك مقرب مني، لماذا تحاول بناء أسوارٍ بيننا
جلس على المقعد المقابل للمدير
-يا أشعب لقد دخلت منذ أن خرجت بعيداً عن جدران المقابر في صراعاتٍ لا أستطيع أن أكمل فيها أرجوك خلصني، لا يمكنني أن أحيا في ذلك القصر، فلترح قلبي وتحضر لي منزلا صغيراً، بل شقة حتى وإن كانت بالإيجار كي أعيش مرتاحاً بها.
-لا عليك يا صديقي لقد كلفت أحد الموظفين بذلك، أنت تعلم جيداً بأن لدى شركتنا استثماراتٍ عقارية مع شركات كثيرة، وها هو يأتي كي يمنحني الخبر اليقين في شأنك.
دخل أحدهم بعد أن دق الباب، وأعطى لأشعب عدة ورقاتٍ وانصرف في هدوء، منحها لراضي وأشار إليه وهو يحتسي قهوته
-استرخ وفاضل بينها ، وأيها تريد سيكتب العقد في الحال
-كيف يا أشعب ومن أين سأمنح الشكرة مالاً، سأشتريها أنا يا رجل، وقسط الثمن كل شهر من حوافزك ومرتبك
اطمئن قلب راضي للأمر، وعاهد الله بأنه دين وسيسعى لسداده، ظل يبحث بين البنايات
-نسيت، فلتتخير واحدة قريبة من مدرسة ابنك
-هل سيقدم في المدرسة، نعم سيدرس في مدرسة تجريبية ألمانية، هو وابنتي في مصر الجديدة.
-لكني لن أستطيع أن أتكلف بمصاريفها المبالغ فيها
-أنا سأكفله يا رجل، ألم تقل بأن مالي حرام، دعني أدفع كفارة تحلل لي مالي
ابتسم راضي، ثم نظر مرة أخرى اهتدى قلبه لواحده
-ها هي، متى سنذهب للاستلام.
-انتظر حتى بعد العمل سأحضر لك المفتاح والعقد
-سأطلب قرضاً حتى أتمكن من شراء سرير من أجل الولد
-لا تشغل بالك يا رجل، ستسلم مفاتيح الشقة والسيارة الصغيرة التي في حدود امكانياتك كموظف بعد العمل، وعليك أن تتعلم القيادة لأن مصاريف سائق لن يتحملها راتبك
-شكراً لك
-علام يا رجل، هذا كله سيسدد من مالك، هيا انصرف دعني أكمل عملي
خرج راضي نحو الباب وكلما خطا خطوة يعود لينظر له بامتنان مرة أخرى، حتى وصل إلى الباب فناده أشعب
-وليكن في علمك، سيظل القصر والسيارة الأولى محفوظاً لمريد باسمه، ولن يمتلكه غيره.
هيمنت الفرحة على كل جسده وكاد ينهار بكاءاً لكنه انصرف في هدوء، شاحذاً كل همته كي يرقى بالعمل، ربما عانا قليلاً في البداية لابتعاده لسنوات عن العمل لكنه اجتهد كي يستعيد قدرته على الاستيعاب بسهولة حتى وصل في نهاية يومه إلى تقدم جيد مقارنة بيومه الأول
دقت الساعة الخامسة وقد رحل كافة موظفوا الشركة، خرج أشعب من مكتبه فوجده يجلس منكباً على الأوراق
-راضي، دع كل تلك الأوراق وخذ مفاتيح منزلك وسيارتك وارحل لقد تركت ابنك طيلة اليوم هذا يكفي على طفلٍ في ظروفه
حمل راضي المفاتيح ورحل، كان يحمل هم مواجهة ولده، السيارة تنتظره أمام الشركة هي ليست كسابقتها، لكن هذه ستكون ملكي أدفع فيها من كدي، هكذا همس في نفسه، جلس إلى جوار السائق حتى يتعلم القواعد الأساسية للقيادة ظناً منه بأن الحياة ستظل كما تمناها حياة هادئة هو يعمل وولده مريد في مدرسته، يلتقيا عند السادسة على مائدة الطعام، يشاهدا التلفاز سوياً لكن ربما كان يحمل له القدر مفاجآت لم تكن في الحسبان
دخل إلى المنزل فوجد ابنه يجلس إلى جوار مديرة المنزل التي أيقظته في الصباح، تداعبه وتهدهده، تحاول أن تخرجه مما كان عليه لكنها انتفضت حينما لاحظت وجود راضي
-لا تنزعجي هكذا لن نبقى هنا، سنرحل الآن، ونشكر لك حسن ضيافتك لنا
شعر بملامح الأسى ترتسم على وجهها، قبلت الولد ورحلت إلى المطبخ
-هل حان ميعاد الرحيل يا أبي
-نعم يا ولدي، لا تحزن أخيراً سيصبح لنا منزلا من كد أبيك وتعبه، وستذهب إلى المدرسة أتعلم مع من، مع بنت عمك أشعب
-هل تمزح يا أبي
-لا يا بني لا أمزح، سنكمل حياتنا سوياً، ونعيش في هدوء، نتعثر وننهض لنكمل الرحلة سوياً، دون أن يتدخل بيننا شيء



-أبي، عدني ألا نعود إلى المقابر ثانيةً
-لا تخف يا بني لن تعود أبداً إليها.
كان يردد تلك الكلمات وبداخله صوتاً يردد .....
إلى اللقاء في جزءاً آخر من خائفاً
"عند أبواب الجحيم".
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي